رسالة مصرية ثقافية
مرحبا بك أخي الزائر نشكر زيارتك ونتمني انضمامك للمنتدي
زيارتك تسر إدارة المنتدي ومشاركتكك تسعدنا وتساهم معنا بارتفاع الثقافة العامة
بعض المنتديات الفرعية والموضوعات
لا يمكنك الإطلاع عليها إلا بعد التسجيل كعضو في المنتدي
رسالة مصرية ثقافية
مرحبا بك أخي الزائر نشكر زيارتك ونتمني انضمامك للمنتدي
زيارتك تسر إدارة المنتدي ومشاركتكك تسعدنا وتساهم معنا بارتفاع الثقافة العامة
بعض المنتديات الفرعية والموضوعات
لا يمكنك الإطلاع عليها إلا بعد التسجيل كعضو في المنتدي
رسالة مصرية ثقافية
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

رسالة مصرية ثقافية

ثقافية - علمية - دينية - تربوية
 
الرئيسيةرسالة مصريةأحدث الصورالتسجيلدخول

 

 كتاب العبادة - للشيخ القرضاوي - الباب الخامس

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
Eng. Ahmedzoubaa
Admin
Eng. Ahmedzoubaa


عدد المساهمات : 1216
تاريخ التسجيل : 28/08/2010
العمر : 50

كتاب العبادة - للشيخ القرضاوي - الباب الخامس Empty
مُساهمةموضوع: كتاب العبادة - للشيخ القرضاوي - الباب الخامس   كتاب العبادة - للشيخ القرضاوي - الباب الخامس Emptyالجمعة 3 سبتمبر 2010 - 16:20

الإصلاح الإسلامي في مجال العبادة

إن لعنة الجاهلية لم تدع شيئا دون أن تصيبه بالعقم والفساد. أفسدت العقائد والأفكار، وأفسدت العبادات والشعائر، وأفسدت الأخلاق والآداب، وأفسدت النظم والتقاليد، وأفسدت الحياة كلها، ولم يبق شيء من دين الله المنزل على أنبيائه إلا ناله رذاذ من هذا الشر المستطير.

وحينما أراد الله أن يبعث خاتم رسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، كان في العالم ألوان من الشعائر والعبادات، بعضها بقايا أديان سماوية قديمة، وبعضها إضافات، وابتداعات أرضية جديدة، بعضها مسخت صورته ومعناه، وبعضها بقيت صورته، وإن مسخ معناه، فلم يعد يوجه إلى مستحقه وهو الله وإنما يتوجه به العابدون إلى إله أو آلهة أو سماسرة آلهة في الأرض أو في السماء!

أديان بلغت في الرسوم والشكليات ففقدت الروح والإخلاص، وأديان تحررت من كل رسم وشكل، ففقدت معنى التعبد والابتلاء.

أديان تشددت وتعنتت وتزمتت حتى لكأنها إصر وأغلال، وأخرى ترخصت وغلت في الترخص، حتى لكأنها لهو ولعب.

وجاء الإسلام، فلم يمل مع الغالين، ولم ينحرف إلى المقصرين، بل شرعه الله "دينا قيما" لا عوج فيه، ولا غلو ولا تقصير، بل كان كما خاطب الله رسوله: (قل: إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم. دينا قيما ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين. قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين، لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين. قل أغير الله أبغي ربا وهو رب كل شيء).

أجل، جاء الإسلام بعدة توجيهات ومبادئ إصلاحية كانت هي حجارة الأساس، التي يقوم عليها صرح العبادة الشعائرية في الإسلام، ونحن نذكرها فيما يلي من الصحائف.
--------------------------------------------------------------------------------------------------------------
---------------------------------------------------------------------------------------------------------------
لا يعبد إلا الله

مقدمة
لا تتخذوا القبور مساجد
دعوة الإسلام إلى عبادة الله وحده
لا ذبح ولا نذر إلا لله
سد الذرائع المفضية إلى الشرك
أوثان جديدة يجب الحذر منها
قدمة

منذ أكثر من ألفي سنة قال المؤرخ اليوناني المشهور بلوتارك بعد فحص واستقراء: "من الممكن أن نجد مدنا بلا أسوار، ولا ملوك ولا ثروة، ولا آداب ولا مسارح، لكن لم ير إنسان قط مدينة بلا معبد، أو لا يمارس أهلها العبادة".

وما سجل التاريخ هذه الحقيقة إلا لأن الاتجاه إلى الخالق الأعلى مركوز في الفطرة البشرية، نابع من أعماق النفس، غير أن هذا الشعور الأصيل كثيرا ما أخطأ الطريق إلى معبوده الحق "الله جل جلاله" وجرفته تيارات الجهل أو الغفلة أو التضليل، فعبد غير الله، أو عبد معه آلهة شتى، أو عبده بغير ما شرعه ورضيه من صور التعبد.

ولذا كانت مهمة الرسل أن يوجهوا الفطرة وجهتها السليمة إلى الله، وأن يحفظوا ذلك الشعور الأصيل من الانحراف، حتى لا يعبد الإنسان إلا الله، ولا يشرك به شيئا، ولا يتخذ بعض المخلوقات أربابا من دونه.

وفي الفترات التي طال فيها الأمد على دعوة الرسل فنسيت أو حرفت، ضل الناس وعبدوا أنواعا من الآلهة لا يكاد العقل يصدقها.

فهناك قوم عبدوا الشمس، كما حكى القرآن عن ملكة سبأ وقومها على لسان هدهد سليمان: (وجدتها وقومها يسجدون للشمس من دون الله، وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل فهم لا يهتدون).

ومنهم من عبد القمر والكواكب، كقوم إبراهيم ومن بعدهم من الصابئة.

ومنهم من عبد النار كالمجوس، الذين بنوا لها البيوت الكثيرة، ووقفوا لها الأوقاف، واتخذوا لها السدنة والحجاب، فلا يدعونها تخمد لحظة واحدة.

ومن عبادتهم لها: أن يحفروا لها أخدودا مربعا في الأرض ويطوفون به. وهم أصناف مختلفة:

فمنهم من يحرم إلقاء النفوس فيها وإحراق الأبدان بها، وهم أكثر المجوس.

وطائفة أخرى منهم تبلغ بهم عبادتهم لها أن يقربوا أنفسهم وأولادهم لها!!

وهناك طائفة عكس هؤلاء عبدوا الماء من دون الله وتسمى (الحلبانية) وتزعم أن الماء لما كان أصل كل شيء، وبه كل ولادة ونمو ونشوء وطهارة وعمارة، كان حقه أن يعبد.

وهناك طوائف كثيرة عبدوا الحيوانات: فطائفة عبدت الخيل، وطائفة عبدت البقر (كقدماء المصريين قديما الذين عبدوا عجل أبيس، وكالهندوس حتى اليوم).

وهناك طائفة عبدت البشر الأحياء والأموات.

وطائفة عبدت الشجر، وطائفة عبدت الجن كما قال تعالى: (بل كانوا يعبدون الجن أكثرهم بهم مؤمنون).

وهناك من عبد الأصنام والأوثان، وهذا داء قديم منذ عهد قوم نوح الذين اتخذوا من دون الله ردا وسواعا ويغوث ويعوق ونسرا، وقد روى ابن عباس أنها كانت في الأصل صورا لبعض موتاهم الصالحين اتخذوها لتذكرهم بهم، ثم طال عليهم الأمد فعبدوها.

وفي بلاد كالهند، قد بلغت الوثنية أوجها في القرن السادس الميلادي، وأصبح عدد الآلهة في هذا القرن 330 مليون. وقد أصبح كل شيء رائع، وكل شيء جذاب، وكل مرفق من مرافق الحياة، إليها يعبده الناس! وهكذا جاوزت الأصنام والتماثيل والآلهة والإلهات الحصر، وأربت على العد.

وكانت عبادة الأصنام قد انتشرت في ديار العرب قبل الإسلام انتشارا ذريعا، قال ابن اسحاق: واتخذ إله كل دار في دارهم صنما يعبدونه، فإذا أراد رجل منهم سفرا تمسح به، وإذا قدم من سفر تمسح به، فيكون آخر عهده به وأول عهده به.

وقال أبو رجاء العطاردي: كنا نعيد الحجر في الجاهلية فإذا وجدنا حجرا هو أحسن منه نلقي ذلك ونأخذه، فإذا لم نجد حجرا جمعنا حثية من تراب، ثم جئنا بغنم فحلبناها عليه، ثم طفنا به.

وكذلك قال عمرو بن عبسة: "كنت امرءا ممن يعبد الحجارة، فينزل الحي ليس معهم إله، فيخرج الرجل منهم، فيأتي بأربعة أحجار فينصب ثلاثة لقدره، ويجعل أحسنها إلها يعبده، ثم لعله يجد ما هو أحسن منه قبل أن يرتحل، فيعتزله ويأخذ غيره"!!

ترى أي هوان أصاب الإنسان وأي ضلال لحقه حتى ركب هذه الأضاليل؟

ولما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة وجد حول البيت ثلاثمائة وستين صنما، فجعل يطعن بسيفه في وجوهها وعيونها ويقول: (جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا) وهي تتساقط على رؤوسها، ثم أمر بها فأخرجت من المسجد وحرقت.

حتى القوم الذين كانوا قريبي العهد بالكتب السماوية والنبوات الهادية ـ وهم اليهود والنصارى ـ ضلوا طريق التوحيد، وزحفت عليهم الوثنيات، فأفسدت عليهم دينهم.

فاليهود فسد تصورهم للألوهية، ونسبوا إلى الله ما لا يجوز أن ينسب إليه من صفات النقص، فهو تعالى عما يقولون ـ يجهل ويندم ويتعب ويصارع ويصرع ـ إلى آخر ما في أسفار العهد القديم.

والنصارى غزتهم الوثنية، فتسرب دين المسيح من بين أيديهم، كما يتسرب الماء من بين الأصابع! والمؤسف حقا أن ديانة المسيح الحقة لم تكد تعيش على سلامتها وتوحيدها إلا فترة قصيرة جدا، ثم رزئ تاريخها برجلين حرفاها شر تحريف: أحدهما: رجل دين والثاني رجل ملك.

فالأول: هو سانت "بولس" الذي طمس معالمها، وأطفأ نور التوحيد فيها، وطعمها بخرافات الجاهلية التي انتقل منها، والوثنية التي تأثر بها.

والثاني: هو الملك قسطنطين الذي قضى على البقية الباقية ـ فقد جمع الأساقفة والبطارقة ليتناظروا ويخلصوا إلى عقيدة يتفقون عليها، وقد انتهوا إلى تلك العقيدة العجيبة: الإيمان بالله الواحد الأب، وبالرب يسوع المسيح ابن الله! إله حق من إله حق! تجسد من روح القدس وصار إنسانا وحمل به ثم ولد من مريم البتول، والم وشج وقتل وصلب ودفن الخ.

وهكذا أصبحت النصرانية مزيجا من الخرافات اليونانية والوثنية الرومية والأفلاطونية المصرية.

والمهم أن القوم عبدوا المسيح الذي كان من أشد الناس عبادة لله، واعترافا بعبوديته لربه! واتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله. وأسرف المسيحيون في عبادة القديسين والصور المسيحية، كما يقول "سيل" ـ مترجم القرآن إلى الإنجليزية ـ عن نصارى القرن السادس.

دعوة الإسلام إلى عبادة الله وحده

ذلك هو الشرك الذي طم سيله في الآفاق قبل الإسلام، وتلك هي الوثنية الجاهلية التي سادت العالم القديم، فماذا كان موقف الإسلام من الشرك بكل مظاهره وأنواعه؟

لقد جاء الإسلام يدعو إلى عبادة الله وحده، ونبذ عبادة كل ما سواه ومن سواه من الآلهة المزعومين، والأرباب المزيفين، سواء كانوا من البشر أم من الجن أم أي عالم من عوالم المخلوقات العلوية والسفلية، إن روح الإسلام هو التوحيد، توحيد الربوبية، وتوحيد الألوهية، الذي هو إفراد الله بالعبادة ـ وأن عنوان الإسلام هو تلك الكلمة العظيمة التي هي أفضل ما قاله محمد والنبيون من قبله "لا إله إلا الله" إحدى كلمتي الشهادة في الإسلام.

إن سر الإسلام ـ على سعة تعاليمه ـ يتجلى في دستوره الخالد: القرآن الكريم، وسر هذا الدستور يتركز في فاتحته: أم القرآن والسبع المثاني، وسر هذه الفاتحة يتلخص في هذه الآية الكريمة: (إياك نعبد وإياك نستعين): أي لا نعبد شيئا ولا أحدا غيرك، ولا نستعين بكائن سواك.

إن أول وصية في القرآن، وأول مبدأ يبايع عليه الرسول كل من اعتنق دينه أن (اعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا).

وأول ما دعا إليه رسول الإسلام ملوك الأرض وأمراءها هو هذه القضية الكبرى: أن يعبد الله وحده لا شريك له، وأن تطرح الآلهة والأرباب التي اتخذها الناس من دون الله، فأذلوا أنفسهم لمن لا يستحق الذل والخضوع.

ومن هنا كان الرسول صلى الله عليه وسلم يختم رسائله إلى قيصر والنجاشي، وغيرهما من أصحاب الملك والإمارة بهذه الآية الكريمة من سورة آل عمران: (يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم: ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا، ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله، فإن تولوا فقولوا: اشهدوا بأنا مسلمون).

بل أكد القرآن أن هذه الدعوة هي دعوة الرسل جميعا، فكلهم دعا قومه إلى عبادة الله وحده، واجتناب عبادة الطاغوت، وكل ما عبد من دون الله فهو طاغوت، فهما مبعودان لا ثالث لهما: إما الله وإما الطاغوت. ومن استكبر عن عبادة الله سقط ـ حتما ـ في عبادة الطاغوت.

قال تعالى: (ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت).

وقال سبحانه مخاطبا خاتم رسله محمدا صلى الله عليه وسلم: (وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه: أنه لا إله إلا أنا فاعبدون).

شدد الإسلام حملته على الشرك، وقعد له كل مرصد، وحاربه بكل سلاح، وقرر أنه الإثم العظيم، والضلال البعيد، والجرم الأكبر، والذنب الذي لا يغتفر. (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك بالله، فقد افترى إثما عظيما) (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء، ومن يشرك بالله فقد ضل ضلالا بعيدا).

وفي الصحيح: "من مات وهو يدعو من دون الله ندا دخل النار"، "ومن لقي الله لا يشرك به شيئا دخل الجنة، ومن لقيه يشرك به شيئا دخل النار".

كل ذنب يمكن أن يغفره الله بفضله وكرمه، ويمكن أن يقبل فيه شفاعة الشافعين، إلا الإشراك بالله تعالى.

في الحديث القدسي: "يا ابن آدم، إنك لو أتيتني بقراب الأرض خطايا، ثم لقيتني لا تشرك بي شيئا، لاتيتك بقرابها مغفرة!".

ففي هذه الآيات والأحاديث أن أهل التوحيد الخالص ـ الذي لا يشرك صاحبه بالله شيئا أي شيء ـ يعفى لهم ما لا يعفى لغيرهم، لأن التوحيد المحض يحرق الذنوب والخطايا وإن كانت مثل زبد البحر، كما أن الشرك يمحق الحسنات وإن كانت عدد الرمل.

لقد كان الإسلام على الحق ـ كل الحق ـ حين وقف موقفة الصارم من الشرك بكل أنواعه. وحرم ـ أشد التحريم ـ أو توجه العبادة إلى غير الله جل ثناؤه.

فالعبادة ـ كما قال ابن سيده ـ نوع من الخضوع لا يستحقه إلا المنعم بأعلى أجناس النعم، كالحياة والفهم والسمع والبصر، لأن أقل القليل من العبادة يكبر عن أن يستحقه إلا من كان له أعلى جنس من النعمة، ألا وهو الله سبحانه، فلذلك لا يستحق العبادة إلا الله.

وقال الإمام الرازي:

إن العبادة عبارة عن نهاية التعظيم، وهي لا تليق إلا بمن صدر عنه غاية الإنعام، وأعظم وجوه الإنعام: الحياة التي تفيد المكنة من الانتفاع، وإليها الإشارة بقوله تعالى: (وقد خلقتك من قل وإن لم تك شيئا) وقوله: (كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم..؟ الآية). وخلق ما ينتفع به من الأشياء وإليها الإشارة بقوله تعالى: (هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا).

ومثله قوله سبحانه: (ألم تروا أن الله سخر لكم ما في السموات وما في الأرض وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة).

والحقيقة التي لا ريب فيها أن النعم التي تحيط بالإنسان في كل أطوار حياته، وتغمره من قرنه إلى قدمه، إنما هي من عند الله، كما قال سبحانه: (وما بكم من نعمة فمن الله).

يقول ابن القيم في "شفاء العليل":

"الرب تبارك اسمه، وتعالى جده ولا إله غيره ـ هو المنعم على الحقيقة بصنوف النعم، التي لا يحصيها أهل سماواته وأرضه. فإيجادهم نعمة منه.. وجعلهم أحياء ناطقين نعمة منه.. وإعطاؤهم الأسماع والأبصار والعقول نعمة منه.. وإدرار الأرزاق عليهم ـ على اختلاف أنواعها وأصنافها ـ نعمة منه.. وتعريفهم نفسه بأسمائه وصفاته وأفعاله نعمة منه.. وإجراء ذكره على ألسنتهم، ومحبته ومعرفته على قلوبهم، نعمة منه.. وحفظهم بعد إيجادهم نعمة منه.. وقيامه بمصالحهم دقيقها وجليلها نعمة منه.. وهدايتهم إلى أسباب مصالحهم ومعايشهم نعمة منه.. وذكر نعمه تعالى على سبيل التفضيل لا سبيل إليه ولا قدرة للبشر عليه".

فلهذا كان هو وحده الجدير بأن يعبد، ولا يشرك معه أحد ولا شيء في الأرض أو في السماء.

لم يكن الإسلام متعنتا ولا متزمتا إذن، حين قاوم الشرك إلى هذه الدرجة. فالشرك ـ في الحقيقة ـ هوان لا يليق بكرامة الإنسان، وأي هوان يصيب الإنسان أشد من هذا الشرك الذي يسخر الإنسان المكرم للحيوان والجماد، ويخيفه مما لا يخاف، ويرجيه فيما لا يرجى؟!

ثم إن الشرك ـ فضلا عما فيه من انحطاط وقذارة وهوان بالإنسان ـ هو كذب على الحقيقة، وتزوير على الواقع، وصدق الله: إذ يقول: (فاجتنبوا الرجس من الأوثان، اجتنبوا قول الزور، حنفاء لله غير مشركين به، ومن يشرك بالله فكأنما خر من السماء فتخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق).

أعلن الإسلام الحرب على هذا الشرك الضال المضل بكل ألوانه وأصنافه، ورفع من قيمة الإنسان، وأعلن أنه المخلوق المكرم المفضل المستخلف لله في الأرض، المصور في أحسن صورة وأحسن تقويم.

(ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر) (وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة) (لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم) (وصوركم فأحسن صوركم) (علم الإنسان ما لم يعلم) (وسخر لكم ما في السموات وما في الأرض جميعا منه).

فكيف يسجد الإنسان لهذه المخلوقات وهي له مسخرة، وفي مصلحته وخدمته مذللة؟ وكيف يسجد لها وقد سجدت الملائكة بأمر الله تحية له واحتفاء به (إذ قال ربك للملائكة إني خالق بشرا من طين، فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين، فسجد الملائكة كلهم أجمعون إلا إبليس).

أعلن الإسلام أنه ليس في العالم المخلوق شيء يستحق أن يسجد له الإنسان أو يتضرع إليه أو يرجوه أو يخشاه!

فالملائكة عباد لله خاشعون خاضعون (لا يستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون، يسبحون الليل والنهار لا يفترون) (لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون) (لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعلمون، يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يشفعون إلا لمن ارتضى وهم من خشيته مشفقون).

والبشر ـ وإن علا سلطانهم، أو عظم قدرهم، أنبياء كانوا أو سلاطين، هم أيضا عباد لله، لا يملكون لأنفسهم، فضلا عن غيرهم، ضرا ولا نفعا ولا موتا ولا حياة ولا نشورا.

والعبودية هي الوصف اللازم لهم جميعا (إن كل من في السموات والأرض إلا آتى الرحمن عبدا، لقد أحصاهم وعدهم عدا، وكلهم آتيه يوم القيامة فردا).

والشمس والقمر والنجوم إن هي إلا كواكب مسخرات بأمره تعالى، لا يجوز أن ينحني صلب من أجلها راكعا، أو يخر وجه من أجلها ساجدا (ومن آياته الليل والنهار والشمس والقمر لا تسجدوا للشمس ولا للقمر واسجدوا لله الذي خلقهن إن كنتم إياه تعبدون).

وكل ما يدعى من دون الله في الأرض أو السماء، هو مخلوق عاجز لا قدرة له، محتاج لا قيام له بذاته، ضعيف لا يقوى على حماية نفسه بله غيره (يأيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له، إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له، وإن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه، ضعف الطالب والمطلوب، ما قدروا الله حق قدره، إن الله لقوي عزيز) (قل ادعوا الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلا. أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه، إن عذاب ربك كان محذورا).

(إن الذين تدعون من دون الله عباد أمثالكم فادعوهم فليستجيبوا لكم إن كنتم صادقين).


سد الذرائع المفضية إلى الشرك

وقد احتاط الإسلام كل الاحتياط، فسد كل ذريعة تفضي إلى الشرك أو مشابهة المشركين.

فنجد نبي الإسلام صلى الله عليه وسلم يرفض في شدة وصراحة كل مبالغة في تعظيمه تظهره في غير مظهر العبودية لله، التي لا يفخر بغيرها، فيقول لأصحابه " لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى بن مريم، وقولوا: عبد الله ورسوله" متفق عليه.

وروى النسائي عن ابن عباس: أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم ما شاء الله وشئت فقال: أجعلتني لله ندا؟! قل: ما شاء الله وحده.

وروى الطبراني: أنه كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم منافق يؤذي المؤمنين فقال بعضهم: قوموا بنا نستغيث برسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا المنافق فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إنه لا يستغاث بي وإنما يستغاث بالله".

وهكذا علمهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يعطوا كل ذي حق حقه، فالعبد عبد والرب رب.

وروى النسائي عن أنس بسند جيد ـ أن أناسا قالوا: يا رسول الله، يا خيرنا وابن خيرنا، وسيدنا، وابن سيدنا، فقال: يا أيها الناس قولوا بقولكم ولا يستهوينكم الشيطان، أنا محمد عبد الله ورسوله، ما أحب أن ترفعوني فوق منزلتي التي أنزلني الله عز وجل". وفي رواية أنه قال لهم "السيد الله تبارك وتعالى".

إن الجماهير دائما تميل إلى الغلو في تعظيم القادة، بعضهم عن إخلاص، وبعضهم عن ملق، فكيف إذا كان القائد نبيا؟ وكيف إذا كان سيد النبيين؟!

ولكن النبي لقنهم درسا ألا يتجاوزوا به حد العبودية: "أنا محمد بن عبد الله ورسوله".

كما علمهم أن يعلنوا ل يوم تسع مرات، في الصلوات المفروضة، فضلا عن السنن والنوافل كلما جلسوا للتشهد: "أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله".



لا تتخذوا القبور مساجد

إن الغلو في تعظيم الصالحين والقديسين في حياتهم، والتبرك بآثارهم وقبورهم بعد مماتهم، هما أوسع أبواب الشرك بالله، وقد سدهما النبي صلى الله عليه وسلم سدا منيعا، فلم يقر أحدا على الغلو في تعظيمه حيا أو تعظيم قبره ميتا، بل دعا ربه فقال: اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد.

وعن علي بن الحسين ـ زين العابدين ـ رضي الله عنهما: أنه رأى رجلا يجئ إلى فرجة كانت عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم فيدخل فيها فيدعو، فنهاه وقال: "ألا أحدثكم حديثا سمعته من أبي عن جدي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ وقال: "لا تتخذوا قبري عيدا ولا بيوتكم قبورا فإن تسليمكم ليبلغني إينما كنتم".

وفي الصحيح عن عائشة: أن أم سلمة ذكرت لرسول الله صلى الله عليه وسلم كنيسة رأتها بأرض الحبشة وما فيها من الصور، فقال: أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح أو العبد الصالح بنوا على قبره مسجدا وصوروا فيه تلك الصور، أولئك شرار الخلق عند الله".

فهؤلاء ـ كما قال العلماء ـ جمعوا بين فتنة القبور، وفتنة التماثيل.

وروى الشيخان عنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم (وهو في اللحظات الأخيرة له يودع الدنيا ويستقبل الآخرة) كان يقول: لعنة الله على اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد. يحذر ما صنعوا، ولولا ذلك أبرز قبره، غير أنه خشي أن يتخذ مسجدا.

وكل هذا احتياط من النبي صلى الله عليه وسلم لأمته، فالقليل يجر إلى الكثير، والصغير يدفع إلى الكبير، فربما تدرج بهم الأمر إلى تلك القبور فعظموها مع الله، وأصبحت شبيهة بالأصنام تبركا وتمسحا بها، وطوافا حولها، وتقبيلا لجوانبها، والتماسا للبركات عندها أو منها، كما يفعل ذلك اليوم بعض الضالين من المسلمين، ويعتذر لهم بعض الخادعين أو المخدوعين.

وقد روى أهل العلم في أصنام قوم نوح "ود وسواع ويغوث ويعوق ونسر" أنها أسماء قوم صالحين، لما ماتوا عكفوا على قبورهم، ثم صوروا تماثيلهم، ثم طال عليهم الأمد فعبدوهم!

وقد أنكر أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم كل ما يشتم منه رائحة التقديس لمكان أو شيء من مخلوقات الله، فعن المعرور بن سويد قال: صليت مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه في طريق مكة صلاة الصبح، ثم رأى الناس يذهبون مذاهب، فقال: أين يذهب هؤلاء فقيل: يا أمير المؤمنين، مسجد صلى فيه النبي صلى الله عليه وسلم فهم يصلون فيه، فقال: إنما هلك من كان قبلكم بمثل هذا: كانوا يتبعون آثار أنبيائهم ويتخذونها كنائس وبيعا، فمن أدركته الصلاة منكم في هذه المساجد فليصل، ومن لا فليمض ولا يتعمدها، وكذلك أرسل عمر رضي الله عنه أيضا فقطع الشجرة التي بايع تحتها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.

كما نهى الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم عن الصلاة عند طلوع الشمس أو عند زوالها أو عند غروبها، بعدا بالمسلم عن مظنة المشابهة لعباد الشمس الذين يسجدون لها في هذه الأوقات.



لا حلف إلا بالله

ومما منعه النبي صلى الله عليه وسلم أن يحلف المسلم بغير الله تعالى، فالحلف تنظيم وتقديس للمحلوف به، ولا ينبغي أن يكون التعظيم والتقديس إلا للخالق جل وعلا، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: "من كان حالفا فلا يحلف إلا بالله"، "من حلف بغير الله فقد أشرك"، "لا تحلفوا بآبائكم". وكانوا يحلفون فيقولون: والكعبة فأمرهم النبي إذا أرادوا أن يحلفوا أن يقولوا: ورب الكعبة.



لا ذبح ولا نذر إلا لله

وحرم الإسلام على المسلم أن يذبح لغير الله فقال عليه السلام "لعن الله من ذبح لغير الله".

وقد جعل من الأطعمة المحرمة ما أهل لغير الله به (أي رفع الصوت عند ذبحه باسم غير الله) وكذلك ما ذبح على النصب.

وهكذا حمى الإسلام جناب التوحيد، وسد منافذ الشرك.



أوثان جديدة يجب الحذر منها

ومن واجبنا ونحن نتبين تحذير الإسلام من الشرك بكل صوره ـ أن ننبه على أوثان جديدة غزت عقيدة التوحيد الخالصة في هذا العصر، إن بعض السطحيين من المتدينين أنفسهم يحصرون الشرك وعبادة غير الله في صورة واحدة، هي الوثنية التقليدية التي تتمثل في عبادة إله أو آلهة مجسمة أو منظورة، تقدم الصلوات والقرابين إليها، وتلتمس المنافع والبركات من بين يديها.

ونسي هؤلاء أن الشرك مراتب وأنواع، وأن الأصنام منها ما يرى ومنها ما لا يرى، وأن العبادة منها التقليدي وغير التقليدي.

من الشرك أكبر وأصغر، ومنه جلي وخفي، بل منه ما هو أخفى من دبيب النمل على الصفا.

ومن الأوثان ما يعبده الناس ويقدمون له الولاء، وإن لم يسموه وثنا أو إلها أو ربا، ولم يسموا ما يقدمونه إليه عبادة، ولكن العبرة بالمقاصد لا بالألفاظ، وبالمسميات لا بالأسماء.

لهذا حذر الإسلام من الشرك كله: أكبره وأصغره، جليه وخفيه، وأغلق كل المنافذ التي تهب منها ريحه السموم، حماية لحمى التوحيد.

حتى رأينا النبي صلى الله عليه وسلم يعد الرياء شركا.

ويعتبر القسم بغير الله شركا.

وينكر على من قال له: ما شاء الله وشئت يا رسول الله، فيقول له: أجعلتني لله ندا؟! قل: ما شاء الله وحده.

وينهى أن يقول المسلم: هذه لله وللرحم، أو لوجه الله وفلان، فإن الله لا يقبل الشركة، وإنه لأغنى الأغنياء عن الشرك.

كما رأيناه ـ صلى الله عليه وسلم ـ يعد تقديس المقابر والأضرحة ضربا من الوثنية، وهذا ما جعله يدعو ربه فيقول: "اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد".

بل رأينا القرآن الكريم يلفتنا إلى "وثن" أو "إله" خطير، يتعبد له الملايين وهم لا يشعرون، وذلك هو "الهوى". أفرأيت من اتخذ إلهه وهواه وأضله الله على علم.." أرأيت من اتخذ ألهه هواه أفأنت تكون عليه وكيلا".

وفي عصرنا هذا ظهرت أوثان ومعبودات شتى، أصبحت تمتلك قلوب الناس ومشاعرهم وولاءهم، بذكرها يهتفون، وباسمها يقسمون، وفي سبيلها يجاهدون ويستشهدون، تلك هي أوثان الوطنية والقومية وما شاكلها.

تدخل المدارس والجامعات، وتشهد المؤتمرات والندوات، وتقرأ الصحف والمجلات، وتسمع برامج الإذاعات، فلا تكاد تسمع لله ذكرا، أو تجد له مكانا، وإنما تجد معبودا آخر، تدور حوله كل الأفكار، وكل المشاعر، وكل الأعمال، إلا القليل، أو أقل القليل، إنه "الوطن" أو القومية ـ العروبة مثلا ـ أو المجتمع أو الدولة أو غير ذلك من أصنام هذا العصر.

ومن السائد المنتشر الآن البداءة باسم الوطن أو الشعب، وإن تكرم فباسم الله واسم الشعب، والحلف باسم الوطن أو الشعب "أقسمت باسمك يا بلادي" والجهاد في سبيل الوطن أو العروبة، فإن قتل فهو شهيد الوطن أو العروبة ونحوها.

وهذا هو أخطر أنواع الشرك التي دخلت على المسلمين من حيث لا يشعرون، وسجلها الدارسون الأيقاظ، بوصفها ظاهرة جديدة في حياة المسلمين.

يقول الأستاذ برنارد لويس:

"كل باحث في التاريخ الإسلامي يعرف قصة الإسلام الرائعة في محاربته لعبادة الأوثان منذ بدء دعوة النبي صلى الله عليه وسلم وكيف انتصر النبي صلى الله عليه وسلم وصحبه وأقاموا عبادة الإله الواحد التي حلت محل الديدنات الوثنية لعرب الجاهلية، وفي أيامنا هذه تقوم معركة مماثلة أخرى ولكنها ليست ضد (اللات) و(العزى) وبقية آلهة الجاهلية، بل ضد مجموعة جديدة من الأصنام اسمها الدولة: والعنصر والقومية، وفي هذه المرة يظهر أن النصر حتى الآن هو حليف الأصنام!!! فإدخال هرطقة القومية العلمانية أو عبادة (الذات الجماعية) كان أرسخ المظالم التي أوقعها الغرب على الشرق الأوسط، ولكنها مع كل ذلك كانت أقل المظالم ذكرا وإعلانا.

------------------------------------------------------------------------------------------------------------------
تحرير العبادة من رق الكهنوت

رجال الكهنوت في العصور الوسطى
الله فوق عباده
تحرير العبادة من قيود المكان
الله مع عباده
تحرير الضمير من قيود الوساطة في العبادة
لا مكان للوسطاء في الإسلام

لقد أفسد الناس الأديان.. أنزلها الله لتسمو بهم فهبطوا هم بها! والعجب أن فسادها كان من رجال الأديان أنفسهم، لقد جعلوا من أنفسهم حجابا على باب الله الفسيح، مهمتهم أن يمنعوا الناس الاتصال المباشر به أو التقرب المباشر إليه، إنهم احتكروا لأنفسهم الصلة بالله والقرب منه، ووجدوها بضاعة رائجة وسلعة تشتد الحاجة إليها، فبالغوا في احتكارها وإغلاء أسعارها.

ومن ثم قيدوا العبادات بمكان معين ـ يدخل في سلطتهم ـ لا تجوز إلا فيه. وقيدوها بوسيط معين، يقوم بعملية السمسرة بين الله وعباده، وقيدوها بمراسم وطقوس كهنوتية خاصة لا تقبل بدونها.

وكل هذا يحتاج إلى إتاوات تبذل، وجعالات تدفع للأحبار والكهنة، المحتكرين لهذا الصنف من العلاقات!


رجال الكهنوت في العصور الوسطى

وقد بالغ رجال الدين المسيحي بالغرب في العصور الوسطى في فرض هذه المظاهر الكهنوتية فعلقوا في معابدهم رسوما وتماثيل للعذراء والمسيح، وأيقونات ونحوها، وعدتها الكنيسة شعائر تعبدية واجبة التقديس.

وكان أعجب ما صنعوه أنهم اتخذوا من الجنة مصدرا للثروة يبيعون منها قراريط وأسهما لمن يدفع الثمن المعلوم، وعلى قدر المدفوع يكون عدد الأسهم، ومن الطرائف اللاذعة ما حكوا أن أحد أثرياء اليهود أراد أن يقابل هذه السخريات العجيبة بسخرية أمر وأعجب، فقد ذهب إلى أحد البابوات ولم يشتر منه الجنة، كما كان يفعل المسيحيون، ولكنه اشترى منه صفقة أخرى هي: جهنم! فباعها له بثمن بخس: لأنها سلعة لا يرغب فيها أحد، ولكن اليهودي الماكر أعلن للمسيحيين جميعا: ألا يبالوا بشراء الجنة بعد اليوم، لأنه هو قد اشترى من البابا جهنم، ولن يدخل أحدا فيها!! قالوا: فعاد البابا واشتراها بأضعاف ما باعها به!

وكل قارئ للتاريخ يعرف ثروة "لوثر" على ما أسموه "صكوك الغفران".

والرؤساء الروحانيون في المسيحية يزعمون أن لهم سلطة المنح والمنع، والغفران والحرمان، والإدخال في رحمة الله، والطرد منها، لأن المسيح قال لبعض تلاميذه: سأعطيك مفاتيح ملكوت السموات، فكل ما ربطته على الأرض يكون مربوطا في السموات، وكل ما حللته على الأرض يكون محلولا في السموات.


تحرير العبادة من قيود المكان

أما الإسلام فكان له شأن آخر في تقرير الصلة بالله والعبادة له.

لقد حرر الإسلام العبادة من قيود الوساطة والمكان وكل مظاهر العبودية للكهنوت.

فالأرض كلها محراب كبير للمسلم، فحيثما توجه يستطيع أن يتجه بعبادته إلى الله، وفي هذا يقول القرآن العظيم (ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله) ويقول الرسول الكريم في بيان الخصائص التي أعطيتها أمته ولم تعطها أمة قبلها: (وجعلت لي الأرض مسجدا طهورا، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل).

وقد كانت هذه الخصيصة للعبادة الإسلامية موضع الإعجاب العظيم والتأثير البالغ من كثيرين من غير المسلمين، حتى من رجال الأديان أنفسهم، حتى قال أحدهم ـ وهو أسقف "لوفروا": لا يستطيع أحد يكون خالط المسلمين لأول مرة، ألا يدهش ويتأثر بمظهر عقيدتهم، فإنك حيثما كنت سواء أوجدت في شارع مطروق أم في محطة سكة حديدية أم في حقل ـ كان أكثر ما تألف عينك مشاهدته أن ترى رجلا ليس عليه أدنى مسحة للرياء، ولا أقل شائبة من حب الظهور، يذر عمله الذي يشغله كائنا ما كان، وينطلق في سكون الليل وتواضع لأداء صلاته في وقتها المعين".

ولقد كان هذا المشهد الفريد في الأديان أحد العوامل التي أثرت في وجدان المحامي الكبير الأستاذ زكي عريبي عميد الطائفة اليهودية في مصر والذي اهتدى إلى الإسلام في عام 1960م، ومما جاء في محاضرته "لماذا أسلمت؟" قوله:

"وما سمعت المؤذن يؤذن في الفجر أو في الظهر أو في وقت آخر إلا شعرت بأن صوت المؤذن ينبعث من الأفق من فوق المئذنة، شعرت بأنه صوت الله، الذي يفصل بين الحق والباطل والحلال والحرام، ويهدي الإنسان إلى الطريق المستقيم، وأركب السيارة في السفر وعلى الطريق بين الحقول وبين الفضاء تقع عيني على رجل متواضع يقف بين يدي الله في ثياب رثة مهلهلة، يقف على مصلى صغير، مفروش بالرقيق من الحصير على شاطئ ترعة متواضعة أيضا، يقف الرجل يصلي لله في خشوع وابتهال، فكانت نفسي تهفو إلى أن أصلي مثل صلاته، كنت أعتقد أن هذه نفحات الله في الأرض يلقيها في نفوس عباده الصالحين".

حرر الإسلام العبادة من القيود المكانية المتزمتة، ولم يشترط المكان الخاص في عبادة من عباداته إلا في الحج، لما فيه من فوائد تفوق فائدة التحرر من المكان، من التجمع العالمي للمسلمين حول أول بيت وضع للناس، وفي أرض الذكريات الإبراهيمية، والذكريات المحمدية، إلى آخر ما سنذكر في أسرار الحج.

تحرير الضمير من قيود الوساطة في العبادة

ومع اشتراط المكان لعبادة الحج، فليس فيه أي شائبة لتأثير الكهنوت، وليس فيه أي ثغرة لتدخل الوسطاء والكهان بين المسلم وبين الله، وشأنه في ذلك شأنه في سائر عبادات الإسلام.

يقول الأستاذ العقاد: إن عبادات الإسلام قد امتازت بين عبادات الأديان بمزية لا نظير لها، فهي أرفعها وأرقاها بالنظر إلى حقيقتها، أو بالنظر إلى جماهير المتدينين بها، وتلك مزيته البينة التي يرعى بها استقلال الفرد في مسائل الضمير خير رعاية تتحقق لها في نظام حياة.

فالعبادات الإسلامية بأجمعها تكليف لضمير الإنسان وحده، لا يتوقف على توسيط هيكل أو تقريب كهانة.

يصلي حيث أدركه موعد الصلاة، وأينما تكونوا فثم وجه الله.

ويصوم ويفطر في داره أو في موطن عمله.

ويحج ليذهب إلى بيت لا سلطان فيه لأصحاب سدانة، ولا حق عنده لأحد في قربانه، غير حق المساكين والمعوزين.

ويذهب إلى صلاة الجماعة، فلا تتقيد صلاته الجامعة بمراسم كهانة أو إتاوة محراب، ويؤمه في هذه الصلاة الجامعة من هو أهل للإمامة بين الحاضرين باختيارهم لساعتهم إن لم يكن معروفا عندهم قبل ذلك، إنه الدين الذي نتعلم فيه أن الإنسان مخلوق مكلف، لا جرم تقوم عباداته على رعاية حق الضمير واستقلاله بمشيئته أكرم رعاية".

إن عقيدة المسلم في الله لا تتيح مكانا لأولئك الوسطاء الذين يتحكمون في ضمائر عباد الله.

فاعتقاد المسلم في الله يقوم على حقيقتين:


الله فوق عباده

أولاهما: أنه تعالى فوق عباده علوا وقهرا، وسلطانا وتصرفا، لا يشبهه شيء، ولا يحكم عليه شيء، ولا يقع في ملكه إلا ما يريد. (وهو القاهر فوق عباده، وهو الحكيم الخبير) (ليس كمثله شيء وهو السميع البصير) (قل هو الله أحد الله الصمد، لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد) (والخلق جميعا عبيد في قضبته، لا يملكون لأنفسهم ـ فضلا عن غيرهم ـ ضرا ولا نفعا ولا موتا ولا حياة ولا نشورا).

ويتمثل هذا العلو الإلهي على الخلق في آية من القرآن عرفت عند المسلمين بآية الكرسي: (الله لا إله إلا هو الحي القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم له ما في السموات وما في الأرض، من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه؟ يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم، ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء، وسع كرسيه السموات والأرض، ولا يؤده حفظهما، وهو العلي العظيم).


الله مع عباده

والحقيقة الثانية: أنه تعالى ـ مع عظمته وعلو شأنه ـ قريب من خلقه، بل هو معهم أينما كانوا، في جلوتهم وفي خلوتهم، يسمع ويرى، ويرعى ويهدي، يعطي من سأله، ويجيب من دعاه، فهو تعالى قريب في علوه، علي في دنوه، وقد جمع تعالى بين العظمة والعلو، وبين القرب والدنو، في آية واحدة، فقال تعالى: (هو الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش، يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها، وما ينزل من السماء وما يعرج فيها، وهو معكم أينما كنتم والله بما تعلمون بصير).

وقد عبر القرآن على لسان إبراهيم ـ أبي الأنبياء ـ عن العلاقة بين الإنسان والله فقال: (الذي خلقني فهو يدين، والذي هو يطعمني ويسقين، وإذا مرضت فهو يشفين، والذي يميتني ثم يحيين، والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين).

وقال الله سبحانه مبينا قربه من عبده: (ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه، ونحن أقرب إليه من حبل الوريد) (ونحن أقرب إليه منكم ولكن لا تبصرون).

وروى المفسرون أن رجلا جاء يسأل النبي صلى الله عليه وسلم: أقريب ربنا فنناجيه أم بعيد فنناديه، فنزل القرآن يجيب عن هذا السؤال بهذه الآية الكريمة: (وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداعي إذا دعان).

ون اللطائف في هذه الآية: أن سؤال الرسول صلى الله عليه وسلم عن بعض الأمور قد وقع في القرآن بضع عشرة مرة، وكان كل جواب عن تلك الأسئلة مقترنا بكلمة (قل) مثل ـ (يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت) (يسألونك ماذا ينفقون قل العفو) وكان مقتضى تلك الآيات أن يقال في هذه: وإذا سألك عبادي فقل: إني قريب، ولكن أسلوب الآية خالف المعتاد ولم يأمر الله رسوله أن يقول للناس ذلك، وقال سبحانه مباشرة (فإني قريب) ولهذا الأسلوب دلالته وإيحاؤه في الأنفس والعقول، إذ لم يجعل الله واسطة بينه وبين عباده، كأنه قال لرسوله لا تبلغهم أنت عني، كما تبلغ في أسئلة الأحكام، ولكن دعني أنا أقول لهم: إني قريب!

ولما رأى النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه يجهرون بالدعاء قال لهم: "اربعوا على أنفسكم، إنكم لا تدعون أصم ولا غائبا ولكن تدعون سميعا قريبا".


لا مكان للوسطاء في الإسلام

وبهاتين الحقيقتين: أنه تعالى فوق عباده قهرا وعلوا وسلطانا، وأنه قريب منهم، بل معهم، علما وإحاطة، ورعاية وإجابة ـ يتبين لنا أن لا مكان في الإسلام للوسطاء والسماسرة الذين يدعون الشفاعة عند الله، ويزعمون احتكار الوساطة لديه، ويبيعون ويشترون في خلق الله، كما يصنع أنصار الملوك الجبارين، والرؤساء المستبدين.

نعم: لا مكان لهؤلاء، لأن الله في عقيدة الإسلام أجل وأعلى من أن يكون له وسطاء أو شفعاء يعلمونه من أمر الناس بما لم يكن يعلم، أو يوجهون إراداته إلى ما لم يكن يريد، وهو سبحانه أكرم من أن يدع رحمته وجنته غنيمة لهؤلاء الدجاجلة المضللين، يوزعونها بالأسهم والقراريط، فله وحده الخلق والأمر، وله وحده الملك والملك، وله وحده العقوبة والعفو، وقد قال تعالى ردا على من زعم أن الملائكة أبناء الله: (بل عباد مكرمون لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون، يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يشفعون إلا لمن ارتضى وهم من خشيته مشفقون).

ورد على من زعم من اليهود والنصارى: أن لهم منزلة خاصة من الله (وقالت اليهود والنصارى: نحن أبناء الله وأحباؤه قل: فلم يعذبكم بذنوبكم؟ بل أنتم بشر ممن خلق، يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء ولله ملك السموات والأرض وما بينهما وإليه المصير).

وحكى عن المسيح أنه يقول لربه يوم القيامة في شأن من ادعوا الانتساب إلى دينه: (إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم).

وعرف خاتم رسله محمدا حدود وظيفته فقال: (فذكر إنما أنت مذكر، لست عليهم بمسيطر) (قل لا أملك لنفسي نفعا ولا ضرا إلا ما شاء الله، ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير، وما مسني السوء، إن أنا إلا نذير وبشير لقوم يؤمنون).

فهل بعد هذا يمكن أن يعتقد المسلم في وجود "وسيط" يملك "التأثير" في إرادة الله رب العالمين؟!

ثم لا مكان لهؤلاء الوسطاء أيضا، لأن المسلم لا يشعر يوما بحاجته إلى أحد منهم في الصلة بينه وبين ربه. إنه يوقن أن الله أقرب إليه من نفسه، وأنه معه حيث كان، وأنه يدنو منه كل ليلة فينادي: هل من داع فأستجيب له؟ هل من مستغفر فأغفر له؟ هل من تائب فأتوب عليه؟ هل من كذا؟ هل من كذا؟ وأنه تعالى يحب التوابين ويحب المتطهرين، وأنه تعالى إذا تقرب عبده إليه شبرا تقرب هو إليه ذراعا، وإذا تقرب إليه ذراعا، تقرب سبحانه إليه باعا.

إنه يستطيع أن يكلم ربه بلا ترجمان، وأن يناجيه بما شاء حيث شاء ومتى شاء، وأن يقف بين يديه بلا حجاب.

فما حاجته إذا إلى الوسيط المزعوم؟

إن الوسيط الفذ الذي يعترف به الإسلام هو العمل الصالح مع الإيمان: (ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءا يجز به ولا يجد له من دون الله وليا ولا نصيرا، ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون نقيرا).

----------------------------------------------------------------------------------------------------------------

إخلاص القلوب أساس القبول

مقدمة

بركة النية الصالحة

العبادة المقبولة عند الله

إنما الأعمال بالنيات


إن المبدأ الثالث الذي وضعه الإسلام في شأن العبادة: أن أساس القبول لأي عبادة هو إخلاص القلوب لله تعالى، فإن حقيقة العبادة ليست شكلا يتعلق بالمظهر، ولا رسما يتصل بالجسد، ولكنها سر يتعلق بالقلب، وإخلاص ينبع من الروح، فإذا لم يصدق قلب المسلم في عبادته، ولم يخلص لله في طاعته، وأداها رسوما خالية من الروح، كما ينطق الأبله بالألفاظ الخالية من المعنى، فهناك يردها الله عليه، كما يرد الصيرفي النقاد الدارهم الزائفة. قال تعالى: (وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء) (إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق فاعبد الله مخلصا له الدين) (قل إني أمرت أن أعبد الله مخلصا له الدين) (قل الله أعبد مخلصا له الدين).

وقد افترى بعض المبشرين والمستشرقين على الإسلام، فزعموا أنه لا يعنى إلا بالمراسم والأشكال في العبادات، ولا يعنى بالقلب والنية والضمير، ورد هذه الفرية عليهم مستشرقون آخرون لم يسلم الإسلام منهم أيضا.. بيد أنهم لم يسيغوا هذا الكذب الوقاح والجهل الصراح.

قال جولد زيهر في كتابه عن "العقيدة والشريعة في الإسلام":

"مما لا شك فيه أن الإسلام شريعة، فهو يخضع المؤمنين به لأعمال شعائرية، ومع ذلك.. فإن معين التعاليم الإسلامية الأولى ـ وهو القرآن ـ يعتبر صراحة: أن الأعمال بالنيات، ويعد النية معيارا للقيمة الدينية: ويرى أنه إذا لم تقترن دقة احترام الشريعة بأعمال رحمة وخير كانت قليلة القيمة.

(ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب وأقام الصلاة وآتى الزكاة والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون).

"وفيما يتعلق بشعائر الحج التي نظمها، من بين تقاليد الوثنية العربية ـ استنادا إلى كلمة الله: (لكل أمة جعلنا منسكا ليذكروا اسم الله على ما رزقهم) ـ جعل محمد أهمية كبرى لنية التقوى التي يجب أن تصحب هذه الشعيرة حين يقول: "لن ينال الله لحومها ولا دماؤها، ولكن يناله التقوى منكم".

"والجزء الأكبر للإخلاص ـ كما في سورة غافر (فادعوا الله مخلصين له الدين) ولتقوى القلوب ـ كما في سورة الحج (ذلك ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب) ـ وللقلب السليم ـ كما في سورة الشعراء (يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم).

فهذه هي وجهة النظر التي تسود في تقدير الفضل الديني للمؤمنين.

"وهذا الإقناع قد نما فيما بعد بفضل التعاليم المستخلصة من السنة، والتي ما لبثت أن شملت جميع نواحي الحياة الدينية، وبفضل نظرية النية والقصد والروح التي تلهم الأعمال، والتي اتخذت معيارا لقيمة العمل الديني، فمجرد ظل لباعث من بواعث الأثرة أو الرياء يجرد كل عمل طيب من قيمته.

فالقلب هو الأساس في الإسلام، وهو موضع نظر الله تعالى، ومحل عنايته، وهو مستند القبول والفلاح في الآخرة، وفي هذا يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "إن الله لا يحب أن ينظر إلى أجسامكم ولا إلى صوركم، ولكن ينظر إلى قلوبكم"، "ألا إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب". ويقول القرآن: (وأزلفت الجنة للمتقين غير بعيد، هذا ما توعدون لكل أواب حفيظ، من خشي الرحمن بالغيب وجاء بقلب منيب، ادخلوها بسلام ذلك يوم الخلود).


العبادة المقبولة عند الله

ولهذا يرى الإسلام أن العبادة المرضية عند الله ليست هي ذلك الشبح الخالي من الروح، وإنما هي تلك التي تصاحبها النية الصادقة، ويسري فيها روح الإخلاص سريان العصارة في أغصان الشجرة الناضرة، فتؤتي في النفس أكلها، وتثمر في الخلق والسلوك ثمرتها، وتذكر صاحب العبادة بحق الله، وتنبهه على حقوق الناس، فليست كل صلاة جديرة بالقبول عند الله، فإن من الصلوات ما يضرب بها وجه صاحبها، ومن هنا قال تعالى في شأن الصلاة المقبولة: (وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر) فإن الصلاة ـ كما قال ابن تيمية ـ فيها دفع لشر مكروه، وهو الفحشاء والمنكر، وفيها تحصيل لخير محبوب، وهو ذكر الله، وحصول هذا المحبوب أكبر من دفع ذلك المكروه، فإن ذكر الله عبادة الله، وعبادة القلب لله مقصودة لذاتها، وأما اندفاع الشر عنه، فهو مقصود لغيره على سبيل التبع، فإن القلب خلق يحب الحق ويريده ويطلبه، فلما عرضت له إرادة الشر طلب دفع ذلك، فإنها تفسد القلب، كما يفسد الزرع بما ينبت فيه من الدغل، ولذا قال تعالى: (قد أفلح من زكاها، وقد خاب من دساها) (قد أفلح من تزكى، وذكر اسم ربه فصلى).

فإذا لم تؤد الصلاة مهمتها في إيقاظ الضمير، وغرس خشية الله ومراقبته في النفس، تلك التي تؤدي إلى الانتهاء عن الفحشاء والمنكر، فإن صلاته تلك تكون صلاة بتراء ناقصة، تكون جثة هامدة تنقصها الحياة وقد جاء في بعض الآثار: "من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر فلا صلاة له".

وما قلناه في الصلاة نقوله في الصيام، فليس كل صيام يحظى بدرجة الرضا عند الله، ما لم يؤد إلى التقوى التي جعلها القرآن مرجوة بحصوله: (يأيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون) فإذا لم يؤد إلى هذه التقوى، وصام بطنه وفرجه، ولم يصم لسانه ولا جوارحه ولا قلبه، فحري بصيامه أن يرد وأن يكون عملة زائفة، وأن ينطبق عليه ما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم: "من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه" وقال عليه السلام: "رب صائم ليس له من صيامه إلا الجوع، ورب قائم ليس له من قيامه إلا السهر".

ومن أجل ذلك كله كان السلف الصالحون من المسلمين يهتمون بالصوم عن اللغو والحرام، كما يصومون عن الشراب والطعام.

قال عمر: ليس الصيام من الشراب والطعام وحده، ولكنه من الكذب والباطل واللغو" وروي عن علي مثله.

وعن جابر قال: إذا صمت فليصم سمعك وبصرك ولسانك عن الكذب والمآثم، ودع أذى الخادم، وليكن عليك وقار وسكينة يوم صيامك، ولا تجعل يوم فطرك ويوم صيامك سواء.

وقال ميمون بن مهران: أهون الصيام الصيام عن الطعام.

وكذلك الزكاة والصدقة، إذا داخلها رياء، أو لحقها من أو أذى للفقير، فإن ذلك يفسدها ويحبط ثوابها، فليس المهم هو المال الذي تعطيه اليد الغنية لليد المستحقة
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://resalahmasriyah.mam9.com
 
كتاب العبادة - للشيخ القرضاوي - الباب الخامس
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
رسالة مصرية ثقافية :: ديني :: كتب دينية-
انتقل الى: