غاية العبادة في الإسلام أو لماذا نعبد الله؟
لماذا نعبد الله؟
عرفنا أن رسالة الإنسان في الوجود هي عبادة الله وحده،
وعرفنا أن العبادة هي غاية الخضوع الممزوج بغاية الحب لله.
وعرفنا أن العبادة ـ في الإسلام ـ تشمل الدين كله، وتسع الحياة بمختلف جوانبها.
وبقي هنا سؤال قد يسأله بعض الناس، وهو: لماذا نعبد الله تعالى؟ وبعبارة أخرى: لماذا فرض الله علينا عبادته وطاعته وهو الغني عنا؟ وما الغاية من تكليفنا هذه العبادة؟ هل يعود عليه ـ سبحانه ـ نفع من عبادتنا له، وخشوعنا لوجهه؟ ووقوفنا ببابه، وانقيادنا لأمره ونهيه جل شأنه؟ أم النفع يعود علينا نحن المخلوقين؟ وما حقيقة هذا النفع إن كان؟ أم الهدف هو مجرد الأمر من الله والطاعة منا؟
والجواب: أنه ـ تبارك اسمه ـ لا تنفعه عبادة من عبده، ولا يضره إعراض من صد عنه، ولا يزيد في ملكه حمد الحامدين، ولا ينقصه جحود الجاحدين، فهو الغني ونحن الفقراء إليه، وهو الودود الكريم، والبر الرحيم، الذي لا يأمرنا إلا بما فيه خيرنا وصلاحنا نحن المخلوقين، فضلا عن حقه ـ تعالى ـ في أن يفرض علينا ما يشاء، يكلفنا ما يريد، بحكم خلقه لنا وإنعامه علينا، وبحكم عبودتنا الطبيعة القسرية له سبحانه، فهو لا يكلفنا إلا بما ينفعنا نحن ويصلحنا نحن المحتاجين إليه في كل نفس من أنفاس حياتنا، وهو الغني عنا غنى ذاتيا، إذ كيف يحتاج الخالق إلى من خلق؟
وقد أخبرنا على لسان سليمان في القرآن: (قال: هذا من فضل ربي ليبلوني أأشكر أم أكفر ومن شكر فإنما يشكر لنفسه ومن كفر فإن ربي غني كريم) وقال تعالى: (ولقد آتينا لقمان الحكمة أن اشكر لله، ومن يشكر فإنما يشكر لنفسه ومن كفر فإن الله غني حميد) وقال تعالى: (ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ومن كفر فإن الله غني عن العالمين) وقال تعالى: (يأيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد) وقال عز وجل في الحديث القدسي: "يا عبادي إنكم لم تبلغوا ضري فتضروني ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد ما ذاد ذلك في ملكي شيئا، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئا".
وإذا كان الله سبحانه له هذا الغنى المطلق فلماذا إذن كلف عباده أن يعبدوه ويطيعوه؟
وأظن ـ بعد أن يعرف الإنسان جواب الأسئلة الخالدة: من أين؟، وإلى أين؟ ولم ـ أن من السهل أن يعرف جواب هذا السؤال ـ إنه كامن في طبيعة الإنسان نفسه، وطبيعة مهمته في الأرض، والغاية التي أعد لها من وراء هذه الحياة.
العبادة غذاء الروح
أ. فالإنسان ليس هو هذا الغلاف المادي الذي نحسه ونراه، والذي يطلب حظه من طعام الأرض وشرابها، ولكن حقيقة الإنسان في ذلك الجوهر النفيس الذي به صار إنسانا مكرما سيدا على ما فوق الأرض من كائنات. ذلك الجوهر هو الروح، الذي يجد حياته وزكاته في مناجاة الله عز وجل، وعبادة الله هي التي توفر لهذا الروح غذاءه ونماءه، وتمده بمدد يومي لا ينفذ ولا يغيض.
ولئن تراكم على هذا الجوهر المعنوي الغفلة والغرور، وران عليه صدأ الجحود أو الشك، لقد تهب عواصف المحن فتزيح الغبار، أو تندلع نار الشدائد فتجلو الصدأ. وسرعان ما يعود الإنسان إلى ربه فيدعوه ويتضرع إليه. وهذه حقيقة ذكرها القرآن، وأيدتها وقائع الحياة: (هو الذي يسيركم في البر والبحر حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة وفرحوا بها جاءتها ريح عاصف وجاءهم الموج من كل مكان وظنوا أنهم أحيط بهم دعوا الله: مخلصين له الدين: لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين).
إن القلب الإنساني دائم الشعور بالحاجة إلى الله، وهو شعور أصيل صادق لا يملأ فراغه شيء في الوجود إلا حسن الصلة برب الوجود، وهذا ما تقوم به العبادة إذا أديت على وجهها.
يقول ابن تيمية رحمه الله:
"القلب فقير بالذات إلى الله من جهتين: من جهة العبادة… ومن جهة الاستعانة والتوكل، فالقلب لا يصلح ولا يفلح ولا ينعم ولا يسر، ولا يلتذ ولا يطيب، ولا يسكن ولا يطمئن، إلا بعبادة ربه وحده وحبه والإنابة إليه، ولو حصل له كل ما يلتذ به من المخلوقات لم يطمئن ولم يسكن، إذ فيه فقر ذاتي إلى ربه (بالفطرة) من حيث هو معبوده ومحبوبه ومطلوبه، وبذلك يحصل له الفرح والسرور، واللذة والنعمة، والسكون والطمأنينة.
وهذا لا يحصل له إلا بإعانة الله له، فإنه لا يقدر على تحصيل ذلك له إلا الله، فهو دائما مفتقر إلى حقيقة (إياك نعبد وإياك نستعين).
فإنه لو أعين على حصول كل ما يحبه ويطلبه ويشتهيه ويريده ولم يحصل له عبادة لله، فلن يحصل إلا على الألم والحسرة والعذاب، ولن يخلص من آلام الدنيا ونكد عيشها إلا بإخلاص الحب لله بحيث يكون الله هو غاية مراده، ونهاية مقصوده، وهو المحبوب له بالقصد الأول، وكل ما سواه إنما يحبه لأجله، لا يحب شيئا لذاته إلا الله.
وهكذا كلما أخلص المرء العبودية لله وجد نفسه، واهتدى إلى سر وجوده، ووجد مع ذلك سعادة روحية لا تدانيها سعادة.. تتمثل فيما سماه الرسول "حلاوة الإيمان".
وإن لهذه الحلاوة لطعما لا يتذوقه إلا من عرف الله، وآثره على كل ما سواه.
قال ابن القيم رحمه الله: "إنه لا شيء أحب إلى القلوب من خالقها وفاطرها، فهو إلهها ومعبودها، ووليها ومولاها، وربها ومدبرها ورازقها ومميتها ومحييها، فمحبته نعيم النفوس، وحياة الأرواح، وسرور النفوس، وقوت القلوب، ونور العقول، وقرة العيون، وعمارة الباطن.
فليس عند القلوب السليمة والأرواح الطيبة، والعقول الزاكية، أحلى ولا ألذ ولا أطيب ولا أسر ولا أنعم من محبته والأنس به والشوق إلى لقائه، والحلاوة التي يجدها المؤمن في قلبه بذلك فوق كل حلاوة والنعيم الذي يحصل له بذلك أتم من كل نعيم، واللذة التي تناله أعلى من كل لذة، كما أخبر بعض الواجدين عن حاله بقوله: إنه ليمر بالقلب أوقات أقول فيها: إن كان أهل الجنة في مثل هذا إنهم لفي عيش طيب.
وقال آخر: إنه ليمر بالقلب أوقات يهتز فيها طربا بأنسه بالله وحبه له. وقال آخر: مساكين أهل الغفلة! خرجوا من الدنيا وما ذاقوا أطيب ما فيها فقيل له: وما هو؟ قال: محبة الله والأنس به. ومثل هذا ما قاله لآخر: أطيب ما في الدنيا معرفته ومحبته، وأطيب ما في الآخرة رؤيته وسماع كلامه بلا واسطة.
وقال آخر ـ من أهل معرفة الله وطاعته ـ : لو علم المملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه لجالدونا عليه بالسيوف!
ووجدان هذه الأمور وذوقها هو بحسب قوة المحبة وضعفها، بحسب إدراك جمال المحبوب والقرب منه، وكلما كانت المحبة أكمل، وإدراك المحبوب أتم، والقرب منه أوفر، كانت الحلاوة واللذة والسرور والنعيم أقوى.
فمن كان بالله سبحانه وأسمائه وصفاته أعرف، وفيه أرغب، وله أحب، وإليه أقرب، وجد من هذه الحلاوة في قلبه ما لا يمكن التعبير عنه، ولا يعرف إلا بالذوق والوجد، ومتى ذاق القلب ذلك لم يمكنه أن يقدم عليه حبا لغيره، ولا أنسا به، وكلما ازداد له حبا ازداد له عبودية وذلا، وخضوعا ورقا له، وحرية عن رق غيره.
فالقلب لا يفلح ولا يصلح ولا ينعم ولا يبتهج ولا يلتذ ولا يطمئن ولا يسكن إلا بعبادة ربه وحبه، والإنابة إليه، وكلما تمكنت محبة الله من القلب، وقويت فيه أخرجت منه تألهه لما سواه وعبوديته له:
فأصبح حرا عزة وصيانة على وجهه أنواره وضياؤه
وقال الإمام فخر الدين الرازي:
"اعلم أن من عرف فوائد العبادة طاب له الاشتغال بها، وثقل عليه الاشتغال بغيرها. وبيانه من وجوه:
الأول: أن الكمال محبوب بالذات، وأكمل أحوال الإنسان اشتغاله بعبادة الله، فإنه يستنير قلبه بنور الألهية، ويتشرف لسانه بشرف الذكر والقراءة، وتتجمل أعضاؤه بجمال خدمة الله، وهذه الأحوال أشرف المراتب الإنسانية، والدرجات البشرية، فإذا كان حصول هذه الأحوال أعظم السعادات الإنسانية في الحال، وهي موجبة أيضا لأكمل السعادات في الزمان المستقبل، فمن وقف على هذه الأحوال، زال عنه ثقل الطاعات، وعظمت حلاوتها في قلبه.
الثاني: أن العبادة أمانة، بدليل قوله تعالى: (إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان..) وأداء الأمانة صفة من صفات الكمال محبوبة بالذات، ولأن أداء الأمانة من أحد الجانبين سبب لأداء الأمانة من الجانب الثاني، قال بعض الصحابة: رأيت أعرابيا أتى باب المسجد فنزل عن ناقته وتركها ودخل المسجد، وصلى بالسكينة والوقار ودعا بما شاء، فتعجبنا، فلما خرج لم يجد ناقته، فقال: أديت أمانتك فأين أمانتي؟! قال الراوي: فزدنا تعجبا! فلم يمكث حتى جاء رجل على ناقته.. وسلم الناقة إليه.
قال الرازي: والنكتة أنه لما حفظ أمانة الله حفظ الله أمانته، وهو المراد من قوله عليه السلام لابن عباس: "احفظ الله… يحفظك".
الثالث: أن الاشتغال بالعبادة انتقال من عالم الغرور إلى عالم السرور، ومن الاشتغال بالخلق إلى حضرة الحق، وذلك يوجب كمال اللذة والبهجة.
يحكى عن أبي حنيفة أن حية سقطت من السقف وتفرق الناس، وكان أبو حنيفة في الصلاة ولم يشعر بها، ومن استبعد هذا فليقرأ قوله تعالى ـ في قصة يوسف ـ (فلما رأينه أكبرنه وقطعن أيديهن). فإن النسوة لما غلب على قلوبهن جمال يوسف عليه السلام، وصلت تلك الغلبة إلى حيث قطعن أيديهن وما شعرن بذلك، فإذا جاز هذا في حق البشر فلأن يجوز عند استيلاء عظمة الله على القلب أولى. ولأن من دخل على ملك مهيب فربما مر به أبواه وبنوه وهو ينظر إليهم ولا يعرفهم، لأن استيلاء هيبة ذلك تمنع القلب عن الشعور بهم، فإذا جاز هذا في حق ملك مخلوق، فلأن يجوز في حق خالق العالم أولى.."
وبهذا نتبين أن الذي يذوق طعم الإيمان الحق، وتزهر في قلبه مصابيح اليقين، لا ينظر إلى العبادة على أنها مجرد خضوع أو "تنفيذ أوامر" فحسب، إنه يجد فيها تلذذا بمناجاة الله وطاعته، والسعي في مرضاته، ويجد فيها سعادة لا تدانيها سعادة أصحاب القصور والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم ينتظر فريضة الصلاة انتظار الظمآن اللهف إلى شربة الماء العذب الزلال، ويهرع إليها كما يهرع السائر في الصحراء إلى الواحة الخضراء، وكان يقول لبلال ـ في شوق ولهفة ـ إذا حان وقتها: أرحنا بها يا بلال. وقالت زوجه عائشة: كان رسول الله يحدثنا ونحدثه، فإذا حضرت الصلاة، فكأنه لا يعرفنا ولا نعرفه، فلا عجب أن يقول عليه السلام: "جعلت قرة عيني في الصلاة".
إن المؤمن ليجد في عبادة ربه في ساعة الشدة، سكينة لنفسه، وأنسا لوحشته، وانشراحا لصدره، وتخفيفا عن كاهله، كما قال الله تعالى لرسوله: "ولقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون، فسبح بحمد ربك وكن من الساجدين واعبد ربك حتى يأتيك اليقين" فدله على العبادة إذا ضاق صدره بأقاويل المتقولين، وأكاذيب المفترين.
وفي ساعة المنحة والنعمة يتذوق المؤمن حلاوة الشكر للمنعم، والحمد لذي الجلال والإكرام، وما أروع خطاب الله لنبيه في مثل هذا الموقف: (إذا جاء نصر الله والفتح، ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا، فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا).
العبودية لله سبيل الحرية
ب. ثم إن العبودية الخالصة لله هي ـ في واقع الأمر ـ عين الحرية، وسبيل السيادة الحقيقية، فهي ـ وحدها ـ التي تعتق القلب من رق المخلوقين، وتحرره من الذل والخضوع لكل ما سوى الله من أنواع الآلهة والطواغيت التي تستعبد الناس وتسترقهم أشد ما يكون الاسترقاق والاستعباد، وإن ظهروا ـ صورة وشكلا ـ بمظهر السادة الأحرار!
ذلك أن في قلب الإنسان حاجة ذاتية إلى رب، إلى إله، إلى معبود، يتعلق به، ويسعى إليه، ويعمل على رضاه، فإذا لم يكن هذا المعبود هو الله الواحد الأحد، تخبط في عبادة آلهة شتى وأرباب أخر، مما يرى وما لا يرى، وممن يعقل، وما لا يعقل، ومما هو موجود وما ليس موجود، إلا في الوهم والخيال.
وليس أشرف للإنسان العاقل من أن يعبد من خلقه فسواه فعدله، ويطرح عبادة كل ما سواه ومن سواه.
وليس أجلب لسعادته وسلام ضميره من توجيه همه إلى إله واحد يخصه بالخضوع والحب، فلا تتوزع قلبه الآلهة والأرباب المزيفون (وضرب الله مثلا: رجلا فيه شركاء متشاكسون، ورجلا سلما لرجل، هل يستويان مثلا؟).
فالعبد السالم لسيد واحد قد استراح، إذ عرف ما يرضي سيده فأداه بارتياح وانشراح، أما العبد الذي يملكه شركاء متشاكسون يأمره أحدهم بعكس ما يأمره غيره، فما أتعسه وما أشقاه!!
يقول ابن تيمية:
"وكل من استكبر عن عبادة الله لا بد أن يعبد غيره، فإن الإنسان حساس يتحرك بالإرادة. وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أصدق الأسماء حارث وهمام" فالحارث: الكاسب الفاعل، والهمام: فعال من الهم، والهم أول الإرادة، فالإنسان له إرادة دائما. وكل إرادة فلا بد لها من مراد تنتهي إليه، فلا بد لكل عبد من مراد محبوب هو منتهى حبه وإرادته، فمن لم يكن الله معبوده ومنتهى حبه وإرادته، بل استكبر عن ذلك، فلا بد أن يكون له مراد محبوب يستعبده غير الله، فيكون عبدا لذلك المراد المحبوب: إما المال، وإما الجاه، وإما الصور، وإما يتخذه إلها من دون الله كالشمس والقمر والكواكب والأوثان، وقبور الأنبياء والصالحين، أو من الملائكة والأنبياء الذين يتخذهم أربابا، أو غير ذلك مما عبد من دون الله.
وإذا كان عبدا لغير الله يكون مشركا، وكل مستكبر فهو مشرك، ولهذا كان فرعون من أعظم الخلق استكبارا عن عبادة الله، وكان مشركا. قال تعالى: (وقال موسى إني عذت بربي وربكم من كل متكبر لا يؤمن بيوم الحساب (يعني فرعون) إلى قوله: كذلك يطبع الله على كل قلب متكبر جبار).
وقد وصف فرعون بالشرك في قوله: (وقال الملأ من قوم فرعون: أتذر موسى وقومه ليفسدوا في الأرض ويذرك وآلهتك؟!).
بل الاستقراء يدل على أنه كلما كان الرجل أعظم استكبارا عن عبادة الله. كان أعظم إشراكا بالله، لأنه كلما استكبر عن عبادة الله ازداد فقرا وحاجة إلى المراد المحبوب الذي هو مقصود القلب بالقصد الأول، فيكون مشركا بما استعبده من ذلك.
"ولن يستغني القلب عن جميع المخلوقات إلا بأن يكون الله هو مولاه الذي لا يعبد إلا إياه، ولا يستعين إلا به، ولا يتوكل إلا عليه، ولا يفرح إلا بما يحبه ويرضاه، ولا يكره إلا ما يبغضه الرب ويكرهه، ولا يوالي إلا من والاه الله، ولا يعادي إلا من عاداه الله، ولا يحب إلا لله ولا يبغض شيئا إلا لله، ولا يعطي إلا لله، ولا يمنع إلا لله.
فكلما قوي إخلاص دينه لله، كملت عبوديته واستغناءه عن المخلوقات، وبكمال عبوديته لله تكمل براءته من الكبر والشرك".
العبادة ابتلاء إلهي يصقل الإنسان
ج. والحياة التي نحياها هذه ـ طالت أو قصرت ـ ليست هي الغاية ولا إليها المنتهى، وما هي إلا محطة انتقال إلى حياة أخرى ودار أخرى حياة البقاء، ودار الخلود، وفي بعض الآثار: (إنكم خلقتم للأبد، وإنما تنتقلون من دار إلى دار) وقال الشاعر:
وما الموت إلا رحلة غير أنها من المنزل الفاني إلى المنزل الباقي
فالمعول عليه إذن إنما هو الدار الأخرى (وإن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون).
والإنسان في هذه الدار الفانية إنما يستصلح لتلك الدار الباقية، يستخلفه الله هنا ليعد ويصقل للخلود هناك، ولا شيء يصقله ويهذبه ويعده مثل الابتلاء، فهو البوتقة التي تصهر فيها النفس ويصفو الروح.
فقد شاء الله أن يخلق الإنسان نوعا متميزا على غيره، بما ركب فيه من عناصر مزدوجة، يمكن أن تصعد به إلى السماء، وأن يهبط بها إلى الأرض، ففيه الغريزة والشهوة، وفيه العقل والإرادة، فيه المادة، وفيه الروح، وقد دل هذا الخلق على أن الإنسان مسؤول ومبتلى، وهذا هو السر في استعداده لحمل المسئولية، وأمانة التكاليف الإلهية التي عبر عنها القرآن تعبيرا بديعا فقال: (إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان).
لقد كان ما أوتي الإنسان من عقل وإرادة وضمير واستطاعة، وما يسر له من أسباب، نعمة عليه أي نعمة، وتكريما له أي تكريم، ولكنها كانت تحمل في طيها ابتلاء له أي ابتلاء: أيشكر أم يكفر؟ أيطيع ربه أم يتمرد عليه؟
وهكذا ذكر القرآن الكريم أن الله سبحانه إنما خلق السموات والأرض، وخلق الموت والحياة، وزين الأرض بما عليها، ليبتلي عباده ويمتحنهم ـ وهو بهم أعلم ـ ليظهر من يريده ويريد ما عنده ممن يريد الدنيا وزينتها، قال تعالى: (وهو الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام وكان عرشه على الماء ليبلوكم أيكم أحسن عملا).
(تبارك الذي بيده الملك وهو على كل شيء قدير، الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا).
(إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوكم أيهم أحسن عملا).
(إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه).
إن هذه الحياة الدنيا لا تعطي حصادها إلا لمن يزرعون، ولا جناها إلا لمن يغرسون، ولا ينال المرء فيها ما يحب إلا بصبره على ما يكره، ولا يتحقق له أمل يصبو إليه إلا بعد أن يجتاز امتحانات عسيرة، ويتحمل مشقات شديدة، ولذلك لا يطمع في إدراك المعالي وتحقيق الآمال الكبيرة إلا أولو العزم وأصحاب النفوس الكبيرة، وفي هذا يقول المتنبي:
ذريني أنل ما لا ينال من العلا فصعب العلا في الصعب والسهل في السهل
تريدين إدراك المعالي رخيصة ولا بد دون الشهد من إبر النحل!
هذا شأن حياتنا هذه القصيرة، فكيف بحياة الخلود؟ أيريد الإنسان أن يحظى بنعيمها ورضوان الله فيها، ويسعد بالنظر إلى وجهه الكريم، دون جهد ولا ابتلاء ودون أن يسعى لها سعيها؟ إذن يستوي القاعدون والمجاهدون يستوي الكسالى والعاملون، يستوي الطالحون والصالحون، وهم في عدالة الله لا يستوون!!
لقد عرفنا من عدالة السنن الإلهية في الكون أن الشيء النفيس لا يدرك إلا بجهد كبير، وكلما كانت نفاسته أظهر، احتاج إلى جهد أكبر، فهل هناك شيء أنفس وأعظم من الآخرة الباقية، من الحياة الأبدية، من رضوان الله تعالى؟ لا والله، ولهذا حفت الجنة بالمكاره، وملئ طريقها بأشواك الابتلاء.
ومن هنا قال الإنجيل: "ما أضيق الطريق الذي يؤدي إلى الحياة الأبدية!" وما ضيقه إلا تكاليف العبودية والتزامات الإيمان.
وقال القرآن العظيم: (أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين؟).
العبادة حق الله على عباده
د. والعبادة ـ فوق ذلك كله ـ هي حق الخالق ـ جل شأنه ـ على خلقه.
وفي ذلك روى البخاري ومسلم عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: "كنت رديف النبي صلى الله عليه وسلم على حمار، فقال لي: يا معاذ، أتدري ما حق الله على العباد؟ قلت: الله ورسوله أعلم، قال: حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا".
وليس بمستنكر أن يكون لله علينا حق عبادته وحده سبحانه، بل المستنكر أن يكون غير هذا، المستنكر أن نعبد ما دون الله أو من دون الله، فنؤدي الحق لغير أهله، أو نزعم لأنفسنا الاستقلال عن الله فنجحد عبوديتنا له بغير حق.
إننا لم نكن شيئا مذكورا ثم كنا: خرجنا من ظلمة العدم إلى نور الوجود، ثم كنا نوعا مكرما من الخليقة: خلقنا في أحسن تقويم، وصورنا في أحسن صورة، وعلمنا البيان، وأوتينا العقل والإرادة، وسخرت الكائنات حولنا لخدمتنا: الأرض لنا مهاد وفراش، والسماء لنا سقف وبناء، والشمس تمدنا بالضوء والحرارة، والكواكب تهدينا وتزين سقفنا، والبحار تجري فيها سفائننا بأرزاقنا، والماء ينزل من السماء ليكون لنا شرابا طهورا، ونسقي منه أنعاما وأناسي كثيرا.
ترى من الذي فعل ذلك كله؟ أما نحن فلم نخلق أنفسنا ولم نصنع ذرة مما حولنا، ولم يدع بشر ولا جن ولا ملاك: أنه صانع ذلك ومدبره، فمن هو صاحب العلم الواسع والحكمة البالغة والقدرة القاهرة والإرادة الفعالة، الذي صنع هذا الكون الدقيق فأحكمه، ورتبه فأحسنه؟ والذي خلق الإنسان فأحسن خلقه، وسخر له ما في السموات وما في الأرض، وأسبغ عليه النعم ظاهرة وباطنة؟
إنه الله الذي شهدت بربوبيته الفطر السليمة، وأقرت بوجوده وكماله ووحدانيته العقول النيرة (قل لمن الأرض ومن فيها إن كنتم تعلمون؟ سيقولون لله، قل أفلا تذكرون؟ قل من رب السموات السبع ورب العرش العظيم؟ سيقولون لله، قل أفلا تتقون؟ قل من بيده ملكوت كل شيء وهو يجير ولا يجار عليه إن كنتم تعلمون؟ سيقولون لله، قل فأنى تسحرون).
(قل: من يرزقكم من السماء والأرض؟ أم من يملك السمع والأبصار ومن يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ومن يدبر الأمر؟ فسيقولون: الله، فقل، أفلا تتقون؟ فذلكم الله ربكم الحق، فماذا بعد الحق إلا الضلال، فأنى تصرفون؟).
فلا عجب أن يكون لهذا الخالق المنعم حق العبادة والاستعانة به والابتهال إليه، والوقوف ببابه الكريم موقف الضراعة والتسليم والانقياد (سبح اسم ربك الأعلى، الذي خلق فسوى، والذي قدر فهدى، والذي أخرج المرعى، فجعله غثاء أحوى).
(يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون، الذي جعل لكم الأرض فراشا والسماء بناء وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون).
هذه العبادة إذن هي حق الربوبية على العبودية، حق الخالق على اللق، حق الكريم الذي أحسن وأنعم على من أحسن إليه وأنعم عليه.
ألا إن من كنود الإنسان لربه، وظلمه لنفسه، أن يشكر للخلق ولا يشكر للخالق، وأن يأسره إحسان من يحسن إليه من الناس ولا يأسره إحسان الله إليه، وهو يغمره من قرنه إلى قدمه، من يوم أن كان نطفة فعلقة فمضغة، إلى ما شاء الله من أطوار الحياة! واقرأ إن شئت قول الله تعالى: "الله الذي خلق السموات والأرض وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم، وسخر لكم الفلك لتجري في البحر بأمره، وسخر لكم الأنهار، وسخر لكم الشمس والقمر دائبين، وسخر لكم الليل والنهار، وآتاكم من كل ما سألتموه، وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها، إن الإنسان لظلوم كفار).
وظلم الإنسان وكفرانه هو الذي عجب منه ربنا في الحديث القدسي:
"إني والجن والإنس في نبأ عظيم: أخلق ويعبد غيري! وأرزق ويشكر سواي! خيري إلى العباد نازل، وشرهم إلي صاعد! أتحبب إليهم بنعمي وأنا الغني عنهم، فيتعرضون إلي بالمعاصي وهم أفقر شيء إلي!!".
فالله الخالق المنعم هو المستحق للعبادة وحده، أما من دون الله فلا يستحقون عبادة الإنسان وهم مثله مخلوقون مرزوقون مربوبون!! ولهذا قال ابن سيده فيما نقلناه في أول الكتاب: "العبادة نوع من الخضوع لا يستحقه إلا المنعم بأعلى أجناس النعم كالحياة والفهم والسمع والبصر، لأن أقل القليل من العبادة يكبر عن أن يستحقه إلا من كان له أعلى جنس من النعمة (وهو الله) فلذلك لا يستحق العبادة إلا الله.
وبهذا كله نعلم أن العبادة مطلوبة في الدين طلب الغايات والمقاصد، لا طلب الأدوات والوسائل، أعني أنها من الدرجة الأولى: امتثال لأمر الله ووفاء بحقه سبحانه، فهي مطلوبة لذاتها، قبل أي شيء آخر في هذه الحياة.
العبادة طلبا للثواب وخوفا من العقاب
طمعا في ثوابه وخوفا من عقابه؟ وبعبارة هل يجوز أن يعبد الله أخرى: طلبا لجنته، وهربا من ناره؟
لقد شنع الصوفية على من عبد الله بهذا القصد، وقالوا: لا ينبغي للعابد أن يعبد الله ويقوم بأمره ونهيه، خوفا من عقابه أو طمعا في ثوابه، فإن مثل هذا العابد واقف مع غرضه وحظ نفسه، ومحبة الله حقا تأبى ذلك وتنافيه، فإن المحب لا حظ له مع محبوبه، فوقوفه مع حظه علة في محبته، كما أن طمعه في الثواب تطلع إلى أنه يستحق بعمله على الله تعالى أجرة، وفي هذا آفتان: تطلعه إلى الأجرة، وإحسان ظنه بعمله، ولا يخلصه من ذلك إلا تجريد العبادة والقيام بالأمر والنهي من كل علة، بل يقوم به تعظيما للآمر الناهي، وأنه أهل أن يعبد وتعظم حرماته، فهو يستحق العبادة والتعظيم والإجلال لذاته، كما في الأثر الإلهي: "لو لم أخلق جنة ولا نارا، أما كنت أهلا أن أعبد؟" ومنه قول القائل:
هب البعث لم تأتنا رسله وجاحمة النار لم تضرم
أليس من الواجب المستحق ثناء العباد على المنعم؟
فالنفوس الزكية العلية تعبده، لأنه أهل أن يعبد، ويجل ويحب ويعظم، فهو لذاته مستحق للعبادة، قالوا: ولا يكون العبد مع ربه، كأجير السوء: إن أعطي أجره عمل، وإن لم يعط لم يعمل، فهذا عبد الأجرة، لا عبد المحبة والإرادة.
ولهذا يرون عن رابعة الأبيات المشهورة:
كلهم يعبدون من خوف نار ويرون النجاة حظا جزيلا
أو بأن يدخلوا الجنان فيحظوا بنعيم ويشربوا سلسبيلا
ليس لي في الجنان والنار حظ أنا لا أبتغي بحبي بديلا
ومن علماء المسلمين من رد هذا الكلام، واعتبره من شطحات القوم ورعوناتهم، ولم ير أي حرج أو نقص في عبادة الله خوفا وطمعا، ورغبا ورهبا، واحتج هؤلاء العلماء بأحوال الأنبياء والرسل والصديقين والصالحين، ودعائهم والثناء عليهم ـ في كتاب الله ـ بخوفهم من النار، ورجائهم للجنة. كما قال تعالى في خواص عباده الذين عبدهم المشركون ودعوهم من دون الله أو مع الله: (أولئك الذين يدعون، يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه، إن عذاب ربك كان محذورا).
وذكر سبحانه عباده الذين شرفهم بالإضافة إلى اسمه "الرحمن" فسماهم "عباد الرحمن" وأثنى عليهم بأحسن أعمالهم، فجعل منها: استعاذتهم به من النار، فقال تعالى: (والذين يقولون: ربنا اصرف عنا عذاب جهنم، إن عذابها كان غراما، إنها ساءت مستقرا ومقاما).
وأخبر عنهم أنهم توسلوا إليه بإيمانهم أن ينجيهم من النار، فقال تعالى: (الذين يقولون: ربنا إننا آمنا فاغفر لنا ذنوبنا وقنا عذاب النار) فجعلوا أعظم وسائلهم إليه، وسيلة الإيمان، أن ينجيهم من النار.
وأخبر تعالى عن سادات العارفين أولي الألباب: أنهم كانوا يسألونه جنته، ويتعوذون به من ناره، فقال تعالى: (إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب، الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السموات والأرض، ربنا ما خلقت هذا باطلا، سبحانك، فقنا عذاب النار، ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته وما للظالمين من أنصار، ربنا إننا سمعنا مناديا ينادي للإيمان أن آمنوا بربكم فآمنا، ربنا فاغفر لنا ذنوبنا وكفر عنا سيئاتنا وتوفنا مع الأبرار، ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك ولا تخزنا يوم القيامة، إنك لا تخلف الميعاد، فاستجاب لهم ربهم: إني لا أضيع عمل عامل منكم.. الآية).
ولا خلاف أن الموعود به على ألسنة رسله هو الجنة التي سألوها.
وقال عن حليله إبراهيم صلى الله عليه وسلم (والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين. رب هب لي حكما وألحقني بالصالحين. واجعلني من ورثة جنة النعيم. واغفر لأبي إنه كان من الضالين. ولا تخزني يوم يبعثون).
فسأل الله الجنة واستعاذ به من النار وهو الخزي يوم البعث.
وأخبرنا سبحانه عن الجنة: أنها كانت وعدا عليه مسئولا، أي يسأله إياها عباده وأولياؤه.
وأمر النبي صلى الله عليه وسلم أمته أن يسألوا له في وقت الإجابة ـ عقيب الآذان ـ أعلى منزلة في الجنة، وأخبر أن من سألها له حلت عليه شفاعته.
وقال له سليم الأنصاري: "أما إني أسأل الله الجنة، وأستعيذ به من النار، لا أحسن دندنتك، ولا دندنة معاذ! فقال صلى الله عليه وسلم: "أنا ومعاذ حولها ندندن!".
وفي الصحيح، في حديث الملائكة السيارة: أن الله تعالى يسألهم عن عباده، وهو أعلم بهم، فيقولون: أتيناك من عند عبادك يهللونك ويكبرونك ويحمدونك، ويمجدونك، فيقول عز وجل: وهل رأوني؟ فيقولون: لا، يا رب، ما رأوك، فيقول عز وجل: كيف لو رأوني؟! فيقولون: لو رأوك لكانوا لك أشد تمجيدا، قالوا: يا رب، ويسألونك جنتك، فيقول: هل رأوها؟ فيقولون: لا، وعزتك ما رأوها. فيقول: كيف لو رأوها؟! فيقولون: لو رأوها لكانوا أشد منها هربا، فيقول: إني أشهدكم أني قد غفرت لهم، وأعطيتهم ما سألوا وأعذتهم مما استعاذوا.
والقرآن والسنة مملوءان من الثناء على عباده ـ تعالى ـ وأوليائه بسؤال الجنة ودرجاتها، والاستعاذة من النار والخوف منها.
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه: "استعيذوا بالله من النار" وقال لمن سأله مرافقته في الجنة: "أعني على نفسك بكثرة السجود".
قالوا: والعمل على طلب الجنة والنجاة من النار، مقصود الشارع من أمته، ليكونا دائما على ذكر منهم، فلا ينسونهما، ولأن الإيمان بهما شرط في النجاة، والعمل على حصول الجنة والنجاة من النار، هو محض الإيمان.
وقد حض النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه وأمته على طلب الجنة، فوصفها وجلاها لهم ليخطبوها، وقال: ألا مشمر للجنة؟ فإنها ـ ورب الكعبة ـ نور يتلألأ، وريحانة تهتز، وزوجة حسناء، وفاكهة نضيجة، وقصر مشيد، ونهر مطرد… الحديث. فقال الصحابة: يا رسول الله، نحن المشمرون لها. فقال: قولوا، إن شاء الله.
ولو ذهبنا نذكر ما في السنة من قوله صلى الله عليه وسلم: "من عمل كذا وكذا أدخله الله الجنة" تحريضا على عمله لها، وأن تكون هي الباعثة على العمل، لطال ذلك جدا، وذلك في جميع الأعمال.
فكيف يكون العمل لأجل الثواب وخوف العقاب معلولا، والرسول صلى الله عليه وسلم يحرض عليه؟! قالوا: وأيضا، فالله سبحانه يحب من عباده أن يسألوه جنته، ويستعيذوا به من ناره، فإنه يحب أن يسأل، ومن لم يسأله يغضب عليه، وأعظم ما سئل "الجنة" وأعظم ما استعيذ به من "النار".
قالوا: وإذا خلا القلب من ملاحظة الجنة والنار، ورجاء هذه، والهرب من هذه، فترت عزائمه، وضعفت همته، ووهى باعته، وكلما كان أشد طلبا للجنة وعملا لها، كان الباعث له أقوى، والهمة أشد، والسعي أتم، وهذا أمر معلوم بالذوق.
قالوا: ولو لم يكن هذا مطلوبا للشارع، لما وصف الجنة للعباد، وزينها لهم، وعرضها عليهم، وأخبرهم عن تفاصيل ما تصل إليه عقولهم منها، وما عداه أخبرهم به مجملا، تشويقا لهم إليها، وحثا لهم على أن يسعوا لها سعيها.
على أن الإمام ابن القيم وقف موقفا وسطا بين الصوفية وبين من رد عليهم وخطأهم من علماء الأمة فقال، بعد أن حكى قول أولئك ورد هؤلاء:
"والتحقيق أن يقال: الجنة ليست اسما لمجرد الأشجار والفواكه، والطعام والشراب، والحور العين، والأنهار والقصور، وأكثر الناس يغلطون في مسمى الجنة، فإن الجنة اسم لدار النعيم المطلق الكامل. ومن أعظم نعيم الجنة: التمتع بالنظر إلى وجه الله الكريم، وسماع كلامه، وقرة العين بالقرب منه وبرضوانه، فلا نسبة للذة ما فيها من المأكول والمشروب والملبوس والصور إلى هذه اللذة أبدا. فأيسر يسير من رضوانه أكبر من الجنان وما فيها من ذلك، كما قال تعالى (ورضوان من الله أكبر) وأتى به منكرا في سياق الإثبات، أي أي شيء كان من رضاه عن عبده فهو أكبر من الجنة".
قليل منك يكفيني، ولكن قليلك لا يقال لهقليل
وفي الحديث الصحيح ـ حديث الرؤية ـ "فوالله ما أعطاهم الله شيئا أحب إليهم من النظر إلى وجهه" وفي حديث آخر: "أنه سبحانه إذا تجلى لهم، ورأوا وجهه عيانا، نسوا ما هم فيه من النعيم، وذهلوا عنه ولم يلتفتوا إليه".
قال ابن القيم: ولا ريب أن الأمر هكذا، وهو أجل مما يخطر بالبال، أو يدور في الخيال، ولا سيما عند فوز المحبين هناك بمعية المحبة، فإن المرء مع من أحب، فأي نعيم، وأي لذة، وأي قرة عين، وأي فوز، يداني نعيم تلك المعية ولذتها وقرة العين بها؟
وهذا والله هو العلم الذي شمر إليه المحبون، واللواء الذي أمه العارفون، وهو روح مسمى الجنة وحياتها، وبه طابت الجنة، وعليه قامت.
فكيف يقال: لا يعبد الله، طلبا لجنته، ولا خوفا من ناره؟
وكذلك النار أعاذنا الله منها، فإن لأربابها من عذاب الحجاب عن الله وإهانته، وغضبه وسخطه، والبعد عنه، أعظم من التهاب النار في أجسامهم.
فمطلوب الأنبياء والمرسلين والصديقين والشهداء والصالحين هو: الجنة، ومهربهم: من النار.