رسالة مصرية ثقافية
مرحبا بك أخي الزائر نشكر زيارتك ونتمني انضمامك للمنتدي
زيارتك تسر إدارة المنتدي ومشاركتكك تسعدنا وتساهم معنا بارتفاع الثقافة العامة
بعض المنتديات الفرعية والموضوعات
لا يمكنك الإطلاع عليها إلا بعد التسجيل كعضو في المنتدي
رسالة مصرية ثقافية
مرحبا بك أخي الزائر نشكر زيارتك ونتمني انضمامك للمنتدي
زيارتك تسر إدارة المنتدي ومشاركتكك تسعدنا وتساهم معنا بارتفاع الثقافة العامة
بعض المنتديات الفرعية والموضوعات
لا يمكنك الإطلاع عليها إلا بعد التسجيل كعضو في المنتدي
رسالة مصرية ثقافية
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

رسالة مصرية ثقافية

ثقافية - علمية - دينية - تربوية
 
الرئيسيةرسالة مصريةأحدث الصورالتسجيلدخول

 

 الفصل الخامس عشر -العصر الأخير: حقبة متقلقلة

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
Eng. Ahmedzoubaa
Admin
Eng. Ahmedzoubaa


عدد المساهمات : 1216
تاريخ التسجيل : 28/08/2010
العمر : 50

الفصل الخامس عشر -العصر الأخير: حقبة متقلقلة  Empty
مُساهمةموضوع: الفصل الخامس عشر -العصر الأخير: حقبة متقلقلة    الفصل الخامس عشر -العصر الأخير: حقبة متقلقلة  Emptyالخميس 16 يونيو 2011 - 5:57

عالم 1945

منظمة الأمم المتحدة:

إن من أهم القرارات التي اتخذت خلال الحرب العالمية الثانية قرار تأسيس منظمة دولية جديدة. وقد ولدت منظمة الأمم المتحدة في سان فرانسيسكو في عام 1945، وكانت بنيتها تشبه بنية عصبة الأمم، فكانت الهيئتان الأساسيتان فيها هما مجلس صغير وجمعية عامة كبيرة، كان فيها في البداية ممثلون دائمون عن إحدى وخمسون دولة.

أما مجلس الأمن فلم يكن فيه إلا خمس أعضاء دائمين هم: الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي، وبريطانيا وفرنسا والصين، وكان أعضاؤه الآخرون يختارون بالتناوب من بين الدول الأخرى الأعضاء في الأمم المتحدة، وكانت له سلطات أوسع من مجلس عصبة الأمم، خاصة بسبب خوف السوفييت من أن تغلبهم أصوات الآخرين في الجمعية العامة.

ونتيجة لذلك منح الأعضاء الدائمون سلطة النقض (الفيتو) من أجل الدفاع عن مصالحهم الأساسية، ولم يرض هذا الأمر جميع الدول الصغيرة، ولكن كان لابد من تبنيه إذا أريد للمنظمة أن تعمل أصلاً.

وسرعان ما بدا نفوذ الجمعية العامة واضحاً كمكان للنقاش، وللمرة الأولى صار الجمهور العالمي مرتبطاً بعضه ببعض عن طريق المذياع والسينما ثم التلفزيون، وصار يتوقع من الدول ذات السيادة أن تقدم حججاً مقنعة لتصرفاتها، وقد لزمه وقت أطول بكثير لكي يصبح له تأثير فعال في العديد من مشاكل العالم.

اجتمعت الجمعية العامة للمرة الأولى في لندن في عام 1946، وقد نشب الشجار على الفور، فعندما قدمت شكاوى من استمرار وجود الجنود السوفييت في أذربيجان الإيرانية والتي احتلت أثناء الحرب رد الروس فوراً بمهاجمة بريطانيا لأنها أبقت قوات لها في اليونان.

وخلال أيام قليلة استخدم أول فيتو وكان سوفييتياً، وسوف يتكرر هذا الأمر كثيراً، وسرعان ماتحولت الأداة التي تخيلتها القوى الأخرى وسيلة استثنائية لحماية المصالح الخاصة إلى أداة مألوفة في الدبلوماسية السوفييتية. ومنذ عام 1946 بدا أن الاتحاد السوفييتي يتنازع في الأمم المتحدة مع كتلة غربية غير متبلورة بعد، وقد ساهم هذا كثيراً في تحويل المظاهر إلى واقع.

الفصل الخامس عشر -العصر الأخير: حقبة متقلقلة  Un

القوى العظمى

كان المسؤولون والشعب في الولايات المتحدة أقل ارتياباً بالعالم في عام 1945 مما صاروا عليه فيما بعد، بينما كان الاتحاد السوفييتي يبدي قدراً أكبر بكثير من الريبة والحذر. ولم تبق هناك في الحقيقة قوى عظمى في عام 1945 عدا عن هاتين القوتين، فرغم الأوهام التي ظهرت في التركيب القانوني لمجلس الأمن كانت بريطانيا ترزح تحت ضغط كبير جداً، وكانت فرنسا بالكاد تنهض من كابوس الاحتلال وتنهشها الانقسامات الداخلية، ولم تكن الصين قد بلغت مرتبة القوة العظمى قط في الأزمنة الحديثة. أما ألمانيا واليابان فكانتا محتلتين ومخربتين ولو أن دمار الثانية كان أقل بقليل من الأولى، لذلك كان الأمريكان والروس يتمتعون بتفوق عظيم على جميع منافسيهم، وكانوا هم المنتصرين الوحيدين، وهو وحدهم حصلوا على مكاسب إيجابية من الحرب.

كان الاتحاد السوفييتي قد اكتسب وضعاً أقوى مما بلغته روسيا القيصرية في أي يوم من أيامها، ولو أنه دفع الثمن باهظاً. وكان لديه درع أوروبي واسع أكثره مكون من أراضي سوفييتية وبقيته مقسمة إلى دول ضعيفة وصديقة له، كما كانت له حاميات في شرق ألمانيا، وهي منطقة صناعية كبرى.

أما وراء هذا الدرع فتقع يوغوسلافيا وألبانيا، وهما الدولتان الشيوعيتان الوحيدتان اللتان نشأتا منذ أيام الحرب من دون مساعدة الاحتلال السوفييتي، وكانت كلتاهما حليفتين لموسكو في عام 1945، والأهم من هذا أن الهيمنة الإستراتيجية السوفييتية في أوروبا الوسطى لم يكن يواجهها أي من الحواجز القديمة التي كانت تواجه سلطة روسيا.

ولم يكن بإمكان بريطانيا وفرنسا المنهكتين أن تتصديا للجيش الأحمر، فلم يكن ثمة قوة توازن قو السوفييت إذا ماعاد الأمريكيون إلى بلادهم، وكانوا قد بدؤوا بالعودة في عام 1945.

وكانت الجيوش الروسية تقف أيضاً على حدود تركيا واليونان، حيث كانت انتفاضة شيوعية قد ابتدأت كما كانت تحتل شمال إيران، وفي الشرق الأقصى كانت تحتل جزءاً كبيراً من أراضي الصين في سين كيانغ فضلاً عن منغوليا وشمال كوريا وقاعدة بورت آرثر البحرية، وكانت قد أخذت من اليابان النصف الجنوبي من جزيرة سخالين وجزر الكوريل.

وكانت توجد في الصين حركة شيوعية قوية تسيطر على جزء كبير من البلاد، وهكذا بات بإمكانك في عام 1948 أن تسير من إرفرت شرق ألمانيا حتى شانغهاي من دون أن تطأ أرضاً غير شيوعية.

أما السلطة العالمية الجديدة للولايات المتحدة فلم تكن تعتمد كثيراً على احتلال الأراضي، لقد كان لديها هي الأخرى حامية في أوروبا عند نهاية الحرب، ولكن الناخبين الأمريكيين أرادوا عودتها إلى بلادها بأسرع وقت ممكن. أما القواعد البحرية والجوية الأمريكية حول أوروبا وآسيا فكان أمرها مختلف.

إن القضاء على القوة البحرية اليابانية والحصول على الجزر كقواعد جوية وبناء الأساطيل العملاقة قد حولت كلها المحيط الهادي إلى بحيرة أمريكية، والأهم من هذا أن الولايات المتحدة وحدها كانت تملك القنبلة الذرية. إلا أن الجذور الأعمق لإمبراطوريتها إنما كانت تكمن في قوتها الاقتصادية، ولقد كانت القوة الصناعية الأمريكية الهائلة حاسمة في تحقيق انتصار الحلفاء.

ولم تتأذ الولايات المتحدة من هجمات الأعداء، بل ظلت أرضها ورأسمالها الثابت سليمين، والحقيقة أن مستوى المعيشة فيها قد ارتفع أثناء الحرب التي أنهت مرحلة الركود الاقتصادي، وأخيراً كان منافسوها التجاريين والسياسيين السابقين يرزحون تحت عبء التعافي من الحرب وتكاليفه، بينما تحولت هي إلى دولة دائنة كبرى لها رؤوس أموال تستثمرها في عالم ليس فيه أحد غيرها قادر على تقديمها.

وكان اقتصاد تلك الدول تميل بسبب قلة الموارد فيها إلى الدخول ضمن نطاق الولايات المتحدة، التي أضحى اقتصادها أكبر من أي وقت مضى، وكانت نتيجة ذلك فورة في سلطة أمريكا المباشرة باتت واضحة، حتى قبل أن تنتهي الحرب.

حتى قبل أن يتوقف الاقتتال في أوروبا كان من الواضح أن الروس لن يسمح لهم بالمشاركة في احتلال إيطاليا أو تفكيك إمبراطوريتها الاستعمارية، وأن على البريطانيين والأمريكان أن يقبلوا بالتسوية التي يريدها ستالين لبولندا. ولم يكن الأمريكان مسرورين بدوائر النفوذ الصريحة تلك خارج نطاق قارتهم أما الروس فكانت تروق لهم، ولكن أياً من القوتين لم تبد راغبة بالمواجهة.

وكان الاهتمام الأساسي للقوات الأمريكية بعد النصر هو أن تسرح جيوشها، وقد أوقفت ترتيبات الإعارة والإيجار –المساعدات المادية- حتى قبل استسلام اليابان، فأضعف هذا أصدقاءها الذين لم يكونوا قادرين على تأمين نظام أمن جديد بقواهم الذاتية وحدها. أما الاتحاد السوفييتي فقد مات أكثر من عشرين مليون من مواطنيه ودمر ربع رأسماله الإجمالي، وربما كان ستالين في عام 1945 أقل وعياً لقوة بلاده منه لضعفها.

أوروبا في عام 1945

إلا أن العلاقات بين القوتين العالميتين قد تدهورت بسرعة خلال سنوات قليلة خاصة بسبب الصراعات على أوربا التي كانت بحاجة ماسة لعملية إعادة بناء منظمة. إن كلفة الخراب الحاصل فيها لم تحسب بدقة قط، ولكنه كان خراباً روحياً فضلاً عن ناحيته المادية.

فقد زال المجتمع المتحضر في أنحاء القارة وحلت محله فظائع الترحيل والمذابح الجماعية، وإن الصراعات ضد القوى المحتلة الألمانية قد سببت انقسامات جديدة، فمع تقدم جيوش الحلفاء وتحريرها للبلاد راحت فرق الإعدام تعمل في إثرها وتصفي الحسابات القديمة.

وكان الذين هلكوا في فرنسا خلال عمليات التطهير التي رافقت تحرير البلاد أكثر من ضحايا الرعب الكبير في عام 1793، والأهم من هذا أن الحياة الاقتصادية في أوروبا قد تفككت، وإذا استثنينا روسيا فإن حوالي 15 مليون أوروبي قد ماتوا أثناء الحرب، كما هدمت ملايين المساكن في ألمانيا والاتحاد السوفييتي، وكانت المصانع والاتصالات مخربة والعملات منهارة.

ومع أن ألمانيا الصناعية كانت دولاب التوازن في الحياة الاقتصادية الأوروبية، فقد كانت أول رغبة للحلفاء هي منعها من التعافي. وقد حمل الروس معهم الأدوات والمعدات من الشرق كتعويضات لإصلاح أراضيهم المخربة.

وحمل الاقتصاد السوفييتي عبء قرار ستالين بتطوير أسلحة ذرية وبالاحتفاظ بقوات مسلحة هائلة، ولم تكن السنوات الأولى بعد الحرب بالنسبة للمواطن السوفييت تقل كآبة عن سنوات السباق والتصنيع بعد الثلاثينيات، إلا أن الاتحاد السوفييتي قد تمكن من تحقيق انفجار ذري في أول أيلول/سبتمبر 1949 ثم أعلن رسمياً في آذار/مارس التالي أن لديه سلاحاً ذرياً, وكانت الصورة الدولية عندئذٍ قد تغيرت تغيراً كلياً.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://resalahmasriyah.mam9.com
Eng. Ahmedzoubaa
Admin
Eng. Ahmedzoubaa


عدد المساهمات : 1216
تاريخ التسجيل : 28/08/2010
العمر : 50

الفصل الخامس عشر -العصر الأخير: حقبة متقلقلة  Empty
مُساهمةموضوع: رد: الفصل الخامس عشر -العصر الأخير: حقبة متقلقلة    الفصل الخامس عشر -العصر الأخير: حقبة متقلقلة  Emptyالخميس 16 يونيو 2011 - 5:58

الحرب الباردة

إن تعبير الحرب الباردة على فائدته يحمل خطر التبسيط الزائد للأمور، مثله مثل جميع الشعارات والعبارات العامة التي نستخدمها لوصف الأحداث، لأن تاريخ العالم بين عامي 1945-1990 كان دوماً أوسع بكثير من موضوع العداء بين قوتين عظميين وحلفائهما.

ولكن يبقى من الصحيح أن هذا النزاع العالمي بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي والذي لم ينفجر بشكل حرب مباشرة قط، بل ظل صراعاً عنيداً بالأساليب الأيديولوجية والسياسية الاقتصادية قد هيمن على الشؤون الدولية طوال أكثر من ثلاثين سنة، وكان يسمم كل موضوع آخر واجهته البشرية ويعقده.

في عام 1917 كانت قد ظهرت دولة ملتزمة التزاماً رسمياً بتغيير العالم عن طريق الثورة، وعندما بزغت روسيا من جديد بعد كسوف مؤقت كقوة عظمى في العشرينيات تم ذلك تحت إدارة جديدة سرعان ما بينت أنها تؤدي الأمور بشكل جديد وأن هناك أسلوباً روسياً جديداً على المسرح الدولي؛ فلم يعد القادة السوفييت يقبلون مبادئ الحياة الدولية التي كانت تعتبر بديهية قبل ذلك إلا بالطريقة التي تناسبهم وفي الحالة التي تناسبهم.

وفي عام 1945 كان البعض يجدون من الصعب تصديق هذا الأمر رغم أهميته فقد أصبح بعد خمس سنوات موضوعاً مجرداً بعض الشيء. وكانت الحرب الباردة قد ابتدأت حينذاك وكان معناها بالدرجة الأولى عداءاً شديداً ومتنامياً بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي.

بعد أن التقت الدول الغربية بقوى حلفائها السوفييت في أوروبا الوسطى عام 1945، انسحبت كما كان متفقاً من أجزاء ألمانيا التي خصصت للاحتلال السوفييتي، وتقاسمت معه النمسا، بينما تركت بقية أوروبا الشرقية إلى الشمال من اليونان تحت احتلال السوفييت أو سيطرتهم. ولم تكن هناك حكومات شيوعية في ذلك الحين، إلا في يوغوسلافيا وألبانيا.

ولكن قبل نهاية عام 1945 كانت حكومة شيوعية أخرى قد تأسست في بلغاريا، وفي عام 1947 ترك غير الشيوعيين الحكومات الائتلافية الاسمية في هنغاريا ورومانيا وبولندا، وعندما لحقت بها تشيكوسلوفاكيا في شباط/فبراير من العام التالي بعد انقلاب تم برعاية السوفييت صارت أوروبا منقسمة إلى معسكرين اثنين. وكان الشيوعيون في أوروبا الغربية قد اتخذوا موقفاً ثورياً مؤيداً للسوفييت بصورة صارخة.

كان روزفلت على ثقة بأن الولايات المتحدة تستطيع بالإجمال التفاهم مع الاتحاد السوفييتي، أما الرئيس ترومان (مات روزفلت في نيسان/أبريل 1945) ومستشاروه قد توصلوا شيئاً فشيئاً إلى مواقف مختلفة، خاصة بسبب تجربتهم في ألمانيا التي كانت القوى المحتلة الأربع ورابعها فرنسا، تتخيل أن يتم حكمها كوحدة واحدة.

كانت هذه القوى تتشارك في إدارة برلين واحتلالها منذ البداية إلا أن جهود السوفييت منع تعافي ألمانيا قد أدت إلى انفصال متزايد عملياً لمنطقة الاحتلال السوفييتي عن مناطق احتلال القوى الأخرى الثلاث.

ومن الواضح أن ستالين كان يخشى أي إعادة توحيد لألمانيا ما تتم تحت حكومة يتم السيطرة عليها، وربما كانت لدى روسيا ذكريات كثيرة عن الهجمات من الغرب بصرف النظر عن الطبيعية الإيديولوجية لحكومتها لهذا كانت ترتاب بألمانيا الموحدة.

وقد أدى هذا في النهاية إلى حل المشكلة الألمانية عن طريق التقسيم وهو حل لم يخطر ببال أحد. وابتدأ ذلك عندما تم دمج مناطق الاحتلال الغربية دمجاً اقتصادياً بينما ترسخت الشيوعية في المنطقة السوفييتية عن طريق اتباع أساليب المحسوبية والترهيب.

وفي عام 1946 بدأت ترتسم الصورة الإجمالية لأوروبا شرقية شيوعية بأكملها، وعندما لفت ونستون تشرشل الانتباه في عام 1946 إلى انقسام أوروبا المتزايد بستار حديدي شجبه الكثيرون من البريطانيين والأمريكان، ولم تبدأ الآراء بالتبدل إلا مع زيادة استخدام الفيتو السوفييتي من أجل إحباط مساعي حلفائه السابقين، كما بدا بوضوح أن الشيوعيين في أوروبا الغربية يتلاعب بهم لمصالح روسيا، وربما كان ستالين يتوقع الانهيار الاقتصادي في العالم الرأسمالي.

الفصل الخامس عشر -العصر الأخير: حقبة متقلقلة  Europe-afterwwI

أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية

مبدأ ترومان وخطة مارشال

بدأت سياستا بريطانيا وأمريكا تتقاربان عندما بات من الواضح أن تدخل بريطانيا في اليونان قد مكن من إجراء انتخابات حرة فيها، بينما سبب التدخل السوفييتي عكس ذلك في بولندا. واتخذ الرئيس ترومان في شباط/فبراير 1947 خطوة هامة للغاية، كان دافعه إليها إشارة من الحكومة البريطانية كانت أبلغ دليل على أن بريطانيا لم تعد قوة عالمية، إذ أن ميزات المدفوعات البريطاني كان يجبرها على سحب قواتها من اليونان.

لقد تخرب الاقتصاد البريطاني تخرباً بالغاًُ بسبب الحرب، وكانت الحاجة الماسة للاستثمار الداخلي وكانت أولى مراحل إزالة الاستعمار قد بدأت وهي عملية مكلفة. فكان العبء المالي أكبر مما يحتمل، وقرر ترومان على الفور أن تملأ الولايات المتحدة الفراغ، وكان الموضوع أكبر من مجرد دعم دولتين ضد مضايقة السوفييت.

صحيح أن تركيا واليونان كانتا الدولتين الوحيدتين اللتين حصلتا على المساعدة وبشكل مالي فقط، إلا أن ترومان قد عرض متعمداً قيادة الولايات المتحدة على الشعوب الحرة في العالم لكي تقاوم بدعم أمريكي محاولات إخضاعها من قبل الأقليات المسلحة أو قبل الضغوط الخارجية.

فكان هذا انعكاساً لتيار الانعزال الذي كان الأمريكيون يتوقون إليه في عام 1945، وربما كان قرار احتواء القوة السوفييتية هذا أهم قرار في الدبلوماسية الأمريكية منذ صفقة لويزيانا.

وبعد أشهر قليلة جاء مشروع مارشال الذي سمي على اسم وزير الخارجية الأمريكي لكي يتمم مبدأ ترومان، فعرض المساعدات الاقتصادية على الدول الأوروبية بحيث تتعاون فيما بينها لكي تخطط معاً تعافيها الاقتصادي. وكان الهدف من ذلك شكلاً غير عسكري وغير عدواني من الاحتواء عن طريق إزالة أخطار الانهيار الاقتصادي.

وكان وزير الخارجية البريطاني إرنست بيفن أول رجل دولة أوروبي أدرك أبعاد هذا المشروع ومعانيه، وقد ألح مع الفرنسيين على أن تقبل أوروبا الغربية هذا العرض، أما الروس فلم يقبلوا بالمشاركة، ولاسمحوا للدول التابعة لهم بذلك، مع أن رفض الحكومة الائتلافية التشيكوسلوفاكية له قد ترافق بندم واضح.

وهاجم الاتحاد السوفييتي هذه الخطة هجوماً عنيفاً وأسس أداة جديدة للحرب الإيديولوجية هي الكومينفورم في أيلول/سبتمبر 1947، التي بدأت على الفور بشجب ما كانت تسميه الإمبريالية الأمريكية.

وعندما أسست أوروبا الغربية منظمة التعاون الاقتصادي الأوروبي OEEC لمعالجة مشروع مارشال نظم النصف السوفييتي من أوروبا بالمقابل في مجلس للتعاون المتبادل كوميكون كان واجهة للسوفييت لكي يدمجوا من ورائها الاقتصاد الموجه في الشرق.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://resalahmasriyah.mam9.com
Eng. Ahmedzoubaa
Admin
Eng. Ahmedzoubaa


عدد المساهمات : 1216
تاريخ التسجيل : 28/08/2010
العمر : 50

الفصل الخامس عشر -العصر الأخير: حقبة متقلقلة  Empty
مُساهمةموضوع: رد: الفصل الخامس عشر -العصر الأخير: حقبة متقلقلة    الفصل الخامس عشر -العصر الأخير: حقبة متقلقلة  Emptyالخميس 16 يونيو 2011 - 5:58

برلين وكوريا

كانت الحرب الباردة كما صارت تسمى قد ابتدأت بشكل واضح الآن، وسوف تستمر حتى الثمانينيات وراحت القوتان العظميان كما صارتا تسميان تسعيان لضمان أمنهما بكافة الأساليب عدا عن الحرب، وقد حصلت الأزمة الأولى حول برلين.

كانت القوى الغربية تذكر ماحدث بعد عام 1918، وتسعى لتحقيق تعافي ألمانيا الاقتصادي كخطوة أولى نحو تعافي أوروبا الغربية بشكل عام، فطبقت في عام 1948 ومن دون موافقة الروس إصلاحاً للعملة في مناطقها كانت الحاجة ماسة إليه.

ولما كانت مساعدات خطة مارشال متوفرة للمناطق التي تحتلها القوى الغربية فقط بسبب قرارات السوفييت فقد زاد هذا من تقسيم ألمانيا إلى شطرين ومنذ ذلك الحين صارت ألمانيا الشرقية على الطرف الآخر من الستار الحديدي بصورة قاطعة، بينما بدأت تظهر ألمانيا الغربية المتميزة عنها.

وقد قسم إصلاح العملة برلين أيضاً، وكانت استجابة السوفييت أنهم قطعوا الاتصالات بين المدينة المعزولة ضمن المنطقة السوفييتية وبين أوروبا الغربية. وراح النزاع يتصاعد، فأوقفت السلطات السوفييتية النقل الذي كان يوصل المؤن لسكان القسم الغربي من برلين، ولكن من دون أن تتدخل في وصول الحلفاء الغربيين إلى قواتهم في تلك الأجزاء من المدينة، وكان هدفها من ذلك هو أن تبين لسكان برلين أن القوى الغربية غير قادرة على حمايتهم.

وهكذا ابتدأت لعبة شد الحبل، فنظمت القوى الغربية بتكلفة هائلة جسراً جوياً حافظ على إمداد برلين الغربية بالطعام والوقود والدواء، وكان مطارها الوحيد يستقبل أكثر من ألف طائرة في اليوم، وكان يصلها وسطياً في اليوم الواحد 5000 طن من الفحم وحده، فكأن القوى الغربية كانت تقول ضمناً أن هذا الأمر لايمكن إيقافه إلا بالقوة. وللمرة الأولى منذ الحرب عادت قاذفات القنابل الأمريكية إلى قواعدها في إنكلترا.

واستمر الحصار لأكثر من سنة، من دون أن يصل قط إلى حد إطلاق النار، ولكنه كان حاسماً لأنه أثبت أن الولايات المتحدة كانت مستعدة للقتال من أجل هذه النقطة. ولم ينقطع الإمداد خلال الحصار ولا أرهب البرلينيون الغربيون، ولكن المدينة صارت مقسمة إلى قسمين.

وفي هذه الأثناء وقعت القوى الغربية معاهدة أسست فيها منظمة حلف شمال الأطلسي الناتو في نيسان/أبريل من عام 1949، وقبل أسابيع قليلة من إنهاء الحصار عن طريق الاتفاق. فكانت تلك أول منظمة أوسع من أوروبا تظهر، خلال الحرب الباردة، وقد انضمت إليها الولايات المتحدة وكندا وأكثر دول أوروبا الغربية ماعدا السويد وسويسرا وإسبانيا، وكانت تنص على المساعدة المتبادلة في حال تعرض أي عضو فيها للهجوم، وكانت خطوة جديدة بعيداً عن تقاليد الرئيس واشنطن الانعزالية القديمة في موضوع السياسة الخارجية لأمريكا.

وفي أيار/مايو ظهرت دولة ألمانية جديدة من مناطق الاحتلال الثالث هي الجمهورية الفيدرالية، وفي تشرين الأول/أكتوبر أسست الجمهورية الألمانية الديمقراطية في المنطقة السوفييتية. ومنذ ذلك الحين سوف تكون هناك دولتان ألمانيتان تفصل بينهما حدود من الأسلاك الشائكة والألغام.

ثم عادت الحرب الباردة فاندلعت في شرق آسيا في عام 1965 تقسمت كوريا، فاحتل الروس شمالها الصناعي والأمريكان جنوبها الزراعي، ثم انسحب الاثنان وبذلت جهود لإجراء انتخابات على مستوى البلاد كلها ولكن من دون جدوى، فاعترفت الأمم المتحدة عندئذٍ بحكومة أسست في الجنوب كحكومة شرعية وحيدة لجمهورية كوريا، كما ظهرت حكومة منفصلة في الشمال تدعي السيادة على البلاد كلها.

وغزت القوات الكورية الشمالية الجنوب في حزيران/ يونيو 1950 وخلال يومين أرسل الرئيس ترومان قوات أمريكية لمحاربتها وهو يتصرف باسم الأمم المتحدة، وصوت مجلس الأمن على مقاومة العدوان ولكن الروس كانوا يقاطعونه في ذلك الحين، فلم يقدروا على استخدام حق الفيتو.

بعد بضعة أشهر لاح أن الكوريين الشماليين قد يطاح بهم، ولكن عندما اقترب القتال من حدود منشوريا تدخلت القوات الصينية جيش الأمم المتحدة وأغلبه أمريكي، فطرح هذا الأمر احتمال قيام الولايات المتحدة بعمل عسكري مباشر ضد الصين، ربما بأسلحة ذرية. إلا أن الرئيس ترومان تصرف بحذر ورفض التورط في حرب أكبر على بر آسيا. ثم حصل المزيد من القتال الذي بين أن الصينيين يستطيعون الاستمرار في دعم الكوريين الشماليين ولكنهم عاجزين عن الإطاحة بكوريا الجنوبية ضد رغبة الأمريكان، فبدأت عندئذٍ محادثات الهدنة.

واستلمت الحكم في أمريكا في عام 1953 إدارة جمهورية جديدة معادية تماماً للشيوعية، وكانت تعلم أن الإدارة السابقة قد بينت بشكل كاف إرادة أمريكا وقدرتها على دعم استقلال كوريا الجنوبية، فوقعت الهدنة في تموز/يوليو 1953. وهكذا كسب الأمريكان المعارك الأولى من الحرب الباردة في الشرق الأقصى وفي أوروبا.

قبل الهدنة الكورية بقليل مات ستالين، إلا أن السياسة السوفييتية استمرت على نهجها السابق من دون تبدل، وسرعان ما كشف خلفاؤه أنهم يملكون هم أيضاً السلاح الذري المطور الذي يعرف بالقنبلة الهيدروجينية، فكانت تلك آخر الصروح التذكارية لستالين، وقد ضمنت مكانة الاتحاد السوفييتي في عالم مابعد الحرب إذا كان ثمة شك فيها، لقد سار ستالين بسياسات لينين القمعية إلى خاتمتها المنطقية واستخدمها لإعادة بناء الجزء الأكبر من الإمبراطورية القيصرية بعد أن منح مواطنيه القدرة على النجاة من أشد ساعات المحنة وبمساعدة حلفاء أقوياء ولكن من الواضح أن روسيا كانت ستصبح قوة عظمى من جديد بدون الشيوعية، ولم يكافأ شعبها على تضحياته إلا بنجاته وبشعور المكانة الدولية، وقد ظلت الثقافة السياسية المبنية على الانعزال عائقاً أمام تحديث البلاد وإعطائها طابعاً إنسانياً.

وفي عام 1953 كانت أوروبا الغربية قد أعيد بناؤها بفضل الدعم الاقتصادي الأمريكي، وكان حلف الناتو يحمي الدول الأعضاء فيه. وراحت الجمهوريتان الألمانيتان الفدرالية والديمقراطية تتباعدان أكثر فأكثر، وفي يومين متتالين من شهر آذار/مارس 1954 أعلن الروس السيادة الكاملة للجمهورية الشرقية ووقع رئيس ألمانيا الغربية تعديلاً دستورياً يسمح بإعادة تسليح بلاده. وفي عام 1955 انضمت الجمهورية الفيدرالية إلى حلف الناتو، ورد الروس على ذلك بحلف وارسو الذي كان تحالفاً للدول التابعة لهم، ووافقت ألمانيا الشرقية على تسوية الأمور مع أعدائها القدامى، وأصبح خط نهري أودرا-نيسا هو الحدود مع بولندا.

وهكذا انتهى حلم ألمانيا الكبرى الذي طالما داعب مخيلة القوميين في القرن التاسع عشر ومخيلة هتلر أيضاً، بالقضاء على ألمانيا بسمارك نفسها، وكانت ألمانيا الغربية الجديدة ذات بنية فيدرالية وطابع غير عسكري، وكان يسيطر عليها السياسيون الكاثوليك والديمقراطيون الاجتماعيون[1] الذين كان بسمارك يعتبرهم أعداء للدولة، بينما أصبحت بروسيا التاريخية الآن تحت حكم الشيوعيين الثوريين.

ولم تحدث معاهدة سلام، ولكن مشكلة احتواء قوة ألمانيا قد سويت ضمناً طوال خمسة وثلاثين عاماً وفي عام 1955 ظهرت النمسا من جديد كدولة مستقلة، وكانت القوات الأمريكية والبريطانية قد انسحبت من مدينة تريستا[2].

وفي ذلك الحين كان قد ظهر انقسام عالمي بين ما يمكن أن نسميه الاقتصاد الرأسمالي والاقتصاد الموجه أو التي سوف يصبح موجه، وبعد عام 1945 ثم تجاوز جميع التقسيمات السابقة للسوق العالمية، وصار هناك أسلوبان لتوزيع الموارد سوف يقسمان العالم المتطور أولاً ثم المناطق الأخرى وأهمها شرق آسيا.

لقد كان العنصر الأهم والحاسم في النظام الرأسمالي هو السوق، ولو أنها سوق مختلفة جداً عن التي كانت تتخيلها إيديولوجيات التجارة الحرة في القرن التاسع عشر كما أنها كانت سوقاً ناقصة من نواح كثيرة، أما النظام الثاني أي مجموعة الدول الخاضعة للشيوعيين وبعضها الآخر أيضاً فكان عمادها هو السلطة السياسية العليا، أو هذا ماكانت تبغيه على الأقل.

ولقد بقي هذا التمييز بين النظامين حقيقة أساسية في الحياة الاقتصادية العالمية، منذ عام 1945 حتى الثمانينيات ونقصت هيمنة الولايات المتحدة على النظام الأول بمرور الزمن وهيمنة الاتحاد السوفييتي على الثاني أيضاً عما كان عليه الأمر في عام 1950، ولكنهما مع ذلك ظلا يعتبران نموذجين بديلين ومنفصلين تماماً للنمو الاقتصادي، وقد زكت الحرب الباردة التنافس بين الطرفين، وساهم هو بدوره في توسيع العداوة بينهما.





[1] الديمقراطية الاجتماعية هي حركة سياسية تنادي بالانتقال التدريجي والسلمي من الرأسمالية إلى الاشتراكية- المورد


[2] مرفأ على بحر الأدرياتيك
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://resalahmasriyah.mam9.com
Eng. Ahmedzoubaa
Admin
Eng. Ahmedzoubaa


عدد المساهمات : 1216
تاريخ التسجيل : 28/08/2010
العمر : 50

الفصل الخامس عشر -العصر الأخير: حقبة متقلقلة  Empty
مُساهمةموضوع: رد: الفصل الخامس عشر -العصر الأخير: حقبة متقلقلة    الفصل الخامس عشر -العصر الأخير: حقبة متقلقلة  Emptyالخميس 16 يونيو 2011 - 5:59

نهاية الإمبراطوريات الاستعمارية

إن أكبر انقلاب في السياسة العالمية، بعد عام 1945 هو انتهاء الإمبراطوريات الأوروبية، عند نهاية الحرب كانت الإمبراطوريات البريطانية والفرنسية والهولندية والبرتغالية والبلجيكية قائمة بعد، بينما اختفت الإيطالية بين عامي 1941 و 1943 ولكن بعد ثلاثين عاماً صارت المساحة التي يحكمها الأوروبيون من العالم أقل مما كانت عليه قبل أربعة قرون كاملة.

وقد سببت عملية تفكيك الإمبراطوريات ارتباكات وتوترات كبيرة لدى القوى الأوروبية، وكانت تنطوي على مخاطر جمة، وإنه لمن أعظم إنجازات القرن أن حقبة إزالة الاستعمار قد تم اجتيازها من دون حرب عالمية أو صراعات محلية واسعة.

الشرق الأوسط الجديد

لقد حصلت آخر امتدادات الإمبراطوريات القديمة بين الحربين العالميتين، عندما منحت عصبة الأمم الفرنسيين والبريطانيين انتدابات على قسم كبير من الشرق الأدنى والأوسط كمرحلة أولى قبل أن تتحول إلى دول.

وكان يبدو أن مستقبل المنطقة يكمن في تشكيل بنى مؤسسة على فكرة القومية الأوروبية، وأن هذا الترتيب قد يكون حلاً لمسألة من سيخلف الدولة العثمانية أي كيف يجب تنظيم العالم العربي. ولكن الحقيقة أن القومية لم تكن إلا سراباً.

كان البريطانيون والفرنسيون قد اتفقوا أثناء الحرب على أن تقلص تركيا إلى مساحتها الحالية تقريباً وأن يثبت الفرنسيون أقدامهم في سوريا العثمانية ويثبت البريطانيون أقدامهم في العراق، ولكن هذا الترتيب جعل من الصعب عليهم أن يقرروا ماذا يجب أن يعطوا للحكام العرب.

والتعقيد الآخر كان إعلان الحكومة البريطانية في عام 1917 أنها تنظر بعين العطف إلى تأسيس وطن قومي لليهود في فلسطين، وقد أرضى هذا الإعلان الصهاينة، ولكن لم يكن من الواضح ما إذا كانت بريطانيا تقصد بذلك دولة قومية يهودية، كما بدا أنه يتعارض مع الوعود المقدمة للعرب.

بين عامي 1918 و1939 كان الشعور الوطني من النمط الأوروبي أكثر تقدماً في مصر، حيث راح المثقفون وعامة الشعب في المدن يتظاهرون بصخب ضد الاستعمار الغربي، وراح البريطانيون يرجون قبضتهم رويداً رويداً، وقبلوا في عام 1936 ألا يتركوا حاميتهم في منطقة قناة السويس إلا لعدد محدد من السنين.

أما في بقية أنحاء العالم العربي فكانت المتاعب تأتي من عدد من الأسر الحاكمة والمتنافسة عادة من النمط التقليدي، كما وجد الفرنسيون أنفسهم مضطرين لمعالجة أمر الوطنيين في مدن سوريا ولبنان، وبذل البريطانيون قصارى جهدهم للتخلص من انتداباتهم بسرعة، وقد سبب لهم انتدابهم على فلسطين أكبر قدر من المصاعب.

الفصل الخامس عشر -العصر الأخير: حقبة متقلقلة  Middle-east-new

خريطة الشرق الأوسط الحالية

إقامة إسرائيل

في عام 1914 كان يعيش في فلسطين حوالي 90.000 يهودي، ومنذ بداية الانتداب كان السكان العرب يبدون تخوفهم من الهجرة اليهودية، وكان العرب يهاجمون البريطانيين إذا سمحوا بالمزيد من اليهود، واليهود يهاجمونهم إذا تحدثوا عن الحد من هجرتهم.

وسرعان مابدأت الحكومات العربية الجديدة في الجوار بالاهتمام بهذه المسألة، وقد حصلت أحداث شغب وقتل وأعمال إرهابية ضد المستوطنات اليهودية، واقترح البريطانيون في عام 1936 تقسيم فلسطين، ولكن العرب رفضوا هذا الاقتراح في ذلك الحين كان هتلر قد استلم السلطة في ألمانيا، وكان اليهود في ألمانيا وأوروبا الوسطى يخشون الاضطهاد ويرغبون بالقدوم إلى فلسطين، التي كان بعضهم يسميها منذ ذلك الحين إسرائيل.

مع اقتراب حرب 1939 واجه البريطانيون انتفاضة عربية واسعة تمكنوا من قمعها، ولكنهم أثناء معالجتهم لها وضعواً حداً مطلقاً لعدد اليهود الذين سيسمح لهم بدخول فلسطين في المستقبل. وكانت علاقات بريطانيا بالدول العربية عندئذٍ قد بلغت درجة لاسابق لها من التعقيد والصعوبة.

إن اقتراب الحرب في أوروبا قد زاد أهمية قناة السويس لدى بريطانيا، إذ صارت لها الآن مصلحة جديدة هي استمرار تدفق النفط من العراق عن طريق خط الأنابيب المار عبر شرق الأردن وفلسطين إلى حيفا؛ وكان محكوماً على محاولات العدالة والإنصاف أن تفشل.

وعندما اندلعت الحرب جلبت معها أزمة كبيرة، ولم تكن الحكومة البريطانية هي الوحيدة التي حدت من دخول اليهود الهاربين من برنامج القضاء عليهم على يد الألمان، ولكنها كانت تحكم فلسطين حيث يريد الكثيرون منهم أن يذهبوا، وكان من السهل على الدول الأخرى أن تطالب بحقهم في ذلك. وقد أضيف إرهاب الصهاينة الآن إلى عنف العرب، كما ازداد ضغط أمريكا لأن أصوات الناخبين اليهود كانت هامة لدى السياسيين الأمريكان، وإن الانتصار في الحرب قد زاد الأمور تفاقماً، لأن الروس تبنوا القضية الصهيونية إذ رأوا فيها طريقة لتسبب المتاعب لخصمهم في الحرب الباردة ولتوسيع نفوذهم في المنطقة.

وطرح البريطانيون الموضوع على الأمم المتحدة التي وافقت على مشروع تقسيم صوت عليه كل من الولايات المتحدة وروسيا، ولكن العرب لم يقبلوا به، وتصاعد العنف، وأعلنت بريطانيا أخيراً أنها سوف تتخلى عن فلسطين، فغادرتها في يوم 15 أيار/مايو 1948، أي بعد يوم واحد من إعلان اليهود تأسيس دولة قومية جديدة هي دولة إسرائيل.

وعلى الفور هاجمتها مصر وجيرانها العرب الذين قالوا أنهم يريدون حماية العرب الفلسطينيين، ولكن إسرائيل نجت وانتصرت، إلا أن انتصارها هذا قد تركها محاطة بأعداء مهزومين وتواقين للانتقام، كما صارت لديهم الآن مظلمة جديدة استفادوا منها كثيراً من الناحية الدعائية، هي هجرة 700.000 عربي فلسطيني هربوا من إسرائيل كي لايعيشوا تحت حكم اليهود، وبدا اليهود الآن مضطهدين بدورهم، مع أن الكثير من العرب الفلسطينيين قد عادوا إلى إسرائيل في عام 1949.

ثم حصلت خلال السنوات القليلة التالية ثلاثة تبدلات كبرى غيرت موقف العرب من جميع النواحي ماعدا عداءهم المستمر لإسرائيل، أول تلك التبدلات هو تفاقم الحرب الباردة، فقد كانت روسيا تتدخل في سياسات المنطقة منذ زمن طويل، وانضمت إليها الآن الولايات المتحدة.

والتبدل الثاني هو الارتفاع الحاد في استهلاك النفط في الدول الصناعية الكبرى وفي إنتاجه خاصة في الحقول الهائلة الجديدة المتكشفة في الخليج الفارسي وشبه الجزيرة العربية وليبيا، أما التبدل الثالث فهو تبدل سياسي مقعد وطويل أزاح السيطرة الاستعمارية من العالم الإسلامي وأطاح بالكثير من الملوك المسلمين المتمسكين بالتقاليد ووضع محلهم أنظمة ثورية راديكالية.

كان الخمسينيات عقداً من التطورات الكبيرة، فقد اضطر الفرنسيون للتخلي عن لبنان وسوريا بعد صراع، واعترفوا بالاستقلال الكامل للمغرب وتونس، وأطيح بملك مصر في عام 1952 وفي عام 1954 بدأت ثورة شاملة ضد المستوطنين الأوروبيين في الجزائر الفرنسية وكان عددهم يربو على المليون، وكان البريطانيون قد سحبوا حاميتهم من السويس عندما بزغ في مصر رجل قوي هو جمال عبد الناصر، الذي بدا أنه القائد المصلح المناهض للاستعمار الذي كان العرب ينتظرونه.

وقد تآمر البريطانيون والفرنسيون والإسرائيليون على الإطاحة به في عملية السويس في عام 1956، التي كانت آخر مغامرة على النمط القديم للاستعمار، ولكنها منيت بالفشل مع أن المصريين أصيبوا بهزيمة كارثية، بينما راح نجم عبد الناصر يعلو ويزداد تألقاً.

ونالت الجزائر استقلالها أخيراً في عام 1962 من بعد معاناة رهيبة، وكانت ليبيا قد استقلت أيضاً وتخلصت من ملكها فراحت تتنافس مع سوريا ومصر والمملكة العربية السعودية على قيادة العالم العربي.

واستعدت الحكومتان المصرية والأردنية لمهاجمة إسرائيل من أجل تصحيح التوازن، إلا أن الإسرائيليين سبقوهم إلى الهجوم في عام 1967 فألحقوا بالجيوش العربية هزيمة كبرى، ومنحهم هذا النصر حدوداً أسهل على حمايتها وأعلنوا أنهم سوف يحتفظون بها، فلم يعد هناك مفر من نشوب حرب رابعة.

وقد حدثت في عام 1973 وفي هذه المرة هجم أعداء إسرائيل في لحظة غير مؤاتية لها ، كما صار على العالم الصناعي أن يعمل حساباً أكبر لأقوى الدول العربية، أي الدول المنتجة للبترول وهي دول صغيرة ولكنها ذات ثروات طائلة، وقد سبب قرارها برفع أسعار بترولها أزمة اقتصادية دولية بين ليلة وضحاها، وبدأ العالم يخشى حدوث ركود اقتصادي مثل الذي حدث في الثلاثينيات، فبدا عندئذٍ أن إسرائيل قد لاتستطيع الاعتماد على الشعور بالذنب في أوروبا والولايات المتحدة تجاه معاملة هتلر ليهود أوروبا.

الفصل الخامس عشر -العصر الأخير: حقبة متقلقلة  Israel

اسرائيل وفلسطين

انسحاب الاستعمار من آسيا

كانت انتصارات اليابانيين بين عامي 1941-1942 ضربة حاسمة في وجه هيمنة البيض، خاصة عندما استسلم 70.000 جندي بريطاني وأسترالي وهندي أمامهم في سنغافورة، ولم تقتصر الخسارة على الأراضي بل إن مكانة البيض المعنوية قد ضاعت هي الأخرى.

لقد كانت مناصرة اليابانيين للمشاعر المناهضة للبيض مثل الشعار القوي الذي يقول آسيا للأسيويين، من العوامل التي منعت عودة الاستعمار، والمفارقة أن مقاومة الزعماء المحليين لليابانيين كانت عاملاً آخر في ذلك.

ولم يستعد الفرنسيون سلطتهم في الهند الصينية ولا الهولنديون سلطتهم في إندونيسيا في عام 1945 إلا بفضل الوصول السريع للقوات البريطانية، وسوف يخسر كلاهما سيطرتهما خلال بضع سنوات من جديد إذ كانت حقبة الثورات ضد الاستعمار قد ابتدأت، وقد استفادت هذه الثورات من المنافسة بين القوى الكبرى مثلها مثل ثورات الأمريكيتين قبل قرن ونصف القرن، إلا أن المنافسة كانت هذه المرة منافسة الحرب الباردة، كما أن الثورات قد قام بها السكان الأصليون ضد الدخلاء وليس المستوطنون البيض وأحفادهم.

وكان انسحاب الاستعمار يتم أحياناً من دون الحاجة إلى الثورة، إن أهم معلم في هذه القصة هو رحيل البريطانيين عن الهند في عام 1947، لقد منح هذا الرحيل الحكم الذاتي لشبه قارة مكونة من 400 مليون نسمة، وحطم على الفور الوحدة السياسية الوحيدة التي تمتعت بها شعوبها.

فظهرت دولة الهند ذات الأغلبية الهندوسية ودولة باكستان المسلمة، والتي انقسمت فيما بعد مرة ثانية، عندما انفصلت عن بنغلادش في عام 1971 لتشكل دولة منفصلة، وقد ترافق ذلك بسفك كبير للدماء. وأصبحت بورما جمهورية مستقلة في عام 1948، وفي العام التالي انتهى القتال الذي كان مستمراً في إندونيسيا منذ عودة الهولنديين بظهور جمهورية أندونيسيا الجديدة، ومنحت أراضي ملقا البريطانية السابقة حريتها بشكل اتحاد مستقل في عام 1957.

الهند الصينية

كان الفرنسيون في ذلك الحين قد غادروا الهند الصينية، المكونة من كمبوديا ولاوس وجمهوريتين فيتناميتين، ولعبت الحرب الباردة ومصالح القوى الكبرى دوراً كبيراً في إطالة آلام المخاض لولادة النظام الجديد.

لقد لعب الشيوعيون دوماً دوراً هاماً في حركات الاستقلال في الهند الصينية، وكان هذا الدور أقل أهمية في كمبوديا ولاوس منه في فيتنام أي القسم الجنوبي والساحلي من الهند الصينية، حيث قاومهم الفرنسيون مقاومة شديدة حتى عام 1954.

وقد هزمت في ذلك العام حامية فرنسية في دين بين فو في معركة ضارية، فكانت تلك هزيمة معنوية لاتقل أهمية عن الهزيمة في سنغافورة قبلها باثني عشر سنة وهي التي حطمت إرادة الفرنسيين في الدفاع عن إمبراطوريتهم، فانسحبوا عندئذٍ تاركين وراءهم فيتنام الشمالية الشيوعية تسعى لتقويض فيتنام الجنوبية غير الشيوعية.

وراحت الولايات المتحدة تقدم العون للجنوب، بينما راحت روسيا والصين تقدمان العون للشمال.

الفصل الخامس عشر -العصر الأخير: حقبة متقلقلة  Chinese-india

الهند الصينية
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://resalahmasriyah.mam9.com
Eng. Ahmedzoubaa
Admin
Eng. Ahmedzoubaa


عدد المساهمات : 1216
تاريخ التسجيل : 28/08/2010
العمر : 50

الفصل الخامس عشر -العصر الأخير: حقبة متقلقلة  Empty
مُساهمةموضوع: رد: الفصل الخامس عشر -العصر الأخير: حقبة متقلقلة    الفصل الخامس عشر -العصر الأخير: حقبة متقلقلة  Emptyالخميس 16 يونيو 2011 - 6:00

نهاية الاستعمار في أفريقيا

في عام 1900 كان عدد سكان أفريقيا حوالي 110 ملايين، أما بمعدلات النمو الحالية فقد يبلغ عددهم في عام 2000 حوالي 700 مليون. إن هذا هو أهم تغير في تاريخ أفريقيا، وقد حرف ميزان السكان فيها نحو أفريقيا السوداء وإلى الجنوب من الصحراء الكبرى، وإن المطالب والضغوط الناتجة عن نمو السكان هذا تمتد في كافة تاريخ أفريقيا السياسي والاقتصادي القريب.

إلا أن زوال الاستعمار كان بلا شك تغيراً أكثر حدة، في عام 1918 كانت القارة بأسرها تحكم أو تدار من أوروبا، وكانت الدولتان الأفريقيتان الوحيدتان المستقلتان استقلالاً حقيقياً هما ليبريا وإثيوبيا، أما الآن فتوجد فيها ثمان وأربعون دولة بما فيها الجزر القريبة منها ومدغشقر، وعند بداية القرن لم تكن هناك في القارة صناعة حديثة تذكر إلا في منطقة الراند بجنوب أفريقيا، ولكن هذه الدولة قد أصبحت الآن قوة صناعية كبرى، بينما صارت روديسيا وزائير وزامبيا دولاً هامة في مجال التعدين تنتج النحاس والفحم والمنغنيز والحديد واليورانيوم، أما الجزائر ونيجيريا وليبيا فهي دول أساسية في إنتاج البترول.

ورغم أن دول أفريقيا مازالت موضع تدخل واستغلال من الخارج فإن الدول الأخرى خارج القارة تتقرب منها من أجل مواردها وموقعها الاستراتيجي.

وتتصف قصة أفريقيا السوداء بنوع من الوحدة التي تجمعها خلال هذه الحقبة من التغير، إذ أن غياب حضارة محلية واحدة مهيمنة ومتطورة مثل حضارة الهند أو الصين فقد سمح للأوروبيين بلعب دور كبير في إحداث التغييرات فيها.

وقد ظهرت جماعات بيضاء في المناطق التي يشجع مناخها على استيطانهم، خاصة في جنوب أفريقيا، وسببت هذه الجماعات تعقيداً في سياسات التحديث، وكانت الجغرافية عاملاً هاماً أيضاً، فرغم اهتمام الأجانب الكبير بها لم يكونوا جميعاً قادرين على دخولها بسهولة، ومع أن روسيا كانت منذ القرن التاسع عشر تلعب دوراً استعمارياً أساسياً في آسيا فإنها لم تتدخل في أفريقيا حتى كانت حركة الاستقلال قد بلغت فيها شوطاً بعيداً.

ولم يكن للشيوعية أهمية تذكر خارج مدن البيض الصناعية في جنوب أفريقيا إلى أن جاء المستشارون الشيوعيون من الاتحاد السوفييتي والصين في الستينيات والجنود الشيوعيين من كوبا في السبعينيات.

لقد حركت الحربان العالميتان الأمور، ولكن يبدو أن ظهور القادة السياسيين السود الأوائل يدين أكثر لتأثيرات التعليم على يد البعثات التبشيرية التي أنشأها البيض عادة ، وأعمال الحكومات الاستعمارية بخيرها وشرها.

ولم تغير هذه الحكومات الشيء الكثير بين عامي 1918-1939 في المناطق التي تسيطر عليها، عدا عن أن المستعمرات الألمانية السابقة قد حلت محلها انتدابات، وفي حرب 1939-1945 أعيدت أثيوبيا بعد أن أطاح بها الإيطاليون في عام 1936، واختفت الصومال وأريتريا الإيطاليتان من على الخريطة، أما إلى الجنوب من السودان والصحراء الكبرى فلم يطرأ أي تغير هام على الخريطة بين عامي 1939-1945.

كانت المناطق ذات اللون الوردي تابعة للكومنولث البريطاني، وكان البريطانيون قد بدؤوا باستخدام هذه التسمية لأنهم فقدوا الرغبة والحماس لحكم الإمبراطورية، وكانت بينها منطقتان ليستا جزءاً منها إلا بصورة شكلية، وهما روديسيا الجنوبية واتحاد جنوب أفريقيا، إذ كانت روديسيا الجنوبية قد الفت منذ عشرينيات القرن أن تحكم نفسها بنفسها كدولة مستقلة ضمن الكمنولث ولم يكن المستوطنون البيض فيها يتوقعون تدخلاً من لندن، أما اتحاد جنوب أفريقيا فقد راح ناخبوه من البور يدفعونه باطراد نحو استقلال كامل تقريباً، وكان يبدو في عام 1945 أن خريطة أفريقيا لن تتغير لزمن طويل، بل إنها قد لاتتغير أبداً.

أمم أفريقية جديدة

إلا أنها تغيرت بالفعل وبسرعة عجيبة، ففي عام 1957 ظهرت أول دولة سوداء جديدة على الجنوب من الصحراء الكبرى وهي دولة غانا، وبعد أقل من عشرين سنة لم تبق مستعمرة أوروبية واحدة ماخلا بعض الجيوب الإسبانية الصغيرة. كما أن جنوب أفريقيا أصبحت جمهورية مستقلة استقلالاً كاملاً في عام 1961، وكان روديسيا قد انفصلت عن الكومنولث ونشبت فيها صراعات داخلية ضارية حول اختيار حكامها.

ورغم أن إراقة الدماء كانت تحدث عادة بعد انتهاء الحكم الاستعماري فإنها لم تلعب في أكثر الحالات دوراً هاماً في إسقاطه إلا في الجزائر حيث لم تتحرر البلاد إلا من بعد ثورة كبيرة انتهت بطرد الفرنسيين.إن الصرع المتكرر كان دليلاً على الأخطار التي تواجه أفريقيا الجديدة.

في الكونغو البلجيكية سابقاً أي زائير الحالية، اندلعت الحرب الأهلية في عام 1960 في منطقة كاتنغا الغنية بالمعادن، وسرعان ما تدخل الروس والأمريكان بصورة غير مباشرة فوصلت الحرب الباردة بذلك على أفريقيا. وبعد ذلك صارت الحركات الثورية في مستعمرتي أنغولا وموزمبيق البرتغاليتين تحاول الحصول على دعم الدول الشيوعية، فأدى هذا إلى الحرب الأهلية بعد الاستقلال الذي منحته البرتغال إثر ثورة داخلية في عام 1947، وهكذا كانت أول قوة استعمارية رسخت قدميها في أفريقيا هي أيضاً آخر قوة غادرتها.

عند نهاية عام 1960 اندلعت الحرب الأهلية في نيجيريا أيضاً، وسوف تتلوها حروب وثورات وانقلابات كثيرة في مناطق أخرى، بل إنها مازالت مستمرة. وقد كان على السياسيين أن يناضلوا لكي يمكنوا الديمقراطية من العمل بين شعوب ليست لديها خبرة بها، ولكن لديها ولاءات وعداوات تقليدية تدفعها إلى الاقتتال من أجلها.

وكان بعض الدول الأفريقية تشبه الدول الجديدة التي ظهرت في البلقان وأمريكا الجنوبية في القرن التاسع عشر وقد توجهت إلى زعمائها العسكريين. وكثيراً مالم يكن عدد الأفارقة كافياً لتزويد الأنظمة الجديدة بالإداريين والتقنيين، فكان عليها أن تعتمد على البيض في المناصب الحساسة، بينما كانت البنى الداعمة للحكم الاستعماري، من تعليم واتصالات قوات ومسلحة أضعف بكثير منها في الهند مثلاً.

كانت معدلات التعلم منخفضة وكانت الدول الأفريقية الجديدة أكثر اعتماداً بكثير على المساعدات الأجنبية من الدول الآسيوية التي استقلت حديثاً، وكانت هذه العوائق تدفع زعماءها إلى البحث عن الشعبية والنجاح في طريق إثارة الحقد على الأعداء الخارجين. وكان من الصعب على الدول الأفريقية أن تتعاون إلا في هجماتها الكلامية والدبلوماسية على العنصرية البيضاء.

وساهمت في الاضطرابات السياسية أيضاً المصاعب الاقتصادية والاجتماعية الهائلة التي كانت تواجه تلك الدول، فالكثير منها لم تكن لها وحدة اجتماعية أو جغرافية حقيقية، بل كان سبب وجودها أن الدبلوماسيين الأوروبيين قد رسموا منذ زمن بعيد تلك الحدود بين مستعمراتهم. وكانت بعضها تعاني من مشكلة التخصص في الاقتصاد، إذ كان الكثيرون من المزارعين في أفريقيا قد تحولوا خلال حرب 1939-1945 إلى زراعة محاصيل معينة تصلح للتصدير على نطاق واسع وتدر الأرباح الكبيرة، ولكن نتائج هذا التحول كانت عميقة في بعض الأحيان لأن انتشار هذا النوع من الاقتصاد قد يولد تغيرات اجتماعية عنيفة بشكل نمو غير متوقع في المدن وفي مناطق معينة.

كما أن ربط الدول الأفريقية بأنماط معينة من التنمية قد أدى فيما بعد إلى ضعفها الاقتصادي وجمودها، وحتى الجهود الطبية للأجانب عن طريق برامج التنمية في المستعمرات أو عن طريق المساعدات الدولية فيما بعد، كانت تنتهي أحياناً بزيادة تقييد المنتجين الأفارقة بالأسواق العالمية الحساسة لأي انخفاض في الطلب.

ومع ارتفاع أعداد السكان بصورة متسارعة بعد عام 1960 وخيبة الأمل بالحرية بات الاستياء محتماً وأدى إلى عدم الاستقرار. واندلع النزاع الضاري خصوصاً في كاتنغا ونيجيريا وهي أكبر الدول الجديدة والتي بدت من أكثرها ثباتاً وأملاً في المستقبل وكانت تتمتع بميزة وجود مخزون كبير من البترول فيها. كما حصلت نزاعات أخرى أقل منها عنفاً.

وفي الدول الأخرى أيضاً إلى الصراعات الضارية بين الجماعات والمناطق والقبائل بالنخب السياسية الصغيرة ذات التفكير الغربي إلى التخلي عن المبادئ الديمقراطية والليبرالية التي كثر الحديث عنها في أيام النشوة العارمة عندما كان الاستعمار في انحسار.

لقد شهدت أفريقيا المستقلة بين عامي 1957-1985 اغتيال ثلاثة عشر زعيم دولة وحربين كبريين، وكانت الحاجة لمنع التمزق وتقوية السلطة المركزية، سواء كانت حاجة حقيقية أم وهمية تدعم الاتجاه نحو الحكم الاستبدادي ذي الحزب الواحد ونحو استخدام العسكريين للسلطة السياسية.

وظهرت شخصيات مستبدة بعضها عبارة عن قطاع طرق ولو أن بعض المهتمين بالشؤون الأفريقية قد رأوا فيهم ورثة سلطة الملوك القديمة التي كانت في أفريقيا قبل عصر الاستعمار، وكانت الانقلابات والثورات كثيرة فانهارت حتى أكثر الدول الأفريقية عراقة. ففي عام 1974 نشبت ثورة في إثيوبيا قضت على أقدم ملكية مسيحية باقية في العالم وعلى سلسلة من الملوك يقال أنها تعود إلى ابن الملك سليمان وملكة سبأ، وبعد عام واحد بدا العسكريون الذين استلموا السلطة فاقدين للمصداقية والثقة مثل الحكام الذين كانوا قبلهم.

ولكن متاعب السياسيين الأفارقة لم تمنعهم من إلقاء اللوم على العالم الخارجي، بل إنها في الحقيقة قد شجعتهم على ذلك، فظلوا يضربون على وتر المأساة التي سببتها تجارة الرق الأوروبية القديمة كمثل أقصى على الاستغلال العنصري وأنكروا مشاركة الأفارقة فيها أو تجاهلوها كما تجاهلوا تجارة العرب بالرقيق. أما الأسباب المباشرة للسخط والاستياء فكانت العجز عن حل المشاكل الاقتصادية والاجتماعية العنيدة، وشعوراً دائماً بالدونية السياسية في قارة مكونة من دول لاحول لها ولا قوة ولايزيد عدد سكان بعضها عن المليون.

وقد حدثت في عام 1958 محاولة فاشلة للتغلب على هذا الضعف الناجم عن الانقسام وكانت تريد أن تؤسس ولايات متحدة أفريقية، ثم جاءت بعدها تحالفات واتحادات جزئية وتجارب متعددة لإقامة ترتيبات فيدرالية، نتجت عنها أخيراً منظمة الوحدة الأفريقية في عام 1963، خاصة بفضل جهود إمبراطور أثيويبا هايلي سيلاسي.

أما السجل الاقتصادي لأفريقيا السوداء فقد كان يتراجع من سيء إلى أسوأ، إن إفريقيا هي القارة الوحيدة التي كان فيها نمو الناتج المحلي الإجمالي السنوي للفرد الواحد في حالة انخفاض منذ عام 1960 وذلك بمعدل 0.1% في أواخر السبعينات و 1.7% بين عامي 1980-1985. وكان تراجع الزراعة منتشراً في السبعينيات، كما تخربت السياسات التجارية والصناعية بسبب اهتمام السياسيين بالناخبين في المدن وبسبب الفساد والاستثمارات الوهمية.

أما أعداد السكان فكانت ترتفع بلا هوادة والمجاعة تعاود بلا هوادة أيضاً، ثم جاء الركود الاقتصادي العالمي إثر ثورة النفط في عام 1973 فكانت له تأثيرات مدمرة، وتفاقمت الأوضاع أكثر خلال بضع سنين بفعل القحط المتكرر.

وتفشت على هذه الخلفية الريبة بالسياسة كما ضل أبطال حقبة الاستقلال طريقهم، وأدى غياب النقد الذاتي أو التعبير عنه على الأقل إلى أشكال جديدة من السخط والاستياء فقمتها الحرب الباردة. ومع هذا لم يكتب للثورة الشيوعية قدر هام من النجاح، والمفارقة أن الأنظمة الماركسية لم تتمكن من ضرب جذورها إلا في أثيوبيا وهي أكثر الدول الإقطاعية تخلفاً بين دول أفريقية، وفي المستعمرات البرتغالية السابقة وهي أقل المستعمرات تطوراً، بينما كانت المستعمرات الفرنسية والبريطانية السابقة أقل تأثراً بهذا المذهب.

نظام الفصل العنصري (الأبارتايد)

وراح الناس بالطبع يبحثون عن أكباش فداء سهلة لمصائبهم، فضعف التركيز على الحكام الاستعماريين السابقين وتحول إلى موضوع التقسيم العرقي في أفريقيا إلى سوداء وبيضاء، الذي كان تقسيماً صارخاً في أكبر دول القارة، أي اتحاد جنوب أفريقيا.

لقد كان البور المتحدثون باللغة الأفريقية هم المهيمنين سياسياً، وكانوا دوماً يغذون مظالمهم القديمة ضد البريطانيين والتي ازدادت حدة بسبب حرب البور. أما روابط جنوب أفريقيا بمجموعة الكومنولث البريطانية فكانت تضعف باستمرار.

ورغم أن جنوب أفريقيا قد دخلت حرب عام 1939 ضد ألمانيا وقدمت قوات هامة للمحاربة فيها، فإن الأفارقة المتشددين كما صاروا يسمون أنفسهم كانوا يدعمون حركة تميل للتعاون مع النازيين، وقد أصبح قائدها رئيساً للوزراء في عام 1948.

وفي عام 1961 خرجت جنوب أفريقيا من رابطة الكومنولث وأصبحت جمهورية، وكان الأفارقة في ذلك الحين قد بنوا لأنفسهم مكانة اقتصادية في قطاعات الصناعة والمال فضلاً عن معاقلهم التقليدية في الأرياف، وفرضوا في الوقت نفسه نظاماً من الفصل بين العرقين هو نظام الأبارتايد، الذي كان يسعى سعياً حثيثاً ومنهجياً لتقييد الأفارقة السود بالمرتبة المتدنية التي تقتضيها إيديولوجية البور.

وتكمن جذور معتقدات البور في فكرة أن الله نفسه ضد التزاوج بين العرقين، وفي مفهوم دارويني فظ عن الدونية الوراثية للعرق الأسود، وقد اجتذبتهم أفكارهم أحياناً البيض الآخرين في أفريقيا. وعندما انفصلت روديسيا عن الكومنولث في عام 1960 صار يخشى أن يرغب حكامها بمجتمع أشبه بمجتمع جنوب أفريقيا.

واحتارت الحكومة البريطانية ولم يكن بإمكان الدول الأفريقية أن تفعل شيئاً في ذلك الحين، ولا استطاعت الأمم المتحدة أن تأتي بشيء هام عدا عن أنها فرضت على أعضائها أن يقاطعوا هذه المستعمرة السابقة مقاطعة تجارية، ولكن الكثير من دول أفريقيا السوداء تجاهلت المقاطعة كما غضت الحكومة البريطانية الطرف عن تلك الخروق، ولم تشعر أنها قادرة على التدخل العسكري لقمع ثورة صريحة مثل التي حدثت في عام 1776، والتي كانت بالطبع سابقة مؤلمة.

كانت جنوب أفريقيا أغنى دول المنطقة وأقواها، وكانت هي وروديسيا والمستعمرات البرتغالية موضع غضب الأفارقة السود المتزايد في بداية السبعينيات. ولم تخفف من شدة الصراع بين العرقين التنازلات الزهيدة التي قدمت للسود في جنوب أفريقيا، ولو أن بعض الدول السوداء كانت تعتمد على روابطها الاقتصادية بالجمهورية.

ولكن بعد أن انسحب البرتغاليون من أنغولا استلم السلطة فيها نظام ماركسي، فجعل هذا التطور حكومة جنوب أفريقيا تحسب حساباً له، كما أن مستقبل روديسيا بدا مظلماً إذ صار بالإمكان خوض حملة عصابات ضدها من موزمبيق التي زال منها حكم البرتغال. وراحت الحكومة الأمريكية تتأمل برعب عواقب الحرب الباردة إذا ما انهارت روديسيا على أيدي الوطنيين السود المعتمدين على الدعم الشيوعي. فضغطت على جنوب أفريقيا، التي ضغطت بدورها على روديسيا.

وفي أيلول/سبتمبر 1976 أخبر رئيس وزراء روديسيا مواطنيه بأسى أن عليهم القبول بمبدأ حكم الأكثرية السوداء، وهكذا فشلت المحاولة الأخيرة لتأسيس دولة أفريقية يسيطر عليها البيض.

وظل الوطنيون الأفارقة يسعون لتحقيق استسلام غير مشروط، ولكن روديسيا عادت إلى الحكم البريطاني لفترة وجيزة في عام 1980 قبل أن يعود إليها استقلالها تحت اسم زمبابوي، وبذلك صارت جنوب أفريقيا هي الدولة الوحيدة التي يسيطر عليها البيض في القارة.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://resalahmasriyah.mam9.com
Eng. Ahmedzoubaa
Admin
Eng. Ahmedzoubaa


عدد المساهمات : 1216
تاريخ التسجيل : 28/08/2010
العمر : 50

الفصل الخامس عشر -العصر الأخير: حقبة متقلقلة  Empty
مُساهمةموضوع: رد: الفصل الخامس عشر -العصر الأخير: حقبة متقلقلة    الفصل الخامس عشر -العصر الأخير: حقبة متقلقلة  Emptyالخميس 16 يونيو 2011 - 6:00

صين جديدة

عند نهاية الحرب العالمية الثانية كانت الصين مشغولة بعد في صراعات حول طريقة الاستمرار بعملية تحديث البلاد، ولاتدين هزيمة اليابان بالكثير لها، عدا عن الأعباء التي فرضها احتلالها على قوة اليابانيين.

كان حزب الكوميتانغ متحالفاً بالاسم مع الشيوعيين، ولكنه كان يدخر قوته ليوم الحساب معهم، بينما راح القائد الشيوعي ماوتسي تونغ يحث رفاقه على تعميق جذورهم في الأرياف عن طريق كسب الفلاحين إلى طرفهم، أما حزب الكوميتانغ فكان عادة يمارس القمع من جديد في المناطق التي يسيطر عليها، ويرهب الفلاحين لدفع ضرائب أعلى وتسديد الأجور التي يطالبهم بها أصحاب الأراضي الذين يدعمون هذا الحزب.

فعندما انهار اليابانيون بأسرع من المتوقع كان الشيوعيون في أماكن كثيرة مؤهبين لاستلام أسلحتهم واستلام السلطة أيضاً. وساعدتهم في الشمال وفي منشوريا القوات السوفييتية، بينما سار الأمريكان بالمقابل في بعض المرافئ الأساسية بأسرع ما يمكن، واحتفظوا بها حتى وصلت إليها قوات الكوميتانغ.

ثم بدأت ثلاث سنوات من الحرب الأهلية، وضعفت قبضة حكومة الكوميتانغ بسرعة، وصار جنودها وإداريوها يعتقدون أن الشيوعية قد تكون السبيل الأفضل لمستقبل الصين، وكان الأمريكان قد سئموا من عدم فعالية هذا النظام وفساده، فسحبوا قواتهم في عام 1947 وبدؤوا يقلصون مساعداتهم له.

وفي عام 1948 اضطرت الحكومة أن تنسحب إلى تايوان، ومازالت خليفتها هناك حتى اليوم، فصار بإمكان الشيوعيين أن يرسخوا أقدامهم على البر الرئيسي، وفي الأول من تشرين الأول/أكتوبر 1949 أعلن عن تأسيس جمهورية الصين الشعبية الشيوعية في بكين، التي عادت لتصبح عاصمة البلاد من جديد، وأعيد توحيد الصين أخيراً تحت حكم نظام لاغبار على ثوريته.

الفصل الخامس عشر -العصر الأخير: حقبة متقلقلة  China_map

خريطة الصين

الصين الشيوعية

كان الاتحاد السوفييتي أول دولة اعترفت بالنظام الجديد في الصين، وأتت بعدها بزمن قصير المملكة المتحدة والهند وبورما، ولم يكن أمام قادة الصين أي خطر حقيقي من الخارج، فأمكنهم التركيز على مهمة صعبة وهائلة كانت تنتظر الاهتمام بها منذ زمن بعيد ألا وهي مهمة تحديث البلاد. فقد كان الفقر في كل مكان، وكانت الأمراض وسوء التغذية واسعة الانتشار، وكانت البلاد منذ زمن طويل بحاجة لبنائها مادياً، وكان ضغط السكان على أرض شديداً كالعادة، كما لم يكن هناك بد من ملء الفراغ المعنوي والإيديولجي الذي خلفه انهيار النظام القديم على مدى القرن السابق.

وكانت الأرياف هي نقطة البداية، فأطيح بزعماء القرى وأصحاب الأراضي بصورة عنيفة، وقال ماوتسي تونغ نفسه أن 800.000 صيني قد تمت تصفيتهم خلال السنوات الخمس الأولى، من عمر الجمهورية الشعبية، وهذا الرقم حتماً أقل من العدد الحقيقي، بينما دفعت عملية التصنيع إلى الأمام بمساعدة سوفييتية.

إن الوحدة السطحية التي كانت تبدو في الكتلة الشيوعية والمعاهدة الصينية السوفييتية لعام 1950 قد فسرتا كدليل على أن الصين الجديدة تدخل الحرب الباردة، خاصة في الولايات المتحدة التي كانت تصر على عدم انضمامها إلى منظمة الأمم المتحدة. صحيح أن حكامها كانوا يتحدثون عن الثورة وعن مناهضة الاستعمار وأن خياراتهم كانت محكومة بمعايير الوضع الدولي، ولكنهم كانوا منذ البداية يبدون الكثير من الهموم التقليدية لسياسة الصين، خاصة في سعيهم لإعادة ترسيخ الدائرة التاريخية لنفوذها.

إن احتلالهم للتيبت في عام 1951 يذكر بأنها كانت تحت السيادة الإمبراطورية طوال قرون عديدة، كما أن كوريا كانت هي أيضاً واحدة من المناطق القديمة التي تهم الصين، ولم تكن استجابة الصينيين حول نهار بالو الواقع بين منشوريا وكوريا إزاء التهديد الأمريكي في عام 1950 بالأمر الغريب. ولكن منذ البداية كان الصخب الأعلى يدور حول تايوان، التي احتلها اليابانيون من الصين في عام 1895 ولم تعد إلى سيطرتها إلا لفترة وجيزة في عام 1945.

وكانت الحكومة الأمريكية ملتزمة التزاماً عميقاً بنظام الكوميتانغ، فأعلنت في عام 1955 أنها سوف تحمي هذا النظام التابع لها، وقد استحوذ موضوع الكوميتانغ على السياسة الأمريكية طوال أكثر من عقد كامل فكان مصدر إزعاج واستثارة لها في بعض الأحيان، وبالمقابل ساندت كل من الهند وروسيا بكين خلال الخمسينيات حول موضوع تايوان، وكانتا تصران على أن هذا الموضوع هو موضوع صيني داخلي بحت، ولم يكن التأييد يكلفهما شيئاً.

التعقيدات الدولية

إلا أن العقد التالي قد أتى بتوترات بين الصين وبين هاتين الدولتين أي الهند وروسيا، اللتين كانتا تبدوان صديقتين لها. فعندما زاد الصينيون من إحكام قبضتهم على التيبت في عام 1959 بدأت النزاعات على الأراضي مع الهند. ولم يقبل الصينيون الاعتراف بالحدود التي رسمتها المفاوضات بين البريطانيين وأهل التيبت والتي لم تقبلها أي حكومة صينية بصورة رسمية، أما كون تلك الحدود موجودة بحكم العرف منذ أكثر من أربعين سنة فلم يكن له وزن يذكر أمام تاريخ الصين الذي يعد بآلاف السنين، ونشب الاقتتال على الحدود في خريف عام 1962 فلم يبل الهنود فيه بلاء حسناً ولم ينسحب الصينيون.

وفي عام 1963 أذهلت الصين العالم عندما أعلنت شجبها لقطع الاتحاد السوفييتي مساعداته الاقتصادية والعسكرية عنها ومساعدته للهند، وكان لهذا العداء تاريخ قديم، فقد كان الشيوعيون الصينيون يذكرون حصول توترات بين النفوذ السوفييتي والنفوذ المحلي على قيادة الحزب الصيني منذ العشرينيات، وكان ماو يمثل الفريق الثاني. ولكن هذا الموضوع قدم لبقية العالم بتعابير ومصطلحات ماركسية محيرة. وبينما كانت القيادة الجديدة في روسيا تحاول تبديد الأسطورة الستالينية كان الصينيون يتحدثون بلهجة ستالينية ويمارسون في الوقت نفسه سياسات مناهضة للاتحاد السوفييتي.

الحقيقة أن للخلافات الصينية السوفييتية جذوراً عميقة جداً، فقبل تأسيس الحزب الشيوعي الصيني بزمن طويل، كانت الثورة الصينية مدفوعة بالسخط على الأجانب، وكان الروس دوماً من أهمهم.

كان بطرس الأكبر قد بدأ بالاعتداء على دائرة نفوذ الصين، ثم استولى خلفاؤه في القرن التاسع عشر على أراضي صينية أوسع مما أخذته أية قوة أجنبية، ولم تنقطع الاستمرارية التاريخية بسقوط النظام القيصري، فقد أعلن الروس عن محمية لهم في منطقة تانو توفا في عام 1914، ثم قام الاتحاد السوفييتي بضمها في عام 1944.

وفي عام 1945 دخلت الجيوش الروسية منشوريا وشمال الصين فاستعادت بذلك الشرق الأقصى الذي كان بيد القياصرة في عام 1900، وقد بقيت في سين كيانغ حتى عام 1949 وفي بورت آرثر حتى عام 1955، أما في منغوليا فقد ترك السوفييت وراءهم جمهورية شعبية تابعة لهم.

ولما كانت تفصل بين روسيا والصين حدود مشتركة طولها حوالي 4.500 ميل/7200 كم، إذا ضممنا غليها منغوليا فإن احتمال النزاع بين هاتين الدولتين الشيوعيتين كان كبيراً جداً، وسرعان ما بدأت المناوشات والخلافات بعد إعلان تأسيس الجمهورية الديمقراطية الشعبية.

كان ماوتسي تونغ يعرف كيف يكون متوحشاً كما تقتضي النظرية البلشفية، ولكن كان لديه مع ذلك إيمان راسخ بالحلول العملية وبالعبر التي يتعلمها المرء بالخبرة، وكان ينادي بشكل من الماركسية خاص بالصين. ولهذا لم يكن لديه احترام كبير للآراء السوفييتية في الستينيات.

كان موقفه من المعرفة والأفكار موقفاً عملياً ونفعياً تماماً، فكان في هذا الأمر يسير على التقاليد الصينية، وكان ذلك من الأسباب التي منعت علاقته بالحزب الشيوعي الصيني من أن تسير بصورة سلسة. وهو لم يبلغ قمة السلطة إلا عندما تغلبت الكوارث على الشيوعية في المدن بينما كان هو يرى في الفلاحين طريق المستقبل، وإن فكرة الحرب الثورية المديدة التي تبدأ في الأرياف وتمتد إلى المدن قد صارت تبدو فكرة واعدة في أنحاء أخرى من العالم، حيث لم يقتنع الناس بالعقيدة الماركسية الأصلية التي تقول أن التطور الصناعي ضروري لدفع البروليتاريا إلى الثورة.

صعود ماو

لق تزامن سحب السوفييت لمساعداتهم الاقتصادية والتقنية للصين في عام 1960، مع تأثير الكوارث الطبيعية التي حلت بالبلاد، وتقول المصادر الرسمية الصينية أن الفيضانات أغرقت 150 مليون أكر/60مليون هكتار من الأراضي الزراعية.

وقد جاءت هذه الكوارث إثر الفشل الذريع للقفزة الكبرى إلى الأمام، وهي عبارة عن عملية اقتصادية كاسحة أطلقها ماو بهدف إبطال المركزية الاقتصادية ونبذ التخطيط المركزي على النمط الروسي بما يحمل من أخطار إدارية.

وقد قلبت هذه القفزة الكبرى حياة الريف رأساً على عقب، وحفرت أثلاماً عميقة في التقاليد الزراعية وفي الحياة الاجتماعية للعائلة والقرية وكانت كارثة حقيقية، وقد تأثرت مكانة ماو بذلك أيما تأثر، وأعاد خصومه الاقتصاد إلى طريق التحديث، ومن المظاهر البارزة لذلك تفجير القنبلة الذرية الصينية في عام 1964، وهي بطاقة اشتراك مكلفة في هذا النادي المقتصر على عدد قليل جداً من الأعضاء.

وقد تمكنوا من تجنب المجاعة والاحتفاظ بولاء الشعب، وبينما كان عدد سكان الصين يتابع ارتفاعه بلا هوادة كان قادتها يتحدثون دون انفعال عن احتمال نشوب حرب ذرية، إذ أن الصينيين سوف ينجون منها بأعداد أكبر من سكان أي دولة أخرى، إلا أن الصين ظلت متأخرة في مجال التحديث.

وظلت الأحداث الجارية في الاتحاد السوفييتي تؤثر في صياغة سياسة الصين، فبعد موت ستالين كان الفساد ومقاومة التجديد واضحين في الإدارة السوفييتية، وإن الخوف من حدوث أمر مشابه في الصين قد دفع ماو للقيام بمحاولته الأخيرة لكي يهيمن بأفكاره على الجيل الجديد من خلال الثورة الثقافية التي أتى بها بين عامي 1966-1969 فقد خشي أن تبرد الثورة وتفقد زخمها المعنوي وقرر أن حمايتها تقتضي القضاء على الأفكار القديمة.

وحاول أن يوازن نشوء الطبقة الحاكمة الجديدة، فأغلق الجامعات وفرض العمل الجسدي على جميع المواطنين من أجل تغيير مواقفهم التقليدية نحو المثقفين، وتجدد التشديد على التضحية بالذات وعلى فكر الرئيس ماو، وفي عام 1968 كانت البلاد قد زعزعت من رأسها حتى قدميها.

لقد كان ماو في البداية مؤيداً للحراس الحمر الذين قادوا الثورة الثقافية، ولكنه في النهاية بات مضطراً للتسليم بأن الأمور قد تجاوزت حدها، وأخيراً وبعد ثلاث سنوات من الهيجان تدخل الجيش ليعيد النظام ويضع ملاكات –كوادر- جديدة. وكان ماو قد فشل ولو أن مؤتمراً للحزب قد أعاد تثبيت قيادته، وربما قتل في تلك الأثناء نصف مليون إنسان أو دفعوا إلى الانتحار، عدا عن الذين قتلوا في السابق.

لقد كانت الثورة الثقافية حدثاً شاذاً، ولكنها واحدة من أوسع الثورات في تاريخ العالم من حيث مداها ورغبتها بتغيير الأوضاع، كان المجتمع والحكم والاقتصاد دوماً متداخلة ومتشابكة فيما بينها في الصين بصورة لاتجد مثيلاً لها في أي بلد آخر، وكانت المكانة التقليدية للمثقفين والأدباء تجسد النظام القديم، وكانت الهجمات المقصودة على سلطة العائلة هجمات على أكثر مؤسسات الصين محافظة.

وإن دفع المرأة إلى الأمام ومناهضة الزواج المبكر كانت اعتداءات على الماضي لم تقم بمثلها أي ثورة أخرى من قبل، لأن دور المرأة في الصين كان دوماً متدنياً ودون دورها في المجتمعات الأخرى قبل أن تعرف الثورة، مثل مجتمع أمريكا أو فرنسا أو حتى روسيا.

ولم يكن الهجوم على قادة الحزب واتهامهم بالتعاطف مع الأفكار الكونفوشية مجرد إهانة وتعيير لهم، بل إنه كان في الوقت نفسه هجوماً على تاريخ الصين الهائل الذي كانت تسعى لقهره والتغلب عليه.

ويمكننا اعتبار الثورة الصينية واحدة من الاندفاعات الكبرى في التاريخ، وهي تقارن بانتشار الإسلام وبهجوم أوروبا على العالم في بداية الأزمنة الحديثة ولكن المفارقة أن هذه الثورة لم تكن ممكنة من دون توجيه مقصود، فقد كانت الحكومة في الصين تتمتع بالمكانة السحرية التي كانت للسلالات الإمبراطورية من قبلها والتي كانت تحمل انتداباً بالحكم من السماء.

ومازالت التقاليد الصينية تؤيد السلطة تاييداً معنوياً اختفى في الغرب منذ زمن بعيد ولن تجد مجتمعاً مثلها زرع في أبنائه فكرة أن الأفراد أقل أهمية من الجماعة، وأن السلطة يحق لها أن تفرض الخدمات على ملايين الناس مهما كلفهم ذلك من أجل النهوض بأعمال كبرى لمصلحة الدولة، وأن تلك السلطة لاتخضع للمساءلة إذا كانت تمارس من أجل المصلحة العامة.

إن مفهوم المعارضة مكروه في الصين لأنه يوحي بخطر التمزق الاجتماعي، وقد كان ماو جزءاً من هذا التقليد فاستفاد من ماضي الصين لكي يحطمه، وكان ديكتاتوراً لعقيدة أخلاقية قدمت على أنها قلب المجتمع وروحه، تماماً مثلما كانت الكونفوشية من قبلها.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://resalahmasriyah.mam9.com
Eng. Ahmedzoubaa
Admin
Eng. Ahmedzoubaa


عدد المساهمات : 1216
تاريخ التسجيل : 28/08/2010
العمر : 50

الفصل الخامس عشر -العصر الأخير: حقبة متقلقلة  Empty
مُساهمةموضوع: رد: الفصل الخامس عشر -العصر الأخير: حقبة متقلقلة    الفصل الخامس عشر -العصر الأخير: حقبة متقلقلة  Emptyالخميس 16 يونيو 2011 - 6:01

شرق آسيا جديد

منذ زمن موت ستالين كانت تزداد صحة تنبؤ قام به رجل دولة من جنوب أفريقيا هو سماتس قبل أكثر من ربع قرن، عندما قال :”إن مسرح الأحداث قد انتقل من أوروبا إلى الشرق الأقصى والمحيط الهادي”. وبعد كوريا ظهر دور الهند الصينية.

كانت الهند الصينية تتبع تقليدياً للصين، وقد تباعدت فيها السياستان السوفييتية والصينية مخففة بذلك من حدة التباين بين الشرق والغرب في الحرب الباردة. وبعد دين بين فو تم عقد مؤتمر جنيف اتفق فيه على تقسيم فيتنام بانتظار إجراء انتخابات قد تعيد توحيد البلاد، ولكن تلك الانتخابات لم تحدث قط.

وبدلاً من ذلك جرت في الهند الصينية أشرس مرحلة منذ عام 1945 من حرب آسيا ضد الغرب التي ابتدأت في عام 1941، ولكن الطرف الغربي في هذا الصراع لم يعد مكوناً من الحكام الاستعماريين السابقين بل من الأمريكان، وفي الطرف الآخر كان هناك مزيج من الشيوعيين والوطنيين والمصلحين من أهل الهند الصينية بدعم من الصين والاتحاد السوفييتي.

إن عداء الولايات المتحدة للشيوعية وإيمانها بالحكومات المحلية جعلاها تدعم الفيتناميين الجنوبيين مثلما كانت تدعم الكوريين الجنوبيين والفيليبين. ولكن لم يظهر في فيتنام الجنوبية أنظمة لاغبار على شرعيتها في أعين مواطنيها، بل صارت هذه الأنظمة تعتبر تابعة للعدو الغربي المكروه في شرق آسيا كرهاً شديداً.

وكانت الطبقة الحاكمة تبدو فاسدة ولكنها استمرت رغم تبدل الحكومة المرة تلو المرة، أما الشيوعيون فقد كانوا يسعون لتوحيد البلاد عن طريق دعمهم من الشمال لحركة سرية في الجنوب هي حركة الفيت كونغ.

وفي عام 1962 قرر الرئيس الأمريكي جون كندي إرسال 4.000 مستشار أمريكي لمساعدة حكومة فيتنام الجنوبية، وكانت تلك خطوة واضحة نحو تورط أمريكي في حرب كبرى على البر الرئيسي لآسيا، وهذا ماكان ترومان يخشاه من قبل ويسعى إلى تجنبه.

الفصل الخامس عشر -العصر الأخير: حقبة متقلقلة  Asiaoriental

فكرة العالم الثالث

كانت الحياة الدولية في ذلك الحين قد ازدادت تعقيداً، ومن مظاهر هذا التعقيد ظهور دول تقول أنها دول محايدة أو دول عدم الانحياز، وقد اجتمع ممثلو تسع وعشرين دولة أفريقية وآسيوية في باندونغ بإندونيسيا في عام 1955، وكانت أكثرها ماعدا الصين أجزاء من الإمبراطوريات الأوروبية القديمة، وسرعان ما انضمت إليهم يوغوسلافيا، مع أنها لم تكن تابعة لإمبراطورية منذ عام 1918.

كانت هذه البلاد فقيرة وبحاجة إلى مساعدة، وكان ارتيابها بالولايات المتحدة أكبر من ارتيابها بروسيا، وكانت أكثر ميلاً للصين، وقد سميت فيما بعد دول العالم الثالث، ويبدو أن هذه التسمية قد وضعها صحفي فرنسي لكي يذكر بالطبقة الثالثة التي كانت هي الطبقة المحرومة من الحقوق في فرنسا في عام 1789، والتي أعطت الثورة الفرنسية الكثير من زخمها واندفاعها.

وكانت هذه الدول تشعر أنها مهملة من قبل القوى العظمى ومحرومة من المزايا الاقتصادية التي تتمتع بها الدول المتطورة، وأنها تستحق كلمة أكبر في إدارة شؤون هذا العالم، وقد قيل الكثير عن هذا الموضوع في الأمم المتحدة. إلا أن تعبير العالم الثالث يخفي وراءه فروقاً هامة فيما فيما بينها، وإن أعداد الناس الذين قتلوا في حروب العالم الثالث وحروبه الأهلية منذ عام 1955 أكبر من أعداد الذين قتلوا في صراعات خارجة عنه.

وراحت كل من روسيا والصين تسعى لقيادة دول عدم الانحياز النامية، وقد ظهر هذا الأمر في البداية بصورة غير مباشرة، فقد اختلفت الدولتان حول يوغوسلافيا وبمرور الزمن صارت باكستان أقرب إلى الصين بالرغم من معاهدتها مع الولايات المتحدة، وصارت روسيا أقرب إلى الهند التي كانت الولايات المتحدة حتى عام 1960 تمنحها أكبر مساعدات اقتصادية مما تمنحه أي دولة أخرى، وعندما رفضت الولايات المتحدة تزويد باكستان بالأسلحة في عام 1965 طلبت هذه مساعدة الصين. وكانت هذه التغيرات دليلاً على ميوعة جديدة في العلاقات الدولية.

لقد سببت أندونيسيا أيضاً المصاعب للقوى العظمى، كان امتدادها الشاسع يضم شعوباً كثيرة ذات مصالح متباعدة جداً، وكان رحيل الهولنديين قد حررها من قسوة الحكم الأجنبي ولكن في الوقت نفسه بدأت تظهر مشاكل ما بعد الاستعمار المألوفة، مثل فرط عدد السكان والفقر والتضخم.

وكان الاستياء يتزايد من حكومتها المركزية في الخمسينيات، وبحلول عام 1957 كانت قد واجهت ثورة مسلحة في سومطرة وقلاقل في أنحاء أخرى. وقد جربت الطريقة القديمة المعتمدة على إلهاء المعارضة عن طريق تهييج المشاعر الوطنية ولكنها لم تنجح طويلاً.

كان الرئيس سوكارنو قد ابتعد عن الأساليب الليبرالية التي تم تبنيها عند ولادة هذه الدولة الجديدة وحل البرلمان في عام 1930، وفي عام 1963 عين رئيساً مدى الحياة. وكان كل من الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة يخشى أن يميل سوكارنو إلى الصين فوقفا إلى جانبه زمناً طويلاً فمكنه هذا الوضع من فرض قوته والهجوم على ماليزيا، التي كانت اتحاداً فيدرالياً شكل في ذلك العام نفسه من أجزاء من الإمبراطورية البريطانية في جنوب شرقي آسيا.

ولكن ماليزيا تمكنت من التغلب على هجمات إندونيسيا بمساعدة بريطانيا، ويبدو أن هذه النكسة كانت هي نقطة التحول في سلطة سوكارنو.

لقد أدى نقص الطعام والتضخم إلى محاولة انقلاب قام بها الشيوعيون أو هذا ماقاله العسكريون، في عام 1965، ووقف الجيش يتفرج بينما راحت المجازر الشعبية تقضي على الشيوعيين الذين كان بإمكان سوكارنو أن يعتمد عليهم، ثم أزيح هو أيضاً في العام التالي واستلم السلطة نظام معاد للشيوعية عداء راسخاً، وقطع علاقاته الدبلوماسية بالصين.

كانت استعادة الصين لقوتها بحلول عام 1960 هي الحقيقة الاستراتيجية الأساسية في الشرق الأقصى. وحتى كوريا الجنوبية واليابان استفادتا من الثورة الصينية، لأنها أعطتهما قوة في التعامل مع الغرب. وقد كان أهل شرق آسيا يعززون استقلالهم بأشكال مختلفة سواء كانوا شيوعيون أو غير شيوعيين، ونادراً ما استسلموا لمحاولات الصين المباشرة في التدخل بشؤونهم.

ولاريب أن هذا الأمر مرتبط بالنزعة المحافظة العميقة في مجتمعاتهم، إذ يتميز الآسيويون الشرقيون بانضباطهم وقدرتهم على القيام بمجهود اجتماعي بناء، وتقليلهم من قيمة الفرد، وتبجيلهم للسلطة والتسلسل الهرمي ووعيهم العميق لانتمائهم إلى حضارات يفتخرون بتميزها عن الغرب، وكانت هذه كلها أسساً يعتمدون عليها في حماية استقلالهم وصونه.

تعافي اليابان

كان استسلام اليابان قد اتخذ ستالين على حين غرة، ورفض الأمريكيون بشدة مطالبه بحصة في احتلال لم يفعل الاتحاد السوفييتي شيئاً لتحقيقه، وبدؤوا وحدهم آخر المراحل الكبيرة للسيطرة الغربية في آسيا. ولكن اليابانيين أظهروا من جديد موهبتهم المدهشة في تعلم ما يريدون من الآخرين وترك مالا يريدون. وكان عام 1945 خطاً فاصلاً بالنسبة لهم.

لقد أقحمتهم الهزيمة نفسياً في القرن العشرين الذي لم يدخلوه سابقاً إلا من الناحية التقنية، وواجهتهم بسببها مشاكل عميقة ومؤرقة حول هويتهم القومية وأهداف بلادهم، وقد تبدد حلم آسيا للآسيويين وترك انسحاب الاستعمار اليابان من دون دور واضح في آسيا، كما أن الحرب قد كشفت عن ضعفها فكانت تلك صدمة كبيرة. وكان اقتصاد البلاد مخرباً، إذ دمر أكثر من ثمانين بالمئة، من قطاع الشحن وحده فيها، وفوق كل هذا سببت لها الهزيمة فقدان الأراضي والاحتلال.

ولكن الصورة لم تخل من بعض العناصر الإيجابية، فقد مكنت الملكية البلاد من الاستسلام، فصار الكثيرون من اليابانيون يرون في الإمبراطور مخلصهم من الفناء، وكان القائد الأمريكي في المحيط الهادي الجنرال ماك آرثر حريصاً على أن يتبنى اليابانيون دستوراً ملكياً جديداً قبل أن يتدخل المتحمسون الجمهوريون في الولايات المتحدة.

وكان تماسك المجتمع الياباني وانضباطه ميزتين أخريين، ولو أن تصميم الأمريكان على جعل البلاد ديمقراطية قد بدا خطراً عليها لفترة من الزمن، إن ما قامت به اليابان من إصلاح كبير للأراضي وديمقراطية التعليم ونزع للأسلحة بعناية كبيرة قد اعتبرت كلها في عام 1951 كافية لعقد معاهد سلام بينها وبين أكثر خصومها السابقين، ماعدا الوطنيين الصينيين والاتحاد السوفييتي، الذي عقد معاهدة خلال بضع سنوات، فاستعادت اليابان سيادتها الكاملة وسيطرتها على شؤونها ولو بقيت القوات الأمريكية في أراضيها؛ وكانت أوضاعها تبدو على مايرام ولو أنها كانت تواجه في الصين بلداً أقوى وأشد تماسكاً بكثير مما كان عليه طوال قرن سابق.

وسرعان ما بدأت نتائج الاحتلال الأمريكي بالتغير، إن بين اليابان والصين 500 ميل/800كم من المياه ولكن كوريا وهي منطقة التنافس الإمبراطوري القديمة لاتبعد عنها إلا بمسافة 150ميلاً/240 كم وتبعد عنها الأراضي السوفييتية مسافة عشرة أميال فحسب 16 كم.

وقد جلبت الحرب الباردة في آسيا مكاسب حقيقية لليابان، فسرعان ما ارتفع إنتاجها الصناعي إلى مستويات ما قبل الحرب، كما كانت الدبلوماسية الأمريكية تعزز مصالح اليابان في الخارج، ولما كان ممنوعاً على اليابان حتى عام 1951 أن تكون لها أية قوات مسلحة فلم يكن لديها أي تكاليف دفاع بل كانت تتمتع بحماية المظلة النووية الأمريكية.

وسرعان ما برزت اليابان كجزء أساسي من نظام الأمن الأمريكي في آسيا والمحيط الهادي، وكان هذا النظام يرتكز أيضاً على معاهدات مع أستراليا ونيوزيلندا والفيليبين، التي أصبحت مستقلة في عام 1946 ثم تلتها معاهدات أخرى مع الباكستان وتايلاند ، وهما الحليفتان الآسيويتان الوحيدتان للأمريكيين عدا عن تايوان، أما أندونيسيا والأهم منها الهند فقد بقيتا بعيدتين.

وكانت هذه التحالفات جزئياً انعكاساً للظروف الجديدة في المحيط الهادي وللعلاقات الدولية الجديدة في آسيا، لقد بقيت قوات بريطانية في الشرق لفترة قصيرة، ولكن أستراليا ونيوزيلندا اكتشفتا أثناء الحرب أن بريطانيا غير قادة على الدفاع عنهما وأن الأمريكان قادرون على ذلك.

صحيح أن البريطانيين قادرون على دعم ماليزيا ضد إندونيسيان ولكنهم كانوا يعلمون أن هونغ كونغ لايمكن أن تستمر إلا لأن وجودها مناسب للصين، إلا أنه لم يكن بالإمكان ترتيب الأمور في منطقة المحيط الهادي على أساس الحرب الباردة وحدها؛ فصحيح أن الأمريكيين كانوا يرون في اليابان قوة قد تتصدى للشيوعية، إلا أن أستراليا ونيوزيلندا ظلتا تتذكران عام 1941 وتخشيان انتعاش قوتها، لهذا لم تكن سياسة أمريكا مبنية على الإيديولوجية وحدها ولو أن نجاح الشيوعية في الصين ورعايتها للثورات في أفريقيا وأمريكا الجنوبية ظلا يستحوذان على تفكير الأمريكان زمناً طويلاً.

والحقيقة أن بزوغ الصين قد بدل تماماً نظام الحرب الباردة الثنائي، فأصبحت روسيا زاوية في مثلت كما فقدت بروزها الفريد في الحركة الثورية العالمية، إن الحرب الباردة لم تكن بالأمر البسيط في يوم من الأيام، وقد أصبحت الآن أكثر تعقيداً من أي وقت مضى.

وإن الدعايات السياسية الفجة التي كانت تصدر عنها قد جعلتها أشبه بالصراعات الدينية المعقدة في أوروبا في القرنين السادس عشر والسابع عشر، عندما كانت الإيديولوجية تحرض على العنف وتهيج العواطف، وقد تؤدي إلى الإقناع أحياناً ولكنها لم تكن قط قادرة على احتواء التعقيدات والتيارات الكثيرة الناشئة من المصالح المختلفة، خاصة مصالح القوميات.

إلا أن الخطابات الطنانة والأوهام الكبيرة تستمر طويلاً بعد أن يكون الواقع قد تغير، ومن هذه الناحية أيضاً تبدو الحرب الباردة شبيهة بالصراعات الدينية في الأيام الغابرة.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://resalahmasriyah.mam9.com
Eng. Ahmedzoubaa
Admin
Eng. Ahmedzoubaa


عدد المساهمات : 1216
تاريخ التسجيل : 28/08/2010
العمر : 50

الفصل الخامس عشر -العصر الأخير: حقبة متقلقلة  Empty
مُساهمةموضوع: رد: الفصل الخامس عشر -العصر الأخير: حقبة متقلقلة    الفصل الخامس عشر -العصر الأخير: حقبة متقلقلة  Emptyالخميس 16 يونيو 2011 - 6:02

الحرب الباردة تصل إلى نصف الكرة الغربي

بعد حصار برلين صار كل من الطرفين في أوروبا أكثر حرصاً على تجنب المجازفات التي قد تزعزع الأمور وتحمل الخطر لهما، عندما حدثت ثورة في هنغاريا ضد نظامها الشيوعي في عام 1956 سحقتها قوات حلف وارسو، وفي عام 1962 تحركت الدبلوماسية من جديد عندما قامت الجمهورية الألمانية الديمقراطية (الشرقية) بدعم من السوفييت بعزل برلين الشرقية عن الغربية فجأة وبسرعة عن طريق بناء سور تمنع تسرب القوة العاملة الثمينة إلى أوروبا الغربية، قد خفف هذا الأمر التوتر على المدى البعيد لأنه أزال شوكة من جنب ألمانيا الشرقية.

وعندما نشبت أزمة تحمل خطر الحرب النووية في العام نفسه، لم تكن في أوروبا بل على عتبة باب الولايات المتحدة.

أما أمريكا اللاتينية فلم تتأثر كثيراً بسياسات الحرب الباردة، وكان القرن العشرون يسير فيها على إيقاعات مختلفة عنه في أوروبا وآسيا. في عام 1900 كان الجزء الأكبر من أمريكا اللاتينية ثابتاً ومزدهراً، وتشهد على ذلك حداثة مدنها الكبرى واجتذابها للمهاجرين الأوروبيين. وكان أكثر دولها تصدر المنتجات الزراعية أو المعدنية، أما قطاعاتها الصناعية فكانت ضئيلة ولم تتأثر على مايبدو بالمشاكل الاجتماعية والسياسية في أوروبا، مع أن الصراعات الطبقية كانت كثيرة في المناطق الريفية.

ثم أتت الحرب العالمية الأولى بتغيرات هامة، لقد كانت الولايات المتحدة قبل ذلك هي القوة السياسية المهيمنة في منطقة الكاريبي، ولكنها لم تكن تمارس وزناً اقتصادياً كبيراً في شؤون أمريكا الجنوبية. إلا أن هذا الوضع تغير عند تصفية الاستثمارات البريطانية خلال الحرب، فصارت الولايات المتحدة بحلول عام 1929 تؤمن حوالي أربعين بالمئة من رأس المال الأجنبي في أمريكا الجنوبية.

ثم أتى الكساد العالمي فتخلفت كثير من دول القارة عن تسديد دفعاتها للمستثمرين الأجانب وصار من المستحيل عليها أن تقترض من الخارج، إن انهيار الرفاهية هذا قد أدى إلى اشتداد المشاعر الوطنية، وكانت هذه موجهة أحياناً ضد الدول المجاورة وأحياناً ضد أمريكا الشمالية وأوروبا، وقد صودرت أملاك شركات النفط الأجنبية في المكسيك وبوليفيا، واهتزت صورة الأقليات الحاكمة التقليدية بسبب عجزها عن حل المشاكل الناجمة عن هبوط الدخل، فحدثت منذ عام 1930 انقلابات عسكرية في جميع الدول ماعدا المكسيك.

ولكن في عام 1939 عاود الازدهار بسبب ارتفاع أسعار سلع التصدير، ثم استمر الأمر على هذا الحال بفعل الحرب الكورية، وقد تقرب حكام الأرجنتين من ألمانيا النازية، ولكن أكثر الجمهوريات كانت متعاطفة مع الحلفاء الذين تقربوا منها، وانضمت أكثرها إلى جانب الأمم المتحدة قبل أن تنتهي الحرب، كما أرسلت البرازيل قوة صغيرة إلى أوروبا، فكانت تلك إشارة لافتة.

إلا أن أهم تأثيرات الحرب على أمريكا اللاتينية كانت تأثيرات اقتصادية، إذ راح الاندفاع الشديد نحو التصنيع يستجمع زخمه في دول عديدة، وشكلت عملية التصنيع هذه قوات عاملة في المدن سوف يبنى عليها شكل جديد من السلطة السياسية تنافس السلطة العسكرية والنخب التقليدية في حقبة مابعد الحرب، كما ظهرت في دول عديدة حركات جماهيرية شعبية دكتاتورية وأشبه بالفاشية.

وقد حصل تغير هام أيضاً، ولكن ليس نتيجة للحرب، في استخدام الولايات المتحدة لسلطتها المهيمنة على منطقة الكاريبي، كانت القوات المسلحة الأمريكية قد تدخلت مباشرة هناك عشرين مرة خلال السنوات العشرين الأولى من القرن، وفي حالتين منها وصل بها الأمر إلى تأسيس محميات لها. أما بين عامي 1920-1939 فلم تقم إلا بتدخلين من من هذا النوع، كما انخفض ضغطها غير المباشر فيها.

وفي الثلاثينيات أعلن الرئيس روزفلت عن سياسة حسن الجوار التي كانت تشدد على عدم التدخل، لقد كانت المشاغل الأوروبية تسيطر على السياسة الأمريكية في السنوات الأولى بعد الحرب، ولكنها بعد كوريا صارت تتجه نحو الجنوب رويداً رويداً، ولم تهتم واشنطن اهتماماً زائداً بتظاهرات المشاعر الوطنية في أمريكا اللاتينية التي كانت تميل لإيجاد كبش فداء في السياسة الأمريكية، ولكن قلقها زاد من احتمال أن يصبح نصف الكرة الغربي مأوى للنفوذ الروسي، وهكذا وصلت الحرب الباردة إلى القارة الأمريكية، وفي عام 1954 أطيح في غواتيمالا بمساعدة من الأمريكان بحكومة كانت تحظى بدعم الشيوعيين.

إن قلق الولايات المتحدة من أن يشكل الفقر والاستياء مواطئ أقدام للشيوعية قد جعلها تقدم المساعدات الاقتصادية وتهلل للحكومات التي تقول أنها تسعى للإصلاح الاجتماعي، ولكن المؤسف أنه كلما كانت برامج تلك الحكومات تسير نحو القضاء على السيطرة الأمريكية على رأس المال عن طريق التأميم كانت السياسة الأمريكية تبتعد عنها من جديد.

وهكذا وجدت الحكومة الأمريكية نفسها بالإجمال مؤيدة للمصالح القديمة في أمريكا اللاتينية كما هي في آسيا، ولو أنها قد تستنكر الأعمال المتطرفة التي تصدر عن أحد الأنظمة الدكتاتورية.

كوبا

إن الثورة المظفرة الوحيدة التي حدثت في أمريكا اللاتينية هي ثورة كوبا، وهي جزيرة تبعد مسافة قصيرة نسبياً عن الولايات المتحدة. لقد أصيبت كوبا بالذات إصابة جسيمة خلال الكساد الكبير، وكانت معتمدة على محصول واحد هو السكر الذي لم يكن له إلا مستورد واحد هو الولايات المتحدة. ولم تكن هذه الرابطة الاقتصادية إلا واحدة من روابط عديدة جعلت لكوبا علاقة خاصة بالولايات المتحدة هي أقرب وأكثر إزعاجاً من أية علاقة أخرى في أمريكا اللاتينية بتلك القوة العظمى.

وحتى عام 1934 كان دستور كوبا يضم بنوداً خاصة تحد من حريتها السياسية، وكان الأمريكان يحتفظون بقاعدة بحرية في الجزيرة ومازالوا، كما كانت هناك استثمارات أمريكية واسعة في مجال الأملاك والخدمات العامة، وإن فقر كوبا وانخفاض أسعارها قد جعلا منها دوماً منتجعاً جذاباً للسواح الأمريكان.

كانت الولايات المتحدة تعتبر هي القوة الحقيقية الكامنة وراء حكومات كوبا المحافظة في فترة مابعد الحرب ، ولكن الحقيقة أن الأمر لم يعد على هذه الصورة، إذ لم تكن وزارة الخارجية الأمريكية راضية عن دكتاتور كوبا باتيستا وقد قطعت عنه المساعدات في عام 1957.

وكان الطبيب الشاب فيدل كاسترو قد بدأ حملة عصابات ضد النظام، وقد نجح خلال سنتين، وأصبح أشبه بالبطل في نظر الولايات المتحدة، وبينما كان رئيساً للوزراء في كوبا الثورية الجديدة وصف نظامه في عام 1959 أنه إنساني وبالتحديد أنه غير شيوعي.

وكان يعمل مع طيف واسع من الأطراف الراغبة بالإطاحة بباتيستا من الليبراليين إلى الماركسيين، وكان الولايات المتحدة ترعاه وترى فيه سوكارنو منطقة الكاريبي. ولكن هذه العلاقة سرعان ماتردت حالما تحول كاسترو إلى الإصلاح الزراعي وتأميم شركات السكر، واتهام تلك العناصر الأمريكية في المجتمع الكوبي التي كانت تدعم النظام القديم. وكانت العداوة لأمريكا وسيلة منطقية أمامه بل ربما كانت الوسيلة الوحيدة لتوحيد الكوبيين وراء الثورة.

وسرعان ما قطعت الولايات المتحدة علاقاتها الدبلوماسية بكوبا، وبدأت بفرض الضغوط الاقتصادية أيضاً، وبعد زمن قصير قررت أن تساعد على الإطاحة بكاسترو عن طريق القوة، وكان المنفيون يتدربون بدعم أمريكي في غواتيمالا قبل أن يستلم الرئيس كيندي منصبه في عام 1961.

ولم يكن كيندي حذراً ولا عميق التفكير بحيث يمنع إرسال حملة ضده مالبثت أن فشلت فشلاً ذريعاً، فتحول كاسترو بحرارة نحو روسيا وأعلن في نهاية العام أنه ماركسي لينيني ومنذ ذلك الحين صارت كوبا بؤرة للثورة في أمريكا اللاتينية.

وقد وضع كاسترو جلاديه محل جلادي باتيستا وراحت حكومته تدفع بسياسات ألحقت بالاقتصاد ضرراً كبيراً، ولكنها كانت تسعى لتشجيع المساواة والإصلاح الاجتماعي، وقالت كوبا في السبعينيات أن لديها أخفض معدل لوفيات الأطفال في أمريكا اللاتينية، وظلت أمور البلاد تسير بفضل المساعدات الاقتصادية الروسية.

الفصل الخامس عشر -العصر الأخير: حقبة متقلقلة  Cuba-map

خريطة كوبا

الأزمة

وسرعان ماحدثت بعد ذلك أخطر المواجهات في الحرب الباردة كلها، وهي التي كانت على الأرجح نقطة التحول فيها، فقد قررت الحكومة السوفييتية أن تضع في كوبا صواريخ قادرة على بلوغ أي ركن من أركان الولايات المتحدة،

وأكدت الصور الفوتوغرافية الاستطلاعية الأمريكية في تشرين الأول/أكتوبر 1962 أن الروس يبنون مواقع لها، فعندما تبينت حقيقة هذا الأمر بما لايدع مجالاً للشك أعلن الرئيس كيندي أن بحرية الولايات المتحدة سوف توقف أي سفينة تحمل المزيد من الصواريخ إلى كوبا، وأن الصواريخ الموجودة فيها يجب أن تسحب.

وتم تفتيش سفينة لبنانية في الأيام التي تلت، أما السفن الروسية فكانت تراقب فقط وقد جهزت القوة الضاربة النووية الأمريكية من أجل الحرب، وبعد مرور بضعة أيام، وتبادل عدد من الرسائل الشخصية بين كيندي والزعيم السوفييتي خروتشوف وافق الأخير على ضرورة سحب تلك الصواريخ.

لقد كان تأثير هذه الأزمة على العلاقات بين القوتين العظميين وعلى تقييم كل منهما للأخرى تأثيراً عميقاً، كانت تقنية الفضاء السوفييتية قد أشعرت الأمريكيين بالخطر منذ أواخر الخمسينيات ولكن الذي بدا الآن هو أن لدى الولايات المتحدة بالرغم من ذلك قوة راجحة لايمكن تحديها.

وقد قام الاتحاد السوفييتي بجهود جبارة وناجحة لتقصير المسافة التي تفصله عن أمريكا خلال السنوات القليلة التالية، إلا أن الحرب الباردة كانت قد تجاوزت أخطر نقاطها، ورغم أنها استمرت فسوف تأتي مرحلة من الاتصال والتفاوض بصورة أوثق ولو أنها متقطعة بين هاتين القوتين العظميين في كافة أنواع المسائل.

وبحلول منتصف السبعينيات كان هناك شعور متزايد بأن أيام الأفكار العامة والبسيطة قد انقضت. صحيح أن هذين العملاقين الكبيرين ظلا يهيمنان على العالم مثلما كانت الحال منذ عام 1945 وأنهما كانا في بعض الأحيان يتحدثان وكأنهما يقتسمانه إلى أتباع وأعداء، إلا أنهما كان قد واجها احتمال الحرب النووية كنتيجة أخيرة للتوسع الجغرافي للحرب الباردة ووجداه احتمالاً غير مقبول.

العلاقة الجديدة بين القوتين العظميين

ولم ينته سباق التسلح، إذ قام السوفييت في أواخر الستينيات بمجهود هائل للتفوق على الولايات المتحدة وقد نجحوا فيه بعض الشيء، إلا أن هذين العملاقين النوويين صارت تربط بينهما الآن رابطة قوية لأنهما باتا يعلمان أن التفوق في القوة النووية أمر له حدوده، وتلخص هذه الحقيقة في عبارة بليغة هي عبارة MAD أي شيء جنوني المكونة من الحروف الأولى من عبارةAssured Destruction Mutually أي الدمار المضمون للطرفين.

فكان كل منهما يعلم أنه حتى إذا بادر بهجوم مفاجئ حرم فيه خصمه من زبدة أسلحته النووية فإن ما سيبقى منها سوف يكون كافياً ليرد ذلك الخصم ويحول مدن الطرف المعتدي إلى أقفار يتصاعد منها الدخان، فيفرغ انتصار بذلك من كل معنى.

وبدأت في عام 1973 المحادثات حول موضوع الحد من الأسلحة وحول إمكانية إجراء ترتيبات أمنية شاملة في أوروبا، ومقابل الاعتراف الرسمي بالحدود في أوروبا مابعد الحرب خاصة الحدود بين ألمانيا الشرقية والغربية، وافق المفاوضون السوفييت وأخيراً في عام 1975 في هلسنكي على زيادة العلاقات الاقتصادية بين أوروبا الشرقية والغربية وعلى ضمان حقوق الإنسان والحرية السياسية على الورق.

ومع أن هذه الضمانة لم تكن قابلة للتنفيذ، فقد تبين أن لها أهمية كبيرة جداً كمصدر إلهام للمنشقين في أوروبا الشيوعية وفي روسيا، وأيضاً لأن تدفق التجارة والاستثمار بين شطري أوروبا قد أدى شيئاً فشيئاً إلى اتصالات أخرى. ويمكننا اعتبار هذه المعاهدة هي معاهدة السلام التي طال انتظارها من أجل إنهاء الحرب العالمية الثانية، وقد أعطت الاتحاد السوفييت ماكان يريده قبل كل شيء، أي الاعتراف بحقه في الأراضي كنصيب من غنائم النصر.

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://resalahmasriyah.mam9.com
Eng. Ahmedzoubaa
Admin
Eng. Ahmedzoubaa


عدد المساهمات : 1216
تاريخ التسجيل : 28/08/2010
العمر : 50

الفصل الخامس عشر -العصر الأخير: حقبة متقلقلة  Empty
مُساهمةموضوع: رد: الفصل الخامس عشر -العصر الأخير: حقبة متقلقلة    الفصل الخامس عشر -العصر الأخير: حقبة متقلقلة  Emptyالخميس 16 يونيو 2011 - 6:02

التغيرات في الاتحاد السوفييتي

لقد أزيح نيكيتا خروتشوف من منصبه في عام 1964 بعد أن كان الشخصية المسيطرة في الحكومة السوفييتية منذ عام 1959، وربما كان سبب إزاحته هو أزمة كوبا، وكانت مساهماته الشخصية في تغيير الاتحاد السوفييت واضحة في أمور عديدة، مثل عملية إعادة التنظيم الجذرية التي أجراها في الحزب، وتخفيف آثار ستالين في حياة البلاد إلى حد ما، والفشل الذريع في مجال الزراعة والتركيز الجديد في القوات المسلحة على الصواريخ الاستراتيجية التي صارت أهم الأسلحة وأفضلها.

وقد بين سقوطه أن الاتحاد السوفييت يتحسن من ناحية إحداث تغييرات سياسية من دون سفك دماء، إذ لم يقتل خروتشوف ولم يسجن ولم يرسل حتى لإدارة محطة توليد طاقة في منغوليا. لقد كان الخطاب الذي ألقاه في المؤتمر العشرين للحزب في عام 1956 حاسماً حيث شجب فيه وحشية ستالين وأخطاءه، ولم يكن بالإمكان الرجوع عن هذا الكلام.

وفي حركة رمزية تم رفع جثمان ستالين من ضريح لينين الذي كان المزار المقدس للأمة، وقد حصل خلال السنوات القليلة التالية ما اعتبره البعض تحلحلاً للأوضاع، عندما سمح للكتاب والفنانين بهامش أوسع قليلاً من حرية التعبير.

إلا أن الطبيعة الدكتاتورية للحكم السوفييتي لم تتغير من حيث المبدأ، ولو أن بعض المتفائلين في الستينات والسبعينات كانوا يغالون ويقولون وإن الولايات المتحدة والإتحاد السوفييتي يزدادان شبهاً أحدهما بالآخر.

لقد كانت نظرية التقارب هذه ترتكز على حقيقة أن للاتحاد السوفييتي اقتصاد متطور، ولكنها كانت تغفل تشوهاته وغياب الفعالية فيه، فقد كانت الزراعة في روسيا تطعم ذات يوم مدن أوروبا الوسطى وتغذي عملية التصنيع على عهد القياصرة، أما على عهد الشيوعية فكانت في حالة من الفشل المستمر، والمفارقة أن الاتحاد السوفييتي بات في مرات كثيرة مضطراً لشراء الحبوب من أمريكا.

كما ظل الدخل القومي للفرد في السبعينيات متأخراً جداً عنه في الولايات المتحدة، وعندما منح المواطنون السوفييت تعويضات الشيخوخة في عام 1956 كانوا متأخرين في ذلك عن بريطانيا بنصف قرن تقريباً، صحيح أنهم كانت لديهم خدمات صحية على امتداد البلاد كلها، إلا أن نوعيتها مابرحت تتراجع عن الخدمات المتوفرة في الغرب.

ولكن في نظر العالم الثالث كانت الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي كليهما دولتين غنيتين، وكان ملايين المواطنين السوفييت أكثر وعياً لتحسن أوضاعهم عن الأربعينيات عندما كانت بلادهم مخربة وفقيرة منهم للفرق بينهم وبين الولايات المتحدة.

وكان لديهم تاريخ طويل من الفوضى لابد من التغلب عليه، ولم تعد الدخول الحقيقية إلى مستوى عام 1928 حتى عام 1952، ولم يكن المواطنون السوفييت ميالين للشعور بالأسى لأحوالهم، كما أن بلادهم كانت لها بحلول عام 1970 قاعدة علمية تضاهي في أفضل نواحيها قاعدة الولايات المتحدة، وكانت تقنية الفضاء السوفييتية تبرر الثورة وتبين أن الاتحاد السوفييتي قادر على القيام بأي شيء تستطيع أي دولة أخرى القيام به، وبأشياء كثيرة لاتستطيع القيام بها إلا دولة واحدة غيره.

ولكن هذا لايعني أن شعب الاتحاد السوفييتي كان راضياً أو أن زعماءه أصبحوا أكثر ثقة وأقل ارتياباً بالعالم الخارجي، فقد بقي دولة بوليسية وظلت الحريات الأساسية فيه محدودة عملياً وخاضعة لجهاز تدعمه السلطة الإدارية القمعية والسجون السياسية. وكانت طبقته الإدارية تميل بصورة متزايدة للحفاظ على الترتيبات القديمة والفساد لمصلحة الطبقة الحاكمة، وبدأت تسمع الانتقاد بوضوح في الستينيات خاصة انتقاد القيود المفروضة على الحرية الفكرية.

كما صرت تسمع عن أشكال السلوك الضار في المجتمع مثل عمليات التخريب والتعامل بالسوق السوداء والإدمان على الكحول، مثلما هي الحال في غيرها من الدول الكبرى، ولكن ربما كانت الحقيقة الأهم هي أن المتحدثين باللغة الروسية كلغة أم صاروا في السبعينات للمرة الأولى أقلية ضمن الاتحاد السوفييتي.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://resalahmasriyah.mam9.com
Eng. Ahmedzoubaa
Admin
Eng. Ahmedzoubaa


عدد المساهمات : 1216
تاريخ التسجيل : 28/08/2010
العمر : 50

الفصل الخامس عشر -العصر الأخير: حقبة متقلقلة  Empty
مُساهمةموضوع: رد: الفصل الخامس عشر -العصر الأخير: حقبة متقلقلة    الفصل الخامس عشر -العصر الأخير: حقبة متقلقلة  Emptyالخميس 16 يونيو 2011 - 6:03

التغيرات في الولايات المتحدة

كانت التغيرات في الولايات المتحدة أسهل على التقييم، لم يكن ثمة شلك في النمو المتزايد لقوة أمريكا وثروتها، ومنذ أواسط الخمسينيات كانت تنتج أكثر من نصف البضائع المصنعة في العالم.

وقد تجاوز عدد سكانها الـ200 مليون في عام 1968، ولم يكن إلا واحد من كل عشرين أمريكياً مولوداً خارجها ولو أن القلق من الهجرة الهائلة للمتحدثين بالإسبانية من المكسيك ومنطقة الكاريبي سوف يبدأ خلال السنوات العشر التالية، وكان أعداد الأمريكيين الذين يعيشون في المدن وضواحيها أكبر من أي زمن مضى، كما كانوا يعيشون حياة أطولـ وارتفع احتمال أن يموتوا من أحد أنواع السرطان بمقدار ثلاث مرات منذ عام 1900، والمفارقة أن هذا الارتفاع يعتبر علامة أكيدة على تحسن الصحة العامة إذ يشير إلى السيطرة على الأمراض الأخرى.

ولم يعد ثمة شك في عام 1970 في قدرة الجمهورية على دعم قوتها العسكرية الهائلة التي ترتكز عليها سلطة أمريكا العالمية، ولو كانت هناك شكوك كثيرة حول طريقة استخدام تلك السلطة.

ورغم تغير رؤساء الجمهورية استمرت أهمية الحكومة بل ازدادت كزبون أول للاقتصاد الأمريكي، وكان الإنفاق الحكومي محفزاً أساسياً للاقتصاد يحبط دوماً آمال تحقيق ميزانية متوازنة وإدارة قليلة التكاليف.

كانت الولايات المتحدة بلداً ديمقراطياً وتقدمت فيها دولة الرفاهة رويداً رويداً لأن الناخبين كانوا يريدون ذلك، وقد ساهم هذا في إطالة عمر ائتلاف الحزب الديمقراطي، صحيح أن رئيسين جمهوريين قد انتخبا في عامي 1952 و1968 بسبب إنهاك الناس من الحرب، إلا أن اياً منهما لم يتمكن من إقناع الأمريكيين بانتخاب كونغرس جمهوري أيضاً.

ولكن من ناحية أخرى كانت علامات التوتر بادية في الكتلة الديمقراطية قبل عام 1960 قد اجتذب ايزنهاور الكثير من ناخبي الجنوب، وبحلول عام 1970 كان قد ظهر مايشبه حزباً محافظاً وطنياً تحت راية الحزب الجمهورية، فكانت تلك بداية زوال حقيقة ظلت ثابتة في الحياة السياسية منذ الحرب الأهلية، هي تصويت الجنوب المستمر للحزب الديمقراطي وبنسبة راجحة أيضاً.

المشكلة العرقية في أمريكا

لقد انتخب الرئيس كيندي بهامش قابل للجدل من أصوات الناخبين في عام 1960، وأتى انتخابه في البداية بشعور كبير بالتحديد، والحقيقة أن السنوات الثماني من الحكم الديمقراطي الجديد بعد عام 1961 سوف تأتي بتغيرات كبيرة في الولايات المتحدة في الشؤون الخارجية والداخلية على السواء، ولو أنها لم تكن التغيرات التي ارتآها كندي أو نائبه ليندن جونسون عندما استلما منصبيهما.

إحدى تلك التغيرات هي حالة المواطنين السود، ففي عام 1960 أي بعد قرن كامل من التحرر من العبودية بقي السود في أمريكا ومازالوا أكثر فقراً وبطالة واعتماداً على معونات الدولة من البيض، كما ظلت مساكنهم وصحتهم أقل جودة منهم.

وقد كانت هذه السابق مشكلة محلية وجنوبية، ولكنها تحولت إلى مشكلة وطنية بسبب الهجرة، فبين عامي 1940 و 1960، ارتفع عدد السكان السود في الولايات الشمالية بمقدار ثلاثة أمثال تقريباً، وأصبح التجمع الأكبر لهم في ولاية نيويورك. وبات من الواضح أيضاً أن المشكلة لم تكن مشكلة حقوق قانونية ودستورية فحسب، بل كانت مشكلة حرمان اقتصادي وثقافي.

وفي هذه الأثناء كان العالم الخارجي قد تغير، وكانت كثير من الدول الجديدة التي أصبحت أغلبية في الأمم المتحدة مكونة من شعوب ملونة، كما أن الدعاية السياسية الشيوعية كانت تعرف كيف تستفيد من محنة السود في أمريكا.

لاريب أن الوضعية القانونية والسياسية للسود قد تبدلت تبدلاً جذرياً نحو الأفضل، وكان الصراع من أجل الحقوق المدنية قد ابتدأ في الخمسينيات، وأهم تلك الحقوق هو القدرة على ممارسة حق التصويت من دون عقبات، وكان هذا الأمر متوفراً دوماً بصورة شكلية ولكن ليس بصورة عملية في بعض ولايات الجنوب، وقد حكمت المحكمة العليا بأن الفصل العرفي في المدارس العامة أمر مخالف للدستور ويجب إنهاؤه حيث وجد ضمن فترة معقولة، فوسعت هذه القرارات الموضوع وصارت خطراً على التقاليد الاجتماعية في الكثير من الولايات الجنوبية، ولكن بحلول عام 1963 كان الأطفال السود والبيض يذهبون إلى بعض المدارس العامة معاً في كل ولاية من ولايات الاتحاد، ولو أن الاندماج مازال بعيداً عن الاكتمال.

واستهل كيندي أيضاً برنامجاً من الإجراءات بلغ بها خليفته مرحلة النضج التي تجاوزت موضوع التصويت إلى مهاجمة التمييز والحرمان بمختلف أنواعه. إلا أن التشريعات بدت عاجزة عن تخفيف الفقر والاستياء المترسخين بين السود، فانفجرت هذه المظالم بشكل أحداث شغب وحرق متعمد فيما سمي أحياء الغيتو في المدن الأمريكية الكبرى في أواخر الستينيات لقد كانت هذه المناطق تتصف بالفقر وببيوتها ومدارسها التعيسة، وكانت هذه علامات على وجود خلل عميق ضمن المجتمع الأمريكي، كما ازدادت بشاعة هذا الظلم بتأثير الغنى المتزايد الذي كان يحيط به.

وقد بذل ليندن جونسون جهوداً أكبر حتى من جهود كيندي لإزالتها، وهو الذي خلفه في الرئاسة عندما اغتيل في عام 1963، لقد كان جونسون مؤمناً بالمجتمع العظيم الذي كان يدعو إليه ويرى فيه مستقبل أمريكا، وربما كان واحداً من أعظم الرؤساء المصلحين في أمريكا، ولكنه تعرض لفشل مأساوي لأن الحرب الكارثية في آسيا قد طغت على فترة رئاسته.

الفصل الخامس عشر -العصر الأخير: حقبة متقلقلة  Usa1861

أمريكا 1961

السياسة الأمريكية في آسيا

كانت السياسة الأمريكية في جنوب شرق آسيا تفترض أن الهند الصينية ضرورية لضمان الأمن في الحرب الباردة، وأنه لابد من الاحتفاظ بجنوب فيتنام في المعسكر الغربي كيلا تنقلب على الغرب دول أخرى حتى البعيدة منها مثل الهند وأستراليا.

وكان الرئيس كيندي قد بدأ بدعم المساعدات العسكرية الأمريكية بواسطة مستشارين، وقد بلغ عددهم 23.000 في جنوب فيتنام عندما توفي، وكان الكثيرون منهم منخرطين في القتال في ساحة المعركة، وسار الرئيس جونسون على نفس النهج، إذ كان يؤمن بضرورة أن يبين سلامة التعهدات الأمريكية.

ولكن الحكومات المتتالية في سايغون كانت ضعيفة لايعتمد عليها وفي بداية عام 1965 نصح جونسون بأن جنوب فيتنام قد ينهار ما لم تقدم أمريكا مساعدة إضافية، وسرعان ما أرسلت أولى وحدات القتال الأمريكية إلى هناك بصورة رسمية.

وهكذا خرجت المشاركة الأمريكية في الحرب عن السيطرة، وبحلول عيد الميلاد عام 1968، كان وزن القنابل التي ألقيت على شمال فيتنام أكبر من وزن ما ألقي على ألمانيا واليابان معاً خلال الحرب العالمية الثانية كلها، كما كان عدد القوات الأمريكية التي تخدم في الجنوب قد تجاوز 500.000 رجل.

وكانت النتيجة كارثة شاملة، فقد خربت تكاليف الحرب الباهظة ميزانية المدفوعات الأمريكية واستهلكت الأموال التي كانت الحاجة ماسة إليها في مشاريع الإصلاح الداخلية، وتعالت صيحات الاحتجاج المريرة داخلياً مع ارتفاع أعداد الضحايا وفشل محاولات التفاوض في الوصول إلى أي نتيجة.وازداد الحقد وازداد معه خوف العناصر المحافظة في أمريكا.

ولم يقتصر الغضب على الشباب الذين كانوا يتظاهرون احتجاجاً وارتياباً بحكومتهم، أو على المحافظين الغاضبين الذين روعتهم الحالات المتكررة من تدنيس الرموز الوطنية والتهرب من الخدمة العسكرية.

لقد غيرت حرب فيتنام طريقة نظر الأمريكان إلى العالم الخارجي، وأدرك الذين يفكرون بينهم أن الولايات المتحدة رغم قوتها لاتستطيع الحصول على كل نتيجة تبغيها، فما بالك أن تحصل عليها بكلفة معقولة. وكان هذا هو أول أفول الوهم الذي يرى في أمريكا قوة لاحدود لها.

في آذار/مارس 1968 كان الرئيس جونسون قد استنتج أن الولايات المتحدة لايمكنها أن تكسب الحرب، فجد من حملة القصف وطلب من الشمال أن يبدأ المفاوضات، كما أنه أعلن بصورة درامية أنه لن يرشح نفسه لفترة رئاسية ثانية.

وبعد أربع سنوات فقط من إعادة انتخاب جونسون بأكثرية ديمقراطية هائلة تم انتخاب رئيس جمهوري هو ريتشارد نيكسون، الذي سرعان ما بدأ في عام 1969 بسحب القوات البرية من فيتنام، وافتتح في عام 1970 مفاوضات سرية مع شمال فيتنام، مع أنه حدد قصف الشمال بل زاده شدة. ولم تعترف الولايات المتحدة بأنها تخلت عن حليفتها ولكنها كانت في الواقع مضطرة لذلك، وبعد مفاوضات صعبة تم توقيع وقف إطلاق النار في باريس كانون الثاني/يناير من عام 1973.

لقد كلفت فيتنام الولايات المتحدة مبالغ طائلة و57.000 قتيل، كما أصابت مكانتها إصابة فادحة وقوضت نفوذها الدبلوماسي وخربت سياساتها الداخلية وأحبطت جهود الإصلاح فيها، فضلاً عن أنها أفسدت اقتصادها. ولم تنجح أمريكا بالحفاظ على جنوب فيتنام إلا بصورة متقلقلة ولفترة وجيزة بالرغم من المعاناة الرهيبة التي ألحقتها بشعوب الهند الصينية.

وقد حصد الرئيس نيكسون فوائد الارتياح الذي حصل في الداخل، وتدل على اعترافه بمدى تغير العالم منذ قضية كوبا جهوده التي لا سابق لها في تأسيس علاقات طبيعية مع الصين، فقد زارها في شباط/فبراير 1972 لكي يبني جسراً يحاول به أن يربط ما وصفه بـ16.000 ميل واثنين وعشرين سنة من العداء، وكان بإمكانه أن يضيف و 2.500 عام من التاريخ، فصار بذلك أول رئيس جمهورية أمريكي يزور البر الرئيسي لآسيا.

وبعد أشهر قليلة سوف يكون أول رئيس جمهورية أمريكي يزور موسكو، ثم تبعت هذه الخطوة الاتفاقية الأولى على الحد من التسلح، وهكذا زال تماماً التقسيم السابق والبسيط للعالم إلى قطبين متعاكسين الذي ساد خلال الحرب الباردة ثم جاءت تسوية الأمور في فيتنام، وزال الجنوب على الفور ومن خضم الحرب الأهلية التي اندلعت في البلاد، ولكن الشعور بالارتياح في الولايات المتحدة للخروج من هذا المستنقع كان كبيراً جداً فلم تهتم كثيراً بدقة التزام الفيتناميين الشماليين بشروط السلام.

ثم حصلت فضيحة سياسية أكرهت نيكسون على الاستقالة، وواجه خليفته كونغرساً مرتاباً بالمغامرات الخارجية ومزمعاً على إحباط أي مغامرة جديد، ولم تحدث أي محاولة للمحافظة على الضمانات التي قدمت لنظام جنوب فيتنام، وبحلول ربيع عام 1975 كانت جميع المساعدات الأمريكية لسايغون قد انتهت.

وكما كان الأمر في الصين في عام 1947، أوقفت الولايات المتحدة خسائرها على حساب الذين اعتمدوا عليها ولو أن 117.000 فيتنامي قد غادر مع الأمريكان، وربما كان المتشددون في موضوع السياسة الآسيوية على حق منذ البداية في أن شيء يمكنه أن يضمن مقاومة أنظمة ما بعد الاستعمار للشيوعية إلا معرفتها أن الولايات المتحدة مستعدة للقتال من أجلها إذا اقتضى الأمر. إلا أن تحسين العلاقات مع الصين كان أهم من فقدان فيتنام.

بنهاية السبعينيات كانت أمريكا وحلفاؤها مرتبكين وقلقين، وكان الوضع صعب التفسير، لقد كان الأمريكيون قلقين مما اعتبروه ضعفاً عسكرياً أصاب بلادهم خاصة في مجال الصواريخ، وكانت القيادة التقليدية لرئيس الجمهورية في مجال الشؤون الخارجية قد تقوضت بسبب الريبة التي أحاطت بالسلطة التنفيذية.

وعندما انهارت كمبوديا ثم تبعها جنوب فيتنام بدأت تسمع أسئلة حول انحسار سلطة أمريكا وإلى أي حد يمكن أن يصل، فإذا لم تعد الولايات المتحدة راغبة في القتال من أجل الهند الصينية، فهل يمكن أن تقاتل من أجل تايلاند؟ أو من أجل إسرائيل؟ أو من أجل حتى برلين؟
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://resalahmasriyah.mam9.com
Eng. Ahmedzoubaa
Admin
Eng. Ahmedzoubaa


عدد المساهمات : 1216
تاريخ التسجيل : 28/08/2010
العمر : 50

الفصل الخامس عشر -العصر الأخير: حقبة متقلقلة  Empty
مُساهمةموضوع: رد: الفصل الخامس عشر -العصر الأخير: حقبة متقلقلة    الفصل الخامس عشر -العصر الأخير: حقبة متقلقلة  Emptyالخميس 16 يونيو 2011 - 6:04

تحديات جديدة

في عام 1979 أطيح بشاه إيران من عرضه بعد أن كان حليفاً موثوقاً للولايات المتحدة، منذ زمن طويل، وكان هذا حدثاَ لم يخطر ببال أحد وضربة قاسية للسياسة الأمريكية، كما ،ه كان يشكل خطراً على استقرار العالم الإسلامي المتقلقل أصلاً.

وكان الذين حلوا محل الشاه ائتلافاً من المحافظين الغاضبين من لبيراليين وإسلاميين، وسرعان ما طغى الأخيرون على الأولين، كانت سياسة التحديث التي سار فيها الشاه على نهج أبيه الأكثر حذراً منه قد زعزعت تقاليد إيران ومجتمعه، وسرعان ما عادت البلاد إلى تقاليد قديمة وبالية تظهر بصورة لافتة في معاملة المرأة، فكان هذا دليلاً على أنها لم تنبذ حاكمها فحسب.

وقد ظهر النظام الجديد بصورة جمهورية إسلامية شيعية يقودها رجل دين عجوز ومتعصب، وكان هو وأتباعه يمقتون الأمريكان لأنهم رعاة الشاه السابق، ويرون فيهم طغمة المادية الرأسمالية، إلا أنهم سرعان ما وصفوا الشيوعية السوفييتية أيضاً بأنها شيطان ثاني يهدد نقاوة الإسلام.

الفورة الإسلامية

كان هذا النظام الجديد يعبر عن غضب يشترك به الكثيرون من المسلمين في كافة أنحاء العالم، وكان سببه الخوف من التغريب العلماني وخيبة الآمال بالتحديث الذي لم يحقق وعوده، ففي الشرق الأوسط بالذات كانت كل من القومية والاشتراكية والرأسمالية فقد فشلت في حل مشاكل المنطقة، أو على الأقل في إرضاء العواطف والرغبات التي أثارتها، بل إنها في الحقيقة قد زادتها استعماراً. وكان الملايين من المسلمين يعتقدون أن المحدثين حتى عبد الناصر نفسه قد قادوا شعوبهم في طريق خاطئ، وكانوا يخشون أن تصاب مجتمعاتهم بعدوى الغرب الخطيرة.

كانت جذور هذه المشاعر متنوعة وعميقة وقد غذتها قرون طويلة من الصراع مع المسيحية، وتجددت ابتداء من الستينيات بسبب المصاعب المتزايدة للقوى الغربية والاتحاد السوفييتي أيضاً في الشرق الأوسط والخليج الفارسي جراء الحرب الباردة. لقد مرت مرحلة ملائمة للمنطقة تزامن فيها ارتباك القوى العظمى بوجود عامل النفط، ولكن من ناحية أخرى كانت التجارة مع الغرب والاتصالات به وعوامل الجذب فيه تشكل في الدول الغنية بالنفط خطراً على الإسلام قد يكون أكبر من الأخطار السياسية والعسكرية السابقة.

فعندما كان العرب المسلمون يسعون لتعلم التقنية الغربية وتحصيل التعليم الأكاديمي كانوا معرضين لخطر أن تجتذبهم القيم الغربية أيضاً. ولهذا كانت حركة البعث الاشتراكية التي اجتذبت الكثيرين من الراديكاليين العرب والتي كانت راسخة في العراق وسوريا في عام 1970 مقيتة لدى الإخوان المسلمين الذين يستهجنون كفرها حتى في الصراع الفلسطيني.

وكان الأصوليون الإسلاميون يرفضون فكرة سيادة الشعب ويسعون لفرض سيطرة الإسلام على المجتمع في كافة نواحيه، ومالبث العالم أن بدأ يسمع أن الباكستان تمنع الرجال والنساء من الاختلاط في لعب الهوكي، وأن المملكة العربية السعودية تعاقب الجرائم بالرجم حتى الموت وبتر الأطراف، وأن عمان تبني جامعة يستمع فيها الذكور والإناث إلى المحاضرات بصورة منفصلة، وأشياء كثيرة غير ذلك.

وحتى في مصر المتغربة نسبياً كان الطلاب يصوتون في انتخاباتهم للأصوليين، بينما راحت الفتيات في كليات الطب يرفضن تشريح جثث الذكور ويطالبن بتعليم ثنائي منفصل.

لقد كان تقييم هذه الظاهرة ومازال أمراً صعباً جداً، ولما كانت ثورة إيران بؤرة تلتقي فيها مشاعر المسلمين على نطاق واسع فقد لاح في عام 1980 أنها بدلت قواعد اللعبة في الشرق الأوسط. إلا أن هذه الفورة الإسلامية كانت إلى حد ما مجرد واحدة من تلك الموجات المتكررة من التزمت التي طالما هيجت مشاعر المؤمنين عبر القرون، وقد لعبت الظروف أيضاً دوراً فيها، مثل احتلال إسرائيل للقدس التي تضم ثالث الأماكن المقدسة في الإسلام، وهذا ماقوى الشعور بالتكافل والتضامن بين المسلمين إلى حد كبير.

لقد استغلت دولة العراق السنية والبعثية بالاسم مابدا من ضعف في إيران الشيعية بسبب ثورتها فهاجمتها في عام 1980 وأدى ذلك إلى ثمانية أعوام من الحرب الدامية ومقتل مليون إنسان، وإلى انقسام الشعوب المسلمة انقساماً طائفياً كما كان الأمر في الماضي البعيد.

ولكن رغم أن هذه الثورة كانت تزعج القوى العظمى وتخيفها فإن إيران لم تكن قادرة على إحباط جهودها، وعند نهاية عام 1979 وجدت نفسها تتفرج عاجزة بينما دخل الجيش الروسي إلى أفغانستان ليدعم نظاماً عميلاً له فيها، ورغم أن الإيرانيين احتجزوا رهائن أمريكيين وفرضوا فدية لتحريرهم بعد أن فشلت محاولة أمريكية لتخليصهم بعملية مباغتة فإنهم لم يقدروا على إحضار الشاه السابق لكي يمثل أمام العدالة الإسلامية.

لقد أعلن الرئيس كارتر في عام 1980 أن الولايات المتحدة تعتبر الخليج الفارسي منطقة ذات أهمية حيوية، وكانت تلك علامة هامة إذ لم يكن بإمكان قوة عظمى أن تتجاهل الخطر الذي يشكله عدم استقرار المنطقة على النظام الدولي.

لقد زال الحكم المنظم في لبنان الحزين في الثمانينيات وانهارت البلاد في الفوضى، ومنح هذا الوضع منظمة التحرير الفلسطينية في البداية قاعدة أفضل من السابق لاستخدامها ضد إسرائيل، لذلك راحت هذه الأخيرة تقوم بعمليات تزداد عنفاً على حدودها الشمالية ووراءها، ونتج عن ذلك بالمقابل ارتفاع التوتر ضمن إسرائيل، حيث جلب هذا العقد المزيد من الصراع والعنف بين اليهود والفلسطينيين وأدى في النهاية إلى الانتفاضة في المناطق التي تغلب فيها المستوطنات الفلسطينية.

ولم تكن الولايات المتحدة الدولة الوحيدة التي أرقتها هذه الاضطرابات، فعندما أرسل الاتحاد السوفييتي جنوده إلى أفغانستان حيث سيبقون حوالي عشر سنوات كان من المحتم أن يؤثر غضب المسلمين في الأحداث الجارية ضمن الاتحاد السوفييتي، لأن فيه أعداداً كبيرة جداً من المسلمين.

وظن البعض أن التطرف الإسلامي قد يدعو القوتين العظميين الحذر، لقد اغتال الأصوليون رئيس جمهورية مصر في عام 1981 لأنه عقد سلاماً مع إسرائيل قبل عامين، وظلت حكومة الباكستان تفرض الإسلام التقليدي وتغض الطرف عن مساعدة الثوار المسلمين المضادين للشيوعية في أفغانتستان.

وفي شمال أفريقيا كنت تجد أدلة على الطموحات الإسلامية الراديكالية في النزوات والتصريحات العجيبة لدكتاتور ليبيا، فقد دعا الدول الأخرى المنتجة للنفط إلى التوقف عن تزويد الولايات المتحدة به بينما ظل ثلث إنتاج ليبيا يذهب إليها، وفي عام 1980 وحد بلاده لفترة وجيزة بسوريا البعثية كما كنت تجد اتجاهات مشابهة في دول أخرى إلى الغرب أيضاً.

لقد تعثرت الخطوات الأولى الواعدة للجزائر نحو الاستقلال وبدا أن الهجرة إلى أوروبا هي المنقذ الاقتصادي الوحيد للكثيرين من شبابها، وللمرة الأولى في أي بلد عربي كسب فيها حزب إسلامي أصولي أغلبية الأصوات في انتخابات عام 1990.

وفي العام السابق حصل انقلاب في السودان أتى بنظام إسلامي عسكري نشيط ما لبث أن قمع من فوره الحريات المدنية القليلة الباقية، إلا أن هناك علامات كثيرة تشير إلى أن التيار لم يكن يجري في اتجاه واحد، فقد صار من الصعب على دول المنطقة أن تستغل التنافس السوفييتي الأمريكي السابق انشغال هاتين القوتين وتغير الظروف في أنحاء أخرى من العالم.

والأنكى من هذا أن العراق وإيران وكلتاهما دولة مسلمة وغنية قد اشتبكتا طوال القسم الأكبر من الثمانينيات في صراع مميت وباهظ التكاليف.

الفصل الخامس عشر -العصر الأخير: حقبة متقلقلة  Middle-east

العراق

لقد تربى حاكم العراق صدام حسين تربية إسلامية، ولكنه كان يقود نظاماً علمانياً بالاسم بعثياً ومبنياً في الحقيقة على المحسوبية والعائلة ومصالح العسكريين، وكان يسعى إلى القوة والتحديث التقني كوسيلة إليها، وعندما خاض حربه مع إيران كان الحكام العرب التقليديون مرتاحين لاستطالتها وتكاليفها الباهظة إذ بدا لهم أنها تقيد في الوقت نفسه، قاطع الطرق هذا والثوار الإيرانيين الذين يخشونهم؛ ولو أرقهم أن تحول تلك الحرب الاهتمام عن المسألة الفلسطينيين.

كانت الأحداث الجارية في الخليج في الثمانينيات تحمل من وقت لآخر خطر عرقلة الإمداد وبالنفط، وقد هددت في بعض الأحيان باندلاع صراع صريح بين إيران والولايات المتحدة، وفي هذه الأثناء كان الوضع في بلاد الشام يسير من سيء إلى أسوأ.

فقد ضمت إسرائيل مرتفعات الجولان، وراحت تقوم بعمليات شديدة في لبنان ضد الميليشيات الفلسطينية ورعاتها، وراحت حكومتها تشجع على المزيد من هجرة اليهود خاصة في الاتحاد السوفييتي، وساهم هذا كله في تقويتها تحسباً ليوم قد تجد نفسها فيه من جديد بمواجهة الجيوش العربية متحدة. ولكن عند نهاية 1987 اندلعت أول ثورة طويلة بين الفلسطينيين في الأراضي التي تحتلها اسرائيل ومالبثت أن تمت وتحولت إلى الانتفاضة.

وقد كسبت منظمة التحرير الفلسطينية المزيد من التعاطف الدولي لأنها اعترفت رسمياً بحق إسرائيل في الوجود، ولكنها كانت في وضع صعب في عام 1989 أي عندما انتهت الحرب العراقية الإيرانية أخيراً. وفي العام التالي مات حاكم إيران، آية الله وبدا خليفته راغباً باتباع سياسة أقل مغامرة وعنفاً، ولو أنه كان يدعم القضيتين الفلسطينية والإسلامية.

كانت الولايات المتحدة أثناء الحرب العراقية الإيرانية تعتبر إيران عدوها الأكبر، ولكنها عندما وجدت نفسها في الحرب وجهاً لوجه مع عدو صريح في الخليج كان ذلك العدو هو العراق. فبعد عقد السلام مع إيران أخذ صدام حسين يثير موضوع نزاع حدودي قديم مع مشيخية الكويت، وكان على خلاف مع حاكمها حول حصص النفط وأسعاره. ولكن يبدو أن دافعه الأقوى كان رغبته بالاستيلاء على ثروة النفط الهائلة في الكويت، وما برحت تهديداته تتصاعد إلى أ ن غزت جيوش العراق الكويت في 2 آب/أغسطس 1990 فأخضعتها خلال ست ساعات.

وتحرك الرأي العام العالمي تحركاً لافتاً من خلال الأمم المتحدة، وحاول صدام حسين أن يخلط أطماعه بحقد العرب ضد إسرائيل لكي يلعب الورقتين الإسلامية والعربية، ولكن تبين أن هاتين الورقتين لم تكن لهما قيمة كبيرة، إذ لم تدافع عنه إلا منظمة التحرير الفلسطينية والأردن، ولاريب أنه فوجئ مفاجأة مؤلمة عندما وجد كلاً من المملكة العربية السعودية وسورية ومصر شركاء غير متوقعين في التحالف الذي تشكل ضده بسرعة كبيرة.

ولابد أن يكون قبول الاتحاد السوفييتي بما حدث بعد ذلك قد فاجأه أيضاً، ولكن أكثر النتائج مفاجأة كانت إصدار مجلس الأمن بأغلبيات ساحقة سلسلة من القرارت التي تدين عمليات العراق وتجيز أخيراً استخدام القوة من أجل ضمان تحرير الكويت. وفي يوم 16 كانون الثاني /يناير 1991 بدأت القوات الأمريكية والبريطانية والفرنسية والسعودية والمصرية عملياتها الحربية، واستسلم العراق خلال شهر واحد.

لقد كانت تلك حرباً أخرى من حروب اقتسام التركة العثمانية، ولكن أموراً كثيرة في الشرق الأوسط ظلت غير محسومة، ولو أن بعض الأشياء قد تغيرت، فرغم محاولات صدام حسين لإثارة حملة إسلامية ضد إسرائيل لم يجد من يأخذ بها. وكان الخاسر الأكبر هو منظمة التحرير الفلسطينية والمنتفع الحقيقي هو إسرائيل، وبات من المستحيل أن ينتصر عليها العرب عسكرياً في المستقبل القريب.

كانت مواقف كل من سوريا وإيران قبل أزمة الكويت تشير إلى أنهما تنويان لأسبابهما الخاصة محاولة تسوية مشكلة إسرائيل عن طريق التفاوض ، ومن الواضح أن هذه كانت أيضاً أولوية ملحة لدى الولايات المتحدة، وقد حرك هذا الآمال بأن تخفف إسرائيل أخيراً من عنادها وتصلبها.

وفي عام 1991 بدأت المحادثات بين الحكومة الإسرائيلية والدول العربية وكان بين الحاضرين ممثلون عن منظمة التحرير الفلسطينية، ثم توقفت المحادثات وعادت لتتجدد بعد تغير الحكومة في إسرائيل في عام 1992، وظلت مستمرة رغم فورة جديدة من القسوة والجور الإسرائيليين نحو الفلسطينيين الذين طردتهم من أراضيها.

في ذلك الحين كان شبح الحركة الإسلامية الراديكالية والأصولية في العالم قد بهت إلى حد ما. ورغم كل الهيجان والاستياء في الدول الإسلامية ورغم استمرار استفزاز العراق فإنه لم يعد ثمة أمل في تنسيق هذه القوى ضد الغرب بصورة فعالة.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://resalahmasriyah.mam9.com
Eng. Ahmedzoubaa
Admin
Eng. Ahmedzoubaa


عدد المساهمات : 1216
تاريخ التسجيل : 28/08/2010
العمر : 50

الفصل الخامس عشر -العصر الأخير: حقبة متقلقلة  Empty
مُساهمةموضوع: رد: الفصل الخامس عشر -العصر الأخير: حقبة متقلقلة    الفصل الخامس عشر -العصر الأخير: حقبة متقلقلة  Emptyالخميس 16 يونيو 2011 - 6:05

كما أن الدولة الإسلامية صارت أكثر ميلاً لتقبل التحديث التقني الغربي رغم تأثيراته المخربة الخفية، وقد بينت أزمة الخليج أن سلاح النفط قد خسر الكثير من قدرته على إيذاء العالم المتطور أو حتى تخويفه، فخلال عام واحد، كانت آبار النفط الكويتية التي أشعلتها قوات صدام حسين عند انسحابها قد أخمدت، إلا أن الوضع المتفجر ظل على حاله، ومازال مستقبل الشرق الأوسط يبدو متقلقلاً ومجهولاً مثلما كان دائماً.

الفصل الخامس عشر -العصر الأخير: حقبة متقلقلة  Saddam_husain56_jpg

صدام حسين

أمريكا اللاتينية بعد أزمة كوبا

حالما انتهت أزمة الصواريخ وعدت الولايات المتحدة بألا تغزو كوبا، ولكنها كانت تحاول عزلها عن بقية نصف الكرة الغربي قدر الإمكان خشية أن تجتذب ثورتها الشباب في غيرها من دول أمريكا اللاتينية. أما كاسترو فكان يسعى لكي يصور كوبا مركزاً ثورياً لبقية القارة، إلا أن الثورة لم تحدث فيها، وقد كانت ظروف كوبا ظروفاً خاصةً جداً.

لقد تبين أن الآمال بحدوث ثورات فلاحية كانت أوهاماً، وذا كانت ثمة تربة صالحة للثورة فهي في المدن لا في الأرياف. إن الوحشية التي عاملت بها الحكومات الدكتاتورية الإرهابيين في بعض الدول قد أبعدت عنها دعم الطبقات الوسطى، بينما ظل الشعور المناهض لأمريكا في تصاعد.

وقدمت الولايات المتحدة مبادرة جديدة للإصلاح الاجتماعي سمتها الحلف من أجل التقدم ولكنها لم تحرز أي نجاح، والأسوأ من ذلك أن النزعة الأزلية نحو التدخل غلبت عليها من جديد في عام 1965، وكان ذلك في جمهورية الدومينيكان هذه المرة، حيث ساهمت المساعدات الأمريكية قبل أربع سنوات في الإطاحة بنظام دكتاتوري.

ولكن العسكريين تدخلوا دفاعاً عن الفئات التي شعرت بخطر الإصلاح على مصالحها وأزاحوا خليفة ذلك النظام، فما لبث الأمريكيون أن قطعوا مساعداتهم، وبدا عندئذٍ أن هذا الحلف من أجل التقدم إنما يستخدم بصورة منحازة. إلا أن المساعدات المقدمة لجمهورية الدومينيكان ولغيرها من الأنظمة اليمينية أيضاً، قد تجددت عندما استلم الرئاسة ليندن جونسون، ثم حصلت ثورة ضد هذا النظام العسكري في عام 1965 أدت إلى وصول 200.000 عسكري أمريكي لإخمادها.

في عام 1970 كان ذلك الحلف قد نسي وبدا أن الوطنية في أمريكا اللاتينية تدخل مرحلة جديدة ونشيطة، وإذا كانت الميليشيات المتأثرة بكوبا قد شكلت خطراً ما في الماضي فهي لم تعدو تبدو كذلك. وما إن زال الخوف من حدوث اضطرابات في الداخل حتى راحت الحكومات تحاول استغلال المشاعر المناهضة لأمريكا فأممت التشيلي أكبر شركة نحاس أمريكية، وأخذ البوليفيون شركات البترول والبيرويون المزارع التي يمتلكها الأمريكان. وعندما قام ممثل لرئيس جمهورية الولايات المتحدة في ذلك العام بدورة على دول أمريكا اللاتينية نشبت الاحتجاجات وأعمال الشغب وتفجيرات الأملاك الأمريكية والمطالبات بابتعاد الولايات المتحدة عن شؤون بعض الدول.

في هذه الأثناء بقيت المشاكل الحقيقية في أمريكا اللاتينية معلقة، لقد كشفت سنوات السبعينيات والثمانينيات من متاعب اقتصادية مزمنة، وفي عام 1985 صارت الأزمة تبدو غير قابلة للحل. وكانت هناك أسباب عديدة لها، فرغم عملية التصنيع السريعة في القارة كانت تواجه نمواً فظيعاً في عدد السكان. فقد كان عدد سكان أمريكا اللاتينية وجزر الكاريبي حوالي مئة مليون في عام 1950 ويتوقع أن يصل عددهم إلى 500 مليون.

في عام 2000 وبدأت هذه المشكلة تتضح في نفس الوقت الذي صارت فيه المشاكل الاقتصادية تبدو عصية الحل. وفشل برنامج المساعدات المسمى بالحلف من أجل التقدم فشلاً واضحاً في معالجة هذه المشكلات، وأنتج فشله هذا خلافات كثيرة حول استخدام الأموال الأمريكية.

وبقيت الفروق الاجتماعية خطيرة، فحتى أكثر دول أمريكا اللاتينية تقدماً كانت فيها فروق شاسعة في الثروة والتعليم، وحتى بعض الدول التي عرفت عمليات دستورية وديمقراطية بدت هذه عاجزة عن مواجهة مشكلاتها، وقد خضعت كل من البيرو وبوليفيا والبرازيل والأرجنتين والباراغوي في الستينيات والسبعينيات إلى حكم دكتاتوري طويل على يد أنظمة عسكرية، ولاريب أن بعضها كانت تؤمن إيماناً صادقاً بأن الدكتاتورية قادرة على إحداث التغييرات المطلوبة التي عجزت عنها الحكومات المدنية.

وظهرت العواقب للعالم بصورة حية في قصص التعذيب والقمع الوحشي التي صارت تسمع في دول مثل الأرجنتين والبرازيل والأروغواي ، والتي كانت كلها تعتبر ذات يوم دولاً متحضرة ودستورية، بل حتى في التشيلي التي كانت لها تاريخ من الديمقراطية الدستورية أكثر استمراراً من الدول الأخرى في أمريكا اللاتينية، إذ حصل فيها في عام 1973 انقلاب عسكري أطاح بحكومة كان الكثيرون من التشيليين يعتقدون أنها خاضعة للسيطرة الشيوعية.

ونالت حركة الثورة المضادة دعم الولايات المتحدة كما كان الكثيرون من أهل البلاد مستعدين لتأييدها من شدة تخوفهم من الميول الثورية لدى النظام المنتخب السابق، وقد أعاد النظام الجديد في النهاية بناء الاقتصاد، بل بدا في أواخر الثمانينيات أنه قد يكون قادراً على تحرير نفسه من تشدده.

في هذه الأثناء كانت أزمة النفط في السبعينيات قد جعلت مشاكل الديون الخارجية في دول أمريكا اللاتينية المستوردة له تخرج عن السيطرة، وفي عام 1990 كانت أكثر العلاجات الاقتصادية التقليدية قد جربت في هذا البلد أو ذاك، ولكن تبين أنها غير عملية وغير قابلة للتطبيق في معالجة مشاكل التضخم السريع ورسوم الفوائد على الديون المؤجلة والتشوهات الحاصلة في تخصيص الموارد بسبب الحكم الرديء في السابق، ومشكلة ضعف القدرة الإدارية والثقافية اللازمة لدعم سياسات مالية سليمة.

ومازال من المستحيل أن يخمن المرء كيف يمكن التغلب على هذه الأزمة الاقتصادية المعقدة، ومادام الأمر كذلك فسوف تظل أمريكا اللاتينية قارة مضطربة ومشحونة ومكونة من دول تزداد تبايناً بعضها عن بعض إلا في محنتها. وإن أكثر الناس في أمريكا اللاتينية هم اليوم أفقر مما كانوا منذ عشر سنوات إذا كان المقياس هو دخل الفرد.

أفريقيا

لم تبلغ أفريقيا مرحلة الاستقرار بعد في عام 1992 مثلها مثل أنحاء أخرى من العالم ، في عام 1974 كانت الجمعية العامة للأمم المتحدة قد منعت جنوب أفريقيا من حضور جلساتها بسبب سياسة الفصل العنصري التي تمارسها، وفي عام 1977 تجنبت مفوضية الأمم المتحدة لحقوق الإنسان ببراعة المطالب المقدمة للتحقيق في الفظائع التي ارتكبها السود ضد السود في أنغولا، بينما أدانت جنوب أفريقيا مع إسرائيل والتشيلي أيضاً على أعمالهم الشريرة.

وكانت بريتوريا تنظر نحو الشمال بشعور متزايد من الخطر، إذ أن وصول قوات كوبية إلا أنغولا وعملياتها الإستراتيجية قد بين وجود تظاهر جديد لسلطة الاتحاد السوفييتي والدول العملية التابعة له ضد جنوب أفريقيا، كما كانت هذه المستعمرة البرتغالية السابقة مع موزمبيق قاعدتين للمنشقين عن جنوب أفريقيا الذين راحوا ينشرون القلاقل والاضطرابات في مناطق السود ويدعمون الإرهاب في المدن خلال سنوات الثمانينيات.

وتغير موقف حكومة جنوب أفريقيا بفعل الضغوط الممارسة عليها، فقد شعر الكثيرون من الأفارقة بالذعر عندما استلم رئيس وزراء جديد منصبه في عام 1978 وراح يسير شيئاً فشيئاً على سياسة من التنازلات، وبدا أخيراً أن علامة الاستفهام حول مستقبل جنوب أفريقيا لم تعد في موضوع احتمال إلغاء نظام الفصل العنصري الأبارتايد بل صارت تدور حول الشروط التي يمكن التنازل عن الحكم للأغلبية السوداء.

ولكن هذه المبادرة سرعان ما تباطأت، وتزايدت الريبة بين المؤيدين الأفارقة للسيد بيتر بوتا فدفعته إلى العودة نحو القمع، ومع هذا فقد استهل في عام 1983 دستوراً جديداً أثار غضب الزعماء السياسيين السود بسبب نقصه كما أثار اشمئزاز البيض المحافظين لأنه سلم بمبدأ تمثيل السود.

في هذه الأثناء كانت الضغوط الناتجة عن العقوبات الاقتصادية المطبقة ضد جنوب أفريقيا من الدول الأخرى تتزايد، وحتى الولايات المتحدة فرضتها ولو بشكل محدود في عام 1985، ومع هبوط الثقة باقتصاد جنوب أفريقيا دولياً بدأت الآثار تظهر في الداخل، وبدأت علامات تحول الرأي العام الداخلي قبل رياح التغيير القادمة، وقد سلمت الكنيسة الهولندية المصلحة بأن الأبارتايد هو غلطة على الأقل، وبأنه لايمكن تبريره من خلال الكتاب المقدس كما كان يقال.

وازدادت الانقسامات بين السياسيين الأفارقة، ويبدو أيضاً أن نجاح العمليات العسكرية لجنوب أفريقيا في السيطرة على الأخطار الماثلة على الحدود كان عاملاً مساعداً بالرغم من عزلتها المتزايدة. وقد عقد السلام مع أنغولا عام 1988.

في هذه الأجواء تنازل بوتا الذي كان رئيس الجمهورية منذ عام 1984 عن منصبه باستياء وتذمر عام 1989 وخلفه السيد فريدريك دوكليرك، الذي أكد أن الحركة نحو التحرير سوف تستمر وتبلغ مدى أبعد مما كان الكثيرون يعتقدونه ممكناً، ولو لم ينته نظام الأبارتايد بكافة جوانبه. فسمح بحرية أكبر بكثير للاحتجاج والمعارضة السياسيين وأطلق سراح الزعماء الوطنيين السود المسجونين.

وفي عام 1990 بزغت من السجن أخيراً الشخصية الرمز السيد نلسون مانديلا زعيم المجلس الوطني الأفريقي والمحرك الأساسي في المعارض السوداء، وسرعان ما دخل في مناقشات مع الحكومة حول مستقبل البلاد.

ورغم التصلب البادي في كلامه كانت هناك علامات تبشر بواقعية جديدة في ضرورة محاولة طمأنة الأقلية البيضاء حول مستقبلها تحت حكم الأغلبية السوداء، وكانت هذه العلامات تدفع السياسيين الآخرين إلى المطالبة بالمزيد وبسرعة أكبر.

وفي نهاية عام 1990 كان السيد دوكليرك قد قال أنه سوف يلغي القوانين المتعلقة بالأراضي والتي تشكل حجر الأساس في نظام الأبارتايد. وهكذا لم يعد انتباه العالم مركزاً على مدى إخلاص الزعماء البيض بل على مدى واقعية الزعماء السود ومدى قدرتهم على التحكم بأتباعهم، فكان هذا دليلاً لافتاً على سرعة تبدل الأمور في جنوب أفريقيا.

إلا أن الآمال التي علقت على مانديلا في وقت إطلاق سراحه قد زالت وحلت محلها الشكوك، وكانت هناك علامات كثيرة على الانقسام بين أتباعه، وكان من الواضح أن الطريق أمام جنوب أفريقيا مازالت طريقاً صعبة وشاقة.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://resalahmasriyah.mam9.com
Eng. Ahmedzoubaa
Admin
Eng. Ahmedzoubaa


عدد المساهمات : 1216
تاريخ التسجيل : 28/08/2010
العمر : 50

الفصل الخامس عشر -العصر الأخير: حقبة متقلقلة  Empty
مُساهمةموضوع: رد: الفصل الخامس عشر -العصر الأخير: حقبة متقلقلة    الفصل الخامس عشر -العصر الأخير: حقبة متقلقلة  Emptyالخميس 16 يونيو 2011 - 6:07

بزوغ نظام عالمي جديد

الصين تبدل مسارها:

رغم تقلب السياسة في الصين كان فيها تيار ثابت وواضح نحو إرخاء التشدد في بعض قطاعات الاقتصاد، منذ وفاة ماو في عام 1976 وخلال بضع سنوات بدأت تسمع التحفظات حول إنجازاته في التصريحات الرسمية، وأصبحت الشخصية المهيمنة في حكم الشيوخ هذا هي شخصية تنغ سياو بينغ الذي ارتبط اسمه بالتحرر الاقتصادي.

وصار التحديث يقدم شيئاً فشيئاً على الاشتراكية ولو أن الشعارات الماركسية الطنانة ظلت على حالها، كما لم يكن ثمة احتمال في أن يتنازل الحزب الشيوعي عن شيء من سلطته السياسية، وفي الثمانينيات بدأت سياسات تنغ تعطي أخيراً تغيرات بارزة في الأداء الاقتصادي للصين.

ولكن هذه التغيرات لم تتم عن طريق إفلات السيطرة على الأمور، بل إن زعماء الصين كانوا مصممين على إبقاء قبضتهم محكمة، لقد ساعدهم في كسب تأييد الناس ودعمهم استمرار قواعد الانضباط الاجتماعية القديمة، وارتياح الملايين للتخلي عن الثورة الثقافية، والسياسة الاقتصادية القائمة على إعادة توزيع المكاسب على الفلاحين بعكس الماركسية كما ظل ينادى بها في موسكو حتى عام 1980.

وحصل تحول أساسي في السلطة من الوحدات الريفية التي أنشأت في الخمسينيات والتي لم تعد لها أهمية عملية، إلى المزرعة العائلية التي عادت بحلول عام 1985 لتصبح الشكل السائد من الإنتاج الزراعي في أكثر أنحاء الصين.

وصار الكثير من الصينيين يرون أن بلادهم باتت تتمتع باحترام ومكانة جديدين، ومن العلامات اللافتة على ذلك الزيارة الرسمية التي قامت بها الملكة إليزابيث الثانية في عام 1985، والتي جاءت بعد نجاح المفاوضات مع المملكة المتحدة والبرتغال حول عودة سيادة الصين على هونغ كونغ وماكاو.

ولكن المصاعب بدأت تظهر خلال سنوات قليلة، إذ ارتفع الدين الخارجي ارتفاعاً كبيراً وبلغ التضخم في نهاية العقد معدلاً سنوياً قدره حوالي 30%. وازداد الغضب بسبب انتشار الفساد، كما كان من المعروف وجود انقسامات ضمن القيادة نفسها.

وبدأ الراغبون بإعادة تثبيت السيطرة السياسية يكسبون المزيد من النفوذ، وراحوا يناورون لاستمالة تنغ سياو بنغ، كانت سياسة التحرر الاقتصادي قد دفعت المراقبين الغربيين إلى توقعات متفائلة للغاية وغير واقعية بأن يتبعها تحرر سياسي، وكانت التغيرات الجارية في أوروبا الشرقية وفي الصين نفسها أيضاً تغذي هذه الآمال، إلا أن هذا الوهم مالبث أن تلاشى.

في الأشهر الأولى من عام 1989 كان سكان المدن يشعرون بالضغوط الناجمة عن التضخم الحاد وبالإجراءات التقشفية التي فرضت لمعالجة أمره. وفي هذه الأجواء تعالت مطالب الطلبة من جديد بالإصلاح السياسي. وقد شجعهم وجود متعاطفين مع التحرر بين الأقلية الحاكمة، فطالبوا بأن يفتح الحزب والحكومة حواراً مع اتحاد الطلبة، وهو تنظيم رسمي شكل حديثاً، حول مواضيع الفساد والإصلاح.

وراحت الملصقات والتجمعات تنادي بقدر أكبر من الديمقراطية، وشعرت القيادة بالخطر ورفضت الاعتراف باتحاد الطلبة لأنها خشيت أن يكون نذيراً بحركة جديدة مثل حركة الحراس الحمر، فحصلت المظاهرات عندئذٍ ومع اقتراب الذكرى السنوي السبعين لحركة الرابع من أيار/مايو راح الطلاب يستحضرون ذكراها من أجل أن يضفوا على حملتهم صبغة وطنية واسعة.

ولم يقدروا على استثارة تأييد كبير في الريف ولا في المدن الجنوبية، إلا أن التعاطف الواضح من المراكز العليا في الحزب قد شجعهم على بدء إضراب جماعي عن الطعام حظي بتعاطف وتأييد شعبيين واسعين في بكين.

يبدو أن أعلى أعضاء الحكومة بمن فيهم تنغ سياو بنغ قد شعروا بتخوف شديد وكانوا يعتقدون أن الصين تواجه أزمة كبرى، وكان بعضهم يخشون ثورة ثقافية جديدة ، وكان ابن تنغ سياو بنغ مصاباً بإعاقة بسبب الأذى الذي أصابه على يد الحراس الحمر أثناء تلك الثورة، كما كان آخرون يشعرون بالخوف بسبب الأحداث الجارية في الاتحاد السوفييتي.

فأعلنت الأحكام العرفية في 20أيار/مايو ، وبعد تردد قصير تم قمع الحركة بلا رحمة. لقد كان زعماء اتحاد الطلبة مخيمين في بكين في ساحة تيان آن من، حيث أعلن ماو قبل ثلاثين سنة تأسيس جمهورية الصين الشعبية، وكانت هناك صورة ضخمة له معلقة على إحدى بوابات المدينة المحرمة القديمة وكأنه ينظر إلى الرمز الذي يحمله المحتجون، وهو تمثال شامخ من الجص لآلهة الديمقراطية التي توحي عمداً بتمثال الحرية في نيويورك.

وفي الثاني من حزيران/يونيو دخلت أولى الوحدات العسكرية ضواحي بكين، فأزاحت المقاومة والحواجز، وبعد يومين فرقت الطلاب والمتعاطفين معهم بنار البنادق والغاز المسيل للدموع وبسحق وحشي للمخيم تحت جنازير الدبابات التي اكتسحت الساحة. واستمر القتل والاعتقالات الجماعية بضعة أيام، وربما بلغ عدد المعتقلين الكامل عشرة آلاف، وقد جرت أكثر هذه الأحداث أمام نظر العالم بفضل وجود المصورين الذين كانوا ينقلون أخبار مخيم المتظاهرين لمشاهدي التلفزيون، ولقيت شجباً واستنكاراً عالميين.

ولكن المعنى الحقيقي لهذه الحادثة مازال غير واضح، مثلما كانت الحال دوماً في الصين، من الواضح أن زعماءها شعروا أنهم يواجهون خطراً جسيماً، إلا أن الجماهير الريفية لم تتعاطف مع المحتجين، وقد تلت ذلك تغييرات في الهرم الحاكم ومحاولات حثيثة لفرض السياسة التقليدية، كما تم كبح التحرر الاقتصادي وبدأت تسمع الشعارات الماركسية الجديدة مرة ثانية، وكان من الواضح على الأقل أن الصين لاتسير على درب أوروبا الشرقية أو الاتحاد السوفييتي، الذي كان موته أبلغ علامة على نهاية حقبة كاملة.

نهاية الحرب الباردة

كان عام 1980 عام الانتخابات الرئاسية في الولايات المتحدة، وقد استغل فيه المرشح الجمهوري رونالد ريغان مخاوف الأمريكيين من الاتحاد السوفييتي، وعندما استلم منصبه كرئيس جمهورية ورث عجزاً هائلاً في الميزانية، وسوف يزيده، وخيبة آمال الناس بالمبادرات الأخيرة للروس في أفريقيا وأفغانستان والتي كانت تبدو مبادرات ناجحة، كما استغل خوفهم مما اعتبروه انقلاباً في توازن الأسلحة النووية الذي كان سائداً في الستينيات.

وقد أعاد ريغان معنويات مواطنيه خلال السنوات الخمس التالية عن طريق أعمال قيادية بارزة وأكثرها تجميلية، وجرت حادثة تحمل رمزياً في يوم توليه لمنصبه هي إطلاق الإيرانيين سراح الرهائن الأمريكان، فكانت تلك خاتمة حادثة مهينة ومحبطة، كما أنه أنهى الحرب الباردة.

لقد أثار انتخاب ريغان العداء والشكوك بين القادة المحافظين في الاتحاد السوفييتي، إذ بدا أن الرئيس الجديد قد يطرح جانباً الخطوات الواعدة نحو نزع الأسلحة، بل ربما أكثر من ذلك، وقد أبدت الإدارة الأمريكية نزعة عملية واضحة في الشؤون الخارجية، بينما كانت التغيرات الداخلية الجارية في الاتحاد السوفييت تمهد الطريق لمزيد من المرونة.

وفي تشرين الثاني/نوفمبر توفي ليونيد بريجينيف بعد أن ظل أميناً عاماً للحزب طوال ثماني عشرة سنة، وجاء بعده خليفتان لم يستمرا إلا فترة وجيزة قبل أن يستلم المنصب في عام 1985 رجل في الرابعة والخمسين كان أصغر أعضاء المكتب السياسي، ألا وهو ميخائيل غورباتشوف.

كانت خبرة السيد غورباتشوف السياسية كلها تقريباً في حقبة ما بعد ستالين، ومازال تأثيره على بلاده وعلى تاريخ العالم بحاجة لتقييم صحيح، وكانت دوافعه الشخصية وتفاعل القوى التي دفعته إلى الخلافة،إلا أنه كان بلا ريب تأثيراً هائلاً. وسرعان مابينت أعماله وخطاباته مقاربة جديدة للأمور.

وقد اعتبر نهجه في الغرب نهجاً تحررياً، إذ لم يكن مصطلحات تعبر عن الكلمتين اللتين طالما استخدمهما أي الغلاسنوست (الانفتاح) والبيريسترويكا (إعادة الهيكلة)، وسوف يؤدي هذا إلى نتائج عميقة وحادة، فها هو ذا أخيراً زعيم سوفييتي يعترف بأن اقتصاد بلاده لم يعد قادراً على دعم قوته العسكرية السابقة والتزاماته نحو حلفائه في الخارج، ولا على تحسين مستويات المعيشة في الداخل ولو ببطء، ولا على تأمين التجدد التقني الذاتي.

وفوق كل هذا كانت الحكومات الأمريكية تعد مواطنيها بمشروع جديد من الإجراءات الدفاعية في الفضاء الخارجي هو أشبه مايكون بالعجائب، ورغم أن آلاف العلماء قالوا أنه غير واقعي فإن الحكومة السوفييتية لم تكن قادرة على مواجهة التكاليف المترتبة على منافسة مشروع كهذا، لقد بات الاتحاد السوفييتي بحاجة للتحديث من جديد، وسوف تترتب على ذلك نتائج هائلة.

وسرعان ما ظهر النهج الجديد لغورباتشوف في لقاءاته مع ريغان التي كان أهمها في أيسلندا في عام 1986، فتجدد النقاش حول تخفيض الأسلحة كما تم التوصل إلى اتفاقيات حول مواضيع أخرى، خاصة موضوع انسحاب القوات السوفييتية من أفغانستان حيث كانت غائصة في مستنقع من حرب العصابات، وقد غادرتها عام 1989.

أما الولايات المتحدة فكانت تعاني من عجز هائل في الميزانية واقتصاد واهن، ولكن هذه الأزمات غابت عن الأنظار في خضم البهجة العارمة الناتجة عن التبدلات المتسارعة في المشهد الدولي.

وكبر التفاؤل مع ظهور علامات الانقسام المتزايد ضمن الاتحاد السوفييتي وصعوبة إصلاحه لشؤونه، لقد عجز ريغان عن إقناع مواطنيه بأهمية التركيز على مصالح الولايات المتحدة في أمريكا الوسطى، ولكنه كان على درجة عالية من الشعبية عندما أنهى رئاسته، ولم يتضح للأمريكيين إلا بعد أن ترك منصبه أن هذا العقد قد سبب لهم تراجعاً في دخولهم، والحقيقة أن سياسة ريغان لم تسمح إلا للأغنياء أن يزدادوا غنى.

في عام 1987 أعطت المفاوضات حول الحد من الأسلحة ثمارها في اتفاقية حول الصواريخ المتوسطة المدى، وسوف تتلوها اتفاقيات أخرى، وكانت التوازن النووي قد صمد بالرغم من الصدمات الكثيرة التي مر بها ومن ظهور بؤر جديدة من القوة النووية، وقد بينت القوتان العظميان أنهما قادرتان على تدبير صراعاتهما وأزمات العالم من دون حرب شاملة، ويبدو أنهما كانتا تدركان أن الحرب النووية إن حدثت فيه تحمل خطر إفناء البشرية كلها، ولو لم تدرك هذه الحقيقة الدول الأخرى الساعية للحصول على تلك الأسلحة. وهكذا اتفق الطرفان في عام 1991 على تخفيض جديد وكبير جداً في مخزون الأسلحة الموجودة.

الفصل الخامس عشر -العصر الأخير: حقبة متقلقلة  Gorbachev3

غورباتشوف
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://resalahmasriyah.mam9.com
Eng. Ahmedzoubaa
Admin
Eng. Ahmedzoubaa


عدد المساهمات : 1216
تاريخ التسجيل : 28/08/2010
العمر : 50

الفصل الخامس عشر -العصر الأخير: حقبة متقلقلة  Empty
مُساهمةموضوع: رد: الفصل الخامس عشر -العصر الأخير: حقبة متقلقلة    الفصل الخامس عشر -العصر الأخير: حقبة متقلقلة  Emptyالخميس 16 يونيو 2011 - 6:08

الثورة في أوروبا الشرقية

إن هذه التغيرات الواسعة في المشهد العالمي كانت لها نتائج واسعة أيضاً، كان يبدو في نهاية عام 1980 أن قبضة السوفييت على أوروبا الشرقية مازالت محكمة تماماً، ولكن وراء هذه الصورة كانت تجري منذ زمن طويل تغيرات اجتماعية وسياسية ضمن دول حلف وارسو.

كانت تلك الدول كلها تبدو متشابهة للوهلة الأولى، فالحزب الشيوعي هو السلطة العليا في كل منها، والوصوليون يبنون حياتهم ومسيرتهم المهنية من حوله مثلما كان الأمر في عصور أقدم حين كان الطامعون بالمال والسلطة يتحلقون حول الملوك والسادة. وكان في جميع هذه الدول خاصة في الاتحاد السوفييتي نفسه، ماض فظيع لم يقم أحد بفحصه والحديث عنه من أجل كشف عيوبه ونقدها، بل ظل ينوء بكلكله على الحياة الفكرية ويفسدها.

أما اقتصاد أوروبا الشرقية فقد حصل فيها استثمار في الصناعات الثقيلة والبضائع الرأسمالية أدى في البداية إلى نمو سريع، كان أنشط في بعضها منه عن بعضها الآخر، ثم جرت ترتيبات تجارية مع الدول الشيوعية الأخرى قيدت نشاطها على المستوى الدولي، وقد هيمن عليها الاتحاد السوفييتي وجمدتها محاولات التخطيط المركزي، فصارت تزداد عجزاً عن تلبية حاجات شعوبها إلى بضائع تعتبر عادية في أوروبا الغربية.

وبقي الإنتاج الزراعي منخفضاً فظلت المردودات الزراعية في أكثر دول أوروبا الشرقية تعادل نصف إلى ثلاثة أرباع مردودات الغرب فقط، وفي الثمانينيات كانت كلها بدرجات مختلفة في حالة من الأزمة الاقتصادية ربما باستثناء ألمانيا الشرقية، التي كان الإنتاج المحلي الإجمالي السنوي للفرد فيها 9.300 دولار في عام 1988 مقال 19.500 دولار في ألمانيا الغربية.

كان بريجينيف يصر على أن التطورات الجارية في دول الكتلة الشرقية قد تستدعي تدخلاً مباشراً من أجل حماية المصالح السوفييتية كما حدث في تشيكوسلوفاكيا في عام 1968، وربما كانت هذه نظرة واقعية للأمور واعترافاً بالأخطار التي يشكلها الاضطراب والانشقاق في أوروبا الشرقية على الاستقرار الدولي.

أما الدول الغربية فلم تكن التغيرات الداخلية الجارية فيها تشكل خطراً على السلام، إذ كانت تزداد غنى وازدهاراً باطراد وكانت قد ابتعدت عن ذكريات أواخر الأربعينيات وعن احتمال حدوث خراب في مجتمعاتها,

وبحلول عام 1980 كانت قد حصلت تغيرات ثورية في إسبانيا والبرتغال، فلم تبق ثمة دكتاتورية إلى الغرب من الخط الواصل بين مدينتي ترسيتا *وشتيتن**بل كانت الديمقراطية قد انتصرت في كل مكان، وظلت ثورات العمال الصناعيين ضد السلطة السياسية مقتصرة طوال ثلاثين عاماً على ألمانيا الشرقية وهنغاريا وبولندا وتشيكوسلوفاكيا، وكلها دول شيوعية واللافت أنه عندما حدثت اضطرابات طلابية في باريس في عام 1968 وحطمت أعمال الشغب التي قاموا بها هيبة الحكومة، لم تتحرك الطبقة العاملة في باريس، ومع ازدياد الوعي في الكتلة الشرقية للفروق الحادة عن الغرب ظهرت فيها جماعات منشقة وتمكنت من الاستمرار بل حتى من تقوية مواقعها بالرغم من القمع الشديد.

وقد ساعدت اتفاقية هلسنكي لعام 1975 في ذلك، وكذلك البث الإذاعي والتلفزيوني الآتي من ألمانيا الغربية، وشيئاً فشيئاً بدأ بعض المسؤولين الإداريين والمختصين بالاقتصاد وحتى بعض أعضاء الحزب يشكون بمبدأ التخطيط المركزي.

إلا أن مفتاح الاستقرار في الشرق ظل الجيش السوفييتي، ولم يكن ثمة ما يدعو إلى احتمال حدوث تغير أساسي في أي من دول حلف وارسو مادام هذا الجيش موجوداً هناك لدعم الحكومات الخاضعة للاتحاد السوفييتي.

الدور الرائد لبولندا

لقد ظهرت أولى بوادر التغيير في الثمانينيات في بولندا، لطالما كان البولنديون يتطلعون إلى الكنيسة الكاثوليكية في روما لتأييدهم والتعبير عنهم، وقد ازدادت ثقتهم بها بعد أن جلس على الكرسي البابوي رجل بولندي في عام 1978.

وكانت الكنيسة الكاثوليكية تؤيد العمال الذين احتجوا في السبعينيات على السياسة الاقتصادية وتدين معاملتهم على يد السلطات، ثم جاء عام 1980 الذي كان عام متأزم في بولندا حصلت في سلسلة من الإضرابات بلغت ذروتها في صراع ملحمي في مركز بناء السفن بمدينة غدانسك دانتزيغ وبرزت من خلال ذلك نقابة عمالية جديدة تنظمت بصورة عفوية هي نقابة التضامن، فأضافت مطالب سياسية إلى الأهداف الاقتصادية للمضربين، ومنها المطالبة بنقابات عمالية حرة ومستقلة.

وكان زعيم نقابة التضامن هذه رجلاً بارزاً ذا شخصية جذابة ومثيرة هو ليش فاليسا، الذي سجن مراراً وكان كاثوليكياً ورعاً وعلى صلة وثيقة برجال الكنيسة البولندية، وكانت بوابات مركز بناء السفن هذا مزينة بصور البابا وقد أقام المضربون صلوات في الهواء الطلق.

وترعرعت الحكومة البولندية فأقدمت على تنازل تاريخي هام عندما اعترفت بنقابة التضامن كنقابة عمالية مستقلة ذات حكم ذاتي، إلا أن الاضطرابات ظلت مستمرة، وازدادت الأزمة عمقاً بحلول الشتاء، وصرت تسمع تهديدات باحتمال تدخل الجيش السوفييتي إلا أنه لم يتدخل، وقد كانت هذه واحدة من أولى علامات التغير في موسكو ومقدمة لكل ما جرى بعد ذلك.

ومابرح التوتر يتصاعد وقد جاء القائد الروسي لقوات حلف وارسو خمس مرات إلى وارسو، وفي المرة الأخيرة خرج راديكاليو نقابة التضامن عن سيطرة فاليسا وراحوا ينادوا بإضراب عام، وأعلنت الأحكام العرفية في 13 كانون الأول/ديسمبر، ثم قمعت الحركة بصورة ضارية ربما بينت أن لاحاجة للغزو السوفييتي.

فتحولت نقابة التضامن عند ذاك إلى العمل السري، وبدأت سبع سنوات من زيادة التدهور الاقتصادي ومن التنظيمات والمنشورات السرية والإضرابات والمظاهرات والإدانات الكنسية المستمرة للنظام. ولكن بعد عام 1985 بدأت التغيرات الجارية في موسكو تعطي تأثيرها على الدول الأخرى في حلف وارسو، وقد بلغت ذروتها في عام 1989.

لقد ابتدأ ذلك العام بقبول الحكومة البولندية بمشاركة الأحزاب والمنظمات السياسية الأخرى بما فيها نقابة التضامن في العملية السياسية، وجرت الانتخابات في حزيران/يونيو وكانت بعض المقاعد فيها معروضة للمنافسة الحرة ففازت بها نقابة التضامن فوزاً ساحقاً.

وسرعان ما شجب البرلمان الجديد الاتفاق الألماني الروسي العائد لشهر آب/أغسطس 1939 وأدان غزو تشيكوسلوفاكيا في عام 1968، ونظم التحقيقات في جرائم القتل السياسي المرتكبة منذ عام 1981 وأعلن فاليسيا في آب/أغسطس أن نقابة التضامن سوف تؤيد حكومة ائتلافية، وأصدر غورباتشوف تصريحاً رسمياً حاسماً بأن هذا الأمر مشروع، وكانت الوحدات العسكرية السوفييتية قد غادرت البلاد في ذلك الحين، وفي شهر أيلول/سبتمبر استلم الحكم ائتلاف تسيطر عليه نقابة التضامن ويرأسه أول رئيس وزراء غير شيوعي، منذ عام 1945، وسرعان ما وعد الغرب بتقديم مساعدات اقتصادية، وبحلول عيد الميلاد كانت جمهورية بولندا الشعبية قد زالت من التاريخ وبعثت جمهورية بولندا التاريخية من قبرها.

لقد قادت بولندا أوروبا الشرقية إلى الحرية، وشعر الزعماء في الدول الشيوعية بالخوف من الأحداث الجارية هناك، كما أن أوروبا الشرقية كلها كانت قد تعرضت بدرجات مختلفة لسيل متنام من المعلومات حول الدول غير الشيوعية، خاصة من خلال التلفزيون، الذي كانت له أهمية بارزة في ألمانيا الشرقية وازدياد حرية التنقل وزيادة الحصول على الكتب والصحف الأجنبية بعد معاهدة هلسنكي.

أي أن الوعي كان قد بدأ بالتغير قبل أن يستلم الرئيس غورباتشوف السلطة، وسرعان ما تبين أنه أطلق تغيرات دستورية ثورية في الاتحاد السوفييتي. لقد كانت الخطوة الأولى هي سحب السلطة من الحزب الشيوعي، فانتهزت هذه الفرصة قوى لمعارضة الجديدة الناشئة خاصة في جمهوريات الاتحاد التي بدأت تطالب بقدر من الحكم الذاتي.

إلا أن النتيجة الاقتصادية كانت مروعة، وبات من الواضح أن الانتقال إلى اقتصاد السوق سواء كان بطيئاً أو سريعاً فإنه سوف يفرض على المواطنين السوفييت مشاق أكبر بكثير مما كانوا يتصورون.

وفي عام 1989 كان الاقتصاد السوفييتي قد خرج عن نطاق السيطرة، ومابرح يتدهور، لقد كانت عمليات التحديث طوال تاريخ روسيا تنطلق من المركز إلى المحيط من خلال البنى الدكتاتورية، إلا أن هذا الأمر لم يعد ممكناً الآن، بسبب مقاومة بيروقراطيي الاقتصاد الموجه.

نهاية النظام الشيوعي

مع توافر المزيد من المعلومات عن الاتحاد السوفييتي صار بالإمكان تشكيل أفكار تقريبية عما يجري داخله، وكان من هذه الأفكار أن فقدان الثقة بالحزب والطبقة الحاكمة عميق جداً وأن الانهيار الاقتصادي يطغى على تحرير العمليات السياسية مثل غيمة ثقيلة، وبدأ المواطنون السوفييت يتحدثون عن احتمال نشوب حرب أهلية.

إن ارتخاء القبضة الحديدية قد كشف عن قوة المشاعر الوطنية والمحلية عندما يهيجها الانهيار الاقتصادي والفرص السانحة، فبعد سبعين عاماً من بذل الجهود لصنع مواطنين سوفييت انكشف الاتحاد السوفييت فجأة كمجموعة من الشعوب المتباينة مثلما كانت من قبل. وكان بعضها سريعاً في التعبير عن استيائه من أوضاعه خاصة في جمهوريات البلطيق الثلاث لاتفيا وإستونيا وليتوانيا، وازدادت مشاكل أذربيجان وأرمينيا تعقيداً بسبب شبح القلاقل الإسلامية الذي كان يلوح في كافة أنحاء الاتحاد، والأسوأ من كل هذا أن البعض صاروا يخشون حدوث انقلاب عسكري.

وكثرت علامات التفكك بينما تمكن غورباتشوف من البقاء في مكانه بل حصل أيضاً على بعض التعزيزات الرسمية لسلطته الإسمية ولكنها ألقت بمسؤولية الفشل على كاهله أيضاً، وفي آذار/مارس 1990 أعاد البرلمان الليتواني تثبيت استقلال ليتوانيا وجرت مفاوضات معقدة جنبت هذه الجمهورية القمع المسلح على يد القوات السوفييتية، ثم تبعتها لاتفيا وإستونيا بشروط مختلفة اختلافاً بسيطاً.

وقبل غورباتشوف تعهدات بأن تضمن هذه الجمهوريات الثلاث استمرار خدمات عملية معينة للاتحاد السوفييتي، ولكن بنهاية العام كانت كل التعهدات قد فات أوانها ولم تعد ممكنة عملياً، وكانت برلمانات تسع جمهوريات أخرى في ذلك الحين قد أعلنت عن نفسها كدول ذات سيادة أو ثبتت قدراً كبيراً من الاستقلال عن الاتحاد السوفييتي.

فكانت بعضها قد جعلت لغاتها المحلية لغات رسمية وبعضها قد نقلت الوزارات والهيئات الاقتصادية السوفييتية إلى أيدي السلطات المحلية، وراحت الجمهورية الروسية وهي أهم الجمهوريات تدير اقتصادها بصورة منفصلة عن الاتحاد السوفييتي، وعزمت الجمهورية الأوكرانية على تأسيس جيش خاص بها، وقالت في عام 1991 أنها تسيطر على كافة القوات السوفييتية الموجودة على أراضيها وعلى أسلحتها النووية، ووقف العالم يتابع هذه الأحداث بذهول وقلق.

وأدركت بقية دول حلف وارسو بسرعة أن هذا الاتحاد السوفييتي الذي مابرح ينخره الانقسام والشلل لن يتدخل وربما لايقدر أن يتدخل لدعم الكيانات التي اصطنعها في الإدارات الشيوعية.

كان الهنغاريون قد ساروا في طريق التحرر الاقتصادي بسرعة مثل البولنديين حتى قبل التغيرات السياسية الصريحة، إلا أن أهم مساهمة لهم في انحلال أوروبا الشيوعية أتت في آب/أغسطس 1989، عندما سمحوا للألمان القادمين من ألمانيا الشرقية بدخول هنغاريا بحرية كمنفذ للغرب،وقد تم فتح حدود هنغاريا بشكل كامل في أيلول/سبتمبر ثم تبعتها تشيكوسلوفاكيا ومالبث التيار أن تحول إلى طوفان.

وقد علق الروس على هذه الأحداث أنها غير مألوفة، وكانت هذه بداية النهاية لألمانيا الشرقية التي كانت على وشك الاحتفال بأربعين عاماً من النجاح كدولة اشتراكية في احتفال خططت له بعناية كبيرة وتبجحت به أيما تبجح. وفي عشية هذا الاحتفال وأثناء زيارة غورباتشوف الذي أجفل الشيوعيين الألمان إذ بدا أنه يستحث الألمان الشرقيين على انتهاز هذه الفرصة، اشتبكت شرطة مكافحة الشغب بمظاهرات معادية للحكومة في شوارع برلين.

وابتدأ شهر تشرين الثاني/نوفمبر بالمزيد من المظاهرات في مدن كثيرة ضد هذا النظام الذي بات فساده أمراً واضحاً، وفي التاسع من الشهر تم أعظم حدث رمزي، ألا وهو اختراق سور برلين فاستسلم المكتب السياسي للحزب الشيوعي في ألمانيا الشرقية مالبث أن تلا ذلك تدمير بقية السور.

لقد تبين الآن أن الحكومات الشيوعية في كافة أنحاء أوروبا الشرقية ليست لها شرعية في نظر رعاياها، وكانت النتيجة هي المطالبة بانتخابات حرة، فمنح البولنديون أنفسهم دستوراً جديداً وفي عام 1990 أصبح ليش فاليسا رئيساً للجمهورية.

وكانت هنغاريا قبل ذلك بقليل قد انتخبت برلماناً انبثقت عنه حكومة غير شرعية وبدأ الجنود السوفييت ينسحبون من هذا البلد. وفي حزيران/يونيو 1990 أعطت الانتخابات في تشيكوسلوفاكيا حكومة حرة وسرعان ما اتفق على أن تغادرها القوات السوفييتية بحلول شهر أيار/مايو 1991.

أما في بلغاريا فكانت التطورات أقل حسماً لأن أعضاء الحزب الشيوعي تحولوا إلى مصلحين وكسبوا الأغلبية، بينما مرت رومانيا بثورة عنيفة انتهت بقتل دكتاتورها الشيوعي السابق بعد انتفاضة في كانون الأول/ديسمبر 1989 كشفت عن انقسامات داخلية كانت تنبئ بقدوم المزيد من النزاع.

إلا أن التغيرات التي جرت في ألمانيا كانت أهمها على الإطلاق، لقد كشف اختراق السور أن ليس من إرادة سياسية لدعم الشيوعية ولا حتى لدعم الدولة، ولاح فجأة موضوع توحيد ألمانيا، فجرت انتخابات عامة هناك في آذار/مارس 1990 أعطت الأغلبية لائتلاف يسيطر عليه الديمقراطيون المسيحيون وهم الحزب الحاكم في جمهورية ألمانيا الفيدرالية الغربية، فلم يعد ثمة شك بموضوع الوحدة بل بقي أن تحدد تفاصيل العملية وتوقيتها.

ففي تموز/يوليو 1990 انضمت ألمانيا الشرقية والغربية في اتحاد مالي اقتصادي واجتماعي، وفي تشرين الأول/أكتوبر أصبت الجمهورية الألمانية الديمقراطية الشرقية جزءاً من الجمهورية الفيدرالية.

والغريب أن أحداً لم يعبر عن تخوف صريح من هذا التغير العظيم ولا حتى في موسكو، ولكن لاريب أن التخوف كان موجوداً، وسوف تكون ألمانيا الجديدة أكبر قوة أوروبية إلى الغرب من روسيا، التي انكسفت سلطتها الآن كسوفاً لم تعرفه منذ عام 1918. وقد كافأ غورباتشوف ألمانيا الجديدة هذه بمعاهدة تعدها بمساعدات اقتصادية وتحديث سوفييتي.

ويمكننا أن نضيف هنا، طمأنة لأولئك الذين يذكرون أحداث 1941-1945، أن هذه الدولة الألمانية الجديدة لم تكن نفسها ألمانيا القديمة، بل كانت مجردة من الأراضي الألمانية الشرقية القديمة التي تخلت عنها رسمياً، ولم تكن تسيطر عليها بروسيا مثلما كانت الحال في إمبراطورية بسمارك وجمهورية فايمار. وإن ما يدعو إلى الاطمئنان أكثر خاصة لدى المتخوفين في أوروبا الغربية هو أن هذه الجمهورية دولة فيدرالية دستورية وناجحة على الصعيد الاقتصادي وتحمل حوالي أربعين عاماً من الخبرة في السياسة الديمقراطية الناجحة لتبني عليها مستقبلها، كما أنها مندمجة تماماً ضمن أوروبا الغربية الديمقراطية.

إلا أن المشهد لم يكن مطمئناً في البلاد الأخرى، وسرعان ما لاحظ بعض المراقبين أن ظهور الانقسامات القومية الجديدة والقديمة بات متفشياً في أوروبا الشرقية بصورة عداوات لدودة، فقد تباعد التشيك والسلوفاك، وراح البلغار يغتمون لوجود مواطنيهم الأتراك فيما بينهم، وكذلك الهنغاريون والرومانيون حول ترانسلفانيا.

والأهم من هذا أن المنطقة برمتها كانت ترزح تحت عبء الفشل الاقتصادي الثقيل الذي يهددها، فربما أتى التحرر إليها ولكنه أتى إلى شعوب ومجتمعات على مستويات متباينة جداً من الرقي والتطور ومن أصول تاريخية مختلفة جداً أيضاً.

وفي عام 1991 أصيب المتفائلون بإمكانية التغيير السلمي بصدمة رهيبة عندما أعلنت اثنتان من الجمهوريات المكونة ليوغوسلافيا أنهما قررتا الانفصال عن هذه الدولة الفيدرالية، وقد كان وراء هذا القرار عداوات قومية قديمة ظلت مكبوتة على عهد الجمهورية الشيوعية. وفي شهر آب/أغسطس بدأ القتال بصورة متقطعة بين الصرب والكروات، واتخذت الدول الأخرى مواقف مختلفة من هذا الصراع لأن محاولات التدخل الخارجية السابقة في الصراعات الأهلية لم تكن تبشر بالخير، وقد أصبحت هذه الحقيقة أكثر وضوحاً عندما أصبح مسلمو البوسنة هدفاً لهجمات الصرب، وفي عام 1992 وافقت الأمم المتحدة على إرسال قوات من الدول الأعضاء فيها لضمان وصول المساعدات الإنسانية، بينما راحت وحشية الأحقاد القديمة تتظاهر بصورة متزايدة، ففي أية مرحلة يمكن استخدام القوة العسكرية من أجل السيطرة عليها؟





* مرفأ إيطالي على خليج تريستا في الأدرياتيك


** مدينة في شمال غرب بولندا قريبة من ألمانيا
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://resalahmasriyah.mam9.com
Eng. Ahmedzoubaa
Admin
Eng. Ahmedzoubaa


عدد المساهمات : 1216
تاريخ التسجيل : 28/08/2010
العمر : 50

الفصل الخامس عشر -العصر الأخير: حقبة متقلقلة  Empty
مُساهمةموضوع: رد: الفصل الخامس عشر -العصر الأخير: حقبة متقلقلة    الفصل الخامس عشر -العصر الأخير: حقبة متقلقلة  Emptyالخميس 16 يونيو 2011 - 6:09

نهاية الاتحاد السوفييتي

في هذه الأثناء، حصل في شهر آب/أغسطس 1991 محاولة لإزاحة نظام غورباتشوف بالقوة، ورغم أنها فشلت فقد كانت ضربة للسياسة السوفييتية ساهمت في تفككها.

إن الظروف التي حدثت فيها محاولة الانقلاب قد أعطت بوريس يلتسين زعيم الجمهورية الروسية وهي الأكبر في الاتحاد السوفييتي الفرصة لكي يظهر على أنه الرجل القوي على المسرح السوفييتي والذي لايمكن فعل شيء بدونه. ولم يتحرك الجيش ضده، وهو المصدر الوحيد الذي كان يمكن أن يشكل خطراً عليه وعلى مؤيديه.

وبينما كان العالم ينتظر توضيح الأمور جرت عملية تطهير للذين دعموا الانقلاب أو سكتوا عنه، ثم تحولت هذه إلى عملية استبدال حثيثة لمسؤولي الاتحاد السوفييتي على كافة المستويات، وإعادة تحديد أدوار جهاز استخباراته وإعادة توزيع السلطة فيه بين الاتحاد والجمهوريات.

كما بدأ في الوقت نفسه حل الحزب الشيوعي في الاتحاد السوفييتي على الفور، وهكذا زال هذا العملاق الذي نشأ من انتصار البلاشفة في عام 1917 من دون سفك دماء، أقله في البداية.

وكانت هناك أسباب وجيهة تدعو للابتهاج بهذا التطور، ولكن لايمكن أن يقال أن النتائج ستكون كلها خيراً، ففي يوم 31 كانون الأول/ديسمبر 1991 أنزل علم الاتحاد السوفييتي من على الكرملين وحل محله علم روسيا، وزال الاتحاد السوفييتي من التاريخ لتحل محله مجموعة من الدول المستقلة المرتبطة بمصالح مشتركة، إلا أن الشيء الوحيد الواضح كان المشاكل الاقتصادية والسياسية العميقة والمعقدة التي تواجهها جميع جمهورياته تقريباً وبدرجة كبيرة جداً.


أوروبا الغربية

بينما كانت الوحدة التي فرضتها الهيمنة السوفييتية على أوروبا الشرقية تنحل، بدت أوروبا الغربية تقترب من ذروة عملية اندماج تعود جذورها إلى المفكرين المثاليين الذين كانوا مقتنعين في عام 1945 بأن الوحدة السياسية وحدها قادرة على حفظ القارة من الكوارث في المستقبل.

وقد أيدت الحرب الباردة تلاميذ أولئك الرواد، وعندما ينظر المرء إلى الماضي يرى أن خطة مارشال وحلف الناتو كانا من أولى الخطوات العملية التي شجعت على ظهور وحدة أوروبية جديدة.

وبعد خطة مارشال جاء تأسيس منظمة التعاون الاقتصادي الأوروبي في عام 1948، والتي كانت مكونة في البداية من ستة عشرة دولة ثم توسعت بعد ذلك، وفي العامل التالي وبعد شهر واحد من توقيع معاهدة الناتو اجتمع ممثلو عشر دولة أوروبية مختلفة في مجلس أوروبي.

إلا أن الأمور الاقتصادية كانت هي الأكثر أهمية، إذ كانت قد خلقت اتحادات جمركية في عام 1948 بين دول البينيلوكس أي : بلجيكا، نيذرلند، هولندا، لوكسمبورغ، وبين فرنسا وإيطاليا ولكن بشكل مختلف. ثم ظهرت في عام 1951 وبناء على اقتراح فرنسي مجموعة الفحم والفولاذ التي كانت تضم فرنسا وإيطاليا ودول البينلوكس والأهم منها دلالة انضمام ألمانيا الغربية، فكانت تلك أول خطوة كبرى نحو دمج هذه الدولة في بنية دولية جديدة.

في هذه الأثناء كان الضعف السياسي في فرنسا وإيطاليا والذي تدل عليه أحزابها الشيوعية المحلية قد تراجع بفضل التعافي الاقتصادي، وبحلول عام 1950 كان قد زال خطر أن تصاب الديمقراطية في فرنسا وإيطاليا بمصيرها في تشيكوسلوفاكيا.

كان الرأي المناهض للشيوعية في أوروبا الغربية يلتم حول أحزاب يجمع شملها السياسيون الكاثوليك أو الديمقراطيون الاجتماعيون الواعون تماماً لمصير رفاقهم في أوروبا الشرقية، وقد أدت هذه التغيرات بصورة إجمالية باستثناء إسبانيا والبرتغال إلى وجود حكومات أوروبية غربية ذات صبغة يمينية معتدلة كانت تسعى خلال الخمسينيات نحو الأهداف نفسها من تعاف اقتصادي وتأمين لخدمات الرفاهة ودمج لدول أوروبا الغربية في الأمور العملية المختلفة.

وظل الدافع الأساسي نحو الوحدة الأوروبية في ذلك العقد هو الدافع الاقتصادي، وقد أتت الخطوة الحاسمة في عام 1957 عندما ولدت المجموعة الاقتصادية الأوروبية EEC أو السوق المشتركة من انضمام فرنسا وألمانيا وبلجيكا وهولندا واللوكسمبورغ وإيطاليا في توقيع معاهدة روما، وراح بعض المتحمسين يتحدثون عن إعادة بناء ميراث شارلمان.

أما الدول التي لم تنضم إلى هذه المجموعة الاقتصادية فقد وضعت لنفسها تنظيماً فضفاضاً ومحدوداً هو جمعية التجارة الحرة الأوروبية EFTA بعد عامين ونصف العام، ثم تحول اسم المجموعة الاقتصادية الأوروبية إلى المجموعة الأوروبية EC، وكان إسقاط كلمة الاقتصادية ذا دلالة هامة.

وبحلول عام 1986 كانت الدول الست الأصلية فيها قد أصبحت اثني عشرة دولة، بينما خسرت جمعية التجارة الحرة جميع أعضائها ما عدا أربعة منهم، وبعد خمس سنوات كانت الدول الباقية منها تفكر بالانضمام إلى المجموعة الأوروبية.

كانت أوروبا الغربية تسير إذا بصورة وئيدة ولكن متسارعة نحو الوحدة السياسية، فكان هذا دليلاً على نهاية حقبة الحروب بين دولها والتي تعود جذورها إلى بدايات عهد الدول القومية. وقد أدرك حكام بريطانيا هذه الحقيقة، ولكن المؤسف أنهم لم ينتهزوا منذ البداية فرصة المشاركة في وضع مؤسساتها، وسوف ترفض طلبات خلفائهم للانضمام إلى المجموعة الاقتصادية الأوروبية مرتين قبل أن ينضموا إليها أخيراً.

وفي هذه الأثناء كانت مصالح المجموعة تتماسك فيما بينها وتتوطد عن طريق السياسة الزراعية المشتركة، وهي عملية عبارة عن رشوة ضخمة للمزارعين والفلاحين الذين يشكلون جزءاً هاماً من جماهير الناخبين في ألمانيا وفرنسا، وبعد ذلك للدول الفقيرة التي صارت تنضم إلى المجموعة.

ومابرحت تظهر مؤسسات جديدة في المجموعة الأوروبية، كما سارت الحكومة البريطانية في عام 1991 مسافة بعيدة نحو تقريب بلادها من الاندماج في أوروبا، إلا أن المناخ الاقتصادي كان مظلماً وكئيباً فألمانيا هي أغنى عضو في المجموعة قد وجدت في عام 1992 أن الأعباء الاقتصادية لعملية إعادة التوحيد أثقل بكثير مما كان متوقعاً.

وزاد الطين بلة انضمام دول جديدة أفقر إلى المجموعة في الثمانينيات وتقديم دول أخرى من أوروبا الشرقية طلبات انضمامها أيضاً، فكانت هذه مصادر جديدة للتخوف والحذر، ولكن الحقيقة الأسوأ هي أن المجموعة لم تتمكن من تحقيق الأمل بسياسة خارجية مشتركة، وقد ظهرت هذه الحقيقة بفعل الأحداث الجارية في يوغوسلافيا السابقة، حيث أدى تداخل الأحقاد القومية بعد انهيار الدولة الفيدرالية الشيوعية السابقة إلى سفك الدماء على مستوى هدد بتجاوز حدود البلاد، بل إن البعض كانوا يخشون أن يهدد السلام الدولي.

وعاد اسم سيراييفو ليحمل شهرة مشؤومة كما في عام 1914 ولو لأسباب مختلفة، إن الفظائع الوحشية التي شهدتها البوسنة والأسئلة السياسية التي طرحت فيها تحمل الذكرى المريرة للمشاكل التاريخية العميقة التي ظلت بلا حل بينما راحت نشوة التحرير تفتر في الشرق، أما نهاية التاريخ التي هلل لها البعض فقد تبين أنها ليست إلا وهماً مثلما كانت دائماً.




الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://resalahmasriyah.mam9.com
Eng. Ahmedzoubaa
Admin
Eng. Ahmedzoubaa


عدد المساهمات : 1216
تاريخ التسجيل : 28/08/2010
العمر : 50

الفصل الخامس عشر -العصر الأخير: حقبة متقلقلة  Empty
مُساهمةموضوع: رد: الفصل الخامس عشر -العصر الأخير: حقبة متقلقلة    الفصل الخامس عشر -العصر الأخير: حقبة متقلقلة  Emptyالخميس 16 يونيو 2011 - 6:09

الخاتمة

مازال مستقبل العالم اليوم في منتصف عام 1993 يبدو بعيداً كل البعد عن الاستقرار، وليس في الأفق ثمة نهاية لمعاناة البشر، ولا ما يدعو إلى التفاؤل بقدومها يوماً ما. ومن حسن حظ المؤرخين أن ليس عليهم التنبؤ بما قد يحدث في المستقبل؛ كما أن هذه الأحداث التاريخية لا تدهشهم ، لأنهم يعلمون تماماً أنها مهما كانت مذهلة فإن لها دائماً تاريخاً وراءها.

إن جذورها جديرة بالدراسة لأنها تساعد على تفسير الأحداث التي تبدو منفصلة وربطها ربطاً منطقياً بما جاء قبلها، وإن رؤية الأشياء بأبعادها الصحيحة ومرور الزمن عليها يساعدان في ضمها بصورة أوضح إلى نسيج التاريخ.

إن الحاجة ماسة لتذكر هذا الأمر في هذا العالم السريع التغير الذي نعيش فيه اليوم. فالعذابات التي تعيشها اليوم شعوب يوغوسلافيا السابقة، ليست ناجمة فقط عن زوال ديكتاتور قوي، ولا عن أعمال الأنصار وقوات الاحتلال في الحرب العالمية الثانية، ولا عن سياسة الهابسبرغ قبل ذلك نحو شعوبها، ولا حتى عن نمو الإيديولوجية والأساطير القومية منذ الثورة الفرنسية، بل إن القصة تنطوي أيضاً على قرون من الحكم العثماني، وعلى الخصومة بين الكاثوليك والأرثوذكس في القرون الوسطى، وربما حتى على العداوة بين الإفرنج والسلاف.

وإذا انتقلت إلى الطرف الآخر من الكرة الأرضية وجدت أن آسيا قد بدأت تشعر بالتأثيرات الأولى لبزوغ الصين من بعد كسوف مؤقت لتستعيد أهميتها الثقافية والسياسية التي شكلتها آلاف السنين من الخبرة التاريخية.

أما الظواهر الأخرى التي تسود في عالمنا مثل تزايد عدد السكان، وما يشكله من ضغوط، والأضرار التي تعاني منها البيئة، والهزات القوية التي تمر بها المجتمعات التقليدية المضطرة للتأقلم مع التطور التقني المتسارع والعنيف، فليس بينها ظاهرة واحدة إلا ويشكل فهم التاريخ فيها بداية الحكمة.

إلا أن هذا لايعني أننا سوف نتوصل إلى حلول لمشاكلنا، لأن قدرتنا على مواجهة هذه التحديات الهائلة محكومة أيضاً بالتاريخ، ولأن لحيز المناورة حدود. ثم أن التاريخ قد يساء فهمه أيضاً أو يصور بطريقة خاطئة وقد يؤدي هذا إلى كوارث؛ فالتاريخ الخاطئ سلطان خطير، ولم تكن الحاجة إلى تاريخ صحيح ماسة كما هي اليوم.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://resalahmasriyah.mam9.com
 
الفصل الخامس عشر -العصر الأخير: حقبة متقلقلة
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1
 مواضيع مماثلة
-
» الفصل الرابع عشر - العصر الأخير: الجيشان
» الفصل الأول - العصر الراشدي
» الفصل الخامس - نزاعات الحضارات
» الفصل الثالث - أسس عالمنا
» الفصل السابع - صنع أوروبا

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
رسالة مصرية ثقافية :: قسم العلوم التربوية والأدبية :: التاريخ العربي :: كتاب تاريخ العالم-
انتقل الى: