رسالة مصرية ثقافية
مرحبا بك أخي الزائر نشكر زيارتك ونتمني انضمامك للمنتدي
زيارتك تسر إدارة المنتدي ومشاركتكك تسعدنا وتساهم معنا بارتفاع الثقافة العامة
بعض المنتديات الفرعية والموضوعات
لا يمكنك الإطلاع عليها إلا بعد التسجيل كعضو في المنتدي
رسالة مصرية ثقافية
مرحبا بك أخي الزائر نشكر زيارتك ونتمني انضمامك للمنتدي
زيارتك تسر إدارة المنتدي ومشاركتكك تسعدنا وتساهم معنا بارتفاع الثقافة العامة
بعض المنتديات الفرعية والموضوعات
لا يمكنك الإطلاع عليها إلا بعد التسجيل كعضو في المنتدي
رسالة مصرية ثقافية
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

رسالة مصرية ثقافية

ثقافية - علمية - دينية - تربوية
 
الرئيسيةرسالة مصريةأحدث الصورالتسجيلدخول

 

 كتاب العبادة - للشيخ القرضاوي - الباب الثاني

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
Eng. Ahmedzoubaa
Admin
Eng. Ahmedzoubaa


عدد المساهمات : 1216
تاريخ التسجيل : 28/08/2010
العمر : 49

كتاب العبادة - للشيخ القرضاوي - الباب الثاني Empty
مُساهمةموضوع: كتاب العبادة - للشيخ القرضاوي - الباب الثاني   كتاب العبادة - للشيخ القرضاوي - الباب الثاني Emptyالخميس 2 سبتمبر 2010 - 17:01

الباب الثاني
حقيقة العبادة في الإسلام
معنى العبادة في اللغة

في القاموس: العبدية والعبودية والعبادة: الطاعة.

وفي الصحاح: أصل العبودية الخضوع والذل. والتعبيد: التذليل.

يقال: طريق معبد. والبعير المعبد: المهنوء بالقطران المذلل.

والعبادة: الطاعة. والتعبد: التنسك، تفرق بين المعاني بحسب الاشتقاق.

(فادخلي في عبادي) أي في حزبي، فأضاف معنى جديدا وهو الولاء.

وفي المخصص ج13 ص96:

أصل العبادة: التذليل. من قولهم طريق معبد أي بكثرة الوطء عليه، ومنه أخذ "العبد" لذله لمولاه.

والعبادة والخضوع والتذلل والاستكانة قرائب في المعاني.

يقال: تعبد فلان لفلان ـ إذا تذلل له، وكل خضوع ليس فوقه خضوع فهو عبادة، طاعة كان للمعبود أو غير طاعة، وكل طاعة لله على جهة الخضوع والتذلل فهي عبادة، والعبادة نوع من الخضوع لا يستحقه إلى المنعم بأعلى أجناس النعم. كالحياة والفهم والسمع والبصر.

وفي اللسان: أصل العبودية: الخضوع والتذلل.. وفي حديث أبي هريرة "لا يقل أحدكم لمملوكه: عبدي وأمتي، وليقل: فتاي وفتاتي" هذا على نفي الاستكبار عليهم وأن ينسب عبوديتهم إليه. فإن المستحق لذلك الله تعالى رب العباد كلهم والعبيد.

وجعل بعضهم العبادة لله. بخلاف العبدية وغيرها فهي تجعل لله وللمخلوقين.

قال الأزهري: ولا يقال: عبد يعبد عبادة، إلا لمن يعبد الله، ومن عبد إلها دونه فهو من الخاسرين، قال وأما عبد خدم مولاه، فلا يقال: عبده.

قال الليث: ويقال للمشركين: هم عبدة الطاغوت.

ويقال للمسلمين: عباد الله، يعبدون الله، والعابد: الموحد.

قال في اللسان: والتعبد: التنسك. والعبادة: الطاعة.

قال: والتعبد: التذلل. والتعبيد: التذليل.

بعير معبد مذلل، وطريق معبد: مسلوك مذلل.

ويرى الأستاذ أبو الأعلى المودودي استنادا إلى الاستعمال اللغوي لمادة ع ب د: أن مفهوم العبادة الأساسي أن يذعن المرء لعلو أحد وغلبته، ثم ينزل له عن حريته واستقلاله، ويترك إزاءه كل مقاومة وعصيان وينقاد له انقيادا. وهذه هي حقيقة "العبدية" و"العبودية" ومن ذلك أن أول ما يتمثل في ذهن العربي بمجرد سماعه كلمة "العبد" و"العبادة" هو تصور العبدية والعبودية، وبما أن وظيفة العبد الحقيقية هي إطاعة سيده وامتثاله أوامره، فحتما يتبعه تصور الإطاعة.

ثم إذا كان العبد لم يقف به الأمر على أن يكون قد أسلم نفسه لسيده طاعة وتذللا، بل كان مع ذلك يعتقد بعلائه ويعترف بعلو شأنه، وكان قلبه مفعما بعواطف الشكر والامتنان على نعمه وأياديه، فإنه يبالغ في تمجيده وتعظيمه، ويتفنن في إبداء الشكر على ألائه، وفي أداء شعائر "العبدية" له، كل ذلك اسمه التأله والتنسك. وهذا التصور لا ينضم إلى معاني العبدية إلا إذا كان العبد لا يخضع لسيده رأسه فحسب، بل يخضع معه قلبه أيضا.

فكأن الأستاذ يرى أن أصل معنى العبادة هو الإذعان الكلي، والخضوع الكامل، والطاعة المطلقة، ثم قد يضاف إلى هذا المعنى عنصر عاطفي جديد، تتمثل فيه عبودية القلب، بعد عبودية الرأس أو الرقبة، ومظهر هذا العنصر هو التأله والتنسك وأداء الشعائر.

ويقول الشيخ محمد عبده في تفسير (إياك نعبد وإياك نستعين) من سورة الفاتحة في "المنار":

"ما هي العبادة؟ يقولون: هي الطاعة، مع غاية الخضوع، وما كل عبارة تمثل المعنى تمام التمثيل فتجليه للأفهام واضحا لا يقبل التأويل، فكثيرا ما يفسرون الشيء ببعض لوازمه ويعرفون الحقيقة برسومها، بل يكتفون أحيانا بالتعريف اللفظي، يبينون الكلمة بما يقرب من معناها، ومن ذلك هذه العبارة، التي شرحوا بها معنى العبادة. فإن فيها إجمالا وتساهلا.

وإننا إذا تتبعنا آي القرآن، وأساليب اللغة، واستعمال العرب لـ"عبد" وما يماثلها ويقاربها في المعنى ـ كخضع، وخنع، وأطاع، وذل ـ نجد أنه لا شيء من هذه الألفاظ يضاهي "عبد" ويحل محلها، ويقع موقعها، ولذلك قالوا إن لفظ "العباد" مأخوذ من العبادة، فتكثر إضافته إلى الله تعالى، ولفظ "العبيد" تكثر إضافته إلى غير الله تعالى، لأنه مأخوذ من العبودية بمعنى الرق. وفرق بين العبادة والعبودية بذلك المعنى.

ومن هنا قال بعض العلماء، إن العبادة لا تكون في اللغة إلا لله تعالى، ولكن استعمال القرآن يخالفه، ثم يسترسل الشيخ في النهاية فيقول:

"يغلو العاشق في تعظيم معشوقه، والخضوع له، غلوا كبيرا، حتى يفني هواه في هواه، وتذوب إرادته في إرادته، ومع ذلك لا يسمى خضوعه هذا عبادة بالحقيقة، ويبالغ كثير من الناس في تعظيم الرؤساء، والملوك والأمراء فترى في خضوعهم لهم، وتحريهم مرضاتهم ما لا تراه من المتحنثين القانتين. دع سائر العابدين، ولم يكن العرب يسمون شيئا من هذا الخضوع عبادة. فما هي العبادة إذن؟

تدل الأساليب الصحيحة، والاستعمال العربي الصراح، على أن العبادة ضرب من الخضوع بالغ حد النهاية ناشئ عن استشعار القلب عظمة للمعبود، لا يعرف منشأها، واعتقاده بسلطة له لا يدرك تفهمها وماهيتها، وقصارى ما يعرفه منها أنها محيطة به، ولكنها فوق إدراكه، فمن ينتهي إلى أقصى الذل لملك من الملوك لا يقال "إنه عبده" وإن قبل موطئ أقدامه، ما دام سبب الذل والخضوع معروفا، وهو الخوف من ظلمه المعهود، أو الرجاء في كرمه المحدود، اللهم إلا بالنسبة إلى الذين يعتقدون أن الملك قوة غيبية سماوية أفيضت على الملوك من الملأ الأعلى، واختارتهم للاستعلاء على سائر أهل الدنيا، لأنهم أطيب الناس عنصرا، وأكرمهم جوهرا، هؤلاء هم الذين انتهى بهم هذا الاعتقاد إلى الكفر والإلحاد، فاتخذوا الملوك آلهة وأربابا وعبدوهم عبادة حقيقية".

فالشيخ محمد عبده يرى هنا أن الذي يميز العبادة من غيرها من ألوان الخضوع والتذلل والانقياد ليس هو درجة الخضوع والطاعة. كما يقول اللغويون الذين يرون العبادة هي أقصى الطاعة والخضوع، وإنما ينظر إلى منشأ هذا الخضوع والانقياد، فإن كان منشؤه وسببه أمرا ظاهرا كالملك والقوة ونحوهما، فلا يسمى عبادة، وإن كان منشؤها الاعتقاد بأن للمعبود عظمة وقدرة فوق الإدراك والحس فهذا هو العبادة.

العبادة في الشرع خضوع وحب

أما شيخ الإسلام ابن تيمية، فهو ينظر إلى العبادة نظرة أعمق وأوسع، فهو يحلل معناها إلى عناصره البسيطة، فيبرز إلى جوار المعنى الأصلي في اللغة ـ وهو غاية الطاعة والخضوع ـ عنصرا جديدا له أهمية كبرى في الإسلام، وفي كل الأديان، عنصرا لا تتحقق العبادة ـ كما أمر الله ـ إلا به، وذلك هو عنصر "الحب" فبغير هذا العنصر العاطفي الوجداني لا توجد العبادة التي خلق الله لها الخلق، وبعث بها الرسل، وأنزل الكتب.

وفي توضيح ذلك يقول شيخ الإسلام في رسالته عن "العبودية":

"الدين يتضمن معنى الخضوع والذل، يقال: دنته فدان، أي أذللته فذل. ويقال: يدين الله ويدين لله: أي يعبد الله ويطيعه ويخضع له، فدين الله عبادته وطاعته والخضوع له".

"والعبادة أصل معناها: الذل أيضا، يقال طريق معبد، إذا كان مذللا قد وطئته الأقدام، لكن العبادة المأمور بها تتضمن معنى الذل ومعنى الحب، فهي تتضمن غاية الله تعالى بغاية المحبة له. فإن آخر مراتب الحب هو التتيم، وأوله العلاقة، لتعلق القلب بالمحبوب ثم الصبابة لانصباب القلب إليه، ثم الغرام، وهو الحب الملازم للقلب، ثم العشق، وآخرها التتيم، يقال: تيم الله، أي عبد الله، فالمتيم: المعبد لمحبوبه".

قال: "ومن خضع لإنسان مع بغضه له لا يكون عابدا له، ولو أحب شيئا ولم يخضع له، لم يكن عابدا له، كما قد يحب الرجل ولده وصديقه، ولهذا لا يكفي أحدهما في عبادة الله تعالى، بل يجب أن يكون الله أحب إلي العبد من كل شيء. وأن يكون الله أعظم عنده من كل شيء، بل لا يستحق المحبة والخضوع التام إلا الله، وكل ما أحب لغير الله فمحبته فاسدة وما عظم بغير أمر الله فتعظيمه باطل، قال تعالى: (قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله، وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره).

وبهذا الشرح العميق لمعنى العبادة وحقيقتها، ندرك أن العبادة المشروعة لا بد لها من أمرين:

الأول: هو الالتزام بما شرعه الله ودعا إليه رسله، أمرا ونهيا، وتحليلا وتحريما، وهذا هو الذي يمثل عنصر الطاعة والخضوع لله.

فليس عبدا ولا عابدا لله من رفض الاستسلام لأمره، واستكبر عن اتباع نهجه، والانقياد لشرعه، وإن أقر بأن الله خالقه ورازقه، فقد كان مشركو العرب يقرون بذلك، ولم يجعلهم القرآن بذلك مؤمنين ولا عبادا لله طائعين، فخضوع الإقرار بالربوبية لا يكفي، وخضوع الاستعانة في الكربات والاستغاثة في الشدائد لا يكفي، ولا بد من خضوع التعبد والانقياد والاتباع الذي هو حق الألوهية، وبهذا يتحقق معنى (إياك نعبد وإياك نستعين).

وأساس الخضوع لله تعالى هو الشعور الواعي بوحدانيته تعالى، وقهره لكل من في الوجود، وما في الوجود، فكلهم عبيده وخلقه، وفي قبضة قدرته وسلطانه، وفي هذا يقول القرآن الكريم:

(ولله يسجد من في السموات والأرض طوعا وكرها وظلالهم بالغدو والآصال. قل: من رب السموات والأرض؟، قل: الله، قل: أفأتخذتم من دونه أولياء لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا؟ قل هل يستوي الأعمى والبصير أم هل تستوي الظلمات والنور، أم جعلوا لله شركاء خلقوا كخلقه فتشابه الخلق عليهم؟ قل: الله خالق كل شيء وهو الواحد القهار).

أساس الخضوع لله الواحد القهار هو الشعور الذاتي بالحاجة إلى من يملك الضر والنفع والموت والحياة، ومن له الخلق والأمر، ومن بيده ملكوت كل شيء، ومن إذا أراد شيئا قل له (كن) فيكون.. الشعور بالضعف أمام من يملك القوة كل القوة. والشعور بالجهل أمام من أحاط بكل شيء علما. والشعور بالعجز أمام من يملك القدرة كل القدرة، والشعور بالفقر أمام من يملك الغنى كل الغنى، وباختصار شعور العبودية المخلوقة الفانية الفقيرة بالذات أمام الربوبية الخالقة الأزلية الأبدية، المالكة لكل شيء، والمدبر لكل أمر.

وكلما ازداد الإنسان معرفة بنفسه، ومعرفة بربه، ازدادت هذه المشاعر وضوحا وقوة، فقوى اعتماده على الله، واتجاهه إليه، وتوكله عليه، واستعانته به، وتذلله له، ومد يد الضراعة إليه، ووقوفه ببابه سائلا داعيا منيبا إليه.

فإذا جهل الإنسان قدر نفسه، وجهل قدر ربه لم تمت هذه المشاعر، ولكنها تنحرف وتتحول فتبحث لها عن رب تتجه إليه، وتخضع له، وتنقاد إليه، ولا بد، وإن لم تشعر بذلك، أو لم تسمه خضوعا وانقيادا، ولم تسم مقصودها ربا وإلها.

الثاني: أن يصدر هذا الالتزام من قلب يحب الله تعالى، فليس في الوجود من هو أجدر من الله تعالى بأن يحب، فهو صاحب الفضل والإحسان، الذي خلق الإنسان ولم يكن شيئا مذكورا، وخلق له ما في الأرض جميعا، وأسبع عليه نعمه ظاهرة وباطنة، وخلقه في أحسن تقويم وصوره فأحسن صورته، وكرمه وفضله على كثير من خلقه، ورزقه من الطيبات، وعلمه البيان، واستخلفه في الأرض، ونفخ فيه من روحه، وأسجد له ملائكته، فمن أولى من الله بأن يحب؟ ومن يحب الإنسان ـ إذن ـ إن لم يحب الله تعالى؟ إن أساس محبة الله تعالى هو الشعور بفضله ونعمته، وإحسانه ورحمته، والإحساس بجماله وكماله، فمن كان يحب الإحسان فالله هو واهبه وصاحبه، ومن كان يحب الجمال فالله هو مصدره، ومن كان يحب الكمال فلا كمال في الحقيقة إلا كماله، ومن كان يحب ذاته، فالله هو خالقه.

فمن عرف الله أحبه، وبقدر درجته في المعرفة تكون درجته في المحبة، ولهذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم أشد الناس حبا لله، لأنه كان أعرفهم بالله، وكانت قرة عينه في الصلاة، لأنها الصلة المباشرة بين قلبه وبين الله، وكان في دعائه يسأل الله الشوق إلى لقائه، ولذة النظر إلى وجهه سبحانه، ولما خير بين البقاء في الدنيا وبين اللحوق بربه قال: أختار الرفيق الأعلى!

أما علماء الكلام أو بعضهم ممن زعموا أن الحب الحقيقي لا يتصور من جانب العبد لله، وقالوا: إن معنى حب الله هو المواظبة على طاعته تعالى، وأما حقيقة الحب فهو محال، إلا مع الجنس والمثال، فقد رد عليهم الغزالي في "الإحياء" ردا مفصلا، مبينا أن الذي يستحق المحبة الكاملة بكل وجوهها، وكافة أسبابها هو الله وحده.

فإن أسباب الحب ـ كما شرحها ـ ترجع إلى خمسة هي: 1. حب الإنسان وجود نفسه وكماله وبقاءه، 2. وحبه من أحسن إليه فيما يرجع إلى دوام وجوده ويعين على بقائه ودفع المهلكات عنه، 3. وحبه من كان محسنا في نفسه إلى الناس وإن لم يكن محسنا إليه، 4. وحبه لكل ما هو جميل في ذاته، سواء كان من الصور الظاهرة أو الباطنة، 5. وحبه لمن بينه وبينه مناسبة خفية في الباطن.

فلو اجتمعت هذه الأسباب في شخص تضاعف الحب لا محالة، كما لو كان للإنسان ولد جميل الصورة، حسن الخلق، كامل العلم، حسن التدبير، محسن إلى الخلق، ومحسن إلى الوالد نفسه، كان محبوبا لا محالة غاية الحب، وتكون قوة الحب ـ بعد اجتماع هذه الخصال ـ بحسب قوة هذه الخلال في نفسها، فإن كانت هذه الصفات في أقصى درجات الكمال، كان الحب لا محالة في أعلى الدرجات.

وقد بين الغزالي بالتفصيل أن هذه الأسباب كلها لا يتصور كمالها واجتماعها إلا في حق الله تعالى، فلا يستحق المحبة بالحقيقة إلا الله سبحانه وتعالى.

ولا مجال هنا لذكر هذا التفصيل، ونجتزئ بنبذة يسيرة من حديثه عن السبب الأول للمحبة قال:

"فأما السبب الأول ـ وهو حب الإنسان نفسه، وبقاءه وكماله، ودوام وجوده، وبغضه لهلاكه وعدمه، ونقصانه وقواطع كماله ـ فهذه جبلة كل حي، ولا يتصور أن ينفك عنها، وهذا يقتضي غاية المحبة لله تعالى".

"فإن من عرف نفسه، وعرف ربه، عرف قطعا أنه لا وجود له من ذاته، وإنما وجود ذاته، ودوام وجوده، وكمال وجوده، من الله وإلى الله وبالله. فهو المخترع الموجد له، وهو المبقي له، وهو المكمل لوجوده، بخلق صفات الكمال، وخلق الأسباب الموصلة إليه، وخلق الهداية إلى استعمال الأسباب، وإلا فالعبد ـ من حيث ذاته ـ لا وجود له من ذاته، بل هو محو محض، وعدم صرف، لولا فضل الله تعالى عليه بالإيجاد، وهو هالك عقيب وجوده لولا فضل الله عليه بالإبقاء، وهو ناقص بعد الوجود لولا فضل الله عليه بالتكميل لخلقته. وبالجملة فليس في الوجود شيء له بنفسه قوام إلا القيوم الحي، الذي هو قائم بذاته وكل ما سواه قائم به، فإن أحب العارف لذاته ـ ووجوده ذاته مستفاد من غيره ـ فبالضرورة يحب المفيد لوجوده، والمديم له، إن عرفه خالقا موجدا ومخترعا مبقيا وقيوما بنفسه ومقوما لغيره".

"فإن كان لا يحبه فهو لجهله بنفسه وبربه، والمحبة ثمرة المعرفة، فتنعدم بانعدامها، وتضعف بضعفها، وتقوى بقوتها. ولذلك قال الحسن البصري ـ رحمه الله تعالى ـ : من عرف ربه أحبه، ومن عرف الدنيا زهد فيها، وكيف يتصور أن يحب الإنسان نفسه ولا يحب ربه الذي به قوام نفسه. ومعلوم أن المبتلى بحر الشمس لما كان يحب الظل فيحب ـ بالضرورة ـ الأشجار التي بها قوام الظل، وكل ما في الوجود ـ بالإضافة إلى قدرة الله تعالى ـ فهو كالظل بالإضافة إلى الشجر، والنور بالإضافة إلى الشمس، فإن الكل من آثار قدرته تعالى، ووجود الكل تابع لوجوده، كما أن وجود النور تابع للشمس، ووجود الظل تابع للشجر".

محبة الله إذن ضرورية لكل من عرف نفسه وعرف ربه.

ولكن الخطر إنما يكمن في ادعاء المحبة لله دون تحقيق العنصر الأول وهو الاتباع والانقياد لما جاءت به رسل الله، كاليهود والنصارى الذين قالوا: نحن أبناء الله وأحباؤه. مع أنهم انحرفوا عما نزلت به كتب الله، ودعا إليه رسله، وحرفوا الكلم عن مواضعه، فحادوا عن الصراط المستقيم.

لا بد إذن في العبادة من العنصرين معا: غاية الخضوع لله، وغاية المحبة لله، كما بين ابن تيمية رحمه الله.
خطأ صنفين من الناس في فهم حقيقة العبادة

وهذا البيان لحقيقة العبادة يصحح خطأ صنفين من الناس:

الصنف الأول: أسرف في دعوى المحبة، حتى أخرجه ذلك إلى نوع من الرعونة والدعوى التي تنافي العبودية، وتدخل العبد في نوع الربوبية التي لا تصلح إلا الله، فيدعي أحدهم دعاوي تتجاوز حدود الأنبياء المرسلين ـ فضلا عن عامة الناس ـ أو يطلب من الله ما لا يصلح بكل وجه إلا الله، لا يصلح الأنبياء ولا للمرسلين. قال ابن تيمية: وهذا باب وقع فيه كثير من الشيوخ (يعني من المتصوفة) وسببه: ضعف تحقيق العبودية التي بينها الرسل، وحررها الأمر والنهي، الذي جاءوا به، بل ضعف العقل الذي به يعرف العبد حقيقته.

وإذا ضعف العقل، وقل العلم بالدين، وفي النفس محبة طائشة جاهلة، انبسطت النفس بحمقها في ذلك، كما ينبسط في محبة الإنسان مع حمقه وجهله، ويكون سببا لبغض المحبوب له، ونفوره منه، بل سببا لعقوبته.

"وكثير من السالكين سلكوا في دعوى حب الله أنواعا من أمور الجهل بالدين. إما من تعدي حدود الله، وإما من تضييع حقوق الله، وإما من ادعاء الدعاوي الباطلة التي لا حقيقة لها، كقول بعضهم: أي مريد لي ترك في النار أحدا فأنا برئ منه! فقال الآخر: أي مريد لي ترك أحدا من المؤمنين يدخل النار فأنا منه برئ!".

فالأول: جعل مريده يخرج كل من في النار.

الثاني: جعل مريده يمنع أهل الكبائر من دخول النار.

"ويقول بعضهم: إذا كان يوم القيامة نصبت خيمتي على جهنم، حتى لا يدخلها أحد!! وأمثال ذلك من الأقوال التي تؤثر عن بعض المشايخ المشهورين، هي إما كذب عليهم، وإما غلط منهم".

"ومثل هذا قد يصدر في حال سكر وغلبة فناء يسقط فيها تمييز الإنسان، أو يضعف حتى لا يدري ما قال والسكر هو لذة مع عدم تمييز. ولهذا كان من هؤلاء من إذا صحا استغفر من ذلك الكلام. والذين توسعوا من الشيوخ في سماع القصائد المتضمنة للحب والشوق واللوم والعذل والغرام، كان هذا أصل مقصدهم فإن هذا الجنس يحرك ما في القلب من الحب كائنا ما كان. ولهذا أنزل الله محنة (اختبارا) يمتحن بها المحب فقال (قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله) فلا يكون محبا لله إلا من يتبع رسوله، وطاعة الرسول ومتابعته لا تكون إلا بتحقيق العبودية، وكثير ممن يدعي المحبة يخرج عن شريعته وسنته ـ صلى الله عليه وسلم ـ ويدعي من الحالات ما لا يتسع هذا الموضوع لذكره، حتى قد يظن أحدهم سقوط الأمر، وتحليل الحرام له، وغير ذلك مما فيه مخالفة شريعة الرسول وسنته وطاعته.

"بل قد جعل الله أساس محبته ومحبة رسوله، الجهاد في سبيله، والجهاد يتضمن كمال محبة ما أمر الله به، وكمال بغض ما نهى الله عنه، ولهذا قال في صفة من يحبهم ويحبونه (أذلة على المؤمنين، أعزة على الكافرين، يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم).

"ولهذا كانت محبة هذه الأمة لله أكمل من محبة من قبلها، وعبوديتهم لله أكمل من عبودية من قبلهم، وأكمل هذه الأمة في ذلك هم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، ومن كان بهم أشبه كان ذلك فيه أكمل".

هذا صنف.

والصنف الثاني: الذي غلط في فهم حقيقة العبادة: هو الذي ظن أن المحبة تنافي أدب العبودية ولا تصاحب خشية الله ومخافته التي يجب أن يتصف بها كل عبد الله. كما ظن أن المحبة لا تتحقق من المخلوق للخالق، إنما المطلوب منه الطاعة والخضوع فقط.

والحقيقة أن المحبة لا تنافي الخشية والمخافة، بل الخوف لازم للمحبة كما قال ابن تيمية، إذ ليس عند القلب السليم أحلى ولا ألذ ولا أطيب ولا أسر ولا أنعم من حلاوة الإيمان المتضمن عبوديته لله، ومحبته له وإخلاصه الدين له، وذلك يقتضي انجذاب القلب إلى الله، فيصير القلب منيبا إلى الله، خائفا منه، راغبا راهبا، كما قال تعالى: (من خشي الرحمن بالغيب وجاء بقلب منيب) إذ المحب يخاف من زوال مطلوبه أو عدم حصول مرغوبه، فلا يكون عبد الله ومحبه إلا بين خوف ورجاء، كما قال تعالى (أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه إن عذاب ربك كان محذورا).

ويؤكد ابن تيمية في غير موضع من رسالة "العبودية" أن المحبة جزء لا يتجزأ من حقيقة العبودية مستدلا على ذلك باللغة والشرع قال: "ولفظ العبودية يتضمن كمال الذل وكمال الحب، فإنهم يقولون: قلب متيم إذا متعبدا للمحبوب، والتتيم: التعبد، وتيم الله: أي عبد الله، وهذا على الكمال حصل لإبراهيم ومحمد صلى الله عليه وسلم".

وفي موضع آخر يقول:

"إنما الدين الحق هو تحقيق العبودية لله بكل وجه، وهو تحقيق محبة الله بكل درجة وبقدر تكميل العبودية تكمل محبة العبد لربه، وتكمل محبة الرب لعبده، وبقدر نقص هذا يكون نقص هذا، وكلما كان في القلب حب لغير الله كانت فيه عبودية لغير الله بحسب ذلك، وكلما كان فيهعبودية لغير الله كان فيه حب لغير الله بحسب ذلك".

وكل محبة لا تكون لله فهي باطلة، وكل عمل لا يراد به وجه الله فهو باطل، فالدنيا ملعونة ما فيها إلا ما كان لله، ولا يكون لله إلا ما أحبه الله ورسوله، وهو المشروع.

وكل عمل أريد به غير الله لم يكن لله، وكل عمل لا يوافق شرع الله لم يكن لله، بل لا يكون لله إلا ما جمع وصفين: أن يكون لله وأن يكون موافقا لمحبة الله ورسوله، وهو الواجب والمستحب".

ومن السلف من لم ينكر حقيقة المحبة وإنما أنكر ادعاءها والانبساط في هذه الدعوى بما لا يليق بمقام العبودية، وجلال الربوبية، كما رأينا في أقوال من ذكرنا من الصنف الأول.

ومن علماء الكلام من ذهب إلى أن المحبة لا تجوز في حق الله، وتأول ما جاء في الكتاب والسنة، ومن ذلك بأن المراد به الطاعة، فالعبودية هي الذل والخضوع لله سبحانه لا غير.

وفي الرد على هؤلاء يقول ابن تيمية بعد أن ذكر أن الخلة والمحبة لله تحقيق عبوديته:

"وإنما يغلط من يغلط في هذه من حيث يتوهمون أن العبودية مجرد ذلك وخضوع فقط، لا محبة معه، وأن المحبة فيها انبساط في الأهواء، أو إذلال لا تحتمله الربوبية، ولهذا ذكر عن ذي النون: أنهم تكلموا عنده في مسألة المحبة، فقال: أمسكوا عن هذه المسألة، لا تسمعها النفوس فتدعيها".

"وكره من كره من أهل المعرفة والعلم مجالسة أقوام يكثرون الكلام في المحبة بلا خشية، وقال من قال من السلف: من عبد الله بالحب وحده فهو زنديق، ومن عبده بالرجاء وحده فهو مرجئ، ومن عبده بالخوف فهو حروري، ومن عبده بالحب والخوف والرجاء، فهو مؤمن موحد".

والذي دعا هذا القائل من السلف إلى اتهام من عبد الله بالحب وحده بالزندقة والمروق إنما هو غلو فريق من الناس انتهى به المطاف في دعوى الحب لله أن زعم لنفسه أنه وصل إلى حال مع الله لم تعد فيها لتكاليف الشرع فائدة عنده، فقد عبد ربه حتى أتاه اليقين! وليس بعد اليقين شيء، فسقط عنه الأمر والنهي، وأحل له شرب الخمر والمعاصي!!

وهذا الصنف هو الذي قال فيه الإمام الغزالي: هذا ممن لا شك في وجوب قتله، وقتل مثل هذا أفضل من قتل مائة كافر، إذ ضرره في الدين أعظم، وينفتح به باب من الإباحة لا ينسد. وضرر هذا فوق ضرر من يقول بالإباحة مطلقا، فإنه يمنع عن الإصغاء إليه ظهور كفره، وأما هذا فإنه يهدم الشرع من الشرع! ويزعم أنه لم يرتكب فيه إلا تخصيص عموم، إذ خصص عموم التكليفات بمن ليس له مثل درجته في الدين، وربما يزعم أنه يلابس ويقارف المعاصي بظاهره وهو بباطنه برئ عنها!.

على أن الغزالي إن توقف هنا في تكفير هذا الصنف المدعي، فقد استدرك عليه ذلك من بعده، كابن حجر الهيثمي المكي الشافعي الذي جزم بكفره، لأنه منكر لقطعيات الدين وضرورياته.

ومن هنا عني ابن تيمية في بيانه حقيقة العبودية بذكر "الضوابط" التي تقف بالعبد عند حده ولا تشرد به عن سواء الصراط تحت عنوان "محبة الله" يقول ابن تيمية:

"وإنما عبد الله من يرضيه ما يرضي الله، ويسخطه ما يسخط الله، ويحب ما أحبه الله ورسوله، ويبغض ما أبغضه الله ورسوله، ويوالي أولياء الله تعالى ويعادي أعداء الله تعالى، هذا هو الذي استكمل الإيمان، كما في الحديث: "من أحب لله وأبغض لله وأعطى لله، ومنع لله، فقد استكمل الإيمان" وقال: "أوثق عرا الإيمان الحب في الله والبغض في الله".

وفي الصحيح: "ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان، من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، ومن كان يحب المرء لا يحبه إلا لله، ومن كان يكره أن يرجع إلى الكفر بعد أن أنقذه الله منه، كما يكره أن يلقى في النار.

فهذا وافق ربه فيما يحبه وما يكرهه، فكان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأحب المخلوق لله لا لغرض آخر، فكان هذا من تمام حبه لله، فإن محبة محبوب المحبوب من تمام محبة المحبوب، فإذا أحب أنبياء الله وأولياء الله لأجل قيامهم بمحبوبات الحق لا لشيء آخر، فقد أحبهم الله لا لغيره وقد قال تعالى: (فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه، أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين) ولهذا قال تعالى: (قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحبكم الله) فإن الرسول لا يأمر إلا بما يحب الله، ولا يخبر إلا بما يحب الله التصديق به.

فمن كان محبا لله لزم أن يتبع الرسول، فيصدقه فيما أخبر، ويطيعه فيما أمر، ويتأسى به فيما فعل، ومن فعل هذا فعل ما يحبه الله، فيحبه الله.

وقد جعل الله لأهل محبته علامتين: اتباع الرسول، والجهاد في سبيله، وذلك لأن الجهاد حقيقته الاجتهاد في حصول ما يحبه الله من الإيمان والعمل الصالح، ومن دفع ما يبغضه الله من الكفر والفسوق والعصيان، وقد قال تعالى (قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره).

فتوعد من كان أهله وماله أحب إليه من الله ورسوله والجهاد في سبيله بهذا الوعيد بل قد ثبت عنده صلى الله عليه وسلم في "الصحيح" أنه قال: "والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين".

وفي الصحيح أن عمر بن الخطاب قال: يا رسول الله، والله لأنت أحب إلي من كل شيء إلا من نفسي، فقال: لا يا عمر، حتى أكون أحب إليك من نفسك، فقال: فوالله لأنت أحب إلي من نفسي، فقال: الآن يا عمر.

فحقيقة المحبة لا تتم إلا بموالاة المحبوب، وهو موافقته في حب ما يحب، وبغض ما يبغض، والله يحب الإيمان والتقوى، ويبغض الكفر والفسوق والعصيان.
مزاعم المستشرقين

للمستشرقين في كل جانب من جوانب الإسلام، وفي كل فرع من فروع المعرفة الإسلامية دعاو عريضة دفع إليها أحد أمرين أو كلاهما.

الأول: سوء الفهم لدين الإسلام ولغته التي نزل بها كتابه، وجاءت بها أحاديث نبيه، وكتبت بها مؤلفات علمائه، وهم ـ لعجمتهم وغربتهم عنها ـ لا يتذوقونها، ولا يدركون أسرار تعبيرها، وتنوع دلالاتها.

والثاني: سوء النية والقصد إلى البحث عن عورات يشنعون بها، ونقاط ضعف يسوغون بها ما يعتقدونه من دعوى بشرية القرآن وعدم صدق نبوة محمد صلى الله عليه وسلم فهم يقرأون تراثنا ويدرسونه بروح المتعصب الباحث عن المطاعن، لا بروح الباحث عن الحق.

فهم قد كونوا فكرة سابقة عن الإسلام وكتابه ونبيه ورجاله وتاريخه، وهمهم في دراسة تراث الإسلام أن يعثروا على أدلة توافق فكرتهم، فإن لم يجدوا الأدلة ـ كما هو الواقع ـ تصيدوا الشبهات، فإن أعيتهم الشبهات، لفقوا من المصادر الضعيفة، والأقوال المردودة، والروايات المنكرة، ما يشوشون به يبهرجون.

ومن ذلك ما ذكره بعضهم عن عبادة المسلمين وأنها تقوم على الخوف والخضوع وحده، ولا مجال فيها لحب الله تعالى، وأن الله في تصور المسلمين إله قهر وجبروت لا إله رحمة وحب.

ويزعمون أن المسلمين لم يعرفوا عنصر الحب في صلتهم بالله تعالى، إلا بعد انتشار التصوف الذي اقتبس هذا العنصر من مصادر أجنبية عن الإسلام.

ولو أنصف هؤلاء ورجعوا إلى نصوص القرآن والسنة، وسيرة الرسول وسير أصحابه ومن تبعهم بإحسان، بل لو حللوا معنى العبادة لغة ـ كما فعل ابن تيمية ـ لكفوا عن هذا اللغو، وعلموا أن العبادة في الإسلام تعني: غاية الخضوع لله مع غاية الحب له.

والمتصوفة لم يستمدوا حب الله تعالى من خارج الإسلام، وإنما التفتوا إليه ونموه وعمقوه في الوقت الذي كان بعض المنتسبين إلى علم الكلام لا يتصورون قيام حب حقيقي من الإنسان لربه، لأن الحادث كيف يحب القديم؟

وما حاجة الصادقين من أهل الذوق والوجدان الروحي (الصوفي) إلى اقتباس الحب من مصدر أجنبي عن الإسلام، ونصوصه المحكمة في هذا الأمر أمام أعينهم بينة واضحة، وكافية شافية؟

يكفي أن نذكر هنا ما كتبه الإمام الغزالي في بيان شواهد الشرع في حب العبد لله تعالى في كتاب "المحبة" من "إحيائه" لنعلم من أي ينبوع استقى الصوفية المعتدلون فكرة "الحب الإلهي" قال: "اعلم أن الأمة مجمعة على أن الحب لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم فرض، وكيف يفرض ما لا وجود له؟ وكيف يفسر الحب بالطاعة، والطاعة تبع الحب وثمرته؟ فلا بد أن يتقدم الحب ثم بعد ذلك يطيع من أحب، ويدل على إثبات الحب لله تعالى قوله عز وجل: (يحبهم ويحبونه) وقوله تعالى: (والذين آمنوا أشد حبا لله) وهو دليل ثابت على إثبات الحب وإثبات التفاوت فيه، وقد جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم الحب لله من شرط الإيمان في أخبار كثيرة، إذ قال أبو رزين العقيلي: "يا رسول الله ما الإيمان قال أن يكون الله ورسوله أحب إليك مما سواهما" وفي حديث آخر: "لا يؤمن أحدكم حتى يكون الله ورسوله أحب إليه من أهله وماله والناس أجمعين" وفي رواية (ومن نفسه) كيف وقد قال تعالى: (قل إن كان أباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم) الآية، وإنما أجرى ذلك في معرض التهديد والإنكار، وقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمحبة فقال: "أحبوا الله لما يغذوكم به من نعمه وأحبوني لحب الله إياي". ويروى أن رجلا قال: يا رسول الله إني أحبك، فقال صلى الله عليه وسلم: استعد للفقر، فقال: إني أحب الله تعالى فقال: استعد للبلاء" وعن عمر رضي الله عنه قال: "نظر النبي صلى الله عليه وسلم إلى مصعب بن عمير مقبلا وعليه إهاب كبش قد تنطق به فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "انظروا إلى هذا الرجل الذي نور الله قلبه، لقد رأيته بين أبويه يغذوانه بأطيب الطعام والشراب، فدعاه حب الله إلى ما ترون" وقد قال نبينا صلى الله عليه وسلم في دعائه "اللهم ارزقني حبك، وحب من أحبك، وحب ما يقربني إلى حبك، واجعل حبك أحب إلي من الماء البارد" وجاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "يا رسول الله متى الساعة؟ قال: ما أعددت لها؟ فقال: ما أعدت لها كثير صلاة ولا صيام إلا أنني أحب الله ورسوله، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "المرء مع من أحب" قال أنس: فما رأيت المسلمين فرحوا بشيء بعد الإسلام فرحهم بذلك".

فهذه هي حقيقة العبادة في الإسلام إنها معنى مركب من عنصرين: غاية الخضوع لله تعالى، مع غاية المحبة له سبحانه.

بل قال ابن القيم: "أصل العبادة محبة الله، بل إفراده بالمحبة، وأن يكون الحب كله لله، فلا يحب معه سواه، وإنما يحب لأجله وفيه".



الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://resalahmasriyah.mam9.com
 
كتاب العبادة - للشيخ القرضاوي - الباب الثاني
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1
 مواضيع مماثلة
-
» كتاب العبادة - للشيخ القرضاوي - الباب الأول
» كتاب العبادة - للشيخ القرضاوي - الباب الرابع
» كتاب العبادة - للشيخ القرضاوي - الباب الخامس
» كتاب العبادة - للشيخ القرضاوي - الباب السادس
» كتاب العبادة - للشيخ القرضاوي - الباب السابع (الأخير)

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
رسالة مصرية ثقافية :: ديني :: كتب دينية-
انتقل الى: