الباب الأول
العبادة مهمة الإنسان في الوجود
لماذا وجدت؟ وما مهمتي في هذا الوجود؟ ورسالتي في هذه الحياة؟ سؤال واجب على الإنسان ـ كل إنسان ـ أن يسأله لنفسه. وأن يفكر مليا في جوابه.
فإن كل جهل ـ مهما عظمت نتائجه ـ قد يغتفر، إلا أن يجهل الإنسان سر وجوده، وغاية حياته، ورسالة نوعه وشخصه في هذه الأرض!
وأكبر العار على هذا الكائن الذي أوتي العقل والإرادة ـ الإنسان ـ أن يعيش غافلا، يأكل ويتمتع كما تأكل الأنعام، لا يفكر في مصيره، ولا يدري شيئا عن حقيقة نفسه، وطبيعة دوره في هذه الحياة حتى يوافيه الموت بغتة، فيواجه مصيره المجهول، دون استعداد له، ويجني ثمرة الغفلة والجهل والانحراف في عمره الطويل أو القصير، وحينئذ يندم حين لا ينفع الندم ويرجو الخلاص ولات حين مناص.
لهذا كان لزاما على كل بشر عاقل أن يبادر فيسأل نفسه بجد: لماذا خلقت؟ وما غاية خلقي؟
الأسئلة الخالدة
وقبل أن يجيب عن هذا السؤال، أو يجاب عنه، بل قبل أن يسأله، يلزمه أن يسأل نفسه سؤالين آخرين، لكي يتضح له الجواب، وتتبين له الحقيقة كاملة مشرقة، لا يحجبها سحاب ولا ضباب.
السؤال الأول هو: من أنا؟ ومن أين جئت؟ وبعبارة أخرى: من أوجدني؟
السؤال الثاني هو: ما مصيري بعد أن وجدت؟ وإلى أين أذهب بعد الموت؟
ويعبر بعض المفكرين عن هذه الأسئلة بهذه الكلمات الموجزة: من أين؟ وإلى أين؟ ولم؟
هذه هي الأسئلة الثلاثة التي صاحبت الإنسان منذ فكر وتأمل، ولا زالت تصحبه وتلح عليه وتطلب الجواب الشافي لها. فبدون هذا الجواب لا تتحدد كينونة الإنسان، ولا موضعه في الكون ولا رسالته في الوجود، وكيف يتحدد شيء من ذلك إذا كان كائنا لا يعرف: ما هو؟ ولا لم هو؟ ولا من أين هو؟ ولا إلى أين هو؟!
إنها الأسئلة الخالدة التي حاولت كل فلسفة في الشرق أو في الغرب أن تجيب عنها. بل لا تعد فلسفة إذا أغفلت الجواب عنها.
من أين؟
وإلى أين؟
ولماذا؟
من أين جئت أنا الإنسان؟ ومن جاء بي؟ وكذلك من أين جاء هذا العالم الكبير من حولي؟
وإلى أين أسير وأرحل بعد أن أوجدت في هذا الكون؟ وإلى أين يسير هذا الكون أيضا؟ وماذا بعد هذه الصفحات التي أطويها من كتابي الذي يسمى "العمر"؟
ولماذا خلقت في هذا العالم؟ وهل لي فيه من رسالة خاصة، ومهمة متميزة؟ وما هي هذه الرسالة، وتلك المهمة؟
من أين؟
أما السؤال الأول فهو عقدة العقد عند الماديين الذين لا يؤمنون إلا بما تقع عليه الحواس، إنهم يخنقون صوت الفطرة في صدورهم، ويتحدون منطق العقل في رءوسهم، ويصرون ـ في عمى عجيب ـ على أن هذا الكون بما فيه ومن فيه وجد وحده! وكل ما فيه من إحكام وترتيب إنما هو صنع المصادفة العمياء!
أما الذين يستجيبون لنداء الفطرة فيقرون بأن لهم ولهذا الكون حولهم ربا عظيما تتجه قلوبهم إليه بالتعظيم والرجاء والخشية والتوكل والاستعانة، هذا شيء يشعرون به في أعماقهم شعورا أصيلا، وهذا هو الدين الذي عبر عنه القرآن بقوله: (فاقم وجهك للدين حنيفا، فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله، ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون).
وقد يخفت هذا الصوت الفطري في النفس أو يكبته صاحبه عمدا في ساعات الرخاء والدعة، فإذا نزلت بالإنسان أحداثا مريرة، واهتز عوده أمام الشدائد القاسية، وخاب أمله في الناس حوله، هنالك ينطلق هذا الصوت متجها إلى ربه ضارعا خاشعا داعيا راجيا منيبا إلى الله.
سأل رجل الإمام جعفر الصادق ـ رضي الله عنه ـ عن "الله" فقال: ألم تركب البحر؟ قال: بلى، قال: فهل حدث لك مرة أن هاجت بكم الريح عاصفة؟ قال: نعم، قال: وانقطع أملك من الملاحين ووسائل النجاة؟ قال: نعم، قال: فهل خطر في بالك وانقدح في نفسك أن هناك من يستطيع أن ينجيك إن شاء؟ قال: نعم، قال: فذلك هو "الله".
وعلى هذه الحقيقة تنبه آيات كثيرة في القرآن: (وإذا مس الإنسان ضر دعا ربه منيبا إليه) (وإذا غشيهم موج كالظلل دعوا الله مخلصين له الدين) (وإذا مسكم الضر في البحر ضل من تدعون إلا إياه).
ويقول ديكارت: إني مع شعوري بنقص في ذاتي، أحس في الوقت نفسه بوجود ذات كاملة، وأراني مضطرا إلى اعتقادي بأن هذا الشعور قد غرسته في ذاتي تلك الذات الكاملة المتحلية بجميع الصفات الكاملة وهي "الله".
ونظرا لأن الشعور نابع من الفطرة الأصيلة نجد الإيمان بقوة عليا فوق الطبيعة وفوق الأسباب، أمرا مشتركا بين بني الإنسان في جميع البقاع، وبين شتى الأجناس والأقوام، وفي مختلف مراحل التاريخ.
يقول الفيلسوف الفرنسي برغسون: "لقد وجدت وتوجد جماعات إنسانية من غير علوم وفنون وفلسفات، ولكن لم توجد قط جماعات بدون ديانة".
ويقول أرنست رينان في تاريخ الأديان: "إنه من الممكن أن يضمحل كل شيء نحبه، وأن تبطل حرية استعمال العقل والعلم والصناعة، ولكن يستحيل أن ينمحي التدين، بل سيبقى حجة ناطقة على بطلان المذهب المادي، الذي يريد أن يحصر الفكر الإنساني في المضايق الدنيئة في الحياة الأرضية".
وإذا كان منطق الفطرة يهدي إلى الله ـ والفطرة ليست وجدانا خالصا ولا عقلا محضا، وإنما هي مزيج منهما ـ فإن العقل المحض يرى الإيمان بالله ضرورة لا محيص عنها حتى يستطيع أن يفسر بها وجود الكون والحياة والإنسان فإن العقل ـ بغير تعلم ولا اكتساب ـ يؤمن بقانون "السببية" إيمانه بكل البدائة والأوليات، فلا يقبل فعلا من غير فاعل، ولا صنعة من غير صانع.
وقانون السببية هو الذي عبر عنه الأعرابي بسذاجة وبساطة حين سألوه عن "الله" فقال: البعرة تدل على البعير، وخط السير يدل على المسير، فكيف بسماء ذات أبراج، وأرض ذات فجاج، وبحار ذات أمواج، أفلا يدل ذلك على العلي الكبير؟!
يقول العالم الطبيعي المعروف إسحاق نيوتن: "لا تشكوا في الخالق فإنه ممالا يعقل أن تكون المصادفات وحدها هي قاعدة هذا الوجود!" وكلما ازداد إطلاع الإنسان على عجائب الكون، ومعرفته بما فيه من جمال وإحكام ولم يقف عند القشور ازداد إيمانا بوجود الخالق وحكمته وعظمته وكمال صفاته.
وفي هذا ينقل لنا سبنسر عن "هرشل" قوله: كلما اتسع نطاق العلم ازدادت البراهين الدامغة القوية على وجود خالق أزلي لا حد لقدرته ولا نهاية: فالجيولوجيون والرياضيون والفلكيون والطبيعيون قد تعاونوا على تشييد صرح العلم وهو صرح عظمة الله وحده!
ويقول سبنسر: "إن العالم الذي يرى قطرة الماء فيعلم أنها تتركب من الأكسجين والأيدروجين بنسبة خاصة، بحيث لو اختلفت هذه النسبة لكانت شيئا آخر غير الماء. ليعتقد عظمة الخالق وقدرته، وحكمته وعلمه الواسع، بأشد وأعظم وأقوى من غير العالم الطبيعي الذي لا يرى فيها إلا أنها نقطة ماء فحسب! وكذلك العالم الذي يرى قطعة البرد وما فيها من جمال الهندسة، ودقة التقسيم، لا شك أنه يشعر بجمال الخالق، ودقيق حكمته، أكبر من ذلك الذي لا يعلم عنها إلا أنها مطر تجمد من شدة البرد.
ويقول فرنسيس بيكون: "إن القليل من الفلسفة يميل بعقل الإنسان إلى الإلحاد، ولكن التعمق فيها ينتهي بالعقول إلى الإيمان، ذلك لأن عقل الإنسان قد يقف عندما يصادفه من أسباب ثانوية مبعثرة، فلا يتابع السير إلى ما وراءها، ولكنه إذا أمعن النظر، فشهد سلسلة الأسباب كيف تتصل حلقاتها لا يجد بدا من التسليم بالله".
تلك هي شهادة رجال رسخوا في علوم الكون، وغاصوا في أعماقها، وهي شهادات في جانب الإيمان، ولكن الشك والإلحاد يأتيان من جانب الذين عرفوا قشورا من العلم، أو درسوا قليلا من الفلسفة، كما قال بيكون بحق.
إن الإيمان بالله ليس غريزة فطرية فحسب، بل هو ضرورة عقلية كذلك وبدون هذا الإيمان سيظل هذا السؤال الذي أثاره القرآن قلقا حائرا بغير جواب:
(أم خلقوا من غير شيء؟ أم هم الخالقون؟ أم خلقوا السموات والأرض؟)
وهم بداهة لم يخلقوا من غير شيء، وطبعا لم يخلقوا أنفسهم، ولم يدع أحد منهم ولا ممن قبلهم أو بعدهم أنه خالق السموات والأرض! فمن الخالق إذن؟!
وليس لهذا السؤال إلا جواب واحد، لا يملك الإنسان ـ إذا ترك ونفسه ـ إلا أن يجيب به، كما فعل المشركون أنفسهم: (ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض؟ ليقولن: خلقهن العزيز العليم).
إلى أين المسير؟
أما السؤال الثاني: إلى أين؟ فإن الماديين يجيبون عنه جوابا يهبط بالإنسان المكرم إلى درك الحيوانية الدنيا، إنهم يقولون ببساطة عن مصير الإنسان بعد رحلة الحياة الحافلة: إنه الفناء والعدم المطلق: أن تطويه الأرض في بطنها كما طوت ملايين الحيوانات الأخرى، وأن تعيد هذا الجسد ـ الذي هو الإنسان عندهم ـ إلى عناصره الأولى، فيعود ترابا تذروه الرياح!
هذه هي قصة الحياة والإنسان عند هؤلاء: "أرحام تدفع، وأرض تبلع!" ولا خلود ولا جزاء، يستوي في ذلك من عاش عمره للناس على حساب شهواته، ومن عاش عمره لشهواته على حساب الناس، يستوي في ذلك من ضحى بحياته في سبيل الحق، ومن اعتدى على حياة الآخرين في سبيل الباطل!
فعلام إذن تميز الإنسان على غيره من كائنات الأرض؟ ولماذا سخر له كل ما حوله؟ ولماذا منح من المواهب والقوى الروحية والعقلية ما لم يمنح لغيره؟ وما سر هذا التطلع إلى الكمال والخلود يغمر جوانب نفسه. إذا كان مصيره التلاشي والعدم بعد أيام الحياة المعدودات؟!
أما المؤمنون فهم يعرفون إلى أين يسيرون؟ يعرفون أنهم لم يخلقوا لهذه الدنيا. وإنما خلقت هذه الدنيا لهم.
يعرفون أنهم خلقوا لحياة الخلود ودار البقاء وهم في هذه الحياة إنما يستصلحون ويعدون للدار الأخرى، ويتزودون منها هنا ما ينفعهم هناك، ويترقون في مدارج الكمال الروحي والنفسي حتى يكونوا أهلا لدخول تلك الدار الطيبة التي لا يدخلها إلا الطيبون، وهناك يقول لهم خزنتها. (سلام عليكم، طبتم فادخلوها خالدين).
وإنه لعسير على العقل أن يؤمن بخالق عليم حكيم أحسن هذا الكون صنعا وقدر كل شيء فيه تقديرا، ووضع كل شيء فيه بميزان وحساب، ثم يؤمن بعد ذلك أن سوق هذه الحياة ستنفض، وقد نهب فيها الناهب، وسرق السارق، وقتل القاتل، ولا تقتص يد العدل الإلهي من هؤلاء المجرمين، ولا تنتصر للضعيف المظلوم الذي لم يكن له نصير غير الله، ولا ملجأ غير السماء، ولا تكافئ المحسن الذي كافأه الناس بالتنكر والاضطهاد!! إن هذا لهو العبث الذي يتنزه خالق هذا الكون البديع عنه، وإنه للباطل الذي قامت السموات والأرض بضده، وما أروع القرآن وهو يوضح هذه الحقيقة الكبيرة: (أفحسبتم إنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون؟! فتعالى الله الملك الحق) (أيحسب الإنسان أن يترك سدى؟) (أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم ساء ما يحكمون، وخلق الله السموات والأرض بالحق لتجزى كل نفس بما كسبت وهم لا يظلمون) (وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما باطلا، ذلك ظن الذين كفروا، فويل للذين كفروا من النار، أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار!) (وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما لاعبين ما خلقناهم إلا بالحق ولكن أكثرهم لا يعملون. إن يوم الفصل ميقاتهم أجمعين).
لماذا خلق الإنسان؟
وأما السؤال الثالث وهو الذي يجب أن يسأله الإنسان ـ بعد أن يعرف أنه مخلوق لخالق ومربوب لرب ـ وهو ببساطة: لماذا خلقت في هذه الحياة؟ ولماذا ميزت على سائر الكائنات الأخرى؟ وما مهمتي فوق الأرض؟
فالجواب عنه عند المؤمنين حاضر: إن كل صانع يعرف سر صنعته لماذا صنعها؟ ولماذا صنعها على نحو معين دون غيره؟
والله ـ تعالى ـ هو صانع الإنسان وخالقه ومدبره أمره، فلنسأله: يا رب لماذا خلقت هذا الإنسان؟ هل خلقته لمجرد الطعام والشراب؟ هل خلقته للهو واللعب؟ هل خلقته لمجرد أن يمشي على التراب ويأكل مما خرج من التراب، ثم يعود كما كان إلى التراب، وقد ختمت القصة؟ هل ليعيش تلك الفترة القصيرة المعذبة ما بين صرخة الوضع أنة النزع؟ إذن فما سر هذه القوى والملكات التي أودعتها الإنسان من عقل وإرادة وروح؟
وسيرد الله على تساؤلنا بما بين لنا في كتابه ـ كتاب الخلود ـ أنه خلقه ليكون خليفة في الأرض ـ وهذا واضح في آدم وما كان من تمني الملائكة لمنزلته (وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة، قالوا: أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك؟ قال إني أعلم ما لا تعلمون).
وأول شيء في هذه الخلافة أن يعرف الإنسان ربه حق معرفته ويعبده حق عبادته قال تعالى: (الله الذي خلق سبع سموات ومن الأرض مثلهن يتنزل الأمر بينهن، لتعلموا أن الله على كل شيء قدير وأن الله قد أحاط بكل شيء علما) وفي هذه الآية جعلت معرفة الله هي الغاية من خلق السموات والأرض.
ويقول تعالى: (وما خلقت الإنس والجن إلا ليعبدون ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطمعون، إن الله هو الرازق ذو القوة المتين).
وفي بعض الآثار القدسية يقول سبحانه: (عبادي إني ما خلقتكم لأستأنس بكم من وحشة ولا لأستكثر بكم من قلة، ولا لأستعين بكم من وحدة على أمر عجزت عنه، ولا لجلب منفعة ولا لدفع مضرة، وإنما خلقتكم لتعبدوني طويلا وتذكروني كثيرا وتسبحوني بكرة وأصيلا).
إن المتأمل في هذا الكون الذي نعيش فيه يرى كل شيء فيه يحيا ويعمل لغيره، فنحن نرى أن الماء للأرض، والأرض للنبات، والنبات للحيوان، والحيوان للإنسان، والإنسان لمن؟ هذا هو السؤال.
والجواب الذي تنادي به الفطرة، وتنطق به مراتب الكائنات في هذا الكون: أن الإنسان لله.. لمعرفته.. لعبادته.. للقيام بحقه وحده، ولا يجوز أن يكون الإنسان لشيء آخر في الأرض أو في الأفلاك، لأن كل العوالم العلوية والسفلية مسخرة له، وتعمل في خدمته كما هو مشاهد، فكيف يكون هو لها أو يعمل في خدمتها؟
ومن هنا كانت عبادة الإنسان لقوى الطبيعة ومظاهرها من فوقه ومن تحته، كالشمس والقمر والنجوم والأنهار والأبقار والأشجار ونحوها، قلبا للوضع الطبيعي، وانتكاسا بالإنسان أي انتكاس!!
والإنسان إذن بحكم الفطرة ومنطق الكون، إنما هو الله سبحانه لا لغيره، لعبادته وحده، لا لعبادة بشر ولا حجر، ولا بقر ولا شجر، ولا شمس ولا قمر، وكل عبادة لغير الله إنما هي من تزيين الشيطان عدو الإنسان.
النداء الأول في كل رسالة: اعبدوا الله ما لكم من إله غيره
هذه العبادة لله وحده هي العهد القديم الذي أخذه الله على بني الإنسان، وسجله بقلم القدرة في فطرهم البشرية، وغرسه في طبائعهم الأصيلة، منذ وضع في رؤوسهم عقولا تعي، وفي صدورهم قلوبا تخفق، وفي الكون حولهم آيات تهدي (ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين، وأن اعبدوني هذا صراط مستقيم).
هذا العهد بين الله وعباده هو الذي صوره القرآن في روعة وبلاغة حين قال: (وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم: ألست بربكم؟ قالوا: بلى شهدنا. أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين. أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم أفتهلكنا بما فعل المبطلون).
فلا عجب أن يكون المقصد الأعظم من بعثة النبيين، وإرسال المرسلين، وإنزال الكتب المقدسة، هو تذكير الناس بهذا العهد القديم، وإزالة ما تراكم على معدن الفطرة من غبار الغفلة أو الوثنية أو التقليد، ولا عجب أن يكون النداء الأول لكل رسول: (يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره) بهذا دعا قومه نوح وهود وصالح وإبراهيم ولوط وشعيب وكل رسول بعث إلى قوم مكذبين. قال تعالى: (ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت) (وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون) وقال تعالى بعد أن ذكر قصص طائفة كبيرة من الأنبياء: (إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون) كما قال تعالى: (يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا إني بما تعملون عليم. وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون).
الجميع مأمورون بالعبادة
وقد أمر الله نبيه محمدا بقوله: (واعبد ربك حتى يأتيك اليقين) أي الموت. كما قال تعالى على لسان قوم (وكنا نكذب بيوم الدين حتى أتانا اليقين) وهو الموت. فالتكليف بالعبادة لازم له حتى يلحق بربه. لم تسقط عنه بسمو الروح ولا بالاتصال القوي بالله، وهكذا ظل حتى في مرض موته عابدا لله.
وقال تعالى في شأن المسيح عيسى بن مريم الذي رفعه قومه إلى مرتبة الألوهية (لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله ولا الملائكة المقربون، ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر فسيحشرهم إليه جميعا، فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله وأما الذين استنكفوا واستكبروا فيعذبهم عذابا أليما ولا يجدون لهم من دون الله وليا ولا نصيرا).
ويعرض لنا القرآن مشهدا من مشاهد يوم الحشر. يسأل الله فيه المسيح عما نسبوه إليه وافتروه عليه، فيجيب في أدب العبودية متبرئا مما صنعوا (وإذ قال الله: يا عيسى بن مريم: أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله؟ قال: سبحانك! ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق إن كنت قلته فقد علمته، تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك، إنك أنت علام الغيوب، ما قلت لهم إلا ما أمرتني به: أن اعبدوا الله ربي وربكم، وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شيء شهيد).
ويروي إنجيل متى عن المسيح أن إبليس اللعين أراد أن يختبره فأخذه إلى جبل عال جدا، وأراه جميع ممالك الدنيا ومجدها ثم قال له: أعطيك هذه كلها إن خررت ساجدا لي، حينئذ قال له المسيح عليه السلام: اذهب يا شيطان، فإنه قد كتب: للرب إلهك تسجد، وإياه وحده تعبد.
فالأديان كلها دعوة إلى عبادة الله وحده، والأنبياء جميعا أول العابدين لله.
وعبادة الله وحده هي ـ إذن ـ مهمة الإنسان الأولى في الوجود، كما بينت ذلك كل الرسالات.