عبادات الإسلام وشعائره الكبرى
أسرارها وأثرها في الحياة
المراد بعبادات الإسلام
حين نتحدث عن "عبادات الإسلام" نعني بها تلك الصور المحددة التي رسمها الإسلام للتقرب بها إلى الله تعالى، واتخذها شعائر مميزة له، وعين لها مواقيت ومقادير وكيفيات لا مجال فيها لتبديل أو تعديل، وهذا ما يجعلنا نقصر الحديث على العبادات الأربع المعروفة: الصلاة، والزكاة، والصيام، والحج.
ولو شئنا أن نفسح المجال لكان علينا أن ندخل في حديثنا ـ على الأقل ـ عبادتين من أهم العبادات الإسلامية التي لم تدخل في نطاق التعبد بتحديد المواقيت والكيفيات، وهما: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والجهاد في سبيل الله.
فالفريضة الأولى من السمات التي تميزت بها هذه الأمة (كنتم خير أمة أخرجت للناس: تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله)، وهي من شعب الإيمان وخصال المؤمنين (والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر) (التائبون العابدون الحامدون السائحون الراكعون الساجدون الآمرون بالمعروف الناهون عن المنكر والحافظون لحدود الله) ومن فرط فيها لعن كما (لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى بن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون، كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه، لبئس ما كانوا يفعلون).
والفريضة الثانية قد أمر بها المسلم كما أمر بالركوع والسجود وسائر العبادات: (يأيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا واعبدوا ربكم وافعلوا الخير لعلكم تفلحون وجاهدوا في الله حق جهاده هو اجتباكم) (يأيها الذين آمنوا اتقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة وجاهدوا في سبيله لعلكم تفلحون) والرسول يقول: "من لقي الله بغير أثر من جهاد لقي الله وفيه ثلمة".
ويبين القرآن عظم مثوبة المجاهدين فيقول: (ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولا نصب ولا مخمصة في سبيل الله ولا يطئون موطئا يغيظ الكفار، ولا ينالون من عدو نيلا إلا كتب لهم به عمل صالح، إن الله لا يضيع أجر المحسنين، ولا ينفقون نفقة صغيرة ولا كبيرة ولا يقطعون واديا إلا كتب لهم ليجزيهم الله أحسن ما كانوا يعملون).
وقال صلى الله عليه وسلم: "لغدوة في سبيل الله أو روحة خير في الدنيا وما فيها".
وسأله بعضهم: يا رسول الله ما يعدل الجهاد في الله؟ قال: لا تستطيعونه، فأعادوا عليه مرتين أو ثلاثا وكل ذلك يقول: لا تستطيعونه، ثم قال: مثل المجاهد في سبيل الله كمثل الصائم القائم القانت بآيات الله، لا يفتر من صلاة وصيام، حتى يرجع المجاهد في سبيل الله!".
ومع ما لهاتين الفريضتين أو العبادتين ـ الجهاد والأمر والنهي ـ من شأن ومنزلة في الإسلام، فإننا ندع الحديث عنهما هنا، حيث نتجه إلى العبادات الشعائرية الكبرى، التي وضح فيها معنى التعبد، وهي التي تلتمس في العادة آثارها، وتطلب أسرارها.
عبادات قديمة جديدة
العبادات الإسلامية المعروفة من صلاة وزكاة وصيام وحج عبادات قديمة، عرفتها الأديان قبل الإسلام على صورة من الصور، فالله تعالى يقول عن بعض الأنبياء: (وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا وأوحينا إليهم فعل الخيرات وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وكانوا لنا عابدين).
وفي الصيام يقول القرآن: (يأيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون).
وفي الحج يقول: (وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت أن لا يشرك بي شيئا وطهر بيتي للطائفين والقائمين والركع السجود، وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق).
ولكن هذه العبادات الأربع كانت في تلك الديانات مناسبة لعصرها وبيئتها، فلما جاء محمد صلى الله عليه وسلم بالرسالة الخاتمة، الملائمة للبشرية في طور نضوجها، فرض الله عليه هذه العبادات في أكمل صورة لها، ورقى كل نوع منها إلى غايته ومنتهاه، ونقاها من كل ما شابها خلال العصور وكر الدهور.
فالصلاة لم تعد مجرد ابتهال ودعاء، ولكنها ذكر ودعاء وتلاوة، هي أقوال وأعمال يشترك فيها الفكر والقلب واللسان والبدن، اشترط الإسلام لها النظافة والطهارة، وأخذ الزينة، والاتجاه إلى قبلة واحدة، ووزعها على أوقات النهار والليل بمواقيت معينة، وحدد لكل صلاة منها ركعات معدودة، ورتب كيفيتها على نسق فريد، وكملها بما شرع فيها من جماعة وجمعة، وزان ذلك كله بما شرع لها من أذان وإقامة.
والصلاة الإسلامية بهذه الصورة، وتلك الشروط، عبادة فذة لم تعرف هكذا في دين من الأديان.
والزكاة في الإسلام عبادة فذة، إنها ليست مجرد إحسان يتبرع به متبرع، أو صدقة يتطوع بها متطوع، إنها حق معلوم، وضريبة مقدرة على كل من يملك نصابا محددا ناميا من المال حال عليه الحول، فاضلا عن الحاجات الأصلية لمالكه، إنها حق الله فيما أنعم به من مال أو تجارة أو زرع، حق يدفع الإيمان إلى أدائه، وتقوم الدولة على جبايته (خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها) فمن أداها طيبة بها نفسه، فقد كسب رضا الله والناس، وفاز بخيري الآخرة والأولى، ومن أبى قسر على أدائها قسرا، فإن كانت له شوكة قوتل وجندت له الجنود حتى يؤديها: وهذا ما صنعه الخليفة الأول أبو بكر الصديق رضي الله عنه مع مانعي الزكاة.
فالزكاة بهذا الوضع وبمصارفها التي بينها القرآن عبادة جديدة لم تعرف بهذا الكمال في دين من الأديان.
وكذلك الصيام والحج والذكر والدعاء عبادات قديمة مشتركة في أديان كثيرة، ولكن الإسلام نقى هذه العبادات جميعا من كل شائبة، ورقى كل نوع منها إلى غايته، وركز فيها من الأسرار، وربط بها من الآثار، وجعل لها من التأثير في الحياة ما يليق بدين عام خالد، مهمته إصلاح للفرد، وإسعاد البيت، واستقرار الجماعة، وتوجيه الدولة، وهداية العالمين.
أسرار العبادات وآثارها
والأصل في العبادات أنها تؤدى امتثالا لأمر الله، وأداء لحقه على عباده، وشكرا لنعمائه التي لا تنكر، وليس من اللازم أن يكون لهذه العبادات ثمرات ومنافع في حياة الإنسان المادية، وليس من الضروري أن يكون لها حكمة يدركها عقله المحدود، الأًصل فيها أنها ابتلاء لعبودية الإنسان لربه، فلا معنى لأن يدرك السر في كل تفصيلاتها. فالعبد عبد، والرب رب، وما أسعد الإنسان إذا عرف قدر نفسه!
ولو كان الإنسان لا يتعبد لله إلا بما وافق عليه عقله المحدود وعرف الحكمة فيه تفصيلا، فإذا عجز عن إدراك السر في جزئية أو أكثر من جزئياته، أعرض ونأى بجانبه ـ لكان في هذه الحال عبد عقله وهواه، لا عبد ربه ومولاه.
إن العبودية لله شعارها الإيمان بالغيب ولو لم تره، والطاعة للأمر ولو لم تحط بسره.
وحسب المؤمن أن يعلم بالإجمال أن الله غني عن العالمين، غني عن عباداتهم وطاعاتهم، فلا تنفعه طاعة من أطاع ولا تضره معصية من عصى (ومن يشكر فإنما يشكر لنفسه ومن كفر فإن الله غني حميد) (لله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ومن كفر فإن الله غني عن العالمين).
فالله غني عن عباده كل الغنى، وإذا تعبدهم بشيء فإنما يتعبدهم بما يصلح أنفسهم، ويعود عليهم بالخير في حياتهم الروحية والمادية، الفردية والاجتماعية، الدنيوية والأخروية، غير أن الإنسان المحدود قد تخفى عليه حكمة الله جل علاه.
وكم لله من سر خفي يدق خفاه عن فهم الذكي
وكما أخفى كثيرا من أسرار هذا الكون عن الإنسان، أخفى عنه بعض أسرار ما شرع ليظل الإنسان في هذا وذاك متطلعا بأشواقه وراء المجهول آملا في الوصول، معترفا بالقصور، وليظل دائما في دائرة العبودية المؤمنة التي شعارها دائما: (سمعنا وأطعنا، غفرانك ربنا وإليك المصير).
وقد ذكر الإمام الغزالي في كتابه المنقذ من الضلال: "أن العبادات لصحة قلب الإنسان، كالأدوية لصحة بدنه، وليس كل إنسان يعرف خواص الدواء وسر تركيبه إلا الطبيب أو العالم الذي اختص بمعرفته، وكل مريض يقلد الطبيب فيما يصف له من دواء ولا يناقشه فيه، قال: فكذلك بان لي على الضرورة أن أدوية العبادات بحدودها ومقاديرها المحدودة المقدرة من جهة الأنبياء، لا يدرك وجه تأثيرها ببضاعة عقل العقلاء، بل يجب فيها تقليد الأنبياء الذين أدركوا تلك الخواص بنور النبوة لا ببضاعة العقل، وكما أن اختلاف الأدوية في المقدار والوزن والنوع لا يخلو من سر هو من قبيل الخواص، فكذلك العبادات التي هي أدوية داء القلوب مركبة من أفعال مختلفة النوع والمقدار، حتى إن السجود ضعف الركوع، وصلاة الصبح نصف صلاة العصر في المقدار، فلا يخلو عن سر من الأسرار، وهو من قبيل الخواص التي لا يطلع عليها إلا بنور النبوة، فقد تحامق وتجاهل جدا من أراد أن يستنبط لها حكمة، أو ظن أنها ذكرت على الاتفاق لا من سر إلهي فيها".
وبهذا علم أنه من الخطأ البين أن نطلب لكل تفصيل من تفصيلات العبادة حكمة تقنع العقل، وتشبع نهمه، ولا سيما ذلك العقل المادي الحديث الذي لا يشبعه إلا الحسية والنفعية.
فالعبادات ـ كما قال الأستاذ العقاد ـ شعائر توقيفية تؤخذ بأوضاعها وأشكالها، ولا يتجه الاعتراض إلى وضع من أوضاعها، إلا أمكن أن يتجه إلى الوضع الآخر، لو استبدل منها ما اقترحه المقترح بما جرى عليه العمل وقامت عليه الفريضة من نشأتها.
"لماذا يكون الصوم شهرا ولا يكون ثلاثة أسابيع أو خمسة، لماذا تكون حصة الزكاة جزءا من عشرة أجزاء، ولا تكون جزءا من تسعة أو من خمسة عشر؟"
لماذا نركع ونسجد ولا نصلي قياما أو قياما ركوعا بغير سجود؟
من اعترض بأمثال هذه الاعتراضات فليس ما يمنعه أن يعود إلى الاعتراض لو فرض الصيام ثلاثة أسابيع، أو فرضت الزكاة فوق مقدارها أو دون هذا المقدار، أو فرضت الصلاة على وضع غير وضعها الذي اتفق عليه أتباع الدين وليس معنى أن هذه الأوضاع لا تعرف لها أسباب تدعو إليها، وتفسر لنا اتباعها دون غيرها، ولكنها في نهاية الأمر أوضاع توقيفية لا موجب من العقل للتحكم فيها بالاقتراح والتعديل، لأن المقترح المعدل لن يستند إلى حجة أقوى من الحجة التي يرفضها، ويميل إلى سواها.
ويسري هذا على كل تنظيم في أمور الدنيا، ولا يسري على أمور الدين وحده.
فلماذا يكون عدد الكتيبة في جيش هذه الأمة خمسين مثلا ويكون في أمة غيرها أربعين أو مائة؟
ولماذا يجعل اللون الأخضر رمزا لهذا المعنى في ألوان العلم القومي عند قوم من الأقوام، وهو مجعول لغير هذا المعنى عندأقوام آخرين؟
لا مناص في النهاية من أسباب توقيفية يكون التسليم بها أقرب إلى العقل من المجادلة فيها.
وقد ضل قوم حاولوا أن يفهموا الحكمة من كل جزئية من جزئيات العبادة، فلما خفيت عليهم أسرار بعض التفصيلات في عبادة كالحج شكوا وشككوا، وهم في شكهم وتشكيكهم ضالون عن سواء السبيل.
الصلاة
منزلة الصلاة في الإسلام
المسجد ورسالته في الحياة
الصلاة المطلوبة
المسجد جامعة شعبية
سر تكرار الصلاة في اليوم
المسجد برلمان دائم
الصلاة نظافة وتجمل
المسجد مؤتمر
الصلاة رياضة بدنية
المسجد معهد للتربية العملية
الصلاة قوة روحية ونفسية
الحرية
الصلاة قوة خلقية
الإخاء
صلاة الجماعة ومزاياها
المساواة
الصلاة تربية عسكرية
مسجد الرسول في المدينة
الصلاة عبادة عريقة في القدم، وشعيرة مشتركة بين الديانات عامة، ولا أحسب تاريخ الأديان عرف دينا بغير صلاة.
بيد أن الصلاة الإسلامية لها مزاياها الخاصة، التي برز فيها بوضوح ما ذكرناه من خصائص الإسلام وهديه وما جاء به من إصلاح في العبادات، فلا عجب أن تشتمل على أسرار بليغة لا تشاركها فيها صلاة في أي دين آخر.
منزلة الصلاة في الإسلام
وقد عني الإسلام في كتابه وسنته بأمرها، وشدد كل التشديد في طلبها، وحذر أعظم التحذير من تركها، فهي عمود الدين، ومفتاح الجنة، وخير الأعمال، وأول ما يحاسب عليه المؤمن يوم القيامة، يذكرها القرآن في دعاء الخليل إبراهيم: (رب اجعلني مقيم الصلاة ومن ذريتي ربنا وتقبل دعاء) ويمدح بها الذبيح إسماعيل (وكان يأمر أهله بالصلاة والزكاة وكان عند ربه مرضيا) ويأمر الله كليمه موسى بإقامتها أول ما يأمر به في ساعات الوحي الأولى: (وأنا اخترتك فاستمع لما يوحى، إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني وأقم الصلاة لذكري) ويوحى إليه وإلى أخيه هارون: (أن تبوءا لقومكما بمصر بيوتا واجعلوا بيوتكم قبلة وأقيموا الصلاة) وفي وصية لقمان لابنه: (يا بني أقم الصلاة وأمر بالمعروف وانه عن المنكر واصبر على ما أصابك إن ذلك من عزم الأمور) وينطق المسيح عيسى في مهده: (وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا) ويأمر الله بها خاتم أنبيائه: (اتل ما أوحي إليك من الكتاب وأقم الصلاة) ويجعلها جوهرية من صفات المتقين تتلو الإيمان بالغيب: (هدى للمتقين، الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون).
ويبدأ بها ويختم أوصاف المؤمنين المفلحين: (قد أفلح المؤمنون، الذين هم في صلاتهم خاشعون، والذين هم عن اللغو معرضون، والذين هم للزكاة فاعلون والذين هم لفروجهم حافظون، إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين، فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون، والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون، والذين هم على صلواتهم يحافظون).
ويؤكد المحافظة عليها في الحضر والسفر، والأمن والخوف، والسلم والحرب: (حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وقوموا لله قانتين. فإن خفتم فرجالا أو ركبانا) أي فصلوا في حال الخوف والحرب مشاة أو راكبين كيف استطعتم، بغير ركوع ولا سجود، بل بالإشارة والإيماء. وبدون اشتراط استقبال القبلة للضرورة هنا: (ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله). وينذر بالويل والهلاك من يسهو عنها حتى يضيع وقتها: (فويل للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون).
ويدمغ بالذم واستحقاق الغي خلف سوء (أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا).
ويجعلها الرسول الكريم الدليل الأول على التزام عقد الإيمان، والشعار الفاصل بين المسلم والكافر "بين الرجل وبين الشرك والكفر وترك الصلاة" "العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر" وذكر الصلاة يوما فقال: "من حافظ عليها كانت له نورا وبرهانا ونجاة يوم القيامة، ومن لم يحافظ عليها لم يكن له نور ولا برهان ولا نجاة، وكان يوم القيامة مع قارون وفرعون وهامان وأبي بن خلف" قال العلماء في توجيه هذا الحديث: فمن شغله عنها رياسته ووزارته فهو مع هامان، ومن شغله عنها تجارته فهو مع أبي بن خلف.
وقال عليه الصلاة والسلام: "من فاتته صلاة فكأنما وتر أهله وماله" أي أصيب في أهله وماله وأصبح بعدهم وترا فردا، فإذا كانت هذه كارثة من فاتته الصلاة، فكيف بمن فاتته الصلوات كلها؟!
فلا عجب بعد هذه التأكيدات والتشديدات من نصوص القرآن والسنة أن ذهب جماعة من أئمة الإسلام إلى أن تارك الصلاة كافر خارج عن ملة الإسلام، وتساهل آخرون فقالوا: إنه عاص فاسق يخشى عليه فقدان الإيمان.
تلك هي مكانة الصلاة في الإسلام، ولهذه المكانة كانت أول عبادة فرضت على المسلمين، فقد فرضت في مكة قبل الهجرة بنحو ثلاث سنوات، وكانت طريقة فرضيتها دليلا آخر على عناية الله بها، إذ فرضت العبادات كلها في الأرض، وفرضت الصلاة وحدها في السماء، ليلة الإسراء والمعراج، بخطاب مباشر من رب العالمين إلى خاتم المرسلين.
إن الحكومات تستدعي سفراءها في الأمور الهامة الحاسمة، التي لا تغني فيها المراسلة عن المشافهة، ومحمد صلى الله عليه وسلم سفير الله إلى خلقه، فإذا استدعاه الله سبحانه وعرج به إلى السموات العلي، ليخاطبه بفرض الصلوات، كان ذلك برهانا ناطقا على سمو منزلة الصلاة وأهميتها عند الله.
الصلاة المطلوبة
والصلاة التي يريدها الإسلام، ليست مجرد أقوال يلوكها اللسان، وحركات تؤديها الجوارح، بلا تدبر من عقل، ولا خشوع من قلب، ليست تلك التي ينقرها صاحبها نقر الديكة، ويخطفها خطف الغراب، ويلتفت فيها التفات الثعلب: كلا، فالصلاة المقبولة هي التي تأخذ حقها من التأمل والخشية واستحضار عظمة المعبود جل جلاله.
ذلك أن القصد الأول من الصلاة ـ بل من العبادات كافة ـ هو تذكير الإنسان بربه الأعلى، الذي خلق فسوى، والذي قدر فهدى، قال تعالى: (وأقم الصلاة لذكري) وقال رسوله صلى الله عليه وسلم: "إنما فرضت الصلاة، وأمر بالحج، وأشعرت المناسك، لإقامة ذكر الله تعالى" وأشار إلى روح الصلاة فقال: "إنما الصلاة تمسكن ودعاء وتضرع، وتضع يديك فتقول: اللهم: اللهم" فمن لم يفعل فهي خداج" أي ناقصة.
فهذا تنبيه على أهمية حضور القلب في الصلاة، وأما حضور العقل فحسبنا قوله تعالى: (يأيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون) فنبه بهذا التعليل على وجوب حضور العقل في الصلاة، فكم من مصل لا يعلم ما يقول في صلاته، وهو لم يشرب خمرا، وإنما أسكره الجهل والغفلة وحب الدنيا واتباع الهوى!
ويقول ابن عباس: ركعتان مقتصدتان في تفكير خير من قيام ليلة والقلب ساه.
هذه هي الصلاة التي كانت قرة عينه عليه الصلاة والسلام، والتي كان يحن إليها، ويتلهف عليها ويقول لبلال: أرحنا بها! هذه هي صلاة الأنس والحب، لا صلاة النقر والخطف، التي يؤديها كثير من المسلمين، وما أعظم الفرق بين من يقوم إلى صلاته وهو يقول: أرحنا "بها"، وبين من يقوم إليها وهو يقول: أرحنا "منها"!
سر تكرار الصلاة في اليوم
جعل الله الصلاة على المؤمنين كتابا موقوتا، أمرهم بإقامتها حين يمسون وحين يصبحون، وعشيا وحين يظهرون، كررها خمس مرات في اليوم لتكون "حماما" روحيا للمسلم يتطهر بها من غفلات قلبه، وأدران خطاياه، وقد مثل النبي صلى الله عليه وسلم هذا المعنى في حديثه الشريف فقال: أرأيتم لو أن نهرا على باب أحدكم، يغتسل فيه كل يوم خمس مرات، فهل يبقى على بدنه من درنه شيء؟ قالوا: لا قال: كذلك مثل الصلوات الخمس يمحو الله بهن الخطايا" وأي إنسان يمر عليه يوم من غير خطايا وهفوات؟!
لقد خلق هذا الإنسان خلقا عجيبا، فيه من الملاك روحانيته، ومن البهيمة شهوتها، ومن السباع حميتها، وكثيرا ما تغلبه الشهوة، ويستفزه الغضب، ويجذبه تراب الأرض الذي خلق منه، فيقع في الأخطاء، ويتردى في الخطايا، وليس العيب أن يخطئ الإنسان، فكل بني آدم خطاء، ولكن العيب أن يتمادى في الخطأ، ويستمر في الانحدار، حتى يصير كالأنعام أو أضل سبيلا.
وفي الصلوات اليومية الخمس فرصة يثوب فيها المخطئ إلى رشده، ويفيق المغرور من سباته، ويرجع الإنسان إلى ربه، ويطفئ هذا السعار المادي الذي أججته المطامع والشهوات، ونسيان الله والدار الآخرة.
وفي هذا المعنى يقول الرسول صلوات الله عليه: "إن لله ملكا ينادي عند كل صلاة: يا بني آدم قوموا إلى نيرانكم التي أوقدتموها فأطفئوها" إنها نار موقدة، تطلع على الأفئدة وتلفح القلوب والعقول. والصلاة هي مضخة الإطفاء التي تخمد هذه النار، وتمسح دخانها، وسوادها، وتغسل أثرها من بين جوانح الإنسان. ويوضح هذا ابن مسعود في حديثه الذي يقول: "تحترقون تحترقون، فإذا صليتم الصبح غسلتها ثم تحترقون تحترقون فإذا صليتم الظهر غسلتها، ثم تحترقون تحترقون فإذا صليتم العصر غسلتها، ثم تحترقون تحترقون فإذا صليتم المغرب غسلتها، ثم تحترقون تحترقون فإذا صليتم العشاء غسلتها، ثم تنامون فلا تكتب عليكم حتى تستيقظوا!".
ويصور الرسول لأصحابه ـ بكل وسائل التوضيح ـ عمل الصلاة في محو الخطايا التي تبدر من الإنسان في صباحه ومسائه، فيروي لنا عنه سلمان الفارسي: أنه كان معه تحت شجرة فأخذ منها غصنا يابسا، فهزم حتى تحات ورقه، ثم قال: يا سلمان، ألا تسألني، لم أفعل هذا؟ قلت: ولم تفعله؟ قال: إن المسلم إذا توضأ فأحسن الوضوء، ثم صلى الصلوات الخمس تحاتت خطاياه، كما تحات هذا الورق، ثم تلا الآية الكريمة: (وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل، إن الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين).
وليس أثر الصلوات مقصورا على هذا الجانب من غسل الأدران، وتكفير الخطايا، ومطاردة السيئات، ولكنها تقوم بمهمة إيجابية أخرى، فإنها للحظات خصبة مباركة، تلك المرات الخمس التي ينتزع الإنسان فيها نفسه كل يوم من دنياه، دنيا الطين والحمأ المسنون، دنيا الأحقاد والصراع، وتنازع البقاء أو تنازع الفناء، ليقف بين يدي مولاه لحظات خاشعة يخفف بها من غلواء الحياة، وضغط الطين والمادة الكثيفة على القلوب والأرواح.
إنها تقوم بتغذية ذلك الجزء العلوي الإلهي في كيان الإنسان، وهو المشار إليه بقوله تعالى: (ونفخت فيه من روحي) ذلك الكائن الروحي الذي يعيش بين جوانح الإنسان، لا يكفي لتغذيته علم العلماء، ولا أدب الأدباء، ولا فلسفة المتفلسفين، ولا يغذيه إلا معرفة الله وحسن الصلة به، وهذه الصلوات الخمس هي وجبات الغذاء اليومي للروح، كما أن للمعدة وجباتها اليومية، ففي مناجاة العبد لربه في صلاته شحنة روحية تنير قلبه، وتشرح صدره، وتأخذ بيده من الأرض إلى السماء، وتدخله إلى الله بلا باب، وتقفه بين يديه بلا حجاب، فيكلمه بلا ترجمان، ويناجيه فيناجي قريبا غير بعيد، ويستعين به فيستعين بعزيز غير ذليل، ويسأله فيسأل غنيا غير بخيل، تكاد تشف روحه وتصفو نفسه، فتسمع كلام الله الذي يقول: (قسمت الصلاة بيني وبين عبدي قسمين ولعبدي ما سأل، فإذا قال العبد: "الحمد لله رب العالمين" قال الله عز وجل: حمدني عبدي، فإذا قال: "الرحمن الرحيم" قال الله: أثنى علي عبدي، فإذا قال: "مالك يوم الدين" قال: مجدني عبدي، فإذا قال: "إياك نعبد وإياك نستعين" قال الله: هذا بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل، فإذا قال: "اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين" قال الله: هذا لعبدي ولعبدي ما سأل) ويعبر النبي صلى الله عليه وسلم عن قوة الصلة بين العبد وربه في الصلاة فيقول: "إن الرجل إذا دخل صلاته أقبل الله عليه بوجهه، فلا ينصرف عنه، حتى ينقلب ـ أي يرجع ـ أو يحدث حدث سوء".
الصلاة نظافة وتجمل
ولكن الصلاة في الإسلام ليست عبادة روحية فحسب، إنها نظافة وتطهر، وتزين وتجمل، اشترط الله لها تطهير الثوب والبدن والمكان من كل خبث مستقذر، وأوجب التطهر بالغسل والوضوء، فمفتاح الجنة الصلاة، ومفتاح الصلاة الطهور: (يأيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق، وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى الكعبين وإن كنتم جنبا فاطهروا).
لقد اعتبر الإسلام النظافة من الإيمان، روي قول الرسول لأمته: "تنظفوا فإن الإسلام نظيف" "إن الله طيب يحب الطيب نظيف يحب النظافة" وأثنى القرآن على أهل مسجد قباء أو المسجد النبوي لحرصهم على التنظف والتطهر: "لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين".
وقد أمر المسلم أن يأخذ زينته للصلاة، ويذهب إلى المسجد طيب الرائحة، حسن الملبس، مجتنبا لكل ما يؤذي إخوانه من الروائح الكريهة أو الثياب المستقذرة، كما استحب له أن يتسوك عند كل صلاة: "السواك للفم مرضاة للرب".
وسن له يوم الجمعة أن يغتسل ويتطيب ويلبس أحسن ما عنده ولا يمضي إلى المسجد في ثياب مهنته.
وهكذا كان المسلمون الأولون يفعلون، كان الحسن إذا قام إلى الصلاة لبس أجود ثيابه، فسئل عن ذلك فقال: إن الله جميل يحب الجمال، فأحب أن أتجمل لربي، وهو تعالى يقول: (يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد). هذا على حين كان القسيسون والرهبان في العصور الوسطى بأوروبا يعدون الإهمال والقذارة من وسائل القربة إلى الله، والنظافة والتجمل من عمل الشيطان، حتى إن راهبا أثنى على آخر فقال: يرحمه الله، لقد عاش طول عمره ولم يقترف إثم غسل الرجلين!
الصلاة رياضة بدنية
والصلاة تغرس في مقيمها الروح الرياضية، وتقوي عضلات بدنه، فهي تتطلب اليقظة المبكرة، والنشاط الذي يستقبل اليوم من قبل طلوع الشمس، وهي بكيفيتها المأثورة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أشبه بالتمرينات الرياضية الفنية التي يقوم بها الرياضيون المحدثون، لتقوية الجسم ورياضة أعضائه، فقد كان عليه السلام يقف في الصلاة وقفة معتدلة، لا يطأطئ ولا يتماوت، وقد رأى عمر رجلا يتماوت في صلاته فقال له: لا تمت علينا ديننا أماتك الله، ورأى آخر يطأطئ رقبته مظهرا الخشوع فقال له: ارفع رأسك فإن الخشوع في القلوب، ليس الخشوع في الرقاب.
وكان الرسول عليه الصلاة والسلام في ركوعه مستوي الظهر، منتصب الساقين، وإذا سجد جافى عضديه عن فخذيه، وإذا خر من القيام للسجود أو نهض من السجود للقيام لم يعتمد على يديه.
وهكذا تكون الصلاة حركة وعملا، يشمل جوانب الشخصية كلها، فالجسم في الصلاة يعمل قائما قاعدا، راكعا ساجدا، واللسان يعمل قارئا مكبرا، مسبحا مهللا، والعقل يعمل متدبرا متفكرا فيما يتلو أو يتلى عليه من قرآن، والقلب يعمل مستحضرا رقابة الله وخشيته وحبه والشوق إليه.
الصلاة قوة روحية ونفسية
والصلاة الحقيقية التي يريدها الإسلام تمد المؤمن بقوة روحية نفسية تعينه على مواجهة متاعب الحياة ومصائب الدنيا، ولذا قال تعالى: (يأيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة إن الله مع الصابرين) (واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين، الذين يظنون أنهم ملاقو ربهم وأنهم إليه راجعون).
وكان النبي إذا حز به أمر فزع إلى الصلاة.
في الصلاة يفضي المؤمن إلى ربه بذات نفسه، ويشكو إليه بثه وحزنه، ويستفتح باب رحمته، ويستنزل الغيث من عنده (وهو الذي ينزل الغيث من بعد ما قنطوا وينشر رحمته وهو الولي الحميد).
في الصلاة يشعر المؤمن بالسكينة والرضا والطمأنينة، إنه يبدأ صلاته بالتكبير فيحس بأن الله أكبر من كل ما يروعه ومن يروعه في هذه الدنيا، ويقرأ فاتحة الكتاب فيجد فيها تغذية للشعور بنعمة الله (الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم) وتغذية للشعور بعظمة الله وعدله (مالك يوم الدين) وتغذية للشعور بالحاجة إلى الصلة بالله وإلى عونه سبحانه (اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين).
فلا عجب أن تمد الصلاة المؤمن بحيوية هائلة، وقوة نفسية فياضة، وقد بين الرسول صلى الله عليه وسلم مبلغ الأثر النفسي للصلاة وما يسبقها من وضوء وذكر لله تعالى، وكيف يستقبل المؤمن المصلي يومه ويبدأ حياته الجديدة كل صباح، قال: (يعقد الشيطان على قافية رأس أحدكم إذا هو نام ثلاث عقد، يضرب على كل عقدة: عليك ليل طويل فارقد، فإذا هو قام فذكر الله انحلت عقدة، فإذا توضأ انحلت عقدة ثانية، فإذا قام إلى الصلاة انحلت عقده الثلاث، فأصبح طيب النفس نشيطا، وإلا أصبح خبيث النفس كسلا).
وفي عصرنا الحديث نرى من علماء الكون والحياة طبيبا شهيرا مثل الدكتور ألكسيس كاريل يبين لنا في بحث له مدى هذه القوة التي يكتسبها المؤمن من الصلاة فيقول:
"لعل الصلاة هي أعظم طاقة مولدة للنشاط عرفت إلى يومنا هذا وقد رأيت بوصفي طبيبا كثيرا من المرضى فشلت العقاقير في علاجهم، فلما رفع الطب يديه عجزا وتسليما، تدخلت الصلاة فأبرأتهم من عللهم، إن الصلاة كمعدن "الراديوم" مصدر للإشعاع، ومولد ذاتي للنشاط، وبالصلاة يسعى الناس إلى استزادة نشاطهم المحدود، حين يخاطبون القوة التي لا يفنى نشاطها.
إننا نربط أنفسنا حين نصلي، بالقوة العظمى التي تهيمن على الكون، ونسألها ضارعين أن تمنحنا قبسا منها نستعين به على معاناة الحياة، بل إن الضراعة وحدها كفيلة بأن تزيد قوتنا ونشاطنا، ولن تجد أحدا ضرع إلى الله مرة إلا عادت عليه الضراعة بأحسن النتائج".
هذا في الصلاة عموما، فكيف بصلاة الإسلام؟
الصلاة قوة خلقية
وفي هذه القوة مدد أي مدد لضمير المؤمن يقويه على فعل الخير، وترك الشر، ومجانبة الفحشاء والمنكر، ومقاومة الجزع عند الشر، والمنع عند الخير، فهي تغرس في القلب مراقبة الله تعالى، ورعاية حدوده، والحرص على المواقيت، والدقة في المواعيد، والتغلب على نوازع الكسل والهوى، وجوانب الضعف الإنساني، وفي هذا يقول القرآن الكريم: (إن الإنسان خلق هلوعا إذا مسه الشر جزوعا، وإذا مسه الخير منوعا، إلا المصلين، الذين هم على صلاتهم دائمون) (وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر).
وما نرى من المصلين قد ضعفت أخلاقهم، أو انحرف سلوكهم، فلا بد أن صلاتهم جثة بلا روح، وحركات جسم بلا حضور عقل، ولا خشوع قلب، وإنما الفلاح للمؤمنين (الذين هم في صلاتهم خاشعون) أما المتظاهرون بالصلاة دون أن ترقق قلوبهم، أو تفتح للخير صدورهم، فما أحقهم بوعيد الله: (فويل للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون الذين هم يراءون ويمنعون الماعون).
صلاة الجماعة ومزاياها
والصلاة الإسلامية ـ بعد ذلك ـ تربية اجتماعية رشيدة، ومدرسة إنسانية عالية، على نسق فريد في تاريخ الأديان والعبادات.
فالإسلام لم يكتف من المسلم أن يؤدي الصلاة وحده في عزلة عن المجتمع الذي يحيا فيه، ولكنه دعاه دعوة قوية إلى أدائها في جماعة وبخاصة في المسجد، وهم الرسول أن يحرق على قوم بيوتهم لأنهم يتخلفون عن الجماعات، فإن لم تكن هذه الجماعة واجبا فهي أفضل من صلاة الفرد بسبع وعشرين درجة في نظر الإسلام.
روى مسلم عن ابن مسعود قال: من سره أن يلقى الله غدا مسلما فليحافظ على هؤلاء الصلوات حيث ينادى بهن، فإن الله تعالى شرع لنبيكم صلى الله عليه وسلم سنن الهدى، وإنهن من سنن الهدى، وإنكم لو صليتم في بيوتكم، كما يصلي هذا المتخلف في بيته لتركتم سنة نبيكم، ولو تركتم سنة نبيكم لضللتم، وما من رجل يتطهر فيحسن الطهور، ثم يعمد إلى مسجد من هذه المساجد، إلا كتب الله له بكل خطوة يخطوها حسنة، ويرفعه بها درجة، ويحط عنه بها سيئة، ولقد رأيتنا وما يتخلف عنها ـ أي صلاة الجماعة ـ إلا منافق معلوم النفاق، ولقد كان الرجل يؤتى به يتهادى بين الرجلين يسندانه لمرضه حتى يقام في الصف.
ولم يجعل الإعلام بدخول وقت الصلاة عن طريق ناقوس يدق، أو بوق ينفخ، أو نار تشتعل، كما في ديانات سابقة، وإنما اختار لها طريقا آخر فيه معنى الشعار والهتاف والنشيد القومي المؤثر بقوة عباراته، وطريقة إلقائه، ونصاعة معانيه: ذلك هو الأذان: "الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، أشهد ألا إله إلا الله، أشهد ألا إله إلا الله، أشهد أن محمدا رسول الله، أشهد أن محمدا رسول الله، حي على الصلاة، حي على الصلاة، حي على الفلاح، حي على الفلاح، الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله".
تنطلق بهذا النشيد الإلهي في وقت واحد حناجر المؤذنين من فوق مآذنهم، فيستجيب المؤمنون للنداء ويجتمعون خمس مرات في كل يوم في مسجد حيهم.
ثم يجتمعون على نطاق واسع في صلاة الجمعة، تلك الفريضة الأسبوعية التي أوجب الله فيها الجماعة إيجابا وقال: (يأيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون).
ولم يبح التخلف عنها لغير عذر "من ترك ثلاث جمع تهاونا بها طبع الله على قلبه" لنتهين قوم عن ودعهم أي ـ تركهم ـ الجمعات، أو ليختمن الله على قلوبهم ثم ليكونن من الغافلين".
وفي هذا الاجتماع الأسبوعي تعليم وتوجيه، وموعظة وتذكير، وتجديد للبيعة، وإحياء لعاطفة الأخوة، وتركيز للوحدة، وإظهار للقوة. ثم يتسع النطاق أكثر في صلاة العيدين، فقد أراد الإسلام من هذه الصلاة أن تكون مؤتمرا جامعا، ومهرجانا كبيرا يجمع أهل البلدقاطبة في مكان واحد في الخلاء، يذهب إليها الرجال والنساء حتى ذوات العذر منهن.
عن أم عطية قالت: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نخرجهن في الفطر والأضحى: العواتق والحيض وذوات الخدور، فأما الحيض فيعتزلن الصلاة ويشهدن الخير ودعوة المسلمين، قلت: يا رسول الله، إحدانا لا يكون لها جلباب؟
قال: لتلبسها أختها من جلبابها".
الصلاة تربية عسكرية
وفي الجماعة نوع من التربية العسكرية التي قوامها الطاعة والنظام، وما أحوج الأمم الناشئة ـ كالعرب في أيام الرسول ـ أن يتعلموا عمليا طاعة الأمر، والانقياد للنظام، والخضوع للقانون، واحترام الرؤساء، وهذا ما تصنعه صلاة الجماعة.
وهل رأيت نظاما أكمل وأجمل من صفوف الجماعة وقد وقفت مستقيمة فلا عوج، متلاصقة فلا فرجة: المنكب إلى المنكب، والقدم إلى القدم، ينذرهم إمامهم بأن الله لا ينظر إلى الصف الأعوج، ويعلمهم أن تسوية الصفوف من إقامة الصلاة وتمامها، ويحدثهم عن نبيهم: أن سدوا الفرج وسووا الصفوف، ولا تختلفوا فتختلف قلوبكم.
فإذا كبر الإمام كبروا، وإذا قرأ أنصتوا، وإذا ركع ركعوا، وإذا سجد سجدوا، وإذا سلم سلموا.
من خرج على هذا النظام فكأنما خرج على الإنسانية، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "ألا يخشى إذا ركع أحدكم أو سجد قبل الإمام أن يمسخ الله رأسه رأس حمار".
لا يفسد هذا الحال إلا جندي من جنود إبليس، فهو الذي يسره الفوضى ويسوءه النظام: "الذي يركع ويسجد قبل الإمام إنما ناصيته بيد شيطان".
المسجد ورسالته في الحياة
وبأداء صلاة الجماعة في المسجد خمس مرات في اليوم أصبح للمسجد مكانة هامة في الإسلام وفي حياة المسلمين فليس هو ديرا لرهبنة، ولا زاوية للمتعطلين، ولا تكية للدراويش، فليس في الإسلام رهبنة ولا دروشة، ورسوله يقول لأبي ذر: "عليك بالجهاد فإنه رهبانية أمتي".
ورضي الله عن عمر حين وجد جماعة في المسجد تلبثوا بعد صلاة الجمعة بدعوى التوكل على الله فعلاهم بدرته، وقال كلمته الشهيرة: لا يقعدن أحدكم عن طلب الرزق ويقول: اللهم ارزقني وقد علم أن السماء لا تمطر ذهبا ولا فضة" إن الله يقول: (فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله).
وقد روى البخاري: أن الحبشة كانوا يلعبون بحرابهم في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، والنبي ينظر إليهم، ويري عائشة أم المؤمنين لعبهم، وكأن ذلك لم يعجب عمر لشدته وصلابته، فأهوى إلى الحصباء يحصبهم بها فقال: دعهم يا عمر!
وبهذا الحديث استدل العلماء على جواز اللعب بالحراب في المسجد، وقالوا: إن المسجد موضوع لأمر جماعة المسلمين، فما كان من الأعمال يجمع منفعة الدين وأهله جاز فيه.
قالوا: واللعب بالحراب ليس لعبا مجردا، بل فيه تدريب الشجعان على مواقع الحروب والاستعداد للعدو.
وما كان المسجد في فجر الإسلام إلا جامعة شعبية للتثقيف والتهذيب، وبرلمانا محليا للتشاور والتفاهم، ومجمعا للتعارف والتحاب، ومعهدا للتربية العملية الأساسية.
المسجد جامعة شعبية
وأي جامعة شعبية كالمسجد تسع الجميع في رحابها، في الليل والنهار والصيف والشتاء، ولا ترد طالبا شيخا كان أم صبيا، ولا تشترط رسوما ولا تأمينا، ولا تضع قيودا ولا عراقيل.
أي جامعة كهذه تعلم قواعد العقائد، وفرائض العبادات، ومكارم الأخلاق، ومحاسن الآداب، وطرائق المعاملات، وتعقد فيها للعلم حلقات تغشاها الرحمة، وتنزل عليها السكينة، وتحفها الملائكة؟
ولم تكن حلقات المساجد مقصورة على العلم الديني المحض، بل شملت كل ما وصل إليه العقل الإسلامي من معارف أدبية وإنسانية، فمنذ صدر الإسلام نرى حلقة كحلقة حبر الأمة وترجمان القرآن عبد الله بن عباس تتسع لعلوم ومعارف مختلفة يفرد لكل منها يوما، ولا غرو أن نشأ العلم في الإسلام موصولا بالعبادة، وأن ترعرت "الجامعات" العريقة، تحت سقوف "الجوامع" ومن منا يجهل المكانة العلمية لجامع الأزهر في مصر، وجامع القرويين في المغرب، وجامع الزيتونة في تونس؟ وما قدمته هذه الجوامع أو الجامعات من خدمة للعلم والثقافة قرونا طويلة؟!
المسجد برلمان دائم
وأي برلمان كهذا المسجد، ونوابه هم "التائبون العابدون الحامدون السائحون الراكعون الساجدون الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر والحافظون لحدود الله".
برلمان يعرض فيه الحاكم سياسته، ويحدد منهجه ويناقشه الشعب ويستجوبه بلا حجر ولا خوف، وهل سمعنا خطبة سياسية جامعة موجزة لرئيس دولة كالخطبة التي ألقاها أبو بكر يوم ولي الخلافة فقال: أيها الناس: إني وليت عليكم ولست بخيركم، فإن رأيتموني على حق فأعينوني وإن رأيتموني على باطل فسددوني، ألا إن أقواكم عندي الضعيف حتى آخذ الحق له، وأضعفكم عندي القوي حتى آخذ الحق منه، أطيعوني ما أطعت الله فيكم، فإن عصيته فلا طاعة لي عليكم، أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم".
بيان ألقاه خليفة، يقول فلا يكذب، ويعد فلا يخلف، وسمعته أمة تسمع ولا تنسى، وتحاسب فلا تخشى، وكيف يخلف الخليفة أو تنسى الأمة، وبرلمانها يعقد في كل يوم خمس جلسات، ولا يغلق بابه في عطلة أو إجازة؟
المسجد مؤتمر
وأي مجمع أو مؤتمر كالمسجد يجمع خلاصة الحي في كل صلاة، وصفوة البلد في كل جمعة، فإن الإسلام ـ كما ذكرنا ـ قد ندب إلى صلاة الجماعة، وجعلها أفضل من صلاة الفرد بسبع وعشرين درجة، وهم الرسول صلى الله عليه وسلم أن يحرق على قوم بيوتهم، لأنهم يتخلفون عن الجماعات.
دعا الإسلام أبناءه إلى الجماعة ليتعارفوا فلا يتناكروا، ويتقاربوا فلا يتباعدوا، ويتحابوا فلا يتباغضوا، ويتصافوا فلا يتشاحنوا.
لقد عرف أسلافنا قيمة المسجد ـ بوصفه مؤتمرا حافلا ـ فكانوا يعقدون فيه عقود زواجهم امتثالا للحديث الشريف: "أعلنوا هذا النكاح واجعلوه في المساجد، واضربوا عليه بالدف".
ولو أن مسلمي اليوم اتخذوا سلفهم أسوة في ذلك، لوفروا على أنفسهم نفقات طائلة تضيع في أحفال براقة، تبعثر فيها الأموال ابتغاء السمعة والتظاهر والتنافس الأجوف.
المسجد معهد للتربية العملية
وإن شئت فقل هو حقل تجرب في ساحته تعاليم الدين النظرية، وتوضع مبادئ الإنسانية موضع التنفيذ.
فقد كان من مزايا هذا الدين الخالد أنه لم يجعل مبادئه فكرة مجردة في الرأس، أو كلمة تجري على اللسان، ولكنه ربطها بحياة المسلم ونظامه اليومي ربطا لا ينفك عنه.
فالحرية والإخاء والمساواة التي جاء بها الإسلام ـ قبل ثورة فرنسا باثني عشر قرنا ـ تراها في المسجد حقائق علمية، وأعمالا حقيقية، تعلن عن نفسها بلا صوت ولا حرف ولا ضجيج.
الحرية
أما الحرية فأي حرية أعز من حرية المصلي في المسجد وهو طليق من كل عبودية إلا لله، له وحده، يركع ويسجد، ولوجهه وحده يذل ويخشع، أما البشر مهما تعاظموا فهم عبيد مثله لا سلطان لهم عليه (وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا).
تلك هي حرية الضمير الإنساني أولى الحريات وأعمقها.
وأما حرية الرأي والنقد فحسبك أن الإمام إذا أخطأ في قول أو فعل من أقوال الصلاة وأفعالها، كان على من وراءه من المصلين أن يصلحوا له الخطأ، وأن يردوه إلى الصواب، يستوي في ذلك الشيخ والشاب والغلام، والرجل والمرأة، فإذا هذا يصحح قراءته، وذلك يقول له سبحان الله، وتلك تصفق بيدها.. حتى يعود إلى الحق والسداد.
فإذا اعتلى الخطيب منبر المسجد فليس "دكتاتورا" يفرض على الناس ما يرى من آراء، ولكنهم شركاؤه في المسؤولية، عليهم أن ينهوه إذا غفل، وأن يذكروه إذا نسي، ويسددوه إذا انحرف عن الصراط المستقيم، ولو كان هو خليفة المسلمين.
أراد أمير المؤمنين عمر أن يضع حدا أعلى للمهور، فأعلن ذلك في المسجد فعارضته امرأة.. وقالت: كيف هذا وقد قال الله: (وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج وآتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا أتأخذونه بهتانا وإثما مبينا) فما كان من الخليفة إلا أن رجع عن رأيه وقال في صراحة: "أصابت امرأة وأخطأ عمر"!
الإخاء
وأما الإخاء فحسبك أن المسجد يضم أهل الحي في كل يوم خمس مرات، تتلاصق فيها الأبدان، وتتعارف فيها الوجوه، وتتصافح فيها الأيدي، وتتناجى فيها الألسن، وتتآلف فيها القلوب، ويلتقون على وحدة الغاية والوسيلة، وأي وحدة أبلغ وأعمق من وحدة المصلين في الجماعة يصلون خلف رجل واحد هو (الإمام) ويناجون ربا واحدا هو (الله) ويتلون كتابا واحدا هو (القرآن) ويتجهون إلى قبلة واحدة هي (الكعبة) البيت الحرام، ويؤدون أعمالا واحدة من قيام وقعود، وركوع وسجود.
وحدة نفذت إلى اللباب ولم تكتف بالقشور، وحدة في النظرة والفكرة، وحدة في الغاية والوجهة، وحدة في القول والعمل، وحدة في المخبر والمظهر، وحدة يشعر فيها بروح الآية الكريمة (إنما المؤمنون إخوة).
وأي صورة أروع من المسجد النبوي في المدينة، وقد ضم في حناياه أجناسا شتى من غير العرب، من رومي كصهيب، وفارسي كسلمان، وحبشي كبلال، كما ضم قبائل متباينة من العرب، من قحطانيين كالأنصار، وعدنايين كالمهاجرين، وفي هذه القبائل بطون طالما فرقت بينها العداوة والبغضاء في الجاهلية كالأوس والخزرج.
ضم المسجد هؤلاء إلى صدره الحنون، وجمعهم في رحابه الفيحاء، فكانوا بنعمة الله إخوانا، ينام أحدهم على الطوى ليشبع أخوه (ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة).
ويبيت على صفاء من الغل والشحناء والسخط والكراهية، حتى لا ترتد عليه صلاته، ولا يقبلها الله منه، ففي الحديث: "ثلاث لا ترتفع صلاتهم فوق رؤوسهم شبرا رجل أم قوما وهم له كارهون، وامرأة باتت وزوجها عليها ساخط، وأخوان متصارمان" أي متشاحنان، ومعنى هذا أن الصلاة المقبولة لا تلائم جو الكراهية والسخط والشحناء، بحال من الأحوال.
المساواة
وأما المساواة فأي مساواة أوضح من تلك التي نراها في الصفوف المتراصة في المسجد؟ الأمير إلى جانب الخفير، والغني بجوار المسكين، والسيد ملاصق للخادم، والعالم الفيلسوف وعن يمينه عامل، وعن شماله فلاح؟!
فليس للمسجد لائحة تخصص الصف الأول للوزراء، والصف الثاني للنواب والثالث للمديرين أو موظفي الدرجة الأولى أو كبار الملاك.
وإنما الجميع سواسية كأسنان المشط الواحد، فمن بكر في الذهاب إلى المسجد احتل مكانته في مقدمة الصفوف أيا كانت منزلته وعمله في الناس.
ويقول الدكتور محمد إقبال: إن اختيار قبلة واحدة لصلاة المسلمين أريد به أن يكفل وحدة الشعور للجماعة، وهيئتها على العموم تحقق الإحساس بالمساواة الاجتماعية وتقوي أواصره، بقدر ما تتجه إلى القضاء على الشعور بالطبقات أو تفوق جنس من المتعبدين على جنس آخر.
إن ثورة روحية هائلة تحدث لو حمل البرهمي الأرستقراطي المختال في جنوب الهند على الوقوف مع المنبوذ كتفا إلى كتف في كل يوم!! إن وحدة الذات المحيطة بكل شيء، التي تخلق جميع الذوات وتكتب لها البقاء، هي التي تصدر عنها الوحدة الضرورية لجميع البشر، وانقسام الشر إلى أجناس وأمم وقبائل قصد به ـ كما جاء في القرآن ـ سهولة التعارف لا غير.
وعلى هذا فإن صلاة الجماعة في الإسلام إلى جانب ما لها من قيمة فكرية تشير إلى الأمل في تحقيق الوحدة الضرورية للبشر، كحقيقة من حقائق الحياة، وذلك بالقضاء على جميع الفوارق التي ميزت بين إنسان وآخر.
ولم يملك كثير من المستشرقين أنفسهم من الإعجاب بالصلاة الإسلامية، وتأثيرها العميق في النفس البشرية وبخاصة صلاة الجماعة التي تميز بها الإسلام والتي توحي بأسمى المبادئ الإنسانية الاجتماعية التي لم يعرفها غير المسلمين إلا في عصر قريب.
من ذلك ما قاله الفيلسوف الفرنسي رينان ـ على الرغم مما له من شطحات عن الإسلام والعرب ـ: "إنني لم أدخل مسجدا من مساجد المسلمين من غير أن أهتز خاشعا وأن أشعر بشيء من الحسرة على أني لست مسلما!" ومن ذلك ما قاله السير توماس أرنولد عن الصلاة: "هذا الفرض المنظم من عبادة الله هو من أعظم الأمارات المميزة للمسلمين عن غيرهم في حياتهم الدينية، فكثيرا ما لاحظ السائحون وغيرهم في بلاد الشرق ما لكيفية أدائه من التأثير في النفوس" ثم نقل عن بعض الأساقفة كلاما عن روعة الصلاة في الإسلام، ثم قال أرنولد: "ولننتقل من صلاة الفرد إلى صلاة الجماعة فنقول: إنه لا يتأتى لأحد يكون قد رأى مرة في حياته ما يقرب من خمسة عشر ألف مصل في وسط المسجد الجامع بمدينة "دلهي" بالهند يوم الجمعة الأخيرة من شهر الصيام "رمضان" وكلهم مستغرقون في صلاتهم، وقد بدت عليهم أكبر شعائر التعظيم والخشية في كل حركة من حركاتهم، نقول: إنه لا يتأتى لأحد يكون قد رأى ذلك المشهد ألا يبلغ تأثره به أعماق قلبه وألا يلحظ ببصره القوة التي تمتاز بها هذه الطريقة من العبادة عن غيرها.
"على أن توقيت الأذان اليومي للصلاة بأوقات معينة حينما يرن به صوت المؤذن، في أبكر البكور قبل الأسفار، وعند الظهيرة والناس مضطربون ومصطخبون في أعمالهم، وعند الإمساء.. هذا الأذان الذي يحصل في هذه الأوقات على تلك الصورة مشحون بذلك الجلال عينه".
مسجد الرسول في المدينة
عرف رسول الله صلى الله عليه وسلم خطر المسجد في الحياة الإسلامية فكان أول مشروع فكر فيه في مدة إقامته القليلة في بني سالم بن عوف وهو طريقه إلى المدينة، أن بني مسجد قباء، وهو الذي نزل فيه قوله تعالى (لمسجد أسس على التقوى من أول يوم..).
وكان أول مؤسسة أنشأها بعد استقراره بالمدينة أن بنى مسجده العظيم، وكان يعمل فيه بيده، ويحمل أحجاره بنفسه، وهو يقول:
"اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة، فاغفر للأنصار والمهاجرة".
وكان أصحابه يعملون وهم ينشدون:
لا يستوي من يعمر المساجدا يعمل فيها قائما وقاعدا
ومن يرى الغبار حائدا
فكان هذا المسجد النبوي مدرسة الدعوة الإسلامية الأولى، ودار الدولة الإسلامية الكبرى.
تلك المدرسة التي فتحت