المنهج الأمثل في تعليم العبادات
إذا كانت عبادة الله هي أول الحقوق علينا لله، كان تعلمها وتعليمها أول الواجبات علينا أيضا.
وأولى العبادات بالمعرفة والفقه هي العبادات الشعائرية التي حدد الشرع صورها وأوصافها وكيفياتها، فلا يقبلها إلا إذا أديت كما شرعها، وهي الصلاة والصيام والزكاة والحج التي تحدثنا عن أسرارها وآثارها في الحياة.
وهذه الشعائر الأربع هي التي جعلها الرسول الأعظم ـ بعد الشهادتين ـ أركان الإسلام ومبانيه العظام.
وهي التي خصها الفقهاء باسم "العبادات" في مقابلة ما أطلقوا عليه ـ في تقسيمهم الفقهي ـ اسم "المعاملات". لأن الشارع ـ في الأولى ـ هو المنشئ والموجد لها، فقبل الشرع لا عبادة. أما الثانية فالشرع فيها مصلح ومهذب، لأن الناس لا تخلو حياتهم من التعامل والتبادل، فإذا جاء الشرع أقر الصالح من معاملاتهم، ونفى الفاسد منها، ولهذا قرر المحققون من أئمة الإسلام: أن الأصل في العبادات الحظر إلا ما جاء به الشرع، أما العادات والمعاملات فالأصل فيها الإباحة إلا ما منعه الشرع.
هذه العبادات هي التي نتحدث هنا عن المنهج الأمثل الواجب اتباعه في تعليمها، وهو منهج مستمد من طبيعة ديننا، وروح شريعتنا.
فلقد مرت هذه العبادات من الناحية التعليمية بأطوار ومراحل، حتى بلغت من التفريع والتعقيد والتشديد مبلغا لم يعد يتسع لمعرفته وقت الرجل العادي في عصرنا، ولو اتسع له وقته لم يتسع له فكره وقلبه.
وليس معنى هذا أننا نريد أن "نطور" العبادات حتى تهضمها معدة عصرنا المترفة، وتلائم روحه الجديدة.
كلا. فالعبادات لا تقبل التطور، ولا تتغير بتغير الزمن، ولا تخضع لاجتهاد أو قياس أو إجماع، ولا تلين في يد الزمن لين العجينة في يد الخباز، حتى يشكلها حسبما يريد.
العبادات ثابتة ثبات الخلود، وكل ما نريد تغييره هو منهج تعلميها، وكل ما نريده أن نعود بهذا المنهج إلى ما كان عليه الحال في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه الراشدين الطاهرين.
فقه العبادة لا علم العبادة
ولكي نسير على هدى، يجب علينا أن نعرف هدفنا، إن هدفنا من هذا التعليم والتفقيه أن نحبب رب الناس إلى الناس، حتى يعبدوه عبادة حب وشكر وإقبال، لا عبادة مراسم وقوالب وأشكال، أن نوجههم إلى روح العبادة لا "علم" العبادة، والفقه معنى فوق العلم، والتفقيه أخص من التعليم، العلم يتعلق بالعقول والرؤوس، والفقه يتجاوز ذلك إلى القلوب والنفوس، والرسول صلى الله عليه وسلم إنما ناط الخير بالفقه في الدين لا بمجرد العلم الظاهري الجاف به، قال: "من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين".
غير أن مفهوم "الفقه" هذا أصابه من التغيير ما جعل مؤداه مجرد العلم الجاف بتقصي التفريعات الظاهرة، والأحكام الخلافية، وكثير من الفروض والمسائل الدقيقة التي تعد من الأغاليط أو من التنطع، وقد ذكر الإمام الغزالي ما بدل من الألفاظ الإسلامية، وما حرف من الأسامي المحمودة، ونقل بالأغراض الفاسدة إلى معان غير ما أراده السلف الصالح، والقرن الأول وهي خمسة ألفاظ، أولها: الفقه فقد تصرفوا فيه بالتخصيص لا بالنقل والتحويل، إذ خصصوه بمعرفة الفروع الغريبة، والوقوف على دقائق عللها، واستكثار الكلام فيها، وحفظ المقالات المتعلقة بها، فمن كان أشد تعمقا فيها، وأكثر انشغالا بها، يقال هو الأفقه، ولقد كان اسم الفقه في العصر الأول مطلقا على علم طريق الآخرة ومعرفة دقائق آفات النفوس ومفسدات الأعمال، وقوة الإحاطة بحقارة الدنيا، وشدة التطلع إلى نعيم الآخرة واستيلاء الخوف على القلب، يدلك عليه قوله عز وجل: (ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم) وما يحصل به الإنذار والتخويف هو هذا الفقه دون تفريعات الطلاق والعتاق واللعان والسلم والإجارة، فذلك لا يحصل به إنذار ولا تخويف، بل التجرد له على الدوام يقسي القلب، وينزع الخشية منه، كما نشاهد الآن من المتجردين له. قال تعالى: (لهم قلوب لا يفقهون بها) وأراد به معاني الإيمان ولعمري إن الفقه والفهم في اللغة اسمان بمعنى واحد، وإنما يتكلم في عادة الاستعمال قديما وحديثا، قال تعالى: (لأنتم أشد رهبة في صدورهم من الله، ذلك بأنهم قوما لا يفقهون) فأحال قلة خوفهم من الله واستعظامهم سطوة الخلق على قلة الفقه، فانظر إن كان ذلك نتيجة عدم الحفظ لتفريعات الفتاوى أو هو نتيجة عدم ما ذكرناه من العلوم، وقال صلى الله عليه وسلم: "ألا أنبئكم بالفقيه كل الفقيه؟ قالوا: بلى. قال: من لم يقنط عباد الله من رحمة الله ولم يؤمنهم من مكر الله، ولم يؤيسهم من روح الله، ولم يدع القرآن رغبة عنه إلى ما سواه".
سأل فرقد السبخي الحسن عن شيء فأجابه فقال: إن الفقهاء يخالفونك! فقال الحسن رحمه الله: ثكلتك أمك يا فريقد وهل رأيت فقيها بعينك؟! إنما الفقيه الزاهد في الدنيا، الراغب في الآخرة، البصير بدينه، المداوم على عبادة ربه، الورع، الكاف نفسه عن أعراض المسلمين، العفيف عن أموالهم، الناصح لجماعتهم، قال الغزالي: ولم يقل في جميع ذلك: الحافظ لفروع الفتاوى، ولست أقول: إن اسم الفقه لم يكن متناولا للفتاوى في الأحكام الظاهرة، ولكن كان بطريق العموم والشمول، أو بطريق الاستتباع فكان إطلاقهم له على علم الآخرة أكثر.
هذا ما ذكره الإمام الغزالي، وبهذا يتضح لنا أن الذي نريده بفقه العبادة إنما هو الفقيه كما كان في العصر الأول، هو الفقه الذي يرقق القلوب، ويطهر النفوس، ويذكر بالآخرة، ويضيء الطريق إلى الله.
فقه الصلاة مثلا، هو إدراك سرها، والنفوذ إلى لبها وروحها، وعلم الصلاة هو المعرفة الجافة بشرائطها وأركانها وواجباتها ومستحباتها.
فقه الصلاة يتمثل في مثل ما روي عن حاتم الأصم وقد سئل كيف تقيم صلاتك؟ فقال:
أتوضأ فأسبغ الوضوء، ثم آتي موضع الصلاة بسكينة ووقار، فأكبر تكبيرا بتوقير، وأقرأ قراءة بترتيل، وأركع ركوعا بتخشع، وأسجد سجودا بتذلل، وأتمثل الجنة عن يميني، والنار عن شمالي، والصراط تحت قدمي، والكعبة بين حاجبي، وملك الموت على رأسي، وذنوبي محيطة بي، وعن الله ناظرة إلي، وأعتبرها آخر صلاة لي، وأتبعها الإخلاص ما استطعت، ثم أسلم وأنا لا أدري: أيقبلها الله مني أم يردها علي؟!
وسبيلنا إلى ذلك ألا نعرض العبادات جافة جامدة كأنها نظريات الهندسة أو قوانين الكيمياء، وإنما نعرضها شفافة مشرقة، موصولة بكلمات الله ورسوله، وسير الصالحين من المؤمنين، من غير أن نغلو في تكلف الحكم، وتطلب الأسرار، ومن غير أن ننسى المقصد الأول من العبادات كلها وهو التذكير بحق الربوبية على العبودية.
ولهذا نرى أن أخذ العبادات من كتب فقه الحديث أولى وأعون على هذه الغاية من كتب الفقه المذهبي الجافة، وبخاصة تلك التي تهتم بكثرة الصور والفروع، ولا تهتم بالأدلة من الكتاب والسنة. فهذا الفقه الجاف لا يرطب قلبا، ولا يغذي روحا، ولا يثمر خشية.
الرجوع إلى عهد البساطة
وعلينا ثانيا أن نعود بتعليم العبادات إلى عهد بساطتها الأولى، عهد الرسول وأصحابه، وأن ندع جانبا هذا التطويل والتفريع والتعقيد الذي انتفخت به بطون كتبنا الفقهية ما بين أركان وشروط، وفروض وواجبات، وسنن ومستحبات، ومبطلات ومكروهات، وتفريعات تلد تفريعات، حتى إن الحديث عن الطهارة ـ وهي إحدى مقدمات الصلاة ـ ليبلغ، مئات الصفحات.
والعجب منا ـ أعنى الوعاظ والمرشدين الدينيين ـ أننا نريد أن نعلم عامة المسلمين العبادات بهذه الصورة التي تحتاج إلى تفرغ وتخصص والتي لم يوجبها الله ولا رسوله.
قد يجوز للعالم المتخصص أن يدرس العبادات على هذا النحو، على أن يكون ذلك لنفسه، أما أن يعلم ذلك لسائر الناس فهذا خطأ بين.
إن الله تعالى يقول: (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة) فماذا كان يصنع الرسول صلى الله عليه وسلم في تعليم شعائر الدين وعباداته؟
لقد كان الرجل يجيء إليه من البادية ـ بعد أن يشرح الله صدره للإسلام ـ يريد أن يتعلم منه الدين، فيسأله بضع أسئلة ويتلقى منه أجوبتها بكل بساطة ووضوح، ويحضر معه بعض الصلوات، فيأخذ عنه صورتها بالرؤية والقدوة لا بالاستظهار والتلقين، وهكذا علمهم عليه الصلاة والسلام "صلوا كما رأيتموني أصلي" ففي جلسة أو جلسات يعود الرجل إلى بيئته وقد عرف ما يجب على مثله، وما يفتح له باب الجنة إن عمل بمقتضاه.
ذلك هو تعليم العبادة على عهد الرسول وصحابته، لم يكونوا يحللون النصوص ويشرحون الألفاظ، ويلتمسون التخريجات والتأويلات، إذا قال الله تعالى: (فاغسلوا وجوهكم) لم يخصصوا درسا في تعريف ماهية الغسل والفرق بينه وبين المسح، ولا في تحديد مساحة الوجه وأنه ما بين منبت الشعر إلى أسفل الذقن طولا وما بين شحمتي الأذنين عرضا الخ. أجل، لا يفعلون ذلك، لأن كل أحد يعرف ما هو الغسل وما هو الوجه، وكل إيضاح أو شرح في مثل هذه المعاني هو أول باب التعقيد.
"الله أكبر" هل يجهل مسلم هذه الكلمة التي جعلها الإسلام فاتحة الأذان والإقامة والصلاة؟
ولكن كتب الفقه حين تتحدث عن "تكبيرة الإحرام" وهي التكبيرة الأولى التي يدخل بها المسلم في الصلاة تحيطها بمجموعة من الشروط الكثيرة، حتى ليخيل إليك أن نطق هذا اللفظ ـ الذي هو على لسان كل مسلم ـ من العسر بمكان. وتالله إن العسر ليس في كلمة التكبير، ولا في ألسنة من يتعلمون، ولكنه في روح من يعلمون.
إنهم يعلمون الناس من كتب وضعت للمتخصصين المتفرغين لطلب العلم لا لعامة الناس المزحومين بمشاغل الحياة ومطالبها، وبعض هذه الكتب لا تخلو من تعقيد وتكلف، وبعضها لا يخلو من إضافات وابتداعات لم يأذن بها الله.
لقد كنت أدعو بعض المسلمين أو المسلمات في الريف إلى الصلاة فيعتذرون ـ ببراءة ـ أنهم لا يعرفون الصلاة ولا شروطها وما يجب لها، كأن هذه الصلاة شيء يحتاج إلى طول تعلم ومعاناة، والقوم في الحقيقة معذورون، فالذي يدرس لهم الوضوء يدرسه لهم في عدة أيام أو ليال ولا يكاد يفرغ منه: يعلمهم أن يقولوا في بدء الوضوء مثلا: الحمد لله الذي جعل الماء طهورا والإسلام نورا، وأن يقولوا عند الاستنشاق: اللهم أرحني رائحة الجنة وأنت عني راض، وعند غسل الوجه كذا، وعند غسل كل عضو أو مسحه دعاء خاصا يحفظه عن ظهر قلب، والعامي المسكين يصعب عليه حفظ هذه الأدعية ـ التي لم يرد بها كتاب ولا سنة ـ ويظن أن الضوء بغيرها لا يصح، فيستثقل الوضوء ويهرب من تبعات الصلاة، من جراء هذا التعقيد المبتدع المصنوع.
كيف يمكن أن نعلم الناس الصلاة من كتاب مثل "الإقناع في حل ألفاظ أبي شجاع" في فقه الشافعية والذي يدرس على طريقته بعض الشيوخ في المساجد، وكيف تتسع صدور الناس وأوقاتهم ليعرفوا أن للصلاة ـ كما قال الكتاب ـ ثمانية عشر ركنا، ثم نحدثهم عن ركن كالنية "واستحضارها" في زمن استغرق من الكتاب عدة صفحات مليئة مزدحمة، كأن النية أمر يحتاج إلى شرح، وكأن استحضارها أمر عسير!! ثم نحدثهم عن تكبيرة الإحرام بأن لها خمسة عشر شرطا إن اختل واحدا منها لم تنعقد الصلاة؟!
وجمهرة كتب الفقه على هذا النمط إلا قليلا، ومعظم هذا القليل مهجور أليس أفضل من هذا وأجدر بالقبول تعليم رسول الله صلى الله عليه وسلم السهل البسيط الذي لا تقعر فيه ولا إعنات؟!
وحسبنا أن نستمع في صفة الصلاة وكيفيتها إلى ما روى أحمد والبخاري ومسلم عن أبي هريرة قال: "دخل رجل المسجد فصلى ثم جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسلم فرد عليه السلام وقال: ارجع فصل، فإنك لم تصل، فرجع ففعل ذلك ثلاث مرات، قال فقال: والذي بعثك بالحق ما أحسن غير هذا فعلمني! قال: إذا قمت إلى الصلاة فكبر، ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن، ثم اركع حتى تطمئن راكعا، ثم ارفع حتى تعتدل قائما، ثم اسجد حتى تطمئن ساجدا، ثم ارفع حتى تطمئن جالسا، ثم اسجد حتى تطمئن ساجدا ثم افعل ذلك في صلاتك كلها" وهذا هو الحديث الذي يعرف باسم حديث المسيء في صلاته.
ولقد كان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه أميل الناس إلى البساطة واليسر، وأبعدهم عن التكلف والتعمق والتنطع، وقد قال تعالى يخاطب رسوله: (قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المكلفين).
وقال أنس بن مالك: كنا عند عمر رضي الله عنه فسمعته يقول: "نهينا عن التكلف".
ولقد غاب عن عمر معنى "الأب" في قوله تعالى: (وفاكهة وأبا) وأراد أن يسأل عن المدلول الدقيق لهذه اللفظة ثم خشي أن يكون هذا من التكلف المنهي عنه وقال: ماذا على عمر إذا لم يعرف ما الأب؟
وقال ابن مسعود: "من كان فيكم مستنا فليستن بمن قد مات، فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة، أولئك أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كانوا أفضل هذه الأمة: أبرها قلوبا، وأعمقها علما، وأقلها تكلفا، اختارهم الله تعالى لصحبة نبيه، ولإقامة دينه، فاعرفوا لهم فضلهم، واتبعوهم على أثرهم وسيرتهم، فإنهم كانوا على الهدي المستقيم".
ولقد نبه الإمام الشاطبي على هذه الحقيقة الهامة وهي: أن تعليم الشريعة، وبيان أمور الدين، يجب أن يكون بما يليق بجمهور الناس، دون اللجوء إلى التعمقات الفلسفية العويصة، فإذا قيل: ما الملك؟ قيل: خلق من خلق الله يتصرف بأمره، أو معنى الكوكب قيل، هذا الذي نشاهده بالليل، وعلى هذا وقع البيان في الشريعة كما قال عليه السلام: "الكبر بطر الحق وغمط الناس" ففسره بلازمه الظاهر لكل أحد، وقد بين عليه الصلاة والسلام الحج بفعله وقوله على ما يليق بالجمهور، وكذلك سائر الأمور، وهي عادة العرب، والشريعة عربية، ولأن الأمة أمية ـ أي أمة فطرية ـ فلا يليق بها من البيان إلا الأمي أي السهل.
وأما التعمق الذي لا يليق بالجمهور فلم يعتبره الشرع، لأن مسالكه صعبة المرام: (وما جعل عليكم في الدين من حرج) كما إذا طلب معنى الملك، فأحيل على معنى أغمض منه: "ماهية مجردة عن المادة أصلا" أو يقال: ما الكوكب؟ فيجاب بأنه "جسم بسيط كرى، مكانه الطبيعي نفس الفلك الخ". وما أشبه ذلك من الأمور التي لا تعرفها العرب، ولا يوصل إليها إلا بعد قطع أزمنة في طلب تلك المعاني، ومعلوم أن الشارع لم يقصد إلى هذا ولا كلف به.
ومثل هذا يقال في الاستدلال، فالذي يليق منه بالجمهور ما كانت مقدمات الدليل فيه ضرورية أو قريبة من الضرورية، وهو الذي نبه القرآن على أمثاله، كقوله تعالى: (أفمن يخلق كمن لا يخلق؟) (قل يحييها الذي أنشأها أول مرة) إلى غير ذلك من الآيات.
قال الشاطبي: "وعلى هذا النحو مضى السلف الصالح في بث الشريعة للمؤالف والمخالف، ومن نظر في استدلالهم على إثبات الأحكام التكليفية، علم أنهم قصدوا أيسر الطرق وأقربها إلى عقول الطالبين، لكن من غير ترتيب مكلف ولا نظم مؤلف، بل كانوا يرمون بالكلام على عواهنه، ولا يبالون كيف وقع في ترتيبه إذا كان قريب المأخذ، سهل الملتمس".
وإذا صدق هذا في أمور الشريعة كله، فإن العبادات ـ بوجه خاص ـ أولى شيء بهذا التبسيط، وتجنب التكلف والتعقيد.
إن كل تعقيد في تعليم العبادات لا ينفر منها، ويصيبها بالجفاف والعقم فحسب، بل هو ضرر مؤكد على تعليم شرائع الإسلام وآدابه الأخرى، وفقا للمبدأ المعروف "كل إسراف لا بد أن يكون بجانبه حق مضيع".
وإني لأذكر واقعة حدثت لي تبين هذا المعنى بجلاء: كان الشهر شهر رمضان، وكانت الليلة السابعة عشرة منه، أعني الليلة التي كانت صبيحتها غزوة بدر الكبرى، وقد دعيت في إحدى القرى لألقى موعظة هناك في هذه الذكرى، وتقبل الجمهور كلمتي بقبول حسن، وعرفوا بعض ما كانوا يجهلون من تاريخ دينهم وسيرة نبيهم، ولكن رجلا واحدا هو الذي لم يعجبه هذا الموضوع كله، ذلك هو أحد عجائز الشيوخ الذين يعلمون الناس الدين في الريف، وهو الإمام لهذا المسجد الذي أخطب فيه، إن الرجل لم يكن يعرف هذا اللون من الأحاديث الدينية، إنه كغيره ـ ممن رأيت بعيني وسمعت بأذني ـ يظل يدرس للناس طيلة ليالي رمضان، في آداب الاستنجاء، وفرائض الوضوء وسننه، ومستحباته، ونواقضه، وأعذاره، والمياه التي يجوز بها التطهير، والتي لا يجوز..الخ ما نعرف في لغة الفقه، وينتهي الشهر الكريم، والمسكين لم يخرج بعد من دورة المياه!!
قال الشيخ: حديثك عظيم يا أستاذ، ولكن أما كان الأنفع أن يتعلم الناس في هذه الليلة شيئا من أمور دينهم.
قلت له: وسيرة رسول الله وغزواته، أليست من أمور دينهم؟! لقد قال سعد بن أبي وقاص: كنا نروي أبناءنا مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم كما نعلمهم السورة من القرآن!
قال: أقصد أن يتعلموا كيفية الوضوء والغسل ويعرفوا شروط ذلك وواجباته وسننه، و، و، إلى غير ذلك مما لا تصح الصلاة إلا به.
قلت: يا سيدي الشيخ أنت تحفظ القرآن، فهل تستطيع أن تجيبني: في كم آية ذكر الله شؤون الوضوء والغسل وما بينهما من أمور الطهارة؟ وسكت الشيخ، فقلت: إنها آية واحدة جمعت ذلك كله، قال الله تعالى في سورة المائدة: (يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى الكعبين، وإن كنتم حنبا فاطهروا، وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه، ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون).
ثم قلت: وفي كم سورة ذكر الله شأن الجهاد والقتال في سبيل الله؟
وسكت الشيخ فقلت له: إن عندنا مجموعة من السور القرآنية توحي أسماؤها وحدها بموضوعها ـ وهو الجهاد ـ منها: "الأنفال" ـ أي غنائم الحرب ـ "والتوبة" ـ أي توبة المتخلفين عن الجهاد ـ "الأحزاب"، "القتال"، "الفتح"، "الصف"، "الحشر"، ـ الجلاء ـ "الحديد"، "العاديات" ـ الخيل التي تعدو في الحرب ـ "النصر".
وهذا غير السور الكثيرة التي ذكرت فيها آيات شتى عن القتال والغزوات كسورة البقرة وآل عمران والنساء وغيرها.
فكيف نهمل ما عني القرآن به هذه العناية الفائقة في هذه السور والآيات الغزيرة، ونعيش شهرا أو أكثر ندور حول آية واحدة، كما يدور الثور في الساقية؟!
والحق أن القرآن يجب أن يكون ميزاننا في درجة الاهتمام بالشيء، وأن نعطي الأمر من العناية بقدر ما أعطاه القرآن، بلا وكس ولا شطط: وهذا هو أعدل الموازين، ومن أحسن من الله حكما؟
التيسير لا التزمت والوسوسة
وعلينا في تعليم العبادات أن نذكر هذه الكلمة النبوية المضيئة التي خاطب بها الرسول أصحابه حين ثاروا بأعرابي بال بالمسجد جهلا منه وجفاء، فقال لهم: "لا تقطعوا على الرجل بولته، فإنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين".
وحين بعث أبا موسى ومعاذا إلى اليمن أوصاهما هذه الوصية الجليلة "يسرا ولا تعسرا، وبشرا ولا تنفرا، وتطاوعا ولا تختلفا".
والتيسير أمر فوق التبسيط الذي ذكرناه.. التبسيط إنما يكون في التعليم، والتيسير يتناول العمل والأداء.
إننا في عصر شغل الناس فيه بحياتهم الدنيا، وغلبت عليهم النزعة المادية البغيضة، وللشيطان في الناس سوق نافقة، وبضاعة رائجة، وعملاء مدربون..
وعلينا نحن معلمي الدين أن نشحذ أسلحتنا لجهاد الشيطان ومطاردته، وتنفير أتباعه من بضاعته، وإغرائهم ببضاعتنا، وجذبهم إلى سوقنا، ولن يكون ذلك أبدا بالتعنت والتزمت، والإحراج والتشديد، والتعسير والتنفير، ولسنا نريد أن نبتكر لأبناء العصر دينا سهلا خالصا سائغا للشاربين، وإنما دين الله نفسه يسر ولا عسر فيه هو الذي قال: (وما جعل عليكم في الدين من حرج) وهذا نفي عام لكل حرج في الدين، فأي حرج حقيقي صادفناه فلنعلم أنه من صنع الناس لا من شرع الله.
إن هناك بعض المتدينين الطيبين مصابون بمرض نفسي اسمه "الوسوسة" فنراهم يشددون على أنفسهم تشديدا لم يشرعه الله في كتاب ولا سنة، ولم يرض به أحد من سلف هذه الأمة الصالحين الذين حملوا على الوسوسة وأصحابها وقالوا: إنها خبل في العقل ونقص في الدين.
وأي خبل في العقل وأي نقص في الدين أجلى مما ذكره عنهم الإمام ابن قدامة الحنبلي (المتوفي سنة 620هـ) في رسالته في "ذم الموسوسين والتحذير من الوسوسة) قال:
"إن طائفة من الموسوسين قد تحققت منهم طاعة الشيطان، حتى اتصفوا بوسوسته ونسبوا إلى قبول قوله وطاعته، ورغبوا عن اتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم وطريقه، حتى إن أحدهم ليرى أنه إذا توضأ وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم أو صلى كصلاته، أن وضوءه باطل، وصلاته غير صحيحة، ويروى أنه إذا فعل مثل ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم في مؤاكلة الصبيان وأكل طعام عامة المسلمين، أنه قد صار نجسا يجب عليه تسبيع يده فيه، كما لو ولغ فيهما كلب أو بال عليهما هر!!
"ثم إنه بلغ في استيلاء إبليس عليهم أنهم أجابوه إلى شبيه بالجنون، وتقارب في مذهب السوفسطائية الذين ينكرون حقائق الموجودات والأمور والمحسوسات، فإن علم الإنسان بحال نفسه من الأمور اليقينيات الضروريات. وهؤلاء يغسل أحدهم عضوه غسلا يشاهده ببصره، ويكبر ويقرأ شيئا بلسانه تسمعه أذناه، ويعلمه بقلبه، بل يعلمه غيره منه، ويتيقنه إذا رأى ذلك أو سمعه منه، وهذا يصدق الشيطان في إنكاره يقين نفسه، وجحده لما رأى ببصره، وسمعه بأذنه، ثم يشك: هل فعل ذلك أم لا؟
"وكذلك يشككه في نيته وقصده، التي يعلمها من نفسه يقينا، بل يعلمها غيره منه بقرائن أحواله، ومع ذلك يقبل قول إبليس في أنه ما نوى صلاة ولا أرادها، مكابرة منه لعيانه، وجحدا ليقين نفسه، حتى تراه مترددا متحيرا، كأنه يعالج شيئا يجذبه، أو يجد شيئا في باطنه يستخرجه كل ذلك مبالغة في طاعة إبليس، وقبولا من وسوسته، ومن انتهت طاعته لإبليس إلى هذا الحد، فقد بلغ النهاية في طاعته، ثم إنه يقبل قوله في تعذيب نفسه ويطيعه في الإضرار بجسده، بالغوص في الماء البارد، وتارة بكثرة استعماله، وإطالة الفرك مبالغة، وربما فتح عينيه في الماء وغسل داخلها، حتى يضر ببصره، وربما أفضى إلى كشف عورته للناس، وربما صار إلى حال يسخر منه الصبيان ويستهزئ به من يراه.
"وربما شغله بوسوسته حتى تفوته الجماعة، وربما فاته الوقت، ويشغله بوسوسته في النية حتى تفوته التكبيرة الأولى وربما فوت عليه ركعة أو أكثر، وربما فوت عليه الوقت.
"ومنهم من يحلف على نفسه: لأثبتن، ولا زدت.. ويكذب.
ومنهم من يتوسوس في إخراج الحروف حتى يكرر الحرف الواحد مرتين أو ثلاثا، ورأيت منهم من يقول: أككبر.. وقال لي إنسان: قد عجزت عن قول "السلام عليكم" فقلت له: قل مثل ما قلت الآن وقد استرحت!
ونحو هذا أصنافهم كثيرة.
"وقد بلغ الشيطان منهم إلى أن عذبهم في الدنيا، وأخرجهم عن اتباع نبيهم المصطفى، وأدخلهم في جملة المتنطعين، الغالين في الدين، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا، نعوذ بالله من الشيطان الرجيم".
قال ابن قدامة رحمه الله: فمن أراد التخلص من هذه البلية فليستشعر صحة ما ذكرناه من الحق في اتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله وفعله، وليعزم على سلوك طريقته، عزيمة من لا يشك في أنه عليه الصلاة والسلام ـ على الهدى المستقيم، وأن ما خالفه من تسويل إبليس ووسوسته، ويتيقن أنه عدو لا يدعو إلى الخير، ولا يرشد إلى طائل "إنما يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير".
ثم ليعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ما كان فيهم موسوس، ولو كانت الوسوسة فضيلة لما ادخرها الله تعالى عن رسوله وصحابته خير الخلق وأفضلهم.
ولو أدرك رسول الله صلى الله عليه وسلم الموسوسين لمقتهم.
ولو أدركهم عمر لضربهم وعزرهم، ولو أدركهم أحد من الصحابة لنبذهم وكرههم".
ومما نعاه الشيخ ابن قدامة على هؤلاء الموسوسين المتنطعين موقفهم في أشياء سهل الشرع فيها، وشدد هؤلاء فيها!
فمن ذلك المشي حافيا والصلاة من غير غسل قدميه، روى أبو داود بإسناده عن امرأة من بني عبد الأشهل قالت: قلت: يا رسول الله إن لنا طريقنا إلى المسجد منتنة فكيف نفعل إذا تطهرنا؟ قال: أليس بعدها طريق أطهر منها؟ قلت بلى، قال نهدي نهدي.. (وهذا ما لم يطأ على شيء رطب يعلق بالأرجل).
ومن ذلك الصلاة في الخفين والنعلين، كان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه يصلون في نعالهم.. وقال صلى الله عليه وسلم: إذا جاء أحدكم المسجد، فلينظر: فإن رأى على نعليه قذرا فليمسحه وليصل فيهما، وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا وطئ أحدكم بنعليه الأذى فإن التراب له طهورا" وفي لفظ: "من وطئ الأذى بخفه فطهورهما التراب" رواه أبو داود.
ومن ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي حيثما كان، وقال عليه الصلاة والسلام: "جعلت لي الأرض كلها مسجدا وطهورا، فحيثما أدركتك الصلاة فصل" وكان يصلي في مرابض الغنم ويأمر بذلك.. وقال: الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمام، وقال ابن عمر: كانت الكلاب تقبل وتدبر وتبول في المسجد، ولم يكونوا يرون شيئا في ذلك.
ومن ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم وهو حامل أمامة بنت العاص بن الربيع (متفق عليه) وهي طفلة لا تخلو من النجاسة عند الموسوسين.
ومن ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يلبس الثياب التي كان ينسجها المشركون ويصلي فيها.. ولما قدم عمر رضي الله عنه الجابية (بالشام) استعار ثوبا من نصراني فلبسه، حتى خاطوا له قميصه وغسلوه.. وتوضأ من جرة نصرانية.
هذان طريقان واضحان: طريق أولئك المرضى الموسوسين، وطريق الرسول وأصحابه الطاهرين. فأيهما أقوم قيلا وأهدى سبيلا؟ وأيهما أحوط لديننا وأجدى على دنيانا إذا اتبعناه؟
لا شك أن طريق رسول الله هو الطريق المستقيم الموصل إلى رضوان الله وما عداه فهي سبل متشعبة ملتوية على كل سبيل منها شيطان مضل يأمر بالسوء والفاحشة، وصدق الله (وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله، ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون).
وما أصدق ما قال الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز "سن لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وولاة الأمر من بعده ـ الخلفاء الراشدون ـ سننا الأخذ بها تصديق لكتاب الله، واستكمال لطاعة الله، وقوة على دين الله، ليس لأحد تبديلها ولا تغييرها، ولا النظر فيما خالفها. من اقتدى بها فهو مهتد، ومن انتصر بها فهو منصور، ومن خالفها واتبع غير سبيل المؤمنين، ولاه الله ما تولى وأصلاه جهنم وساءت مصيرا".
فهذا هو مصير من انحرف عن هدى رسول الله ـ وهو اليسر والتخفيف ـ (جهنم وساءت مصيرا).
ولكن لهذا الانحراف ثمنه في الدنيا قبل الآخرة، وأمامنا هذه القصة التالية عبرة ومثلا:
روى أبو داود وابن ماجه عن جابر بن عبد الله قال: خرجنا في سفر، فأصاب رجلا منا حجر فشجه في رأسه، ثم احتلم، فسأل أصحابه هل تجدون لي رخصة في التيمم؟ فقالوا: ما نجد لك رخصة وأنت تقدر على الماء!! فاغتسل، فمات. فلما قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبر بذلك فقال: قتلوه قتلهم الله! ألا سألوا إذا لم يعلموا؟ فإنما شفاء العي السؤال، إنما كان يكفيه أن يتيمم، ويعصر أو يعصب على جرحه خرقة، ثم يمسح عليه ويغسل سائر جسده.
فليت شعري إذا كان الرسول قد حكم على هؤلاء بأنهم "قتلوه، قتلهم الله" مع جهلهم بالرخصة، فكيف يكون حكمه على الذين يعرفون الرخصة ويعرفون محبة الله لإتيانها، ثم يشددون على عباد الله؟ ترى كم بقتل هؤلاء بتزمتهم وتشديدهم من النفس وهم لا يشعرون!
-------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------
الرجوع إلى الكتاب والسنة لا التعصب لمذهب
تمهيد
المسح على الجوربين
ما أكل لحمه فروثه وبوله طاهر
الصلاة بالثوب النجس غير متعمد
الماء لا ينجس إلا بالتغير
الحقن كلها لا تفطر
لمس المتوضئ للمرأة
من تسحر بعد الفجر خطأ
تمهيد
ومن التزمت الذي ابتلينا به في التعليم والإفتاء هو إلزام الناس التعبد بمذهب واحد في كل مسائل العبادة والمعاملة، وقد يكون المذهب في مسألة بعينها ضعيف الدليل، بعيدا عن السداد، محرجا لعباد الله، وكأن اتباع مذهب معين فرض نطق به الوحي أو نزل به الروح الأمين.
وإن أي مذهب من المذاهب ليس إلا مجموعة من المسائل اجتهد فيها مجتهد لم يدع لنفسه العصمة، فإذا أصاب فله أجران وإن أخطأ فله أجر، ولم يحتكر إمام مجتهد الصواب لنفسه، ولم يزعم للناس أن ما ذهب إليه شرع يجب أن يتبع، ودين يجب أن يقلد.
قال الإمام مالك: كل إنسان يؤخذ من كلامه ويترك إلا صاحب هذا القبر صلى الله عليه وسلم.
وقال الإمام الشافعي: رأيي صواب يحتمل الخطأ، ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب.
وقال أيضا إذا صح الحديث فاضربوا بقولي عرض الحائط، بل نسب هذا القول إلى كل إمام من الأئمة الأربعة المشهورين، وما كان لهم أن يقولوا غير هذا.
وقال أبو حنيفة: إذا جاء الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فعلى الرأس والعين، وإذا جاء عن الصحابة فعلى الرأس والعين، وإذا جاء عن التابعين فهم رجال ونحن رجال.
ويقول الإمام أحمد: عجبت لقوم عرفوا الإسناد وصحته ثم يذهبون إلى رأس سفيان ـ يعني مغفلين مقتضى حديث الرسول ـ والله تعالى يقول: (فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم).
ولست أريد أن ينتقل المسلم بين المذاهب كالطائر بين الأشجار يأخذ من كل مذهب ما يوافق هواه، من غير اعتماد على أصل ولا حجة، كلا: إنما أريد أن يتبع المسلم الدليل، وأن يخضع للحكم الذي قويت حجته، واطمأن إليه قلبه، ووافق قواعد الشريعة، وروح الإسلام، وهذا ما كان عليه السلف قبل انتشار المذاهب وأتباعها، وقبل أن يطم سيل التقليد.
فلماذا إذن نلزم الناس بما لم يلزمهم الله به، ونكلفهم اتباع مذهب واحد وإمام معين في كل مسائل الدين، لا يجوز له أن يحيد عنه، وفي هذا من الحرج والعسر ما نفاه الله عن الدين؟
أمثلة للتيسير في بعض المذاهب
إن واحب العلماء أن ييسروا على الناس، وخاصة في هذا العصر الذي رق فيه الدين وقل التدين.
ما أكل لحمه فروثه وبوله طاهر
ومن أمثلة ذلك: أن معظم المسلمين في ريف مصر يتعبدون على مذهب الإمام الشافعي، ونحن نجد أن مذهب الإمام الشافعي في مسائل الطهارة والنجاسة من أقسى المذاهب وأشدها على الناس، وبخاصة أهل الريف.
فبينما يقول المذهب المالكي: كل ما أكل لحمه فبوله وروثه طاهر ـ يجعل المذهب الشافعي ذلك كله نجسا، والدليل في مذهب مالك أقوى وأرجح وأوفق بروح الإسلام وحاجة الناس.
يقول ابن القيم: إنه يعفى عن يسير أرواث البغال والحمير والسباع في إحدى الروايتين عن أحمد، اختارها شيخنا، لمشقة الاحتراز.
وقال الوليد بن مسلم: قلت للأوزاعي فأبوال الدواب مما لا يؤكل لحمه كالبغل والحمار والفرس؟ فقال: قد كانوا يبتلون بذلك في مغازيهم فلا يغسلونه من جسد ولا ثوب.
ومن ذلك: نص أحمد غسل الثوب ولا الجسد من المدة والقيح والصديد، قال: لم يقم دليل على نجاسته، وذهب بعض أهل العلم إلى طهارته.
الماء لا ينجس إلا بالتغير
ومن ذلك أن الذي دلت عليه السنة وآثار الصحابة أن الماء وإن كان يسيرا لا ينجس إلا إذا أدت النجاسة إلى تغيير طعمه أو لونه أو ريحه.
وهذا قول أهل المدينة وجمهور السلف، وأكثر أهل الحديث، وبه أفتى عطاء وسعيد بن المسيب وجابر بن زيد، والأوزاعي وسفيان الثوري ومالك بن أنس وعبد الرحمن بن مهدي واختاره ابن المنذر وبه قال أهل الظاهر ونص عليه أحمد في إحدى روايتيه، واختاره جماعة من أئمة الحنابلة منهم ابن عقيل وابن تيمية وابن القيم.
وروى الإمام أحمد وأصحاب السنن عن أبي سعيد قال: قيل: يا رسول الله أنتوضأ من بئر بضاعة ـ وهي بئر تلقى فيها الحيض ولحوم الكلاب والنتن؟ فقال "الماء طهور لا ينجسه شيء" قال الترمذي: حديث حسن. وقال الإمام أحمد: حديث بضاعة صحيح.
وروى ابن ماجه عن أبي أمامة مرفوعا: "لا ينجسه شيء إلا ما غلب على ريحه أو طعمه أو لونه" وهذا الاستثناء لم يصح من جهة السند، ولكن الفقهاء أجمعوا عليه.
وقد لاحظ الإمام الغزالي شدة الإمام الشافعي في مسائل "النجاسة" فقال في كتاب الطهارة من "الإحياء" مستدركا على مذهب الشافعي رضي الله عنه: "وكنت أود أن يكون مذهبه كمذهب مالك رضي الله عنه في أن الماء وإن قل لا ينجس إلا بالتغيير، إذ الحاجة ماسة إليه، ومثار الوساوس اشتراط القلتين ولأجله شق على الناس ذلك، وهو لعمري سبب المشقة ويعرفه من يجربه ويتأمله.." وقد قوى الغزالي ـ وهو شافعي ـ ما ذهب إليه مالك بسبعة أدلة، تراجع في كتاب الطهارة من "الإحياء" لمن شاء.
لمس المتوضئ للمرأة
ومن ذلك أن الشافعي يذهب إلى أن لمس المرأة ـ ولو زوجة وبغير شهوة ـ ينقض الوضوء مستدلا بآية (أو لامستم النساء) وفي هذا حرج على الناس في الريف أيضا، والمتأمل في الآية يجد أن مذهب الحنيفية أقوى وأوضح:
أ. فقد قال ابن عباس ـ وهو ترجمان القرآن ـ: إن اللمس والملامسة والمس في القرآن بمعنى "الجماع" وذلك كقوله تعالى: (وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن) أو (لم يمسسني بشر).
ب. بتفسير الملامسة هنا بالجماع تكون الآية قد اشتملت على الحدث الأصغر المكنى عنه بقوله تعالى: (أو جاء أحد منكم من الغائط) والحدث الأكبر المكنى عنه بقوله تعالى: (أو لامستم النساء) ويكون التيمم بنص الآية مغنيا عن الوضوء وعن الغسل عند فقد الماء، ولو فسرت الملامسة بالمعنى الظاهر منها ما أفادت الآية ذلك.
ج. وردت عدة أحاديث تقوي تفسير ابن عباس للآية: فقد أخرج البزار بسند جيد، وإسحاق بن راهويه عن عائشة: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قبلها وهو صائم وقال: القبلة لا تنقض الوضوء ولا تفطر الصائم" قال عبد الحق في هذا الحديث: لا أعلم له علة توجب تركه.
وروى مسلم والترمذي عنها: "أنها فقدت رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة من الفراش، فالتمسته، فوجدته في المسجد يصلي، فوضعت يديها على بطن قدميه وهما منصوبتان".
وروى عنها أحمد وأصحاب السنن بسند رجاله ثقات: أن النبي صلى الله عليه وسلم قبل بعض نسائه ثم خرج إلى الصلاة ولم يتوضأ.
وروى الشيخان عنها قالت: كنت أنام بين يدري النبي صلى الله عليه وسلم ورجلاه في قبلته، فإذا سجد غمزني فقبضت رجلي" وفي لفظ "فإذا أراد أن يسجد غمز رجلي" وتأويل مثل هذا الحديث بأن الغمز أو وضع اليد على بطن القدم كان فوق حائل خروج على مقتضى الظاهر بدون دليل.
المسح على الجوربين
ومن ذلك: المسح على الجوربين، فأكثر المرشدين الدينيين، لا يتسع صدرهم للترخيص في المسح عليهما في الوضوء بدل غسل الرجلين، مع ما روي من أن بضعة عشر صحابيا أفتوا بجوازه منهم عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وابن مسعود وابن عباس والبراء بن عازب وأنس بن مالك وأبو أمامة وسهل بن سعد، وعمرو بن حريث وغيرهم رضي الله عنهم.
وهذه رخصة تشتد حاجة الناس إليها في عصرنا، الذي يشق فيه غسل القدمين، وخلع الجوربين في غير المنزل، كما أن غسلهما مدعاة لكسل بعض الناس عن الوضوء في برد الشتاء العضوض.
الصلاة بالثوب النجس غير متعمد
ومن التيسير الذي لم يرتح إليه كثير من المتمذهبين ما أفتى به من الصحابة عبد الله بن عمر، ومن التابعين عطاء بن أبي رباح، وسعيد بن المسيب، وطاووس، وسالم، ومجاهد، والشعبي، وإبراهيم النخعي، والزهري، وممن بعدهم يحيى بن سعيد الأنصاري، والحكم، والأوزاعي، ومالك، وإسحاق بن راهويه، وأبو ثور، والإمام أحمد في أصح الروايتين، وغيرهم "أن الرجل إذا رأى على بدنه أو ثوبه نجاسة بعد الصلاة ولم يكن عالما بها، أو كان يعلمها لكنه نسيها، أو لم ينسها لكنه عجز عن إزالتها: أن صلاته صحيحة ولا إعادة عليه.
الحقن كلها لا تفطر
وكثيرا ما وجه إلي في شهر رمضان سؤال يقول: هل تفطر الحقن الشرجية، وكذلك استعمال المراهم وما شابههما في فتحة الشرج لأجل البواسير ونحوها؟
والمشهور عند عامة الناس: أن الحقن الشرجية تفطر، وأن إدخال شيء مقدار "عقلة أصبع" في الدبر يفطر، ولكني اخترت غير هذا المذهب في جوابي عن السؤال فقلت فيه:
لا يجهل أحد معنى الصوم البسيط وهو الامتناع عن الأكل والشرب ومباشرة النساء، وهي أمور نص عليها القرآن، ولا يجهل أحد كذلك معنى هذه الممنوعات، فقد كان يفهمها بداة الأعراب في عهد النبوة، ولم يحتاجوا في فهم معنى الأكل والشرب إلى حدود التعريفات، ولا يجهل أحد كذلك الحكمة الأولى من للصوم، وهي إظهار العبودية لله تعالى بترك شهوات الجسد، طلبا لمرضاته سبحانه، كما قال في الحديث القدسي: "كل عمل ابن آدم له، إلا الصوم، فإنه لي وأنا أجزي به، يدع طعامه وشرابه وشهوته من أجلي".
وإذا تبين ذلك رأينا أن تعاطي الحقن بأنواعها، واستعمال المراهم ونحوها، ليس أكلا ولا شربا في لغة ولا عرف، ولا تنافي قصد الشارع وحكمته من الصيام، ولا موضع للتشديد في أمر لم يجعل الله فيه من حرج، قال الله تعالى: (يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر).
قال ابن حزم: لا ينقض الصوم حقنة، ولا سعوط (نشوق) ولا تقطير في أذن أو في إحليل أو في أنف، ولا استنشاق وإن بلغ الحلق ولا مضمضة دخلت الحلق من غير تعمد، ولا كحل وإن بلغ الحلق نهارا أو ليلا، بعقاقير أو بغيرها ولا غبار طحن، أو غربلة دقيق أو حناء أو عطر، أو حنظل، أو أي شيء كان، ولا ذباب دخل الحلق بغلبة.. الخ.
هذا ما ذهب إليه فقيه ظاهري يحكم حرفية النصوص في كل حكم وقد استدل لما ذهب إليه فقال: إنما نهانا الله في الصوم عن الأكل والشرب والجماع، وتعمد القيء والمعاصي، وما علمنا أكلا ولا شربا يكون على دبر أو حليل، أو أذن أو عين أو أنف، أو من جرح في البطن أو الرأس، وما نهينا قط عن أن نوصل إلى الجوف ـ بغير الأكل والشرب ـ ما لم يحرم علينا إيصاله.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في الكحل والحقنة والتقطير ووصول الدواء إلى الجوف عن طريق جراحة في الرأس أو البطن..الخ: "الأظهر أنه لا يفطر بشيء من ذلك، فإن الصيام من دين الإسلام الذي يحتاج إلى معرفته الخاص والعام، فلو كانت هذه الأمور مما حرمها الله ورسوله في الصيام، ويفسد الصوم بها، لكان هذا مما يجب على الرسول بيانه، ولو ذكر لعلمه الصحابة وبلغوه الأمة، كما بلغوا سائر شرعه، فلما لم ينقل أحد من أهل العلم عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك حديثا صحيحا ولا ضعيفا، ولا مسندا ولا مرسلا، علم أنه لم يذكر شيئا من ذلك".
من تسحر بعد الفجر خطأ
والمشهور من المذاهب المتداولة فيمن تسحر يظن نفسه في الليل ثم تبين أن سحوره أو جزء منه كان بعد الفجر أو أفطر يظن الشمس غربت ثم تبين أنها طالعة. أن صوم هذا أو ذاك قد بطل، وعليه إمساك بقية يومه، ولا إثم عليه، إذ كان مخطئا لا متعمدا، وعليه قضاء يوم مكان يوم.
ولكن أبا محمد بن حزم يرى أن الصوم صحيح في الحالين، لأنه لم يتعمد إبطال صومه، حيث ظن أنه في غير صيام، فهو والناسي سواء، كلاهما ظن أنه في غير صيام، ولا فرق، قال تعالى: (وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم) وقال الرسول عليه الصلاة والسلام: "إن الله تجاوز لأمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه".
قال: وهذا قول جمهور السلف، وروى بسنده: أن الناس أفطروا في زمن عمر بن الخطاب، وأخرجت القداح من بيت حفصة فشربوا ثم طلعت الشمس من سحاب، فكأن ذلك شق على الناس فقالوا: نقضي هذا اليوم، فقال عمر: ولم؟ والله ما تجانفنا لإثم!!
وعن مجاهد قال: من أكل بعد طلوع الفجر وهو يظن أنه لم يطلع فليس عليه قضاء، لأن الله تعالى يقول: (حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر) وروى مثل ذلك عن الحكم بن عتيبة، والحسن البصري، وجابر بن زيد، وعطاء بن رباح وعروة بن الزبير، وهو قول داود الظاهري.
ودليل ابن حزم قوي واضح، وإن كان أقوى وأنصع بالنسبة لمن تسحر بعد الفجر، إذ القرآن أباح المباشرة والأكل والشرب حتى يتبين الفجر للمكلف، ومن تسحر يظن أنه في الليل لم يتبين له الفجر قطعا.
ولذلك نرى أن على الصائم أن يتحرى ويجتهد وسعه، وخاصة لمعرفة غروب الشمس ودخول الليل، فإذا اطمأن إلى مغيبها وأفطر، ثم تبين أنها لم تزل فما أظن الحرج إلا مرفوعا عنه حينئذ، قال تعالى: (فاتقوا الله ما استطعتم) ولذا قال عمر: والله ما تجانفنا لإثم، ونظير هذا إذا تحرى في التوجه إلى القبلة ثم تبين أنه صلى إلى جهة أخرى فصلاته صحيحة مقبولة (فأينما تولوا فثم وجه الله).
---------------------------------------------------------------------------------------------------------------
العناية بالفرائض أولا
ومن الواجب على معلمي الدين أن يشدوا الناس إلى الفريضة أولا.
فنحن في عصر كثرت فيه مشاغل الناس، ورق فيه دين الكثيرين، فليكن همنا الأول وبغيتنا الأولى من المسلم "أداء الفرائض واجتناب الكبائر".
وليس من الحكمة ولا الموعظة الحسنة أن نصوب سهام التقريع والتعنيف إلى من يقصر في نوافل العبادات، وهل نحن أغير على دين الله من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ وقد كان يرضى من الناس أن يؤدوا ما افترض عليهم بلا زيادة ولا نقصان.
وقد روى البخاري قصة ذلك الأعرابي الذي جاء يسأل النبي صلى الله عليه وسلم عما عليه من شرائع الإسلام فقال له:
خمس صلوات.
قال: هل علي غيرها؟
قال: لا.. إلا أن تطوع، وصيام شهر رمضان.
فقال: هل علي غيرها؟
قال: لا، إلا أن تطوع. فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم بشرائع الإسلام فأدبر الرجل وهو يقول: والله لا أزيد ولا أنقص مما فرضه الله على شيئا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أفلح إن صدق".
وروى مسلم عن أنس قال: نهينا أن نسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شيء، فكان يعجبنا أن يجئ الرجل من أهل البادية العاقل فيسأله ونحن نسمع، فجاء رجل من أهل البادية، فقال: يا محمد أتانا رسولك فزعم لنا أنك تزعم أن الله أرسلك! قال: صدق، قال: فمن خلق السماء؟ قال: الله، قال: فمن خلق الأرض؟ قال: الله، قال: فمن نصب هذه الجبال وجعل فيها هذه الجبال، آلله أرسلك؟ قال: نعم، قال: وزعم رسولك أن علينا خمس صلوات في يومنا وليلتنا! قال: صدق، قال: فالذي أرسلك آ لله أمرك بهذا؟ قال: نعم، قال: وزعم رسولك أن علينا زكاة في أموالنا! قال: صدق، قال: فبالذي أرسلك آ لله أمرك بهذا؟ قال: نعم قال: وزعم رسولك أن علينا صوم رمضان في سنتنا! قال: صدق، قال: فبالذي أرسلك آ لله أمرك بهذا؟ قال: نعم، قال: وزعم رسولك أن علينا حج البيت من استطاع إليه سبيلا! قال: صدق، ثم ولى الرجل قائلا: والذي بعثك بالحق لا أزيد عليهن ولا أنقص منهن، فقال النبي صلى الله عليه وسلم "لئن صدق ليدخلن الجنة".
هذا ما كان من خاتم النبيين وسيد الداعين إلى الله على بصيرة، لكن كثيرا من المتدينين لا يرضون من غيرهم إلا أن يؤدوا السنن والنوافل والمستحبات، وإلا برقوا ورعدوا وأرغوا وأزبدوا.
ولقد شاهدت أحد هؤلاء مرة ينهر شابا أنيقا رقيقا وقف في الصف ليقيم الصلاة، وكان ذنبه عند ذلك الرجل أنه يصلي ورأسه مكشوفة، وشعره مرجل! فقلت للرجل: هل اشترط أحد من الأئمة غطاء الرأس في الصلاة؟
قال: لا
قلت: فهذه الصلاة صحيحة باتفاق؟
قال: نعم
قلت: فعلام إذن الغضب والعنف مع شاب كهذا؟ أمثاله يذهبون إلى السينما وهو يذهب إلى المسجد، أيهما أفضل عندك: أن يذهب هذا إلى السينما أم يصلي ورأسه مكشوفة؟
إن المنهج السديد أن نوجه أكبر عنايتنا للفرائض قبل النوافل، وأن نشدد في الأصول، ونسهل في الفروع، فإن التشدد والتزمت في جزئيات فرعية مختلف فيها يخشى أن تجعل الناس يتسربون من الأمور المتفق عليها، بل يتفلتون من الدين كله.
إن علينا ألا نشدد في الفروع والجزئيات، والناس يديرون ظهورهم للأصول والكليات، علينا أن نجمع الناس على الفرائض الأصلية، فإذا استجاب المسلم لأداء الفريضة وتذوق حلاوة العبادة، ومرن عليها، فإن ذلك سيدفعه إلى النافلة دفعا تلقائيا، ليجبر بها ما عسى ينقصه من إحسان الفريضة، ويترقى بها في سلم العبودية لله، حتى يفوز بمحبة الله وما أرفعها درجة، وفي الحديث القدسي: "ما تقرب إلي عبدي بمثل ما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، وقدمه التي يسعى بها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذ بي لأعيذنه".
ومن التناقض الذي نراه عند بعض المسلمين أنهم يكثرون من النوافل في عبادة ما، على حين يقصرون في الواجبات والفرائض من ناحية أخرى.
فقد نجد من يتنفل في الصلوات ويحرص على ختامها، وعلى الذكر والتسبيح والتهليل والتكبير، ومع هذا يبخل بالزكاة وهو موسر، ويتوانى عن الحج وهو قادر.
وقد نجد من يحرص على الحج سبع مرات، بل قد يحرص على الاعتمار والزيارة كل عام وخاصة في شهر رجب (الرجبية) أو شهر رمضان ومع ذلك قد يكون عاقا لوالديه، أو جافيا لقريبه، أو شحيحا على جيرانه وأهل قريته، أو ظالما لمن يعامله من الناس.
وواجبنا مع هؤلاء الناس ومن شابههم أن نعلمهم هذا المبدأ الإسلامي الجليل: "إن الله لا يقبل النافلة حتى تؤدى الفريضة".
وكيف يقبل الله الحجة الثانية أو الرابعة ـ وهي النافلة ـ ممن يدع قريبه أو جاره يئن من الحاجة، ويشكو الجوع والفاقة ولا يقدم له عونا، ونبي الإسلام يقول: "ما آمن بي من بات شبعان وجاره إلى جنبه جائع وهو يعلم".
إن بعض المشاريع الإسلامية الجليلة النافعة تتعطل، بل قد تموت في مهدها، لفقدان من يمولها، على حين يوجد كل عام عشرات