رسالة مصرية ثقافية
مرحبا بك أخي الزائر نشكر زيارتك ونتمني انضمامك للمنتدي
زيارتك تسر إدارة المنتدي ومشاركتكك تسعدنا وتساهم معنا بارتفاع الثقافة العامة
بعض المنتديات الفرعية والموضوعات
لا يمكنك الإطلاع عليها إلا بعد التسجيل كعضو في المنتدي
رسالة مصرية ثقافية
مرحبا بك أخي الزائر نشكر زيارتك ونتمني انضمامك للمنتدي
زيارتك تسر إدارة المنتدي ومشاركتكك تسعدنا وتساهم معنا بارتفاع الثقافة العامة
بعض المنتديات الفرعية والموضوعات
لا يمكنك الإطلاع عليها إلا بعد التسجيل كعضو في المنتدي
رسالة مصرية ثقافية
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

رسالة مصرية ثقافية

ثقافية - علمية - دينية - تربوية
 
الرئيسيةرسالة مصريةأحدث الصورالتسجيلدخول

 

 الفصل الثالث - أسس عالمنا

اذهب الى الأسفل 
انتقل الى الصفحة : 1, 2  الصفحة التالية
كاتب الموضوعرسالة
Eng. Ahmedzoubaa
Admin
Eng. Ahmedzoubaa


عدد المساهمات : 1216
تاريخ التسجيل : 28/08/2010
العمر : 50

الفصل الثالث - أسس عالمنا  Empty
مُساهمةموضوع: الفصل الثالث - أسس عالمنا    الفصل الثالث - أسس عالمنا  Emptyالثلاثاء 14 يونيو 2011 - 7:30

تفاعل وتبادل

في عام 1000 ق.م كانت قد ظهرت أنماط عديدة من الحضارة في الشرق الأدنى وشرق المتوسط، وكانت أنماط أخرى قد زالت. وكانت القوى العظمى قد ألفت التعامل إحداها مع الأخرى عبر هذه المنطقة من خلال الدبلوماسية الرسمية، بينما كان الحرفيون والتجار والمرتزقة يتحولون فيها بحثاً عن معيشتهم، والناس يتبادلون الأفكار وأساليب الفن والمهارات التقنية في كافة أنحائها. وكانت تلك بحق أول مجموعة عالمية من المجتمعات. ولقد بقيت هذه المنطقة لزمن طويل المكان الوحيد في العالم الذي يبدي هذه الحيوية والتبادل الخلاق، وفيها يمكنك أن تميز بدايات تيارات سوف تسيطر على تاريخ العالم في قرننا هذا. وإن أفضل نقطة للبدء بفهم الأمور هي مرة ثانية تحركات الشعوب وترحالها. تفسر تلك الهجرات جزءاً كبيراً من التبدّلات الدينامية الجارية، فطوال الألف الثاني ق.م يظهر في كل من الهند وإيران وبلاد الرافدين وبلاد الشام ومصر وبحر إيجة تأثير الشعوب التي نسمي لغاتها هندية أوروبية. تقول إحدى الفرضيات إن الهنود الأوروبيين قد أتوا من جنوب روسيا، وكان ذلك على الأرجح قبل عام 2000 ق.م بزمن طويل، وربما كان السبب أن التغيرات المناخية في آسيا الوسطى قد دفعت شعوباً أخرى في الشرق إلى الهجرة غرباً، فشكلت بذلك ضغطاً على "الهنود الأوروبيين" ودفعتهم بدورهم. ومن الطرق التي سلكوها طريق تمتد في شبه جزيرة البلقان نزولاً إلى اليونان وتراقيا، ومن هناك عبر الأناضول. وفي هذه الأثناء كان هنود أوربيون آخرون قد نزلوا عبر القوقاز، ومن تركستان إلى بلخ وإيران والهند، وإن اسم إيران مرادف لصفة ”آريAryan وعدا عن الهنود الأوروبيين الذين كانوا في منطقة الدانوب بجنوب شرق أوروبا، كان آخرون قد تحركوا غرباً إلى ألمانيا وشمال فرنسا بل وحتى الجزر البريطانية، ولكن لنترك قصتهم لمرحلة لاحقة.

في الهلال الخصيب دخلت هذه الشعوب صراعاً مع الإمبراطوريات القديمة التي كان تسيطر عليه منذ الإطاحة بسومر، وكانت الشعوب السامية تنتقل فيه أيضاً. ويخبرنا العهد القديم من الكتاب المقدس المسيحي أن إبراهيم، الذي يعتبره اليهود الآن في بداية تاريخهم التقليدي، قد انطلق من أور عبر بلاد الرافدين والشام سعياً إلى المرعى، وهي على الأرجح قصة حفظتها ذاكرة الشعوب. وكانت هناك قبائل كثيرة تنتقل في ذلك الحين، كما أن الهنود الأوروبيين كانوا أيضاً رعاة رحل، وتتنازع فيما بينها على الكلأ والماء في الهلال الخصيب، وقد انجذبت تلك الشعوب إلى الثقافات المتطورة التي كانت في هذه البلاد، وراحت تستعير منها وتقلدها.

ولابد أن تكون الهجرة قد سرعت في انتشار الحضارة بصورة كبيرة، والدليل على هذا هو انتشار الكتابة. في عام 2000 ق.م كانت الكتابة محصورة إلى حد كبير بحضارات وديان الأنهار، ولو أن المسمارية كانت منتشرة في كافة أنحاء بلاد الرافدين وكانت تكتب بها لغتان أو ثلاث؛ ففي مصر مثلاً كان يحفر على الصروح بالكتابة الهيروغليفية، وكانت الكتابة اليومية تتم بشكل مبسط منها يدعى الهيراطية، أما المسمارية فكانت مستخدمة في الدبلوماسية. ولكنك بعد حوالي ألف سنة صرت تجد شعوباً تعرف الكتابة في كافة أنحاء الشرق الأدنى، وفي كريت واليونان أيضاً، ويمكن تمييز هذه الشعوب من خلال لغاتها المختلفة. كما أنها كانت تخترع كتابات جديدة، ففي كريت مثلاً تجد في حوالي عام 1500 ق.م كتابة كانت مستخدمة لتدوين شكل من اللغة اليونانية، أي أنها تصل بك إلى مشارف عالم جديد. وإن أول كتابة دوّن بها أدب غربي كانت مستخدمة في عام 800 ق.م، وهي مشتقة من أبجدية اخترعت لكتابة لغة سامية ومأخوذة من الفينيقيين.


عدل سابقا من قبل Admin-ahmed في الثلاثاء 14 يونيو 2011 - 7:42 عدل 1 مرات
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://resalahmasriyah.mam9.com
Eng. Ahmedzoubaa
Admin
Eng. Ahmedzoubaa


عدد المساهمات : 1216
تاريخ التسجيل : 28/08/2010
العمر : 50

الفصل الثالث - أسس عالمنا  Empty
مُساهمةموضوع: رد: الفصل الثالث - أسس عالمنا    الفصل الثالث - أسس عالمنا  Emptyالثلاثاء 14 يونيو 2011 - 7:30

التجارة والسفر

إن الأسفار البعيدة هي مثل اللغة علامة على التغير ومحرك له في الوقت نفسه، ولا تجد في البداية أدلة على الأسفار البعيدة إلا في بعض الآثار، مثل أرصفة مرافئ هرابا أو بعض الأختام الأجنبية. وتدل هذه الآثار على أن القصدير كان يجلب من بلاد الرافدين وأفغانستان والأناضول إلى ما يمكن أن نسميه الآن مراكز ”تصنيع”، كما تجد نحاس قبرص في أماكن كثيرة، ويستنتج من هذا أنه كان سلعة يتاجر بها على نطاق واسع، وكذلك نحاس بر أوروبا، لأنه هناك مناجم بأرض يوغوسلافيا السابقة كانت محفورة حتى عمق ستين أو سبعين قدماً (20 متراً) تحت سطح الأرض قبل عام 4000 ق.م. أما بالنسبة للمواد غير المعدنية، فيذكر الكتاب المقدس شهرة خشب أرز لبنان الذي كان يصدر لمصر، كما كان الكهرمان يجلب من البلطيق إلى بحر إيجة، والتوابل من الشرق الأدنى عبر البحر الأحمر إلى مصر، كل هذا قبل عام 1000 ق.م. وقد تغيرت الجغرافية الاقتصادية ببطء مع نمو هذه الروابط، فظهرت مراكز برعت بالتجارة وازدهرت ازدهاراً عظيماً. لقد تعاطى الكريتيون والشعوب الباكرة في بر اليونان التجارة إلى حد كبير، وكانت البحرين تجتذب التجار من بلاد الهند وبلاد الرافدين. ومع اقتراب الألفية من نهايتها كان أعظم شعوب بالتجارة في العالم القديم، أي الشعب الفينيقي المقيم في المدن الساحلية لبلاد الشام، على باب عصر ذهبي من الازدهار.

كان حمل البضائع الكبيرة صعباً، أقله عن طريق البر، لأنه بقي يعتمد على الحمير إلى أن دجّنت الجمال في منتصف الألفية الثانية ق.م، وقد فتح تدجين الجمال تجارة القوافل في آسيا وشبه الجزيرة العربية. أمّا النقل بالعجلات فيبدو أن أهميته بقيت محلية لزمن طويل بسبب رداءة الطرق ورداءة محاور العجلات أيضاً، مع أن العربات كانت تستخدم في بلاد الرافدين في نحو عام 3000 ق.م، وفي سوريا نحو عام 2250 ق.م، وفي الأناضول بعد ذلك بقرنين أو ثلاثة، وفي بر اليونان في نحو عام 1500 ق.م. إلا أن نقل البضائع بكميات كبيرة كان أبسط وأرخص عن طريق الماء منه عن طريق البر، وسوف يظل كذلك حتى عصر القطار البخاري.

كانت شعوب العصر النيوليتي تقوم برحلات طويلة عبر البحر في زوارق الكنو المحفورة، وقد أمن المجداف القوة الدافعة للقيام برحلات بحرية طويلة فضلاً عن تحسين التحكم بحركة القارب. بعد ذلك وضع مصريو السلالة الثالثة شراعاً على سفينة عابرة للبحار، وكان الساري المركزي والشراع المستطيل بداية الإبحار بالاعتماد على قوة غير تيارات المياه وعضلات الإنسان. وقد تحسنت الأشرعة ببطء على مدى الألفين التاليين، إلا أن سفن الأزمنة القديمة كانت في أكثر الأحيان ذات أشرعة مستطيلة، لذلك كانت الرياح السائدة هي التي تحدد نمط الاتصالات البحرية. مع هذا كان التجار يتبادلون البضائع ويكسبون المال بصورة متزايدة عن طريق البحر، وقبل قوافل الجمال بزمن طويل كانت السفن تحمل ضروب الصمغ والراتنج من جنوب شبه الجزيرة العربية شمالاً على طول البحر الأحمر، وكانت سفن أخرى تجوب في أنحاء نهر إيجة، وفي القرن الثالث عشر ق.م كانت تبحر في شرق المتوسط سفن قادرة على حمل أكثر من 200 سبيكة نحاسية، وبعد قرون قليلة صار بعضها مزوداً بظهر سدود للماء.

ولكن طبيعة هذا التبادل تبقى غير واضحة، حتى في عام 1000 ق.م، ويبدو أن الناس كانوا يتبادلون البضائع والخدمات قبل أن يتحضروا، ولكن ربما كان هذا الأمر أشبه بعملية إعادة توزيع متفق عليها ضمن الجماعة. في الأزمنة التاريخية صار لبعض الشعوب زعماء يرأسون مخزناً مشتركاً، ويملكون بمعنى ما كل ما يخص الجماعة، ثم يوزعونها على أفرادها من أجل ضمان أعمالها بصورة سلسة، وربما يفسر هذا الأمر تخزين البضائع والمؤن في المعابد السومرية. لقد مر زمن طويل قبل أن تظهر أي وسيلة للتبادل معترف بها على نطاق واسع أي ما نسميه النقد ونجد أول دليل عليه في بلاد الرافدين، حيث كانت الحسابات تسجل بمكاييل من الحبوب أو الفضة قبل عام 2000 ق.م، كما يبدو أن مسكوكات النحاس كانت أحياناً تستخدم كوحدات مالية في قسم كبير من المتوسط في أواخر عصر البرونز. إلا أن أول وسيلة للتبادل مختوماً ختماً رسمياً بقيت لنا قد أتت من كَبَدوقية* في أواخر الألف الثالثة ق.م، وكانت عبارة عن مسكوكات فضية، وهي عملة معدنية حقيقية. ومع هذا لم تظهر أولى قطع النقد حتى القرن السابع ق.م وكان الناس قبلها يتدبرون أمورهم من دونها، فالفينيقيون مثلاً، وهم مشهورون بحذقهم وفطنتهم في شؤون التجارة، لم تكن لديهم عملة حتى السادس ق.م، ومصر التي كانت نظاماً اقتصادياً ذا إدارة مركزية لم تتخذ النقد إلا بعد ذلك بقرنين. إلا أن هذا الأمر لم يمنع الناس من تبادل البضائع، ولا يمكننا أن نسمي عمليات التبادل تلك "تجارة" بمعناها الحالي، كما أنه ليس من الواضح ما إذا كانت السوق في العالم القديم دوماً مكاناً يتوصل الناس فيه إلى قيم السلع عن طريق المساومة. عندما تبدأ حقبة السجلات التاريخية تجد أدلة على انتقال السلع بصورة جزية أو هدايا رمزية أو دبلوماسية بين الحكام أو بصورة عطايا نذرية. لقد ظلت الإمبراطورية الصينية حتى القرن التاسع عشر الميلادي تعتبر تجارتها مع الدول الأخرى جزية من العالم الخارجي، وكان الفراعنة أيضاً ينظرون إلى تجارتهم مع بحر إيجة نظرة مشابهة، كما يبدو من رسوم مدافنهم. وربما شملت هذه العمليات التجارية تبادل أغراض موحدة مثل الأوعية أو القدور ذات الوزن الواحد، أو الخواتم ذات الحجم الواحد، فكانت لها بذلك بعض خواص العملة.






* اسم أطلق قديماً على آسيا الصغرى
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://resalahmasriyah.mam9.com
Eng. Ahmedzoubaa
Admin
Eng. Ahmedzoubaa


عدد المساهمات : 1216
تاريخ التسجيل : 28/08/2010
العمر : 50

الفصل الثالث - أسس عالمنا  Empty
مُساهمةموضوع: رد: الفصل الثالث - أسس عالمنا    الفصل الثالث - أسس عالمنا  Emptyالثلاثاء 14 يونيو 2011 - 7:31

الحرب والتقنية

يشمل تطور الحضارة أيضاً انتقال التقنية، وهي قوة أخرى محررة ومحرضة في الوقت نفسه، وليس من الغريب أن تظهر التقنية أولاً في مجال الحرب، إذ يبدو أن السعي نحو التفوق في الأمور العسكرية هو ميل ثابت في سلوك البشر. لقد غيرت عربات الهنود الأوروبيين وخيولهم طبيعة العمليات العسكرية في كافة أنحاء الشرق الأدنى، صحيح أنك ترى المحاربين السومريين مصورين وهم يتجولون في عربات فظة ذات أربع عجلات تجرها الحمير، ولكنها لم تكن على الأرجح إلا وسيلة لنقل القادة أو إيصالهم إلى قلب المعمعة حيث يقاتلون بالرمح والفأس، أما عربة الحرب الحقيقية فهي ذات عجلتين وتجرها الخيول، ويكون فيها عادة طاقم مؤلف من رجلين، أحدهما يقودها والآخر يستخدمها منصة لقذف الأسلحة، خاصة قذف السهام بواسطة القوس. لقد كان القسيون وهم من أصل هندي أوروبي أول شعب نعلم أنه استخدم هذا الشكل من القتال، وكانوا يعتمدون على المراعي العالية إلى الشمال والشرق من الهلال الخصيب حيث تكثر الخيول، أما في وديان الأنهار فقد بقيت نادرة الخيل، التي كانت تحفاً ثمينة يعتز بها الملوك وكبار القادة. وقد تغيرت الحرب كثيراً بركوب الخيل، وهي مهارة أتت من مرتفعات إيران، ربما كانت معروفة هناك منذ عام 2000 ق.م، ثم انتشرت عبر الشرق الأدنى وبحر إيجة خلال الألف التالية. والخيال الحقيقي لا يتحول عن فرسه فحسب بل يقاتل من على ظهرها أيضاً، وإن التحكم بالخيل والقوس أو الرمح في الوقت نفسه هو فن صعب استغرق زمناً طويلاً لكي يتطور، أما الخيال المدرع الذي يهاجم هدفه ويهيمن على الجنود المشاة بوزنه وزخم اندفاعه فلم يظهر إلا بعد ذلك بزمن طويل.

وقد ظهرت الخيالة والعربات أخيراً في جيوش كافة الممالك الكبرى في الشرق الأدنى. وخلال الألف الثانية ق.م صارت بعض أجزاء العربة تصنع من الحديد، خاصة عجلاتها التي كانت تطوق بأطر من هذا المعدن، أما الميزات العسكرية الأخرى للحديد كمادة للأسلحة فهي واضحة. وقد انتشر استخدامه انتشاراً سريعاً عبر الشرق الأدنى وخارجه، بالرغم من أن الذين استخدموه للمرة الأولى في الأناضول قد حاولوا الاستئثار به. لقد كان خام الحديد على قلته أكثر وفرة من النحاس أو القصدير، ومنذ القرن السابع ق.م كان يستخدم لصناعة الأسلحة في قبرص، ويقول بعضهم إن الفولاذ كان يصنع هناك أيضاً ثم انتقل إلى بحر إيجة بعد عام 1000 ق.م بقليل، ويمكننا اعتبار تاريخ 1000 ق.م هذا فاصلاً تقريباً بين عصري البرونز والحديد، ولو أنه ليس أكثر من طريقة مفيدة للتذكر، إذ إن بعض أنحاء ما نسميه ” العالم المتحضر” قد ظلت تعيش في ثقافة عصر البرونز، الذي استمر حتى وقت متقدم من الألف الأولى ق.م وكذلك العصر النيوليتي في أماكن أخرى، ولم يختف إلا بصورة بطيئة ومتدرجة، والحقيقة أن الحديد قد ظل لزمن طويل معدناً نادراً لا يكفي حاجات الجميع.

فروق جديدة

لا تفيدنا التقنية كثيراً في وضع تسلسل زمني عندما يسير التاريخ وما قبل التاريخ جنباً إلى جنب، ولكن لا حاجة لأن يعكرنا هذا الأمر. صحيح أن بعض التواريخ واضحة في قصة الدول والإمبراطوريات، ولكن يفضل ألا نركز عليها كثيراً، لأن الأهم هو الاتجاه العام، وهذا الاتجاه واضح، وله في الوقت نفسه وجهان متعاكسان. فرغم أن الشعوب والمناطق المختلفة كانت تزداد اتصالاً بعضها ببعض، واشتراكاً في أمور كثيرة، فقد كانت أيضاً تزداد تميزاً إحداها عن الأخرى، وكانت القبائل والشعوب تكتسب هويات أكثر رسوخاً مع تبلور حكوماتها في أشكال ومؤسسات مستمرة كثيراً ما كانت مرتبطة بالدين. ورغم أن انحلال الإمبراطوريات إلى وحدات أصغر قابلة للحياة هي قصة مألوفة ، منذ سومر حتى الأزمنة الحديثة، فإن بعض المناطق تعود لتبزغ مرة تلو المرة كنوى ثابتة لتقاليد متميزة، ومنذ الألف الثانية ق.م كانت بعض البنى تزداد تماسكاً وقدرة على البقاء، وعندئذٍ تصبح المؤسسات أكثر خصوصية وتميزاً عن الصفات العامة التي كانت تشترك بها كل الحضارات الباكرة. أي أنه رغم وجود عالمية جديدة فإن المجتمعات كانت تسلك ضمنها دروباً متباينة جداً.

وصارت هناك مجالات جديدة للتمايز، لقد ساعدت الكتابة على تثبيت التقاليد وتعزيز شعور الجماعة بأنها جماعة متميزة. أما الفن فكان قد رسخ قدميه قبل أن تبدأ الحضارة، ولعله ابتدأ كنشاط مستقل غير مرتبط بالدين أو السحر بالضرورة، ولو أنه كثيراً ما ظل مرتبطاً بهما، ثم صارت أساليبه تأخذ أشكالاً تتباين من مكان إلى آخر. ونشأت أيضاً نشاطات ترفيهية مختلفة من بلد إلى آخر، فظهرت رقع الألعاب في بلاد الرافدين ومصر وكريت، وصار الملوك والنبلاء في كل مكان يمارسون رياضة الصيد بشغف كبير، ويأتون بالموسيقيين والراقصين للترويح عن أنفسهم في قصورهم. ويبدو أن الملاكمة قد صارت رياضة شعبية للمرة الأولى في جزيرة كريت خلال عصر البرونز، حيث كان الناس يمارسون أيضاً رياضة القفز على الثيران، وهي رياضة فريدة يبدو أنها كانت شكلاً من أشكال الطقوس.

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://resalahmasriyah.mam9.com
Eng. Ahmedzoubaa
Admin
Eng. Ahmedzoubaa


عدد المساهمات : 1216
تاريخ التسجيل : 28/08/2010
العمر : 50

الفصل الثالث - أسس عالمنا  Empty
مُساهمةموضوع: رد: الفصل الثالث - أسس عالمنا    الفصل الثالث - أسس عالمنا  Emptyالثلاثاء 14 يونيو 2011 - 7:31

الحضارة الإيجية*

كانت الحياة في الشرق الأدنى وشرق المتوسط في الألف الثانية ق.م غنية بالروابط المشتركة والتفاعل المتبادل، إلا أن بعض مراكز الحضارة فيها كانت على درجة بارزة من النجاح والأهمية، وكانت جزيرة كريت واحدة من تلك المراكز، وهي أكبر الجزر اليونانية. طوال الأزمنة النيوليتية كان يعيش في كريت شعب متقدم ربما كان له اتصالات بالأناضول، ولكن الأدلة غير حاسمة، إلا أن شيئاً ما قد حفزه على القيام بإنجازات لافتة. ففي حوالي عام 2500 ق.م كانت هناك مدن وقرى هامة مبنية من الحجر والقرميد على سواحل كريت يمارس سكانها شغل المعادن وقص الأختام والمجوهرات، وكانوا يشتركون بقسم كبير من ثقافة بر اليونان وآسيا الصغرى، ويتبادلون البضائع مع جماعات إيجية أخرى. ثم حصل تغير هام، ففي حوالي عام 2000 ق.م بدؤوا يبنون قصوراً كبيرة هي أهم صروح الحضارة التي نسميها الحضارة المينوية، وكان أعظم تلك الصروح هي قصر كنوسوس الذي بني للمرة الأولى في حوالي عام 1900 ق.م، ولا تجد في أي من الجزر الأخرى شيئاً يضاهيه في عظمته وأبهته.





* إيجة بحر بين اليونان وتركيا الحاليتين، من متفرعات المتوسط
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://resalahmasriyah.mam9.com
Eng. Ahmedzoubaa
Admin
Eng. Ahmedzoubaa


عدد المساهمات : 1216
تاريخ التسجيل : 28/08/2010
العمر : 50

الفصل الثالث - أسس عالمنا  Empty
مُساهمةموضوع: رد: الفصل الثالث - أسس عالمنا    الفصل الثالث - أسس عالمنا  Emptyالثلاثاء 14 يونيو 2011 - 7:31

مينوا

إن الحضارة المينوية هي التسمية التي تطلق على حضارة كريت في عصر البرونز، والتي سوف تصير لها هيمنة ثقافية على كافة منطقة بحر إيجة تقريباً، وليس لهذه التسمية معنى آخر. وهي مشتقة من اسم الملك الأسطوري مينوس، الذي قد لايكون له وجود حقيقي. لقد اعتقد الإغريق بعد ذلك بزمن طويل أو قالوا إن مينوس كان حاكماً عظيماً يعيش في كنوسوس ويتداول مع الآلهة، وإنه تزوج باسيفايه ابنة الشمس، التي ولدت وحشاً هو المينوتور، كان يلتهم الشبان والصبايا المرسلين تقدمة له من اليونان في قلب متاهة، إلى أن نجح البطل ثيزنوس أخيراً في اختراق تلك المتاهة وذبح فيها وحش المينوتور. إن هذا الموضوع غني ويوحي بالكثير، ولكن ليس من دليل يؤيد القصة، وربما كان اسم مينوس لقباً يطلق على عدد من الحكام الكريتيين.

لقد استمرت الحضارة المينوية نحو ستمائة سنة، ولكننا لا نعلم إلا الخطوط العامة لتاريخها، كانت مدنها كلها تعتمد على قصر كنوسوس، وقد ازدهرت طوال ثلاثة أو أربعة قرون، وكانت تتاجر إذا صح التعبير مع مصر وبر اليونان. في أواخر الأزمنة النيوليتية أدى تطور الزراعة إلى تحسن زراعة الحبوب في كريت وإلى زراعة الزيتون والكرمة أيضاً، ويبدو أن الجزيرة كانت في ذلك الزمان كما هي اليوم أنسب مناخاً وأرضاً حتى من بقية جزر بحر إيجة وبر اليونان لزراعة هاتين النبتتين، اللتين سوف تصير لهما أهمية كبيرة في زراعة المتوسط، فيما بعد. كانت زراعة الزيتون والكرمة ممكنة حيث لا يمكن زراعة الحبوب، وقد غير اكتشافهما إمكانيات الحياة في المتوسط، وسمح للتو بازدياد عدد السكان في كريت وأدت زيادة السكان إلى توفر إمكانيات جديدة، ولكنها اقتضت في الوقت نفسه حاجات أكبر من أجل التنظيم والحكم وتدبير زراعة أكثر تعقيداً والتصرف بالمنتجات الزراعية، وكانت كريت تصدر الصوف أيضاً.

الفصل الثالث - أسس عالمنا  Chp3-1

خريطة لجزيرة كريت تبين مدن كنوسوس وماليا وفايستس
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://resalahmasriyah.mam9.com
Eng. Ahmedzoubaa
Admin
Eng. Ahmedzoubaa


عدد المساهمات : 1216
تاريخ التسجيل : 28/08/2010
العمر : 50

الفصل الثالث - أسس عالمنا  Empty
مُساهمةموضوع: رد: الفصل الثالث - أسس عالمنا    الفصل الثالث - أسس عالمنا  Emptyالثلاثاء 14 يونيو 2011 - 7:32

كريت القديمة



2600- 2000 ق.م

المرحلة المينوية: أولى المدن في شرق كريت وغرف الدفن الدائرية

2000-1570 ق.م

المرحلة المينوية الوسطى: بناء أول القصور في كنوسوس وماليا وفايستس، اتصالات بمصر واليونان، تبني الكتابة التصويرية

1700-1600 ق.م

وصول اللوفيين، ظهور الكتابة الخطية (أ) ، التأثر بأسلوب بناء القصور في بحر إيجة

1570-1425 ق.م

المرحلة المينوية الوسطى إلى المتأخرة، تطور التجارة والقوة البحرية، الكتابة الخطية (أ) تحل محل الكتابة التصويرية، بناء القصور في كنوسوس وفايستُس وهاجيا تريادا

حوالي 1500- 1400 ق.م

تخرب قصر كنوسوس مرتين بسبب الزلازل وإعادة بنائه

حوالي 1300

إعادة استيطان فايسيُس وهاجيا تريادا، ظهور مستوطنات جديدة من كنوسوس في غرب كريت

حوالي 1400-1300 ق.م

مستوطنات أخائية من ميقينية تبدأ بإزاحة السكان الأصليين، استخدام الكتابة الخطية الأخائية (ب)، النار تدمر قصر كنوسوس

حوالي 1200 – 1100 ق.م

الدوريون يدمرون كنوسوس


بلغت الحضارة المينيوية ذروتها في حوالي عام 1600 ق.م، وبعد قرن واحد تقريباً دمرت قصورها، وربما كان هذا بفعل الزلازل، لأن الأبحاث الحديثة تشير إلى حدوث انفجار بركاني كبير في جزيرة ثيرا* في وقت يوافق هذا الدمار. لذلك قيل إن سبب الكارثة قد يكون موجات مدية عاتية وزلازل أصابت جزيرة كريت التي تبعد عنها حوالي سبعين ميلاً (100 كم)، تلاها هبوط غيوم من الرماد خربت حقولها. ولكن إذا كان هذا التفسير صحيحاً فإن هذه الكارثة الطبيعية إنما قصمت ظهر ثقافة واحدة ولم تكن نهاية الحضارة الباكرة في كريت، لأنها سوف تعرف أزمنة مزدهرة بعد. ورغم أن سيادة حضارتها الأصلية زالت، فإن شعباً من اليونان سوف يأتي ويسكنها لمدة قرن آخر عرفت فيه الازدهار من جديد. إلا أنها في بداية القرن الرابع عشر ق.م خربت مرة ثانية بفعل الحرائق ولم يتم بناؤها من بعدها، وهكذا تنتهي قصة حضارة كريت الباكرة.

الفصل الثالث - أسس عالمنا  Chp3-2

قصر كنوسوس

بعد أكثر من ألف سنة كانت التقاليد اليونانية تقول إن كريت المينوية كانت تسيطر على بحر إيجة بفضل قوتها البحرية، ولكن هذه الفكرة قد ضخمت كثيراً، فربما كان للمينويين سفن كثيرة ولكن من المستبعد أن يبلغوا حد الاختصاص في ذلك التاريخ الباكر، ولا يمكنك في عصر البرونز أن تميز بين التجارة والقرصنة، والقرصنة المضادة. إلا أن المينويين كانوا على كل حال مطمئنين إلى الحماية التي يؤمنها لهم البحر، إذ أنهم كانوا يعيشون في مدن غير محصنة قريبة من الساحل وعلى أرض غير مرتفعة كثيراً. وقد استغلوا البحر مثلما استغلت شعوب أخرى بيئاتها الطبيعية، وحفزهم هذا الأمر على تبادل البضائع والأفكار، فكانت لهم ارتباطات وثيقة بسوريا قبل عام 1550 ق.م، وكانت بضائعهم تنقل على سواحل بحر الأدرياتيك. والأهم من هذا هو تغلغلهم في اليونان، فربما كان المينويون أهم منفذ انتقلت من خلاله بضائع وأفكار الحضارات الأولى في أوروبا في عصر البرونز. وتجد منتجات كريت في مصر أيضاً ابتداء من الألف الثانية ق.م، وتلاحظ تأثير الفن الكريتي في فن المملكة الحديثة، بل إن بعض العلماء يعتقدون أن رجلاً مصرياً كان يقيم في كنوسوس، ربما للإشراف على مصالح هامة، ويقول بعضهم أن المينويين قد حاربوا على جانب المصريين ضد الهكسوس. لقد وجدت المزهريات والبضائع المعدنية الكريتية في أماكن عديدة من آسيا الصغرى أيضاً، وكان المينويون يزودون البر بمنتجات كثير غيرها مثل الأخشاب والعنب والزيت وحتى الأفيون، وكانوا بالمقابل يأخذون المعادن من آسيا الصغرى، والمرمر من مصر، وبيض النعام من ليبيا، ولقد كان ذلك العالم عالماً نشيطاً.

لقد مكنت الثروة المينويين من العيش بأبهة، وأجمل شاهد عليها هي قصورهم، إلا أن المدن أيضاً كانت حسنة البناء ومجهزة بأنابيب تصريف مجاري محكمة. أما الإنجازات الأخرى فهي فنية أكثر منها فكرية، إذ يبدو أن المينويين قد أخذوا الرياضيات عن مصر وتركوها على حالها، وزالت ديانتهم بزوالهم من دون أن تترك شيئاً للمستقبل على ما يبدو، بينما أثر الفن المينوي في أساليب حضارات أخرى، ومازال حتى اليوم فناً بديعاً تتجلى عبقريته في صوره، وقد بلغ ذروته في الرسوم الجدارية التي تجدها في القصور والتي تتصف بحيوية وحركة مدهشتين، كما أنه أسلوب أصيل بحق قلدته شعوب ما وراء البحار في كل من مصر واليونان، وسوف يساهم هذا الأسلوب من خلال فنون القصر الأخرى أيضاً، خاصة منها فن شغل الأحجار الكريمة والمعادن الثمينة في تحديد أساليب الموضة في الخارج.

يعطينا الفن المينوي أيضاً أدلة على أسلوب حياة الكريتيين، ويبدو أنهم كانوا يرتدون ملابس قليلة، فالنساء يصورن عاريات الصدر عادة والرجال حليقين، كما تجد صور الأزهار والنباتات بوفرة توحي بتقدير عفوي لنعم الطبيعة. ويبدو أن المينويين لم يجدوا العالم مكاناً منفراً. وتشهد على ثروتهم جرار الزيت الكبيرة والجميلة التي وجدت مصفوفة في قصورهم، ويظهر اهتمامهم بالراحة والجمال الأنيق بوضوح في رسوم الدلافين والزنابق التي تزين غرف ملكة مينوية. كما تدل الآثار على عالم ديني فريد لأنه ليس عالماً مرعباً، ولكن ليس بين أيدينا أية نصوص منه، ولا يمكننا أن نعرف شيئاً عن طقوسه.إنك تلاحظ كثرة مذابح القرابين والفؤوس ذات الرأسين، كما يبدو أن العبادة كانت تتمحور حول شخصية أنثوية ربما كانت إلهة خصب نيوليتية من اللواتي يظهرن المرة تلو المرة في كافة أنحاء الشرق الأدنى كتجسيد لطاقة الأنثى الجنسية، مثل عشتار وأفروديت في أزمان لاحقة. وتراها في كريت ترتدي تنّورة أنيقة، عارية الصدر، واقفة بين أسدين وممسكة بثعبانين. أما وجود إله ذكر فهو أمر غير واضح، ولكن يوحي به ظهور قرني الثور في أماكن كثيرة، والرسوم الجدارية التي تصور هذه الحيوانات النبيلة، خاصة إذا ربطناها بالأساطير اليونانية اللاحقة، لأن أوربا أم مينوس قد أغراها الإله زفس بشكل ثور، كما أن باسيفايه زوجة مينوس ضاجعت ثوراً فولدت وحش المونيتور، الذي كان نصفه ثوراً ونصفه الآخر رجلاً، هذا عدا عن طقوس القفز على الثيران، وهي طقوس غامضة ولكنها هامة. وعلى كل حال لا تبدو ديانة كريت ديانة كئيبة، إذ أن اللوحات الجدارية التي تمثل أنواع الرياضة والرقص لا توحي بشعب حزين.

أما الحكم في الحضارة المينوية فمازال أمراً غامضاً، لقد كان القصر أشبه بمركز اقتصادي، أي أنه كان مخزناً كبيراً للسلع يقوم الحاكم بإعادة توزيعها، وكان معبداً أيضاً ولكنه لم يكن قلعة، وفي فترة نضجه كان مركز بنية عالية التنظيم، ربما كانت مستوحاة من آسيا. كان المينويون يعرفون الكتابة ويحفظون السجلات، ولا نعلم شيئاً عن أدبهم، ولكننا نعلم أشياء قليلة عن إدارتهم من خلال مجموعة هائلة مكونة من آلف الرقم وجدت في القصر، وتدل على ما كانت الحكومة تطمح إليه على الأقل، أي الإشراف على الأمور إشرافاً شديداً ومحكماً لا تجد مثيلاً له إلا في إمبراطوريات آسيا وفي مصر.

مازال الكثير من تلك الرقم عصياً على القراءة، ولكننا نعلم أن أبكرها مدونة بكتابة تصويرية بعض رموزها مأخوذة من مصر، تليها مجموعة مدونة بالكتابة الخطية (أ) ثم مجموعة مدونة بالكتابة الخطية (ب). ويتفق العلماء الآن، على أن هذه الكتابة الخطية (ب) هي أول شكل مدون نملكه من اللغة اليونانية، وهي تعود للفترة بين عامي 1450 إلى 1375 ق.م تقريباً. ويوافق هذا التاريخ الأدلة التي تعطيها الآثار عن وصول وافدين جدد من البر الرئيسي، في ذلك الوقت تقريباً، نجحوا في إزاحة سكان كريت الأصليين وأشرفوا على المرحلة الأخيرة من الحضارة المينوية. ويبدو أن هذه الشعوب الوافدة تشكل هي الأخرى جزءاً من قصة الشعوب الهندية الأوروبية التي تظهر مراراً وفي أماكن كثيرة خلال تلك الحقبة الغامضة. وفي فترة لاحقة تبعهم آخرون من البر إلى كريت ونجحوا في استيطانها بعد الانهيار الأخير لكنوسوس واختفاء المينويين من تاريخ العالم.





* سانتورين الحالية
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://resalahmasriyah.mam9.com
Eng. Ahmedzoubaa
Admin
Eng. Ahmedzoubaa


عدد المساهمات : 1216
تاريخ التسجيل : 28/08/2010
العمر : 50

الفصل الثالث - أسس عالمنا  Empty
مُساهمةموضوع: رد: الفصل الثالث - أسس عالمنا    الفصل الثالث - أسس عالمنا  Emptyالثلاثاء 14 يونيو 2011 - 7:32

الميقينيون*

قبل ذلك ببضعة قرون كانت الثقافة الكريتية قد أثرت تأثيراً كبيراً في البر الرئيسي لليونان، وكانت تعيش فيه بقايا شعوب نيوليتية سماها الإغريق اللاحقون Pelasgoi ، بقيت موزعة في شمال بحر إيجة حتى عام 500 ق.م. ولكن كان قد حل محلها عندئذٍ أو غزاها شعب اعتبره الإغريق اللاحقون أجدادهم وكانوا يسمونهم ”الأخائيين”. كان الأخائيون قد وصلوا إلى سهل الأتيك وشبه جزيرة البيلوبونيز في نحو عام 2500 ق.م، وكانوا يتحدثون لغات هندية أوروبية، وكانوا رعاة غنم يحبون الحرب ويعرفون استخدام العربات، ويبدو أنهم أعطوا الرجال أهمية أكبر بكثير من النساء في المجتمع، كما كانت أصنامهم مختلفة جداً عن أصنام الديانات المتمحورة حول آلهة أنثوية كانت سائدة في الشرق الأدنى وبحر إيجة قبل وصولهم مباشرة، وكانوا برابرة بالقياس إلى الكريتيين.

لقد كان بين مستوطنات الأخائيين مستوطنة واقعة في واد بشبه جزيرة البيلوبونيز هي ميقينية، التي صارت مركز حضارة، كانت ميقينية أكثر تقدماً بكثير من كل ما ظهر قبلها في اليونان، إلا أنها أقل تقدماً من حضارة كريت المينوية، وكانت تدين لها بالكثير. وقد ظهرت هذه الحضارة في نحو عام 1600 ق.م، وانتشرت خلال خمسة أو ستة قرون في الجزء الأكبر من بر اليونان، وفي نحو عام 1300 ق.م كان الملوك الحثيون في الأناضول يكتبون إلى ملك ميقينية كرجل بارز يحرصون على التعامل معه. ولم تكن ميقينية ذات إدارة كبيرة وأرشيف معقد مثل الإمبراطوريات الشرقية، بل ربما كان لملوكها مجالس يستشيرونها مكونة من الزعماء. وتظهر الرقم التي وجدت في بيبلوس في غرب البيلوبونيز وجود ما يشبه طبقة من الموظفين وهي علامة على التأثير المينوي، ولكن ربما كان أكثر منطقية أن نعتبر المجتمع الميقيني أشبه بمجموعة من الأملاك الكبيرة، إحداها تابعة لملك من درجة بارزة من المكانة والقوة تجعل الآخرين يقبلون به سيداً عليهم، أي ربما لم يكن تنظيمها أكثر من تنظيم قبلي أو عائلي مطور قليلاً وتحت زعامة ملوك.

لم تترك الحضارة الميقينية أشياء كثيرة، عدا عن بعض الأبنية الباهرة وأغراضاً ذهبية متقنة. ولقد صار أولئك البرابرة بمرور القرون ”ميقينيين”، وكانوا أعلى حضارة من الـPelasgoi ، إلا أن الشيء الأساسي الذي بقي يميزهم إنما هو قدرتهم القتالية. وقد انتشرت مهارات ميقينية الباهرة إلى كثير من جزر بحر إيجة عندما حلت سيادة المقينيين التجارية محل سيادة المينويين في حوالي عام 1400 ق.م. وكانت صادراتهم الفخارية تحل أحياناً محل الصادرات المينوية، كما وجدت في ميقينية خرزات مصنوعة في بريطانيا من كهرمان البلطيق، وربما صارت هذه الشعوب غنية بفضل التجارة فاكتسبت أهمية تفوق حجمها، بينما كانت القوى العظمى مثل مصر والإمبراطورية الحثية تعاني من المصاعب في عصر سادت فيه هجرات الشعوب.




* أو الميسينيون the Mycenaeans وتسمية ميقينية أقرب إلى اللفظ اليوناني Mukenai وهي المتعمدة في المنجد في الأعلام
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://resalahmasriyah.mam9.com
Eng. Ahmedzoubaa
Admin
Eng. Ahmedzoubaa


عدد المساهمات : 1216
تاريخ التسجيل : 28/08/2010
العمر : 50

الفصل الثالث - أسس عالمنا  Empty
مُساهمةموضوع: رد: الفصل الثالث - أسس عالمنا    الفصل الثالث - أسس عالمنا  Emptyالثلاثاء 14 يونيو 2011 - 7:33

الفينيقيون

من أهم الشعوب القديمة التي اشتغلت بالتجارة فينيقيو بلاد الشام، لقد كان لهم تاريخ طويل ومضطرب، وكانوا يزعمون أنهم قد وصلوا إلى صور في حوالي عام 2700 ق.م، وهو أمر مستبعد. ولكن الشيء الأكيد هو أنهم قد ثبتوا أقدامهم على ساحل لبنان الحالي في الألف الثانية ق.م، عندما كان المصريون يشترون منهم خشب الأرز. لقد كان هذا الشريط الساحلي الضيق هو قناة الاتصال التاريخية بين أفريقيا وآسيا، أما من ورائه فتقع أرض داخلية ضحلة فقيرة بالموارد الزراعية تقطعها الهضاب الممتدة من الجبال إلى البحر، بحيث كان من الصعب على المستوطنات الساحلية أن تتحد فيما بينها. ومثل عرب البحر الأحمر، صار سكان هذه المستوطنات بحارة لأن جغرافية بلادهم قد دفعتهم للتطلع نحو الخارج وليس نحو الداخل.

كان الفينيقيون ضعافاً في بلادهم، خضعوا لسيطرة قوى عديدة الواحدة تلو الأخرى، فليس من قبيل الصدفة إذن أنهم لم يبرزوا إلا بعد أن كانت أيام ازدهار مصر وميقينية والإمبراطورية الحثية قد ولت، أي أنهم قد ازدهروا أثناء تراجع سواهم، فتمتعت المدن الفينيقية بيبلوس* وصور وصيدون** بعصرها الذهبي القصير بعد زمن طويل من انقضاء سيادة المينويين في التجارة. وكانت الكتاب القدامى ومنهم كتاب العهد القديم يشددون على سمعة الفينيقيين كتجار ومستوطنين، وقد بقيت الأصبغة الفينيقية مشهورة ومطلوبة حتى الأزمنة الكلاسيكية. ولابد أن تكون الحاجة التجارية قد حفزت الابتكار لديهم، وإن أبجديتهم هي جد قديم لأبجديتنا، ولو لم يتبق لنا أدب فينيقي هام. كانت التجارة اختصاصهم، وراحوا يتخذون لأنفسهم مراكز ومستوطنات أو محطات تجارية كان غيرهم قد تاجر في بعضها، حتى صارت هناك في النهاية نحو خمس وعشرين مستوطنة على طرفي البحر المتوسط. كانت أولاها لارنكا الحالية بقبرص عند نهاية القرن التاسع ق.م، وكان أبعدها غرباً تقع مباشرة خلف مضيق جبل طارق في موقع مدينة قادش، بل إنهم قد تبادلوا البضائع مع الناس البدائيين في كورنوول***. ربما كان تأسيس هذه المستوطنات انعكاساً لأزمنة مضطربة حلت بالمدن الفينيقية من بعد استقلالها المثمر القصير عند بداية الألف الأولى. وفي القرن السابع سويت صيدون بالأرض وأخذت بنات ملك صور إلى حريم الملك الآشوري، وبذلك لم يبق من فينيقيا سوى مستوطناتها.

كان الفينيقيون والميقينيون تجار حضارة، أما المينويون فكانوا ذوي أصالة حقيقية، لأنهم لم يكتفوا بالأخذ من مراكز الثقافة الراسخة الكبرى، بل أعادوا صنع ما أخذوه قبل أن ينشروه من جديد. إلا أن هذه الشعوب كلها، الوسيطة منها والمبدعة، قد ساهمت في تشكيل عالم ما فتئ يتغير بسرعة. سوف يدفع البحث عن المعادن المستكشفين والمنقبين إلى أصقاع أبعد وأبعد، حتى إلى المجاهل البربرية في شمال أوروبا وغربها، ومابرحت التجارة تفعل فعلها البطيء، فتفتت الانعزال وتغير علاقات الشعوب بعضها ببعض وتفرض على العالم أشكالاً جديدة. ولكن ليس من السهل دوماً أن نربط هذا الأمر بالغليان الإثني في بحر إيجة أو بالتاريخ المضطرب للبر الآسيوي منذ الألف الثانية ق.م فيما بعد.




* جبيل الحالية


** صيدا الحالية


*** في أقصى جنوب إنكلترا
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://resalahmasriyah.mam9.com
Eng. Ahmedzoubaa
Admin
Eng. Ahmedzoubaa


عدد المساهمات : 1216
تاريخ التسجيل : 28/08/2010
العمر : 50

الفصل الثالث - أسس عالمنا  Empty
مُساهمةموضوع: رد: الفصل الثالث - أسس عالمنا    الفصل الثالث - أسس عالمنا  Emptyالثلاثاء 14 يونيو 2011 - 7:33

الإغريق الأوائل

عند نهاية القرن الثالث عشر تدمرت المراكز الميقينية الكبرى، ربما يفعل الزلازل، كما كانت قد بدأت غزوات شعوب بربرية جديدة لبر اليونان، فانهارت الحضارة الميقينية، واختفت الكنوز الملكية ولم تبن القصور من بعدها. إلا أن الحياة استمرت، فقد بقيت الشعوب المتأصلة متمسكة بأرضها في بعض الأماكن لقرون عديدة، بينما جاءت في مناطق أخرى موجات جديدة من المهاجرين استغلت السكان كعبيد في الأرض أو طردتهم من أوطانهم. وكان أولئك الغزاة يتقدمون من الشمال منذ نحو عام 1200 ق.م، ولم يستقروا دوماً في الأراضي التي خربوها، ولكنهم أطاحوا بالبنى السياسية القائمة وسوف يبزغ المستقبل من ملكيتهم وليس من المؤسسات الميقينية. إن الصورة مشوشة، وقد انتهى ما يمكن أن نسميه العصور المظلمة لبحر إيجة بين عامة 1000 و 700 ق.ك.

لقد ورثت الأزمنة اللاحقة عن ميقينية أساطير وتقاليد انتقلت شفاهاً من خلال الشعراء، وورثت بالأخص اللغة، وهي شكل بدائي من اليونانية كانت تلك الأساطير تغنى بها، ولهذا السبب صار الناس بعد مئات السنين ينظرون إلى الماضي ويرون في الأخائيين أول الإغريق الحقيقيين. إننا في الحقيقة لا نعرف إلا القليل عما حدث في عهد خلفائهم، ولكننا نعلم بالتأكيد أن تقهقراً كبيراً قد حصل. فقد هبط عدد السكان، كما يبدو أن الكتابة قد انقرضت. ولكن هذا لا يعني أن صانعي الفخار قد توقفوا عن صنعه أو الحدادين قد توقفوا عن شغل المعادن أو الفلاحين عن حراثة الأرض، لأن البشرية كانت قد جمعت رأس مال كبير من الثقافة يسمح للمجتمع بتحمل الضغوط الشديدة. صحيح أن المجتمعات قد تنحدر من ذراها بل قد تنهار أحياناً، إلا أنها تساهم عادة في التراكم البطيء لميراث الجنس البشري بأكمله وفي معرفته وخبرته الجماعية، بحيث يغدو الانكفاء الكامل وغير العكوس إلى البربرية مستبعداً إلا في مناطق صغيرة.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://resalahmasriyah.mam9.com
Eng. Ahmedzoubaa
Admin
Eng. Ahmedzoubaa


عدد المساهمات : 1216
تاريخ التسجيل : 28/08/2010
العمر : 50

الفصل الثالث - أسس عالمنا  Empty
مُساهمةموضوع: رد: الفصل الثالث - أسس عالمنا    الفصل الثالث - أسس عالمنا  Emptyالثلاثاء 14 يونيو 2011 - 7:33

الدوريون

كان الغزاة الجدد يتحدثون أشكالاً من اللغة اليونانية، وقد تقسموا إلى أحزاب غازية كثيرة ومجموعات صغيرة من المستوطنين، وساعدت اللغة العلماء على اقتفاء بعض تحركاتهم، وبالأخص تحركات الشعب الذي بات مسيطراً على جنوب شبه جزيرة البيلوبونيز والذي سمي فيما بعد لاكونيا. دعي هؤلاء بالدوريين، الذين تابعوا تقدمهم من البر الرئيسي فاستوطنوا رودس وكوس وكريت وغيرها من الجزر، ويستدل على أماكن تقدمهم من خلال لهجتهم. وتشير الأدلة اللغوية إلى أن إيونيا*أي الساحل الجنوبي الغربي لآسيا الصغرى، كانت على الأرجح مستوطنة من قبل مجموعة مختلفة عنهم هي جماعة من الأخائيين الذي فروا من وسط اليونان والبيلوبونيز بعد أن طردهم الدوريون. لقد كانت هجرات الشعوب توسع العالم الإغريقي إذاً، ولكن يبدو أن الوافدين الجدد في بعض الأماكن، خصوصاً في سهل الأتيك، لم يكونوا هم المسيطرين – إذا حكمنا ثانية من خلال اللغة- ولو أن الحكم الميقيني قد اختفى. والحقيقة أن تلك الشعوب القبلية لم تصل إلى حوض بحر إيجة بهوية إغريقية، بل إنها صارت إغريقية بحكم وجودها هناك واشتراكها بخبرة واحدة ضمن تلك المنطقة.

من الصعب أن نرتب الأحداث بحسب تسلسل زمني معين، أو نعرف تفاصيلها وأسبابها، حتى عام 700 ق.م تقريباً، إلا أن نتيجتها واضحة، وهي أن المتحدثين باللغة اليونانية قد تشتتوا في جماعات عديدة نشأت منها في زمن لاحق عشرات المدن الإغريقية حول بحر إيجة. كانت لاكونيا وسهل الأتيك تتميزان بوجود مناطق تضم مدناً عديدة تحت حكم واحد، أما الجماعات الأخرى فكانت كلها صغيرة، بل صغيرة جداً، ومستقلة. أي أنها ذات حكم ذاتي autonomous -وهي كلمة يونانية- وليست أجزاء في إمبراطورية آخرين. وقد نمت بعض تلك المدن خلال عصور الظلام حتى صار فيها عشرة آلاف شخص أو أكثر، وكان فيها عادة مكان مرتفع أو Acropolis كمركز للمدينة ومكان لمقامات آلهتهم وهي فكرة نشأت في آسيا قبل ذلك بقرون عديدة، وكان يحكمها في العادة ملوك كان أولهم على الأرجح زعماء جماعات محاربة أو عصابات من القراصنة، ثم حلت محلهم فيما بعد مجالس مكونة من أهم أصحاب الأراضي.




* ومنها أتت تسمية اليونان بالعربية – المترجم نقلاً عن الموسوعة البريطانية
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://resalahmasriyah.mam9.com
Eng. Ahmedzoubaa
Admin
Eng. Ahmedzoubaa


عدد المساهمات : 1216
تاريخ التسجيل : 28/08/2010
العمر : 50

الفصل الثالث - أسس عالمنا  Empty
مُساهمةموضوع: رد: الفصل الثالث - أسس عالمنا    الفصل الثالث - أسس عالمنا  Emptyالثلاثاء 14 يونيو 2011 - 7:34

الإمبراطوريات والشعوب في بر الشرق الأدنى

في تلك الأثناء بقيت قصة الشرق الأدنى لزمن طويل قصة صراعات على ثروة تزداد رويداً رويداً في أبرز منطقة زراعية في العالم القديم، ولم يكن في الصحارى والسهوب من حولها موارد تقارن بما فيها. وما انفك الغزاة يأتون الواحد بعد الآخر يدفعهم الحسد والجشع، فيتركون وراءهم أحياناً جماعات جديدة، ويؤسسون أحياناً دولاً جديدة تحل محل الدول التي أطاحوا بها. ولم يكن الناس في تلك الأزمنة المضطربة قادرين على فهم ما يجري، بل كانت المصائب تحل بهم من حيث لا يدرون، فتحرق بيوتهم أو تغتصب زوجاتهم وبناتهم أو يؤخذ أبناءهم أرقاء. أو قد تكون المتاعب أهون من هذا، كأن يأتي حاكم جديد يفرض عليهم ضرائب أعلى، ولا ريب أن أحداثاً كهذه تسبب هزات كبيرة. ولكن من ناحية أخرى لابد أن يكون الملايين من الناس قد عاشوا في تلك الأزمان من دون أن يشعروا بتغير هام في حياتهم، إلا أن يصل إلى قريتهم أول سيف أو منجل حديدي، ومن دون أن يساورهم أدنى شك بالأفكار والمؤسسات التي ظلت على حالها أجيالاً كثيرة. لقد كان الغزاة يواجهون مراكز راسخة في الحكم والسكان، وبنى سياسية قوية ومديدة، وتنظيمات هرمية كثيرة من المختصين بشؤون الإدارة والدين والمعرفة، لذلك لم يكن بإمكانهم أن يقضوا عليها مثلما قضى الغزاة على البنى التي كانت قائمة في منطقة بحر إيجة. لاريب أن هذه المنطقة قد عرفت مقداراً كبيراً من الدينامية والعنف أثناء انتقالها من عصر البرونز إلى عصر الحديد، ولكن لا يجوز أن نبالغ في تأثير هذه العوامل على البنى الراسخة.

الحثيون

نحو بداية الألف الثانية ق.م وصل شعب هندي أوروبي آخر هو الشعب الحثي إلى آسيا الصغرى، واستقر في الأناضول بينما كانت الحضارة المينوية تبلغ أعظم انتصاراتها. ولم يكن الحثيون شعباً بدائياً، بل كان لهم نظام قضائي خاص بهم، وسرعان ما تعلموا الكثير من بابل، وقد نعموا باحتكار طويل للحديد في آسيا، وبفضل هذا المعدن فضلاً عن مهارتهم في التحصين والتحكم بالعربة صاروا وبالاً على مصر وبلاد الرافدين. لقد شنوا على بابل غارة قصمت ظهرها في حوالي عام 1590 ق.م، وكانت تلك أعلى ذروة بلغتها الإمبراطورية الحثية الأولى، ثم مروا بمرحلة غامضة من الانحسار قبل أن تعود قوتهم لتبزغ من جديد في النصف الأول من القرن الرابع عشر، وامتدت هيمنتهم لفترة من الزمن من سواحل المتوسط إلى الخليج الفارسي، فسيطروا على الهلال الخصيب كله ماعدا مصر. إلا أن إمبراطوريتهم انهارت مثل غيرها من الإمبراطوريات القديمة، وكانت نهايتها حوالي عام 1200 ق.م.

ولم يعد الحثيون في ذلك الحين ينعمون باحتكار الحديد، بل إن استخدامه كان قد شاع بحلول عام 1000 ق.م، في كافة أنحاء الشرق الأدنى، ولاريب أن انتشاره هذا قد تم بفضل قدوم موجات جديدة من الشعوب الهندية الأوروبية التي راحت ترمي الاضطراب في كل مكان. ونلاحظ تقارباً واضحاً بين زمن انهيار آخر قوة حثية على يد شعب من تراقيا اسمه الشعب الفريجي، وبين هجمات شعوب البحر المدونة في السجلات المصرية. لقد كانت شعوب البحر هذه علامة جديدة من علامات الاضطراب، فقد كانوا مسلحين بالحديد، وراحوا منذ بداية القرن الثاني عشر ق.م يغزون شرق المتوسط مخربين المدن في سوريا وساحل بلاد الشام، وربما كان بعضهم لاجئين من ميقينية، إذ كان هناك أخائيون بين الذين اشتركوا في الهجمات على مصر عند نهاية القرن، ويبدو الآن أن غزوة قاموا بها في حوالي 1200 ق.م هي التي خلدت باسم حصار طروادة. ثمة جماعة من تلك الشعوب الهائمة استقرت في كنعان، أي في الأرض الواقعة بين البحر الميت والغرب في حوالي عام 1175ق.م، ومازالت ذكراهم محفوظة في اسم حديث مشتق من اسمهم هو فلسطين*. بيد أن أكبر ضحايا شعوب البحر هذه إنما كانت مصر، بل إنهم قد نجحوا في إحدى المرات في انتزاع دلتا النيل من قبضة فرعون.

لقد كانت مصر تعيش أياماً عصيبة في بداية القرن الحادي عشر، فتمزقت لفترة من الزمن وراحت تتنازعها مملكتان. ولم تكن شعوب البحر عدوها الوحيد، إذ يبدو أن أسطولاً ليبياً قد غزا الدلتا، كما نشأت في السودان مملكة مستقلة في حوالي عام 1000 ق.م سوف تكون مصدر متاعب في المستقبل، ولو أن المصاعب لم تكن قد ظهرت على حدود النوبة بعد. وهكذا كانت موجات الشعوب البربرية تبلي البنى الإمبراطورية القديمة مثلما أبلت اليونان الميقينية من قبلها.

العبرانيون

في خضم هذه الاضطرابات كلها وقع في الغالب حدث لا نعرف تاريخه ولا نعلم عنه إلا من خلال تقاليد دونت بعدة قرون عديدة. هذا الحدث هو هروب شعب من مصر كان المصريون يسمونهم العبرانيون، وصار العالم بعد ذلك بزمن طويل يسميهم يهوداً. ولا تجد شعباً استطاع بمثل هذه الأصول الزهيدة والأعداد الضئيلة أن يحدث مثل تأثيرهم الكبير في التاريخ، فالحقيقة أن ميراث اليهود سوف يغير العالم.

تعود أصول هذا الشعب إلى الشعوب السامية، وهي شعوب بدوية من شبه الجزيرة العربية لا نعرف عنها الكثير، كان أجدادها عبارة عن قبائل مختلفة تتغلغل في منطقة الهلال الخصيب منذ أزمنة ما قبل التاريخ. ويبدأ تاريخ اليهود التقليدي بعصر الآباء الأولين، الذي تجسده قصص الكتاب المقدس عن إبراهيم وإسحق ويعقوب، ويحتمل أن تكون أصول هذه الشخصيات الأسطورية العملاقة رجالاً حقيقيين. فإذا وجدوا بالفعل فإن تاريخهم يبدأ في نحو عام 1800 ق.م، ضمن الاضطراب الذي حل بعد نهاية أور، التي يخبرنا العهد القديم أن إبراهيم قد أتى منها إلى كنعان، وهي قصة معقولة تماماً. وقد صار أحفاد إبراهيم يعرفون في النهاية بالعبرانيين، وهو تحريف لكلمة تعني الهائمين تظهر للمرة الأولى في الكتابات والنقوش المصرية في القرن الرابع عشر أو الثالث عشر ق.م، أي بعد استقرارهم الأول في كنعان بزمن طويل. إن تسمية العبرانيين هي على الأرجح أفضل تسمية نطلقها على القبائل التي نتحدث عنها الآن، أما تسمية اليهود فيفضل الاحتفاظ بها لمرحلة لاحقة.

يصور الكتاب المقدس شعب إبراهيم في البداية بصورة قبائل من الرعاة تتنازع مع جيرانها وأقربائها على الآبار والمراعي، وماتزال ضعيفة يدفعها القحط والجوع في أرجاء الشرق الأدنى. ولا يمكن أن يكون لديها ما يميزها عن سواها من قبائل البدو الرحل. ثمة مجموعة منهم في الكتاب المقدس تسمى عائلة يعقوب يحكى أنها رحلت إلى مصر ربما في بداية القرن السابع عشر ق,م، ومع تقدم القصة نتعرف على يوسف، الابن العظيم ليعقوب، الذي بلغ مرتبة عالية في خدمة فرعون. فإذا رجعنا إلى السجلات المصرية وجدناها تشير إلى حدوث اضطرابات واسعة أثناء سيطرة الهكسوس، ربما تفسر بلوغ رجل أجنبي مثل هذه المكانة البارزة في البيروقراطية المصرية، لأن هذا الأمر لم يكن مألوفاً في الأزمنة العادية. ولكن من المؤسف أن لا دليل يؤكد هذه القصة أو ينفيها، إذ ليس بين يدينا إلا التقاليد، كما هي الحال في كافة التاريخ العبري حتى عام 1200 ق.م تقريباً. ولكن كتب العهد القديم التي تروي هذه التقاليد لم تأخذ شكلها الحالي حتى القرن السابع ق.م أي ربما بعد ثمانمائة سنة من قصة يوسف، وإن فيها عناصر أقدم حتى من ذلك. وما كان شيء من هذا ليهم أحداً من الباحثين سوى اليهود، لو لم تقع فيما بعد أحداث تكمن جذورها في الرؤية الدينية الفريدة لهذا الشعب الصغير، الذي يصعب تمييزه عن غيره من شعوب المنطقة.

كان العبرانيون على ما نعلم أول شعب توصل إلى مفهوم مجرد الله بل إنهم صاروا يمنعون صنع صور تمثله، لقد كانت تجري في الشرق الأدنى القديم أحداث معاصرة تقريباً قيل إنها جعلت الرؤى الدينية التوحيدية أكثر جاذبية، وهو رأي معقول جداً، إذ راحت الاضطرابات والكوارث الكبرى تحل بشعوب المنطقة المرة تلو المرة من بعد الإمبراطورية البابلية الأولى، ولابد أن يكون هذا الأمر قد أوهن الثقة بحماية الآلهة المحلية. وقد اعتبرت كل من تجديدات أخناتون الدينية والتشديد المتزايد على عبادة مردوك في بلاد الرافدين محاولات استجابة لهذه التغيرات. إلا أن العبرانيين وحدهم قد توصلوا إلى توحيد متماسك لا مهادنة فيه، اكتملت عناصره الأساسية في القرن الثامن ق.م. كانت أولى الديانات العبرية تؤمن على الأرجح بوجود آلهة عديدة مثلها مثل غيرها من الشعوب السامية، ولكنها أحادية العبادة، أي أن القبائل العبرانية كانت تعبد إلهاً واحداً فقط هو إلهها الخاص. ثم تطور ذلك الأمر إلى فكرة أن شعب إسرائيل، وهو الاسم الذي صار يعرف به سبط يعقوب، يدين بالولاء الحصري لإله سبطه يهوه. كان يهوه إلهاً غيوراً، عقد عهداً مع شعبه بأن يعيده إلى الأرض الموعودة، إلى كنعان التي كان قد أتى إليها بإبراهيم من أور. وكانت فكرة العهد هذه فكرة رئيسية جداً طمأنت إسرائيل على أنها إذا حققت أمراً معيناً فسوف تنال النتيجة التي تبغيها.




* يقصد الفلسطينيين القدامى the philistines
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://resalahmasriyah.mam9.com
Eng. Ahmedzoubaa
Admin
Eng. Ahmedzoubaa


عدد المساهمات : 1216
تاريخ التسجيل : 28/08/2010
العمر : 50

الفصل الثالث - أسس عالمنا  Empty
مُساهمةموضوع: رد: الفصل الثالث - أسس عالمنا    الفصل الثالث - أسس عالمنا  Emptyالثلاثاء 14 يونيو 2011 - 7:34

أولى الديانات التوحيدية

إن رغبة يهوه بألا يعبد سواه هي التي مهدت الطريق أمام التوحيد، فجاء زمان لم يعد فيه أبناء إسرائيل يشعرون بأي احترام نحو الآلهة الأخرى. ولم يقتصر الأمر على هذا، بل كانت طبيعة يهوه متميزة منذ زمن باكر، وكان المظهر البارز لعبادته هو ألا تصنع له أية صورة محفورة. كان يظهر أحياناً مثل آلهة أخرى في مكان إقامة دائم مثل معبد مصنوع باليد، أو حتى في تظاهرات الطبيعة، ولكن مع تطور ديانة إسرائيل صار يهو يعتبر إلها متسامياً وكلي الوجود: ”أين أذهب من روحك، وأين أهرب من وجهك؟” (المزمور 139/7)*كما كانت أعمال يهوه الخلاقة صفة أخرى تميز التقاليد اليهودية تميزاً حاداً عن تقاليد بلاد الرافدين الأسبق. صحيح أن كليهما يصور أصول الإنسان من هيولى مائية، إذ يقول سفر التكوين:” وكانت الأرض خاوية خالية، وعلى وجه الغمر ظلام”**، ولكن عند أهل بلاد الرافدين كانت هناك في الأصل مادة ما وكل ما فعلته الآلهة إنما هو إعادة ترتيبها، أما عند العبرانيين فكان الأمر مختلفاً لأن يهوه قد خلق الهيولى نفسها. كان يهوه عند إسرائيل هو ما وصفته المعتقدات المسيحية اللاحقة، بـ” صانع كل شيء، الذي به صنعت الأشياء كلها”. وقد صنع الإنسان على صورته وكرفيق له لا كعبد، فكان الإنسان ذروة كشف يهوه عن طاقته الخلاقة، وكائناً قادراً على معرفة الخير من الشر، مثل يهوه نفسه، ويعيش في عالم تحكمه أخلاق وضعتها طبيعة يهوه، لأنه وحده صانع الحق والعدل.

تتضمن هذه الأفكار أشياء سوف تحتاج قروناً طويلة لكي تتضح وتبزغ، من بعد أن كانت في البداية مغمورة ضمن خرافات مجتمع قبلي يبحث عن تأييد إلهه في الحروب والنكبات. لقد شددت التقاليد اليهودية اللاحقة تشديداُ كبيراً على الهجرة العجائبية من مصر، وهي قصة تسيطر عليها شخصية بطل غامض هو موسى. وكانوا العبرانيون عندما وصلوا إلى كنعان مجمعين على الأرجح حول عبادة يهوه، ويبدو أن قصة الكتاب المقدس التي تروي تجوالهم في سيناء تعكس الزمن الحاسم الذي صيغ فيه وعيهم القومي الأول هذا. ولكن مرة أخرى ليس بين أيدينا سوى تقاليد الكتاب المقدس التي دونت بعد ذلك بزمن طويل. من المعقول أن يكون العبرانيون قد هربوا أخيراً من الظلم القاسي في بلد أجنبية حيث كانت تفرض عليهم أعباء السخرة من أجل تنفيذ أشغال البناء الكبرى. إن اسم موسى هو اسم مصري، ومن المحتمل أن تكون هناك شخصية تاريخية وراء هذا القائد الأسطوري العظيم الذي يسيطر على قصة الهجرة في الكتاب المقدس ويجمع شمل العبرانيين في البرية. في الرواية التقليدية يؤسس موسى القانون عندما ينزل بالوصايا العشر بعد مقابلته ليهوه، وقد كانت هذه مناسبة تجديد للعهد بين يهوه وشعبه في جبل سيناء، ولعلها تمثل عودة هذا الشعب البدوي إلى تقاليده بعد أن تآكلت عبادته بالإقامة الطويلة في دلتا النيل، إلا أن الوصايا نفسها لا يمكن أن تنسب إلا لزمن متأخر جداً عن زمن حياة موسى.

بالرغم من هذا يجب علينا أن نعامل رواية الكتاب المقدس باحترام لأن فيها أشياء كثيرة يمكن ربطها بمصادر أخرى، وأخيراً يأتي عالم الآثار لنجدة المؤرخ مع وصول العبرانيين إلى كنعان. إن قصة الفتح المروية في كتاب يشوع تتناسب مع الأدلة التي نملكها على خراب المدن الكنعانية في القرن الثالث عشر ق.م، كما أن ما نعرفه عن الثقافة والديانة الكنعانية يتوافق مع رواية الكتاب المقدس عن صراعات العبرانيين ضد العبادات المحلية وتعدد الآلهة المتفشي في كل مكان. وقد بقي هذان التقليدان الدينيان يتنازعان فلسطين طوال القرن الثاني عشر ق.م، ويبدو أيضاً أن العبرانيين قد اجتذبوا دعم قبائل بدوية أخرى قبلت عبادة يهوه، ورغم أنها بقيت تتنازع فيما بينها بعد استقرارها فقد ظلت على عبادته، فكان هو القوة الوحيدة التي تؤلف بينها، لأن التقسيمات القبلية كانت المؤسسات السياسية الوحيدة عند شعب إسرائيل.




* ترجمة دار المشرق - بيروت


** نفس المصدر السابق
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://resalahmasriyah.mam9.com
Eng. Ahmedzoubaa
Admin
Eng. Ahmedzoubaa


عدد المساهمات : 1216
تاريخ التسجيل : 28/08/2010
العمر : 50

الفصل الثالث - أسس عالمنا  Empty
مُساهمةموضوع: رد: الفصل الثالث - أسس عالمنا    الفصل الثالث - أسس عالمنا  Emptyالثلاثاء 14 يونيو 2011 - 7:35

الملوك والأنبياء

كان العبرانيون أقل تطوراً ثقافياً من الكنعانيين في جوانب عديدة، وقد أخذوا عنهم كتابتهم مثلما أخذوا أساليب البناء ولكن من دون أن يحرزوا أشياء هامة، فظلت أورشليم لزمن طويل مدينة صغيرة تعم فيها القذارة والفوضى، ولا تقارن بالمدن المينوية التي بنيت قبلها بقرون عديدة. إن الضرورة العسكرية هي التي حفزت المرحلة التالية من تماسك الأمة، إذ يبدو أن خطر الفلسطينيين وهم الشعب الهندي الأوروبي الذي أعطى فلسطين اسمها قد حرض على ظهور الملكية العبرية في حوالي عام 1000 ق.م، ومعها تظهر مؤسسة أخرى، هي مجموعة متميزة من الرجال الذين يطلق عليهم اسم أنبياء.

لم يكن الأنبياء متنبئين على طريقة عرافي الشرق الأدنى، ولو أنهم ربما نشأوا ضمن هذا التقليد، بل كانوا مبشرين وشعراء ونقاداً سياسيين وأخلاقيين. وكانت مكانتهم تعتمد بصورة أساسية على القناعة بأن الله يتكلم من خلالهم. وقد مسح النبي صموئيل -وبالتالي عين- كلاً من الملك شاول وخليفته داوود. يخبرنا الكتاب المقدس أن إسرائيل على عهد شاول لم تكن فيها أسلحة حديدية لأن الفلسطينيين كانوا حريصين على تفوقهم فلم يسمحوا لهم بها، إلا أن اليهود تعلموا من أعدائهم بالرغم من ذلك، والحقيقة أن كلمتي سكين وخوذة في اللغة العبرية لهما جذور فلسطينية. لقد أحرز شاول انتصارات عديدة، ولكنه مات في النهاية عن يده هو، ثم جاء داود فأتم عمله في بناء الدولة، ويبقى داود هذا أكثر شخصيات العهد القديم العظيمة إقناعاً رغم غياب الأدلة على وجوده خارج الكتاب المقدس نفسه. إن الرواية الأدبية التي تحكي قصته مشوشة، ولكنها تحدثنا عن بطل كريم القلب وله عيوبه مثل كل إنسان، نجح في القضاء على خطر الفلسطينيين وأعاد توحيد المملكة المقسمة بعد موت شاول، فصارت أورشليم عندئذٍ عاصمة إسرائيل، وفرض داود نفسه على الشعوب المجاورة، ومنها الفينيقيون -مع أنهم كانوا قد ساعدوه ضد الفلسطينيين- فكانت هذه نهاية صور كدولة مستقلة هامة. إلا أن أول ملك لإسرائيل أحرز مكانة عالمية كبرى إنما هو الملك سليمان ابن داود وخليفته، لقد أطلق سليمان الحملات إلى الجنوب ضد الأدوميين، كما بنى أسطولاً بحرياً، وحقق له ذلك الفتوحات والازدهار، ولكن ربما لم يكن نجاحه هذا دليلاً آخر على انحسار الإمبراطوريات الأقدم. ولا ريب أن سليمان كان ملكاً ذا طاقة واندفاع عظيمين، ولم تقتصر إنجازاته على الناحية العسكرية، فقد قيل إن مناجم الملك سليمان الأسطورية تعكس ذكرى أول مركز لتنقية النحاس نملك أدلة على وجوده في الشرق الأدنى، ولو أن هذا الأمر مختلف فيه. لقد بنى سليمان المعبد حسب نماذج فينيقية ولم يكن هذا إلا واحداً من الأبنية العامة الكبرى التي شيدها، ولكن ربما كان أهمها، لأنه منح عبادة يهوه شكلاً أبهى من أي وقت مضى ومركزاً باقياً.

إلا أن إسرائيل لم تذكر في المحصلة بالأعمال العظيمة لملوكها، بل بالمعايير الأخلاقية التي أعلن عنها أنبياؤها. ولقد رفع الأنبياء فكرة إسرائيل عن الله إلى ذرى جديدة، وقليلون هم المبشرون الذين حظوا بمثل هذا النجاح، كما أنهم صاغوا الروابط بين الدين والأخلاق والتي سوف تسيطر طوال آلاف السنين على اليهودية وعلى ديانتين عالميتين أخريين، هما المسيحية والإسلام. فعن طريق الأنبياء تطورت عبادة يهوه إلى عبادة إله كوني، عادل ورحيم، صارم في عقاب الخطيئة ولكنه مستعد لتقبل الخاطئ إذا تاب. فكانت هذه ذروة التطور الديني في الشرق الأدنى القديم، وصار بإمكان الدين منذ ذلك الحين أن ينفصل عن الانتماء المحلي والقبلي.

لقد هاجم الأنبياء أيضاً الظلم الاجتماعي هجوماً مريراً، فقالوا إن الناس جميعاً سواسية في نظر الله، وأنه لا يجوز للملوك أن يفعلوا ما يحلو لهم، وأعلنوا شريعة أخلاقية كحقيقة واقعة ومستقلة عن سلطة البشر. وبذلك صارت الدعوة إلى الالتزام بالقانون الأخلاقي الإلهي أساساً لانتقاد السلطة السياسية القائمة؛ فيما أن القانون ليس من صنع الإنسان فقد كان بإمكان الأنبياء أن يحتكموا إليه وإلى وحيهم الإلهي أيضاً ضد الملوك والكهنة معاً. لقد قام الأنبياء بواحدة من القفزات الفكرية الكبرى للبشرية، لأن جوهر الليبرالية السياسية هو الإيمان بأن السلطة يجب أن تستخدم ضمن إطار أخلاقي مستقل عنها، وجذرها الأول إنما يكمن في تعاليمهم.

لقد ازدهرت إسرائيل إذاً أثناء انحسار القوى الكبرى، ولكن تاريخها راح يتراجع بعد موت سليمان في عام 935 ق.م، فانقسمت المملكة من جديد، وصارت مملكة إسرائيل في الشمال تجمع عشرة أسباط حول عاصمتها في السامرة، بينما بقي سبطا بنيامين ويهوذا في الجنوب متمسكين بأورشليم في مملكة يهوذا. وفي عام 722 ق.م محا الآشوريون مملكة إسرائيل واختفت أسباطها العشرة من التاريخ في عمليات ترحيل جماعية كبرى، أما يهوذا التي كانت أصغر وأبعد قليلاً عن طرق الدول الكبرى فقد استمرت قرناً آخر.
إسرائيل ويهوذا

حوالي عام 1010 ق.م
شاول ينصب ملكاً على إسرائيل ولكنه يهزم بعد ذلك على يد الفلسطينيين
حوالي عام 1006-960 ق.م
حكم داود، توحيد يهوذا وإسرائيل، هزيمة الفلسطينيين، أورشليم تصبح العاصمة السياسية والدينية، غزو أراضي الكنعانيين
حوالي عام 960-635 ق.م
حكم سليمان، الولاية الآرامية تكسب استقلالها عن إسرائيل، وإعادة تأسيس المملكة الأدومية، إعادة تنظيم المملكة في دولة مركزية، إعادة بناء إورشليم
926
إسرائيل تنقسم إلى مملكتين جنوبية (مملكة إسرائيل) وشمالية (يهوذا)
إسرائيل

878-871
حكم عُمري، عودة النظام بعد مرحلة من الصراع الداخلي، السامرة تصبح عاصمة إسرائيل
871-852
حكم أحاب، زواجه من إيزابيل الفينيقية، إدخال عبادة بعل، مقاومة يقودها النبي إيليا
845-817
إيليا ينصب ياهو ملكاً، قمع الثقافة والديانة الفينيقيتين، ضغوط من آشور
722
الآشوريون يدمرون السامرة بعد حصار استمر ثلاث سنوات ويضمون إسرائيل، عمليات ترحيل جماعية
يهوذا

845-839
حكم أتاليا، القضاء على أحفاد عمري وداود، إدخال عبادة بعل
825-697
حكم حزقيا، محاولات فاشلة للتخلص من النفوذ الآشوري
587
نبوخذ نصر الثاني يدمر أورشليم ويتلو ذلك عمليات الترحيل الجماعية
926
إسرائيل تنقسم إلى مملكتين جنوبية (مملكة إسرائيل) وشمالية (يهوذا)


الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://resalahmasriyah.mam9.com
Eng. Ahmedzoubaa
Admin
Eng. Ahmedzoubaa


عدد المساهمات : 1216
تاريخ التسجيل : 28/08/2010
العمر : 50

الفصل الثالث - أسس عالمنا  Empty
مُساهمةموضوع: رد: الفصل الثالث - أسس عالمنا    الفصل الثالث - أسس عالمنا  Emptyالثلاثاء 14 يونيو 2011 - 7:36

الإمبراطورية البابلية الأخيرة

بيد أن تلك العاصفة الكاسحة لم تكن نهاية تقاليد بلاد الرافدين بعد، لقد ترك انهيار آشور الهلال الخصيب عرضة لغزاة جدد، ففي الشمال اندفع الميديون عبر الأناضول إلى أن صدوا عند حدود ليديا* ، ودفعوا السقيتيين إلى وطنهم في روسيا.

واستولى أحد فراعنة مصر على الجنوب وساحل بلاد الشام ولكنه هزم على يد الملك البابلي نبوخذنصر، الذي منح حضارة بلاد الرافدين ربيعها الأخير من المجد القصير. كانت إمبراطورية نبوخذنصر آخر إمبراطورية بابلية، وكانت تمتد من السويس والبحر الأحمر وسوريا عبر بلاد الرافدين حتى مملكة عيلام القديمة، التي صارت تحكمها الآن سلالة هندية أوروبية ثانوية تدعى السلالة الأخمينية. وتكفي فتوحات نبوخذنصر لكي تخلد ذكراه كفاتح عظيم، فقد خرب أورشليم في عام 587 ق.م إثر ثورة يهودية ودمر المعبد من جديد، وأخذ سبطا يهوذا إلى الأسر في ثلاث عمليات ترحيل كبرى، ففرض عليهم السبي، وهي تجربة ساهمت مساهمة كبيرة في صياغة هويتهم، بحيث صار بإمكاننا أن نسميهم من بعدها "يهوداً" ، لأنهم أضحوا ورثة وحملة تقاليد قومية يسهل اقتفاء أثرها منذ ذلك الحين. وقد ساهم يهود السبي في تجميل عاصمة نبوخذنصر، التي بقيت حدائقها المعلقة أو سطوحها في ذاكرة الأجيال واحدة من عجائب الدنيا السبع، وكان نبوخذنصر بلا ريب أعظم ملك في زمانه.

كانت أبهة الإمبراطورية البابلية تتركز كل عام في عبادة مردوك، التي بلغت الآن ذروتها، فقد كان يقام احتفال كبير في رأس السنة تحضر فيه جميع آلهة بلاد الرافدين، الأصنام والتماثيل الموجودة في مقامات الولايات كلها، عبر الأنهار والقنوات لكي تتشاور مع مردوك في معبده وتعترف له بسيادته. وكانت تحمل في موكب كبير بشارع يبلغ طوله ثلاثة أرباع الميل(1كم) قيل أنه كان أفخم الشوارع في العالم القديم، أو ترسو من الفرات قريباً من المعبد، حيث تحمل إلى حضرة تمثال الإله مردوك، الذي قال عنه المؤرخ الإغريقي هيرودوتس بعد قرنين أنه كان مصنوعا من طنين وربع الطن من الذهب. ولا ريب أنه كان يبالغ ولكنه كان بالتأكيد تمثالاً بديعاً. كانت الآلهة تتداول مصائر العالم كله الذي كان مركزه هذا المعبد وترسمها لسنة أخرى. وعلى هذه الصورة كانت الثيولوجيا انعكاساً لحقيقة سياسية، لأن إعادة تمثيل دراما الخلق كانت مصادقة على سلطة مردوك الأبدية وملكية بابل المطلقة، وكان الملك يحمل مسؤولية ضمان النظام في العالم فكان بالتالي يتمتع بالسلطة اللازمة لذلك.

كانت تلك آخر مراحل ازدهار تقاليد بلاد الرافدين المديدة. لقد ضاعت ولايات على عهد خلفاء نبوخذنصر، ثم حصل غزو في عام 539 ق.م عن يد فاتحين جدد من الشرق يسمون الفرس، فكان الانتقال من العظمة والأبهة إلى الذل والخراب انتقالاً سريعاً، يوجزه سفر دانيال من العهد القديم في مشهد ختامي رائع هو وليمة بَلَشَصَّر* وهي رواية لم تكتب إلا بعد ذلك بنحو ثلاثمائة عام كما أنها مغلوطة في حقائق هامة ** إلا أن وراء نبرتها المشددة حقيقة درامية ونفسية جوهرية. فإذا كان لقصة العصور القديمة نقطة تحول فإنما هي هذه النقطة، إذ زالت تقاليد بلاد الرافدين المستقلة التي تعود إلى أيام سومر، وأمسينا على عتبة عالم جديد***.




* بلد قديمة في غرب آسيا الصغرى تركيا الحالية على بحر إيجة


* " وفي تلك الليلة قتل بلشصر ملك الكلدانيين، وأخذ الملك داريوس الميدي" (سفر دانيال 5/30-31)


** يشرح المؤلف في كتابه الأكبر أن بلشصر لم يكن ابن نبوخذ نصر ولا خليفته، وأن الملك الذي أخذ بابل كان قورش


*** يقتبس المؤلف أيضاً في الكتاب الأكبر " اقعدي صامتة وادخلي في الظلام، يا بنت الكلدانيين، فإنك لا تدعين سيدة الممالك بعد" (أشعيا 47/5)
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://resalahmasriyah.mam9.com
Eng. Ahmedzoubaa
Admin
Eng. Ahmedzoubaa


عدد المساهمات : 1216
تاريخ التسجيل : 28/08/2010
العمر : 50

الفصل الثالث - أسس عالمنا  Empty
مُساهمةموضوع: رد: الفصل الثالث - أسس عالمنا    الفصل الثالث - أسس عالمنا  Emptyالثلاثاء 14 يونيو 2011 - 7:36

العصر الأخير لإمبراطورية بلاد الرافدين

دخلت تقاليد حضارة بلاد ما بين النهرين آخر عصور ازدهارها في القرن الثامن؛ وكانت مدينة نينوى الواقعة على القسم العلوي من نهر دجلة قد حلت محل عاصمة آشور القديمة وصارت مركزاً سياسياً مثلما كانت بابل من قبلها. واستطاعت الإمبراطورية الآشورية الجديدة أن تعيد النظام من بعد الاضطراب الكبير الذي حل إثر انهيار سلطة الحثيين. ويحدثنا العهد القديم عن هجوم الجيوش الآشورية على الممالك السورية واليهودية المرة تلو المرة إلى أن غزتها، وقد عانى الخاسرون الأمرين. ولم تكن الإمبراطورية الآشورية تعتمد على إخضاع الملوك والبلاد، بل كانت تطيح بالحكام المحليين وتضع مكانهم حكاماً آشوريين، وكثيراً ما كانت تجرف الشعوب أيضاً مثل أسباط إسرائيل العشرة، في عملية إبعاد جماعية.

الفصل الثالث - أسس عالمنا  Chp3-4

تطور إمبراطورية آشور التاريخي

واستولت الجيوش الآشورية على بابل في عام 729 ق.م، ثم مالبثت أن قامت بتدمير إسرائيل كما غزت مصر وضمت إليها دلتا النيل، وكانت قبرص عندئذٍ قد استسلمت لحكم الآشوريين، وكان هؤلاء قد غزوا سيليزيا* وسوريا أيضاً. وأخيراً في عام 646 ق.م حصل آخر غزو هام، وهو غزو جزء من أرض عيلام**، وأكره ملوكها على جر عربة الفاتح الآشوري عبر شوارع نينوى. وهكذا صار هناك الآن نظام موحد من الحكم والقانون يتخلل أكثر الشرق الأدنى، ووهنت الإقليمية بفعل تقدم الجيوش وترحيل الشعوب ضمنه، وانتشرت الآرامية التي كانت منذ زمن طويل لغة التفاهم في سوريا وبلاد الرافدين لتصبح لغة مشتركة للشرق الأدنى.

إن هناك صروحاً لا تنكر عظمتها تشهد على القوة الخلاقة للإمبراطورية الآشورية، فقد بني قصر كبير عند نهاية القرن الثامن من خرساباد قرب نينوى تبلغ مساحته أكثر من كيلو متر مربع وتزينه نقوش بارزة تمتد على مسافة تزيد عن 1.5 كم وكانت غنائم الغزو تمول بلاطاً غنياً وبديعاً. كما خلف آشوربانيبال 668-626 ق.م صروحه الخاصة، منها مسلات نقلت من طيبة إلى نينوى، ومجموعة كبيرة من الرقم التي صنعت لمكتبته، فقد كان رجلاً يحب الثقافة والآثار القديمة, وقد جمع نسخاً من كل ما وجده من سجلات بلاد الرافدين القديمة، وإليه ندين بجزء كبيرة من معرفتنا بأدب تلك البلاد، وهذا ما يمكننا من الولوج إلى الأفكار التي حركت هذه الحضارة بسهولة أكبر من سابقاتها.

الفصل الثالث - أسس عالمنا  Chp3-5

آشوربانيبال في رحلة صيد

كان التصوير المتكرر للملوك الآشوريين بشكل صيادين جزءاً تقليدياً من صورة الملك المحارب، وربما كان أيضاً محاولة مقصودة لإظهارهم أبطالاً مثل الأبطال الأسطوريين الذين قهروا الطبيعة في الماضي السومري السحيق. إلا أن النقوش الحجرية البارزة التي تخلد المآثر العظيمة للملوك الآشوريين تكرر أيضاً بصورة رتيبة قصة أخرى، هي قصة النهب والاستعباد والإعدام على الخازوق والتعذيب، وأخيراً الحل النهائي المتمثل بالرحيل الجماعي. لقد كانت الإمبراطورية الآشورية ترتكز على أساس من الوحشية، وكان جيشها يجند تجنيداً إلزامياً ومسلحاً بأسلحة حديدية، وكان قوة متماسكة مؤلفة من وحدات منسقة، فيما بينها، وفيه سلاح حصار قادر على اختراق الأسوار التي كانت منيعة من قبله، بل كان فيه أيضاً بعض الخيالة المدرعين. وربما كانت فيه حمية دينية خاصة، لأنك ترى الإله آشور يحلق فوق الجيوش وهي ذاهبة إلى المعركة، وإليه كان الملوك يروون انتصاراتهم على الكفرة.

إلا أن هذه الإمبراطورية الآشورية سرعان ما كسفت، ولعلها ألقت على كاهل أبنائها حملاً تنوء به طاقة البشر. لقد راحت تنهار منذ العام الذي تلا موت أشوربانيبال، فثار البابليون وساندهم الكلدانيون فضلاً عن جار جديد هو مملكة الميديين، التي كان دخولها مسرح التاريخ علامة على تغير هام. كان الميديون منشغلين لزمن طويل بشعب بربري آخر من الشمال هو الشعب السقيتي الذي تدفق إلى إيران من القوقاز، كما تدفق في الوقت نفسه على طول ساحل البحر الأسود نحو أوروبا، كان السقيتيون خيالة خفاف الحركة يقاتلون بالقوس من على ظهور الخيل، ويعتبر ظهورهم بمثابة إعلان عن نشوء قوة جديدة في تاريخ العالم، هي الشعوب البدوية القادمة من آسيا الوسطى. لقد دفع السقيتيون شعوباً أخرى أمامهم بينما كان آخر الوحدات السياسية المبنية على السكان القوقازيين الأصليين في الشرق الأدنى تنهار أمامهم وأمام الميديين والأشوريين، وعندما ضم السقيتيون والميديون قواهم تمكنوا من التغلب على آشور أيضاً، فزالت من التاريخ ونهب الميديون نينوى في عام 612 ق.م.




* منطقة في جنوب غربي بولندا


** في إقليم خوزستان بغرب إيران
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://resalahmasriyah.mam9.com
Eng. Ahmedzoubaa
Admin
Eng. Ahmedzoubaa


عدد المساهمات : 1216
تاريخ التسجيل : 28/08/2010
العمر : 50

الفصل الثالث - أسس عالمنا  Empty
مُساهمةموضوع: رد: الفصل الثالث - أسس عالمنا    الفصل الثالث - أسس عالمنا  Emptyالثلاثاء 14 يونيو 2011 - 7:37

بزوغ فارس

بحلول منتصف الألف الأولى ق.م تكون قطعت أكثر من نصف قصة الحضارة من ناحية الطول الزمني. كان العالم القديم المؤلف من حضارات متميزة جداً قد أفسح المجال لعالم جديد صارت فيه رقعة أكبر فأكبر من هذه المنطقة تشترك بحكومات مديدة وتقنية وديانة منظمة وحياة مدن، وراحت تتغير بصورة متسارعة مع زيادة تفاعل التقاليد المختلفة فيها. وتظهر التغيرات في الأشياء الصغيرة كما تظهر في الكبيرة، ففي القرن السادس حفر مرتزقة إغريق في الجيش المصري نقوشاً على أرجل التماثيل العملاقة في أبي سنبل التي تبعد أكثر من 1000 كم على القسم العلوي من النيل، مثلما حفر جنود إنكليز شعاراتهم وأسماءهم في صخور ممر خيبر بعد ذلك بألفين وخمسمائة سنة، وكانت أنماط الشرق الأدنى المتميزة فيما مضى قد اختلطت تماماً بسب الاندفاع العسكري والاقتصادي لأهل بلاد الرافدين وخلفاءهم، وبسبب هجرات الهنود الأوروبيين، وقدوم الحديد وانتشار الكتابة. وكانت أعظم اضطرابات هجرات الشعوب القديمة قد ولت عندما بزغ الشرق الأدنى من أواخر عصر البرونز، وسوف تكون البنى السياسية التي تركوها هي محركة الأحداث في المرحلة التالية من تاريخ العالم.

لقد ولى زمان بعض الشعوب، ومنها شعب مصر، التي مرت بعد عام 1000 ق.م بانحسار يدل على عجزها عن التغير والتأقلم. كانت نجاتها من أولى هجمات الشعوب التي تستخدم الحديد وطرد شعوب البحر آخر انتصارات المملكة الحديثة، ومن بعدها صارت العلامات كلها تدل على التقهقر والتراجع، ففي الداخل راح الملوك والكهنة يتنازعون السلطة، وفي الخارج لم تعد سيادتها إلا وهماً. لقد مرت بمرحلة من تنافس السلالات، ثم تلتها فترة قصيرة من الوحدة سمحت بوصول جيشها إلى فلسطين من جديد، ولكن عند نهاية القرن الثامن كانت سلالة من الغزاة الكوشيين قد رسخت قدميها فيها. ثم طرد الآشوريون تلك السلالة من مصر السفلى في عام 671 ق.م، ونهب آشوربانيبال مدينة طيبة، وعند انحسار قوة الآشوريين عادت لمصر مرحلة وهمية ثانية من الاستقلال. في ذلك الحين كان قد ظهر عالم جديد اضطرت مصر أن تتنازل له تنازلات أوسع من الصعيد السياسي، ويدل على هذا تأسيس مدرسة للمترجمين الإغريق ومستوطنة إغريقية للتجارة ذات صلاحيات خاصة في الدلتا. بعد ذلك هزمت مصر من جديد في القرن السادس على يد نبوخذنصر أولاً 588 ق.م وبعدها بستين سنة 525 ق.م على يد الفرس، وظلت منذ القرن الرابع ق.م حتى القرن العشرين الميلادي تحت حكم أجنبي أو سلالات مهاجرة، وزالت من واجهة التاريخ.

يعرف الحاكم الذي أطاح ببابل ومصر معاً باسم قورش ملك فارس، ولا تظهر كلمة إيران حتى عام 600 ميلادي تقريباً، وهي تعني بأقدم أشكالها أرض الآريين، ويبدأ تاريخ فارس قبل هذا بقرون قليلة عندما اندفعت إليها قبائل آرية آتية من الشمال. من بين الوافدين الجدد كانت هناك قبيلتان تتميزان بالقوة والبأس، هما الميديون والفرس، فقد تقدم الميديون نحو الغرب والشمال الغربي إلى ميديا، بينما كان الفرس قد تحركوا جنوباً نحو الخليج وثبتوا أقدامهم على طرف وادي دجلة وفي أرض عيلام القديمة، وأطلق على مملكتهم الحديثة اسم قديم هو فارس
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://resalahmasriyah.mam9.com
Eng. Ahmedzoubaa
Admin
Eng. Ahmedzoubaa


عدد المساهمات : 1216
تاريخ التسجيل : 28/08/2010
العمر : 50

الفصل الثالث - أسس عالمنا  Empty
مُساهمةموضوع: رد: الفصل الثالث - أسس عالمنا    الفصل الثالث - أسس عالمنا  Emptyالثلاثاء 14 يونيو 2011 - 7:37

الأباطرة الأخمينيون

كان قورش متحدراً من أسرة تسمى الأسرة الأخمينية، وهو أول رجل فارسي بقي في ذاكرة الأجيال كشخصية تاريخية عالمية اعترف بمكانتها الفاتحون الآخرون الذين سعوا للتشبه به في القرون التالية. في عام 549 ق.م قهر قورش آخر ملوك الميديين المستقلين، فتمكن من صنع مملكة موحدة، ومنذ ذلك الحين راحت حدود الغزو تمتد إلى أن شملت أكبر إمبراطورية عرفت حتى ذلك الزمان. ولم يصعب على قورش أن يثبت حدوده إلا في الشرق، حيث عبر جبال هندوكوش وقتل أخيراً وهو يحارب السقيتيين، ويدين نجاحه بالكثير لغنى مملكته بالمعادن، خاصة بالحديد، كما أن المراعي العالية للوديان كان تحوي مؤونة وافرة من الخيل والخيالة. وكانت حكومته مختلفة الأسلوب عن سابقاتها، فلم يعد الفن الرسمي يعبر عن الافتخار بالأعمال الوحشية، بل كان قورش حريصاً على مراضاة رعاياه الجدد. وتجد بعض الأمور التي تدل على رغبته في مصالحتهم، فقد حاول التعويض عن استيلائه على ملكية بابل بالتضرع لحماية الإله مردوك، كما أنه استهل بناء المعهد في أورشليم للمرة الثالثة. ولم يطلب من حكام الولايات إلا جباية الجزية التي كانت تغذي خزانة فارس، وكانت ثمرة هذا كله إمبراطورية متنوعة ولكنها قوية.

ورغم أن هذه الإمبراطورية قد مرت بانتكاسات كثيرة فإنها ظلت طوال قرنين تقريباً إطاراً للشرق الأدنى، والذي استمر السلام فيه فترات طويلة لم يعهدها منذ زمن بعيد. وقد قام ابن قورش بضم مصر إلى إمبراطوريته، ولكن ظهر رجل ادعى الحق بالعرش وشجعت مساعيه الميديين والبابليين محاولة منهم لاستعادة استقلالهم، ومات ابن قورش قبل أن يتمكن من معالجة أمره. وكان الرجل الذي أحيى ميراث قورش شاباً ادعى أنه هو أيضاً من سلالة الأخمينيين، ألا وهو داريوس.

لقد حكم داريوس بين عامي 522-486 ق.م، ولم يحقق كل ما كان يصبو إليه، إلا أنه زاد الإمبراطورية اتساعاً على اتساع. لقد عجز مثلما عجز قورش من قبله عن إحراز تقدم ضد السقيتيين، ولكن أعماله ضاهت أعمال قورش العظيم نفسه. وقد نقش على الصرح الذي يخلد انتصاراته على المتمردين كتابة: "أنا داريوس الملك العظيم، ملك الملوك، ملك فارس"، وهو تكرار للقب أخميني متكبر قديم تبناه داريوس. وازداد انتقال السلطة من المركز إلى الولايات مع تقسيم الإمبراطورية إلى عشرين ولاية، يحكم كلاً منها حاكم يسمى "مرزباناً" يكون أميراً من العائلة المالكة أو من كبار النبلاء. وكان هناك مفتشون ملكيون يراقبون عملهم أمانة سر ملكية تراسلهم. وصارت الآرامية لغة الإدارة. كان الحكم يعتمد على اتصالات لم يعرف خير منها فيما مضى، وقد بنيت طرق كان بالإمكان نقل الرسائل عبرها بسرعة 250 كم في اليوم أحياناً.

لقد وضع داريوس مخطط عاصمة جديدة في برسيبوليس حيث دفن في النهاية، وكان الغرض منها تقديم التمجيد العظيم للملك، وقد عكست تنوع الإمبراطورية وعالميتها. كانت العمالقة الآشورية والثيران والأسود ذوات الرؤوس البشرية تحرس بوابات برسيبوليس مثلما حرست بوابات نينوى من قبلها. أما عواميدها التزيينية فهي اختراع مصري أخذته فارس عن طريق الحجارين والنحاتين الإيونيين، كما تجد تفاصيل إغريقية في النقوش البارزة وفي الزينة. وتجد مزيجاً مماثلاً من الملامح الأجنبية في المدافن الملكية القريبة التي تذكر بوادي الملوك في مصر.

كانت الحضارة الفارسية منفتحة دوماً على التأثيرات الخارجية، وقد امتزجت الديانتان الفيدية والفارسية في قندهار Gandhara* وكلتاهما ديانة آرية. كان جوهر الديانة الفارسية هي القرابين، وكان محورها النار؛ وفي عصر داريوس كانت أكثر عباداتها الرسمية تقدماً قد تطورت إلى ما سمي بالزرادشتية، التي انتشرت بسرعة في غرب آسيا مع انتشار الحكم الفارسي. ولم تكن الزرادشتية على الأرجح إلا ديانة أقلية، ولكنها سوف تؤثر في كل من اليهودية وعبادات الأسرار التي تشكل جزءاً كبيراً من البيئة التي نشأت فيها المسيحية، فالملائكة في التقاليد المسيحية ونار جهنم التي تنتظر الأشرار قد أتت كلها من زرادشت مؤسس هذه الديانة. إلا أننا لا نعرف الكثير عنه، سوى أنه كان يعلم أن الأرض مكان صراع أبدي بين إله الخير هو إله النور وروح شريرة هي روح الظلام. وتوجد نصوص الزرادشتية المقدسة في مجموعة تسمى الأفيستا أو الزندأفيستا، ومازالت تستخدمها الجماعة البارسية The parsee community في الهند والتي يشتق اسمها من نفس الكلمة التي يشتق منها اسم فارس Persia.

لقد ضمت فارس بسرعة عدداً أكبر من الشعوب في تجربة مشتركة، وللمرة الأولى صار الهنود والميديون والبابليون والليديون والإغريق واليهود والفينيقيون والمصريون تحت حكم إمبراطورية واحدة، وكان المرتزقة الهنود يقاتلون في الجيوش الفارسية مثلما قاتل المرتزقة الإغريق في جيوش مصر من قبل. وكان الناس يعيشون في مدن في كافة أنحاء الشرق الأدنى، وحول قسم كبير من البحر المتوسط، ويشتركون بمعرفة الكتابة التي صارت تدون الآن بأبجديات كثيرة. أما التقنيات الزراعية والتعدينية فقد امتدت أبعد من هذا، فنقل الأخمينيون مهارات الري من بابل إلى آسيا الوسطى، كما جلبوا الأرز من الهند ليزرعون في الشرق الأدنى. وعندما تبنى الإغريق الآسيويون عملة نقدية كانت مبنية على الترقيم الستيني البابلي وضمن هذا التنوع الغني تستطيع تمييز بدايات الحضارة العالمية المقبلة، وقد آن الأوان للحديث عن الذين رسموا أسسها، ألا وهم الإغريق.




* الإسم القديم لقندهار Kandahar
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://resalahmasriyah.mam9.com
Eng. Ahmedzoubaa
Admin
Eng. Ahmedzoubaa


عدد المساهمات : 1216
تاريخ التسجيل : 28/08/2010
العمر : 50

الفصل الثالث - أسس عالمنا  Empty
مُساهمةموضوع: رد: الفصل الثالث - أسس عالمنا    الفصل الثالث - أسس عالمنا  Emptyالثلاثاء 14 يونيو 2011 - 7:37

عالم البحر المتوسط

طوال ألف سنة بعد عام 500 ق.م كانت البلاد المحيطة بشرق البحر المتوسط، بما فيها ساحله الشرقي وسوريا وأوروبا حتى نهري الراين والدانوب وسواحل البحر الأسود، محور قصة هامة. ولم تكن هذه البلاد معزولة قط عما يجري خارجها، بل كانت أكثر وعياً له من أي زمن مضى، كانت الأفكار والمعرفة والعادات والشعوب التي تحمل هذه الأشياء كلها تتدفق من الشمال والشرق وتغير الحياة في المنطقة تغييراً عظيماً بمرور الزمن، وكانت شعوب المنطقة تعالج هذه القوى التي تضغط عليها من الخارج وترحب بها أحياناً، إلى أن صنعت منها في النهاية شيئاً جديداً كل الجدة، وهذا ما ينقل بؤرة تاريخ العالم من الهلال الخصيب إلى الغرب. لقد وضعت شعوب البحر المتوسط وبحر إيجة حضارة راسخة خاصة بها. كانت أولى الخطوات الحاسمة في تأسيس تلك الهوية من صنع الإغريق بين عامي 700 و 350 ق.م، ففي تلك الحقبة تشكلت أمور كثيرة مازلنا نألفها، وسوف تساهم في تشكيل تاريخ أوروبا اللاحق قبل أن تبدأ تأثيرات الرومان واليهود.

كان الإغريق يستعملون كلمة "أوروبا" ولكن معناها عندهم كان مختلفاً كل الاختلاف عن معناها لدينا اليوم، لأن عالمهم كان حوض البحر المتوسط وليس البر الكبير القابع في الشمال، والحقيقة أن المتوسط كان في الأزمنة القديمة منكفئاً على ذاته إلى حد كبير، فخلف سواحله كلها تقريباً ترتفع هضاب وجبال عالية، ولا تجد سهولاً واسعة تمتد نحو الداخل إلا في ليبيا ومصر، وأكثرها الآن صحارى ولو أنها لم تكن دوماً على هذه الصورة. أما في المناطق الأخرى فلا يفصل المرتفعات والبحر إلى سهول ساحلية ضيقة، ويتغذى البحر الأسود بالأنهار الكبرى الآتية من وديان روسيا والبلقان، ويصب مياهه في البحر المتوسط. والطرف الشمالي للبحر الأسود مؤلف من سهول شاسعة، أما سواحله الشرقية والجنوبية فهي جبلية. ولا تصب في المتوسط إلا ثلاثة أنهار هامة، وهي تؤمن الوصول إلى الأقسام الداخلية من البلاد المحيطة به، فالنيل هو أطولها، وهو يمتد ألف كيلومتر نحو الداخل قبل أن يصل إلى الشلال الأول، أما نهر الرون فهو يجري في وسط فرنسا ويصرف مياه جبال الألب الغربية، وينبغ نهر الإبرو على بعد 60 أو 70 كيلومتر فقط من ساحل إسبانيا الشمالي على المحيط الأطلسي قبل أن يشق طريقه إلى المتوسط عبر وادي أراغون العريض، أما النهر الآخر الكبير الذي يهمنا فهو نهر البو في شمال إيطاليا والذي يصب في بحر الأدرياتيك.

وأما من ناحية المناخ فإن بلاد المتوسط في الغالب بلاد دافئة ولكنها ليست شديدة الحر، وتحظى بقدر معقول من المطر على سلاسلها هضابها وجبالها. وقد كانت سواحلها أكثر خضرة بكثير من 2500 عام لأن أكثر الأشجار والنباتات التي كانت تغطي الهضاب قد زالت بسبب الرعي المستمر، فأدى ذلك إلى انجراف في سطح التربة. إن غابات لبنان ماتزال مثل الأساطير، كما أن الزراعة في شمال أفريقيا تمتد إلى مسافة أكبر نحو الداخل وتمنع تقدم الصحراء التي كانت أبعد عن الساحل مما هي عليه اليوم.

كان الناس حول البحر المتوسط يحصلون معيشتهم بطرق متشابهة جداً، فالذين يعيشون على السواحل كانوا يصطادون السمك من المياه الغنية به، وفي السهول الضيقة كانوا يزرعون القمح والشعير، وعلى المرتفعات العليا كانوا يزرعون الكرمة والزيتون، وعلى الهضاب كانوا يرعون الغنم والماعز. وكانوا يمضون وقتاً طويلاً في الهواء الطلق لأن المناخ لا يكون شديدة البرودة إلا شتاء في الجبال. فكانت هذه الأشياء كلها تجمع شعوب المتوسط إذاً، كما كان البحر يزيدهم ارتباطاً بعضهم ببعض مع مرور الزمن، وقد بقي السفر عبر الماء أسهل منه على البر حتى العصور الحديثة، وكان هناك نشاط تجاري بحري واسع ولمسافات بعيدة في عام 500 ق.م، وعندما يظهر شيء جديد في أي جزء من المتوسط فإنه كان ينتشر فيه بصورة أسهل وأسرع منه في إمبراطوريات الشرق البعيدة عن البحار. ويصح هذا الأمر بالأخص على حوض بحر إيجة، وهو البحر الواقع بين كريت واليونان وتركيا.

إن طبوغرافية هذه المنطقة ومناخها متوسطية، ولكن لها مع ذلك عدداً من الملامح المميزة لها، فالسهول الساحلية وقيعان الأودية على البر الرئيسي أصغر منها في الغرب، والساحل أكثر وعورة بالصخور والأجراف وأكثر تثلماً بالموانئ والملاجئ.وتجد في بحر إيجة المئات من الجزر بعضها ليست إلا صخوراً لا تصلح لزراعة شيء وبعضها الآخر خصبة جداً، وليست هذه المنطقة كبيرة، فهي تبلغ حوالي 600 كم من ساحل تراقيا* إلى كريت، و 250 كم فقط من طروادة** إلى أقرب سواحل بر اليونان.ويكون البحر هائجاً في العادة، كما أن الرياح القوية قد جعلت الإبحار عملية شاقة إلى من خلال طرق معينة، وكان الناس منذ الأزمنة المينوية يبحرون في إيجة متنقلين بثقة من مكان إلى آخر بعد أن فهموا طبائعه، وهذا ما شجع التجارة.

منذ الأزمنة المينوية كانت أفكار ومهارات بلاد الحضارات القديمة، أي بلاد الرافدين وسوريا ومصر، قد انتقلت إلى سكان جزر بحر إيجة وسواحله. وربما انتشرت الزراعة أيضاً في زمن أبكر من ساحل بلاد الشام إلى تلك الجزر ومنها إلى مقدونيا. وكان انتقال تأثير الشرق الأدنى من خلال مرافئ بلاد الشام ودلتا النيل إلى بحر إيجة أسهل بكثير منه إلى الهند وآسيا الوسطى والصين، التي كانت تفصلها عنه حواجز طبيعية ومسافات بعيدة. كما أن طبيعة الأرض تفسر لماذا كان اتصال شعوب بحر إيجة المباشر بأوروبا الغربية قليلاً، ولو أن أوروبا قد قدمت المعادن وغيرها من المواد الأولية إلى بلاد الشرق الأدنى الغنية من خلال الفينيقيين.




* منطقة قديمة في جنوب شرقي آوروبا، هي اليوم قسمان : غربي يتبع اليونان، وشرقي يكون القطاع الأوروبي من تركيا بين المضايق وبحر مرمرة ، أهم مدنه استانبول على البوسفور والقرن الذهبي – المنجد في الأعلام.


** أو إليون : مدينة قديمة في غرب تركيا
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://resalahmasriyah.mam9.com
Eng. Ahmedzoubaa
Admin
Eng. Ahmedzoubaa


عدد المساهمات : 1216
تاريخ التسجيل : 28/08/2010
العمر : 50

الفصل الثالث - أسس عالمنا  Empty
مُساهمةموضوع: رد: الفصل الثالث - أسس عالمنا    الفصل الثالث - أسس عالمنا  Emptyالثلاثاء 14 يونيو 2011 - 7:38

اليونان

يتكون الجدار الغربي لبحر إيجه من بر اليونان، وخلف ساحله الصخري المثلم الممتد في غير انتظام تقع أرض تنقسم إلى ثلاثة أجزاء جغرافية طبيعية. فالجنوب مكون من شبه جزيرة كبيرة تسمى البيلوبونيز؛ وهي تكاد أن تكون جزيرة إذ لا يربطها إلا عنق ضيق جداً هو برزخ كورتس يشبه جزيرة أخرى أكبر منها تمتد بشكل نتوء من جنوب شرق أوروبا. ويسمى الطرف الجنوبي لهذه الأخيرة سهل الأتيك، الذي يمتد شمالاً حتى مرتفعات تساليا. وأخيراً هناك المنطقة الجبلية الواقعة في أقصى الشمال، مقدونيا، وقد جعلت هذه الجغرافية اليونان بلداً عصياً على الغزو عن طريق البر إلا من خلال طرق قليلة محددة، وكان الهجوم عليها أسهل عن طريق البحر.

لقد بزغ من يونان عصر الظلام نوع جديد من حياة المدن شكلته طبوغرافيتها المقسمة، وسوف تساهم بعض المدن الإغريقية مساهمة خاصة في المستقبل. لذلك فهي تستحق أن نتمهل عندها قليلاً ولو استبقنا أحداث قصتنا. في أيامها الباكرة كانت تلك المدن في العادة تحت حكم ملوك، وسوف يظل بعضها يطلق على حكامه هذا اللقب في أزمنة قادمة. ولكن منذ أن بدأت السجلات التاريخية بالتوافر فإنك تجد أنها كانت في القرن السابع تحت حكم "أرستقراطيين" وهي كلمة يونانية تعني "خير الناس". كان الأرستقراطيون أصحاب أراضي وكانوا على درجة من الغنى تسمح لهم بشراء الأسلحة والدروع والخيول غالية الثمن التي جعلتهم قادة في الحرب. وكانوا في البداية يحكمون الإغريق الآخرين، وسوادهم من الفلاحين، لأن الزراعة كانت دوماً وسيلة الرجال الأحرار لتحصيل معيشتهم في العالم الإغريقي.

كانت المجتمعات الإغريقية البسيطة الباكرة قد بدأت تصبح أكثر تعقيداً بحلول عام 600 ق.م. وكان يعيش في بعضها أجانب يعملون في الحرف اليدوية والتجارة، ولكنهم لا يتمتعون بنفس حقوق السكان الذين ولدوا هناك ويدل وجود هؤلاء الأجانب المقيمين metics ونشاطاتهم على حدوث نمو سريع في التجارة. ولما كان المال أوفر من السابق فقد صار بعض الناس أغنياء. ومن العلامات الدالة على ذلك زيادة استخدام العملة المعدنية في العالم الإغريقي، كما بدأ الأفراد والجماعات يختصون بأنواع مختلفة من التجارة والمصنوعات، فكانت أثينا مثلاً مختصة بصناعة الخزف.

مع ازدياد الثروة حصلت أعداد أكبر من الناس على الأرض، كما صاروا قادرين على دفع ثمن الأسلحة والدروع. وفي القرن السابع ق. م ظهر نوع جديد من المحاربين كان الإغريق يسمونهم الهبليت. كان الهبليت مشاة يرتدون الخوذات والدروع البرونزية التي تغطي الجسد ويحملون التروس والرماح. وقد تغيرت طبيعة الحرب في اليونان بواسطتهم تغيراً سريعاً، لأن المعارك كانت في السابق عبارة عن قتال فردي بين الأشخاص القلائل القادرين على دفع ثمن الأسلحة والدروع، وهذا ما جعلهم أعتى بكثير من المقاتلين الذين يتبعونهم إلى ساحة المعركة. أما الآن فقد صار النصر في المعارك من نصيب تكتلات الهبليت المنظمة، وقد كان الهبليت يحافظون على تشكيل دقيق، يكون كل رجل فيه محمياً من جانبه الأيمن بترس جاره. وكانت المعارك في اليونان تجري عادة في قيعان سهول صغيرة، لأن الهدف هو إما تدمير المحاصيل المزروعة هناك أو الدفاع عنها. وفي هذا النوع من الأرض يكاد تشكيل الهبليت أن يكون منيعاً على الهزيمة إذا عرف أن يهاجم هدفه ككتلة واحدة ويحافظ على تماسك صفوفه، وقد ازدادت أعداد الرجال ذوي الخبرة العسكرية، وصار الانضباط والتدريب هما اللذان يكسبان المعارك. وبذلك راحت السلطة تنفلت من أيدي الأرستقراطيات القديمة، ولم يعودوا وحدهم المسيطرين على القوة المسلحة. إن هذا التغير الهام قد نشأت عنه السياسة، وهي أحد ابتكارات الإغريق العظيمة.

دولة المدينة

إن كلمة سياسة politics هي كلمة مألوفة نسمعها ونستعملها دون أن نفكر كثيراً بمعناها، ولكن إذا أردنا تعريفها فيمكننا أن نقول بشكل تقريبي إنها:” طريقة في إدارة الشؤون العامة عن طريق اتخاذ القرارات بشأنها من بعد مناقشة عامة لمناحي العمل المختلفة الممكنة”. وقد يبدو هذا الكلام مجرداً، ولكن الحقيقة أن هناك فرقاً كبيراً بين هذا الأسلوب العام وبين ما ينتج عن الإرادة التعسفية للحاكم، وكان الإغريق يعون هذا الفرق تماماً عندما ينظرون إلى بلاد فارس أو مصر. إن كلمة سياسة politics هي بالأصل كلمة يونانية، وهي مشتقة من الكلمة التي كانوا يطلقونها على الدولة أو المدينة المستقلة Polis. ولا تدل هذه الكلمة على المكان فقط، فالإغريق لم يكونوا يقولوا ”أثينا” فعلت كذا أو ”طيبة” فعلت كذا، بل كانوا يتحدثون عن ”الأثينين” و”الطيبيين” ونسمي الـPolis هنا ” دولة المدينة”، ولكنها كما قلنا ليست مجرد تجمع للناس الذين يعيشون في مكان واحد، كما أنها بالتأكيد أوسع بكثير من مفهوم ”الدولة” الحديث. لقد كانت دولة المدينة جماعة مشتركة، ولم تكن تشمل كل من يعيش في المدينة والريف المحيط بها، بل كانت مكونة من المواطنين فقد\ط، أي أولئك الذين يأخذون مواقعهم في صفوف الهبليت أثناء الحرب والذين لهم كلمة ولو صغيرة في شؤونهم المشتركة. أما العبيد والأجانب المقيمين والنساء فما كان بإمكانهم أن يكونوا مواطنين، فقد كانت هذه الرابطة أشبه بالانتماء إلى عشيرة منها بمفهومنا الحديث عن المواطنة، والحقيقة أن أبكر المؤسسات الاجتماعية ضمن المدن كانت مبنية على علاقة القربى.

كان المواطنون الأوائل في الدول الأغريقية هم القادرون على دفع ثمن الأسلحة من أجل الالتحاق بصفوف الهبليت والقتال دفاعاً عن تراثهم. ولابد أن تكون معارك طاحنة كثيرة قد جرت لا نعلم عنها اليوم إلا القليل القليل. في القرن السادس صار رجال جدد يحوزون على حق المواطنة في كل مكان تقريباً، وكان حكم الأرستقراطيين يزول ليحل محله حكم رجال أقوياء ذوي شعبية، كان الإغريق يسمونهم Tyrants*، ثم زال هؤلاء بدورهم لتحل محلهم حكومات ذات قاعدة أوسع. إن كلمتي أوليغرشية و ديموقراطية هما كلمتان أخريان من أصل يوناني مازلنا نستخدمهما، فبعض المدن كان يحكمها الميسورون (الأوليغرشيات) وبعضها الآخر أغلبية الرجال الأحرار (الديمقراطيات)، إلا أن انتقال الحكم بالوراثة كان ينحسر في كل مكان تقريباً.

لقد بقيت أكثر المدن صغيرة تعيش على مزارع الوديان الصغيرة التي توجد ضمنها عادة، وحتى في الأزمة اللاحقة لم يكن من المألوف أن يبلغ عدد المواطنين في دولة المدينة 20.000، لهذا كان المواطنون يشعرون بقدر من المشاركة الشخصية في الحياة العامة هو أكبر بكثير مما يشعر به مواطنو الدول الحديثة. وكانوا يشاركون بصورة جماعية في أمور أنطناها نحن بمنظمات خاصة مثل النوادي والكنائس. وكان الإغريقي يسمع في المجالس التي تدير الشؤون العامة آراء أصدقائه وأعدائه ومعارفه في المسائل التي تمسهم جمعياً. إن هذه الأشياء كلها قد جعلت الحياة في دولة المدينة مجهدة تتطلب الكثير، ولكنها كانت في الوقت نفسه حياة مثيرة. وقد برز بعض الرجال كأول الممثلين لمهنة جديدة هي مهنة السياسة، فكان أولئك السياسيين يسعون لإقناع مواطنيهم بما ينبغي فعله عن طريق مخاطبتهم في المجلس، وليس من الغريب إذن أن يكون الإغريق قد اعتبروا أن دولة المدينة تعطي الناس الفرصة لكي يحققوا ذاتهم، أي يطلقوا كل الطاقة الكامنة في طبيعتهم البشرية بطريقة لم يوفرها أي من نوع من أنواع التنظيمات البشرية الأخرى. كانوا يعتقدون أن المرء يكون متحضراً في دولة المدينة بصورة غير متاحة في أماكن أخرى، وقد قال أحد فلاسفة الإغريق إن الإنسان هو كائن صنعته الطبيعة لكي يعيش في دولة المدينة. وكان لديهم أيضاً كلمة تدل على من ينسحب إلى اهتماماته الشخصية ولا يرغب بالمشاركة في الشؤون العامة أو لا يهتم لها، هي كلمة idiot*.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://resalahmasriyah.mam9.com
Eng. Ahmedzoubaa
Admin
Eng. Ahmedzoubaa


عدد المساهمات : 1216
تاريخ التسجيل : 28/08/2010
العمر : 50

الفصل الثالث - أسس عالمنا  Empty
مُساهمةموضوع: رد: الفصل الثالث - أسس عالمنا    الفصل الثالث - أسس عالمنا  Emptyالثلاثاء 14 يونيو 2011 - 7:38

حضارة جديدة

عندما انتعشت التجارة من جديد بعد غزوات الدوريين، أي في حوالي القرن التاسع، راح الرجال يغامرون بالسفر ويعيدون ربط شبكات التجارة القديمة التي مزقها الزمن. وكانوا ينقلون أشياء كثيرة في قدور وجرار تمكننا بقاياها من تتبع هذه العملية. كان تصميم تلك الأوعية وإتقان صنعها قد تراجعا كثيراً عند نهاية المرحلة الميقينية، ولكن حتى نحو عام 1000 ق.م كان الخزف يصنع بأسلوب جديد وجذاب جداً، ربما ابتدأ في أثينا. وكان يزين برسوم بسيطة جداً ولكنها جميلة ومكونة من أشكال مجردة مثل الخطوط والدوائر المتحدة المركز وشرائط الألوان ولهذا سميت رسوماً هندسية. ثم تطورت هذه الرسوم الجميلة فأصبحت أكثر تعقيداً، ولكن لم تظهر فيها الأشكال البشرية حتى القرن الثامن ق.م، أي بعد أن كان عمرها حوالي 250 سنة، وحتى هذه الأشكال البشرية كانت ترسم في البداية بطريقة هندسية ومجردة. وكان الخزف علامة على أن الحياة في بحر إيجة تزداد تحضراً من جديد.

تخبرنا رسوم السفن على مزهريات القرن الثامن القصة نفسها، أي عن وجود عالم إغريقي جديد في بحر إيجة بعد عام 776 ق.م بقليل وهو العام الذي صار الإغريق يعتبرونه بداية لتاريخهم. كان ذلك تاريخ حدث هام هو الألعاب الأولمبية الأولى، التي أخذت اسمها من اسم المكان الذي كانت تعقد فيه، أي أوليمبيا الواقعة في غرب اليونان، ويشك العلماء بهذا التاريخ (كما يبدو أنه كان ثمة احتفال أقدم سابق لهذه الألعاب المكونة من الملاكمة والجري والغناء والرقص)، ولكنه يبقى مع ذلك معلماً جيداً لبداية تاريخ اليونان. وقد ظلت هذه الألعاب تعقد بشكل منتظم تقريباً كل أربع سنوات طوال ألف سنة كاملة؛ ومع أنها صارت في حوالي عام 200 ق.م استعراضاً للمحترفين يجتذب السواح من الخارج، فإنها كانت في أيامها الأولى مسابقات لفرق الهواة التي تفد إليها من كافة أنحاء اليونان لتمثل مدنها. فكان هذا هو الاحتفال الوحيد الذي يجمع الأثينيين والطيبيين والإسبرطيين وممثلي مدن أخرى كثيرة بصورة منتظمة، وقد ساعدهم بذلك على أن يروا أنفسهم جميعاً كإغريق.

اللغة والهلينية

كان الإغريق يسمون أنفسهم Hellenes أما كلمة إغريقي Greek فهي مشتقة من اللاتينية، أي لغة الرومان الذين أتوا بعدهم، عند نهاية عصور الظلام كانت جماعات مختلفة عديدة في بحر إيجة تشعر أنها تشترك بأشياء كثيرة بالرغم من اقتتالها المتكرر فيما بينها. وأهم ما كانت تشترك به هو اللغة. وكانت اللغة اليونانية في القرن الثامن ق.م على وشك التطور بطريقة جديدة. إن أول شكل مكتوب من اللغة اليونانية وجد على رقم في كنوسوس وفي القصور الميقينية، ولكنه لم يستخدم إلا في المحاسبة، ولم تكتسب اليونانية شكلها الحالي إلا عندما أخذ الإغريق ربما من خلال التجارة اختراع الأبجدية الذي أوجده الفينيقيون وكيفوه لحاجاتهم الخاصة. وإن أول كتابة بالأحرف اليونانية الجديدة وجدت حتى الآن هي على إبريق يعود لعام 725 ق.م تقريباً. وعندما صارت اليونانية لغة مكتوبة كان الإغريق قد ساروا خطوة جديدة نحو فكرة أنهم بالرغم من جميع الفروق فيما بينهم يشتركون بأشياء كثيرة. والحقيقة أن شعورهم هذا كان قوياً إلى حد أن الكلمة الدالة على غير الإغريقي لديهم كانت مبنية على فكرة أنه لا يتحدث اليونانية: فكانوا يسمونه barbaraphonoi أي من ”يبربر” أو يتكلم كلاماً غير مفهوم، ومازالت كلمة بربري مستخدم للدلالة على الشخص غير المتحضر.

إن تدوين اللغة يثبت أفكارها، وعلى مدى مئات السنين كان الشعراء والقصاصون يكررون روايات وأغاني وأساطير الشعوب التي نشأ منها الإغريق. صحيح أن استظهار الأدب على هذه الصورة يعطيه عمراً مديداً، ولكن تفاصيله تتغير رويداً رويداً لأن الذين يؤدونه قد يرغبون بإظهار ناحية ما تبدو لهم مناسبة أو إدخال تلميح جديد يجعل أداءهم أقوى أثراً في مستمعيهم. أما عندما تدون القصص فلا يعود ثمة مجال كبير أمام الأفراد لتغييرها، لقد كانت هناك بالتأكيد مئات من القصص المعروفة عن الآلهة والأبطال في اليونان القديمة قبل أن يمكن تدوين أي منها، إلا أن ثمة مجموعة صارت أهميتها محورية في الثقافة والتربية عند الإغريق، لأن أول أعمال مكتوبة في الأدب الإغريقي قد أُخذت منها. تتحدث هذه القصص والأساطير عن حملة إخائية على طروادة، وهي مدينة في آسيا الصغرى، وتشكل أحداث تلك الحملة خلفية القصيدتين الطويلتين اللتين نسميهما الإلياذة والأوديسة، واللتين يبلغ طولهما معاً حوالي 28000 بيت شعر، وهما اثنان من أعظم الأعمال الأدبية في العالم. ويأتي اسم الإلياذة من الاسم اليوناني لمدينة طروادة (إليون) التي تخبرنا القصيدة أنها كانت تحت الحصار بينما تسرد لنا أياماً قليلة من حياة بطل إخائي عظمي هو أخيل. أما القصيدة الثانية فهي على اسم بطلها أوديسيوس، الذي ذهب إلى طروادة في نفس الحملة الإخائية، وهي تتحدث عن ترحاله طوال عشر سنوات بعد نهاية الحصار، وعن مغامراته الرائعة وسعة حيلته، ثم عودته أخيراً إلى وطنه وانتصاره على الذين حاولوا اغتصاب مكانه في غيابه. وتنسب التقاليد هاتين القصيدتين إلى رجل واحد وهو شاعر كفيف اسمه هوميرس، ربما كان يعيش على جزيرة خيو، ولكن هذا الأمر مازال موضوع خلاف، مثل أشياء كثيرة متعلقة بالقصيدتين.

يرجح أن الإلياذة والأوديسة قد دونتا للمرة الأولى في القرن السابع ق.م، وإذا كان الأمر كذلك فإنهما لم تكونا إلا أحدث نسختين من مواد قديمة جداً، فيها أفكار ونبذ حقائق من قرون عديدة، مخلوطة فيما بينها من دون أي معرفة بما يناسب كل حقبة تاريخية. وإذا أردت أن تتخيل شيئاً مشابهاً إلى حد ما فلك أن تتصور قصيدة من القرن العشرين تتحدث عن اكتشاف كولومبس لأمريكا مغلوطة ببضعة قرون، يسافر فيها في سفن شراعية، ولكنه يملك مع ذلك مذياعاً، ويقابل سكاناً أصليين يلبسون ويتكلمون ويفكرون مثل الأسبان، ومحبوك فيها فوق هذا كله تفاصيل وذكريات باهتة وبعض من لغة قصيدة بيولف*. وقد سبب هذا الخليط اختلافاً كبيراً بين الباحثين، وحاولوا ربطها بالآثار المكتشفة، ولكن كثيراً ما تبين أن الواقع كان مختلفاً جداً عما تصفه القصيدة. فحصار طروادة العظيم مثلاً الذي يستمر عشر سنوات في القصة لم يكن على الأرجح إلا غارة سريعة مثل غارات الفايكنغ قام بها بضع مئات من قطاع الطرق على مستوطنة صغيرة لا يزيد حجمها عن ثلاثة أو أربعة هكتارات. ولكنك بالرغم من هذا تجد ضمن هذا الخليط تفاصيل تلقي ضوءاً على عصور الظلام التي تحدرت منها بعض عناصر القصيدتين.

كانت هاتان القصيدتان عند الإغريق بمثابة كتب مقدسة، وكانت مكانتهما المحورية تشبه مكانة العهد القديم لدى اليهود. وقد بقي الشعراء المحترفون طوال أجيال يحصلون معيشتهم من التنقل وسرد الإلياذة والأوديسة، وفي الحالات القليلة التي يتلقى فيها الإغريق تعليماً رسمياً تكون هاتان القصيدتان أساسه. لقد لخص هوميروس الأمور التي جعلت الإغريق يعتبرون أنفسهم مختلفين، وقصيدتاه هما أول وثيقتين عن وعي الإغريق لذاتهم، فقد كانوا يعتقدون أنهما تضمان تاريخهم القديم، ومعلومات جوهرية عن آلهتهم وعلاقتها بالبشر وكيف تتصرف، وتفسيراً لمصير الإنسان والهدف من الحياة، ودليلاً للأخلاق ونماذج من السلوك السليم والخصال التي تجعل الإنسان يعيش حياة صالحة، وغير ذلك الكثير. لقد وجد الإغريق في الإلياذة والأوديسة نصوصاً لحل النزاعات، ومعايير للحكم على السلوك، وأبهى نموذج من أسلوب استعمال لغتهم، وساهمت هاتان القصيدتان في تشكيل أفكارهم وأذواقهم طوال مئات السنين، ثم أفكار البشرية لزمن أطول، واللافت أن الإغريق لم يكونوا يسمون هوميروس باسمه في العادة، بل كانوا يكتفون بلقب " الشاعر".

ديانة الإغريق

تجد في قصائد هوميروس الشيء الكثير عن الآلهة والآلهات وبالتالي عن الديانة التي كانت تجمع بين الإغريق. وقد صارت تلك الآلهة التي وصلتنا أسماؤهما مجمعاً مشتركاً في العالم الكلاسيكي بأكمله. ولكن لديانة الإغريق أبعاداً أخرى كثيرة ، ومن أجل أن تحاول فهمها يجب عليك أن تبعد عن تفكيرك بعض المعاني المرتبطة بالدين اليوم، إذ لم يكن لدى الإغريق مجموعة واضحة من العقائد ولا رجال دين مختصون بهذه الأمور -كانت لكهنتهم وعرافيهم وظائف أضيق- ولا كنيسة تجمع المؤمنين في منظمة مشتركة. بل كان لديهم خليط من الأساطير والأفكار والخرافات التي لم يكن أي منها مفروضاً عليهم جميعاً. إلا أن بعضها كانت تحاول فهم مشاكل الإنسان العميقة والدائمة، مثل سهولة انقلاب الحظ السعيد، والنقمة التي تترصد من يهزأ بقواعد الحياة أو يتكبر. لقد كانت الأساطير إذاً محاولة لمعالجة أحاجي الحياة. ونحن أيضاً لدينا أساطير، ولكنها في العادة مرتبطة بالعلم وليس بالآلهة. فنحن نقول مثلاً إن سلوك شخص ما يمكن تفسيره بشقاء عاشه في طفولته أو بضغوط العمل، ويعطينا هذا شعوراً بأننا نستطيع معالجة مشاكلنا، كأن نذهب إلى الطبيب مثلاً أو نأخذ عطلة. وعندما نحصل على نتيجة حسنة يتعزز إيماننا بهذه المعتقدات. والإغريق مثلنا كانت لديهم علاجات مبنية على الإيمان، ولكنه إيمان بأشياء غير التي نثق بها اليوم، إلا أن وسائلهم كانت تبدو لهم نافعة أيضاً، وكانت ممارسة الدين لديهم تعني أداء طقوس الغرض منها الحفاظ على رضا الآلهة.

كانت هناك أشياء مختلفة كثيرة قد يمارسها الإغريقي كجزء من ديانته، فقد كانت توجد مثلاً أشكال من العبادة بشكل طقوس أو أسرار تؤدى لتمثيل عمليات الطبيعة الكبرى مثل إنتاش النبات ونموه أو مرور الفصول. كما كانوا يفسرون الفأل أيضاً ويستشيرون العرافين في الأمور الهامة. كانت العرافة الأساسية هي عرافة أبولو في دلفي، ولكن كانت هناك أماكن كثيرة غيرها يحج الناس إليها من مسافات بعيدة من أجل أن تبين لهم مصائرهم. كان لكل مدينة آلهة تعيش في المعابد التي توجد عادة في الأكروبوليس*، وكانوا يخدمونها بخشوع في احتفالات المدينة التي تمتزج فيها الطقوس الدينية بالألعاب والعروض المسرحية، أو يقدمون لها القرابين في البيوت وفي مذابحها المقامة على جوانب الطرقات. كانت الآلهة أثينا مثلاً هي الآلهة الحارسة للمدينة التي تحمل اسمها، وقد تعبد في أماكن أخرى أيضا. ولا ننس التوقير الذي كانوا يؤدونه لمئات من الآلهة الصغرى والأرواح وقوى الطبيعة في آلاف المقامات. وإن القدر الكبير المقدم لها والجهود المبذولة لاسترضائها عن طريق القرابين مثلاً لتشير إلى أن عبادتها ربما كانت أكثر نواحي ديانة الإغريق شعبية.

كان الإغريق يعتقدون أن هذه الآلهة والإلهات التي يشتركون في عبادتها قد تتدخل في حياة البشر، ولكن ربما كان الاهتمام بها أكبر على المستوى الرسمي منه على مستوى الأفراد. وهي الآلهة التي تظهر قي قصائد هوميروس. وكانوا يعتقدون أن أكبرها تقيم على جبل ألومبس، وقد دخلت أسماؤها لاحقاً مثل زفس، وآريس، وأفروديت، إلى تراث أوروبا من الأساطير. وهي أوضح أمثلة على صورة الآلهة لدى الإغريق، وأبرز صفاتها هي أنها بشرية إلى حد بعيد. فصحيح أن زفس ملك الآلهة يكون في بعض الأحيان شخصية رهيبة يقذف صواعقه من حوله، إلا أنه في الوقت نفسه سيد إغريقي في أواسط العمر، طيب السرية وذو تصرفات خرقاء، كما أنه ميال إلى ملاحقة الفتيات. كذلك تجد في أفروديت إلهة الحب والخصب الكثير من صفات المرأة من غرور وأهواء. ولا تعيش هذه الآلهة بعيداً عن شؤون البشر بل تتدخل فيها مبدية عواطف بشرية إلى حد بعيد. فترى هوميروس يصور بوسيدون إله البحر والزلازل وهو يزرع درب أوديسيوس بالبلاء بسبب ضغينة يحملها عليه، بينما تنحاز إلى البطل وتساعده أثينا إلهة الحرب والحكمة العذراء التي تؤثره على سواه.

تشكل الديانة أساساً عميقاً من اللاعقلانية قد يغيب عن البال عندما ننظر إلى الحضارة الإغريقية في مرحلة نضجها القادمة. وقد نتجت عن هذه اللاعقلانية نظرات للعالم تكون أحياناً متعارضة أو متضاربة. كما أنها استعارت وضمت إليها عناصر من الخارج، مثل الأسطورة الآسيوية التي تقول بعصور الذهب والفضة والبرونز والحديد. إلا أن النتيجة كانت تجربة دينية مختلفة عن تجارب الشعوب الأخرى. وربما كان لهوميروس الدور الأكبر في تنظيم عالم ما فوق الطبيعة على هذه الصورة، وهو لا يفسح مجالاً كبيراً للعبادات الشعبية. وقد تذمر ناقد إغريقي في زمن لاحق من أن هذا الشاعر "قد نسب إلى الآلهة كل ما هو شائن ومعيب بين البشر، من سرقة وزنى وخداع". وكان محقاً في ذلك، لأن عالم الآلهة كما صوره هوميروس كان يسير بصورة مشابهة للعالم الحقيقي. فرغم أن ميثولوجيا الإغريق وفنهم قد يدينان بالكثير لمصر والشرق، فقد بقيا يصوران آلهتهم كرجال ونساء أفضل وأسوأ. وكان هذا العالم بعيداً كل البعد عن وحوش آشور وبابل أو عن شيفا* ذي الأذرع الكثيرة. ويشير هذا الأمر إلى تغير عظيم في المواقف الفكرية فإذا كانت الآلهة مثل البشر، فربما كان بإمكان الإنسان أن يصير مثل إله!!!

العالم الإغريقي

إن اليونان بحد ذاتها صغيرة جداً، ولكنها كانت جزءً من عالم أكبر بكثير. ولم يكن هناك في اليونان أو جزرها من يعيش على بعد أكثر من سبعين كيلو متر عن البحر، وهذا ما جعل الإغريق يألفون السفر في البحر وهو قوام الأوديسة، ولا يخافون منه مثل سكان البلاد البعيدة عنه. لذلك راحوا يستكشفون بيئتهم الأوسع ويستفيدون منها، ومنذ البداية كان سكان بحر إيجة من المستوطنين والمهاجرين، إذ لم يكن في بر اليونان فرص كثيرة للزراعة المجزية. والحقيقة أن زيادة عدد السكان قد سببت الضغط على الأراضي المتاحة، منذ القرن العاشر، فكان هذا هو المحرك البعيد لموجة كبيرة من الاستيطان، أدت عند نهايتها في القرن السادس إلى ظهور عالم إغريقي يمتد بعيداً وراء بحر إيجة، من البحر الأسود في الشرق حتى جزر البليار* وفرنسا وصقيلة في الغرب وليبيا في الجنوب. وكان هناك قوى أخرى تفعل فعلها أيضاً، فبينما كان المزارعون الباحثون عن الأرض يستوطنون تراقيا** استقر إغريق آخرون على ساحل بلاد الشام وجنوب إيطاليا من أجل المتاجرة. لقد كان الفينيقيون هو الذين فتحوا هذا الطريق، وربما شجع ذلك الإغريق على التشبه بهم أو نبههم إلى مواقع مناسبة لإقامة المستوطنات، فصاروا يرسلون إليها الأعداد الزائدة من السكان. إن أول مستوطنة إغريقية في غرب المتوسط قد أسستها في خليج نابولي حملة أرسلتها مدينتا خلقيس وأرتريا في حوالي عام 750 ق.م. وفي القرن التالي راحت مدن أخرى تنشئ مستوطنات صغيرة لها سوف تصبح مكتفية بذاتها ومستقلة مثل المدن الأصلية. فضربت المستوطنات جذورها في السهول الزراعية بصقلية كما نشأت على سواحل شمال أفريقيا وفرنسا، وكان إحداها أصل مدينة مرسيليا. كان أنجح تلك المستوطنات هي سيراكوزا (سرقوسة) في صقيلة، وقد صارت بين عامي 500 و 350 ق.م تقريباً، أي ما يسمى الأزمنة (الكلاسيكية) المدينة الإغريقية الوحيدة التي تضم أكثر من مئة ألف نسمة، فضلاً عن أثينا، وتذكرنا تلك الحقيقة بالضآلة النسبية لأعداد السكان في الحضارة الإغريقية.

بعد أن استولى الإغريق على المواقع الطيبة في صقلية وإيطاليا تحول اهتمامهم نحو الشرق. ولكن الشرق كانت فيه عقبات سياسية، إذ لم يكن بإمكان أي مدينة إغريقية باحثة عن المستوطنات الجديدة أن تجازف وحدها بمواجهة القوى البرية الكبرى القائمة هناك. لذلك تحول اتجاه الاستيطان نحو الشمال مبتعداً عن ساحل بلاد الشام. فاستقر بعض الإغريق في أشباه جزر شمال بحر إيجة حيث طردوا من بقي من شعوب الـPelasgoi أو استعبدوها، بينما أبحر آخرون عبر مضيق الدردنيل إلى البحر الأسود، الذي كان البقعة المفضلة لموجة ثانية من الاستيطان الإغريقي، أتت بعد قرن واحد من الموجة الأولى تقريباً. وفي عام 500 ق.م صارت هناك سلسلة من المدن الإغريقية تحيط بالبحر الأسود كله، كانت بعضها تصلح للزراعة، إلا أنها اهتمت بالتجارة أكثر من المستوطنات الغربية، وقد ساهمت كثيراً في تنشيط الأعمال التجارية في بحر إيجة. أما في الشمال منها فكانت تعيش شعوب بربرية بالمعنى الحديث للكلمة، منها السقيتيون وهم بالأصل شعب بدوي يمارس الزراعة في القرن السادس في السهول الواقعة بين نهري الدون والدانوب. وفي الغرب أيضاً واجه الإغريق في تراقيا شعوباً جبلية أكثر بربرية وشراسة.




* Beowulf


* قلعة أو قمة محصنة تشرف على المدينة


* أحد آلهة المثلث الهندي إله الدمار والخراب – المنجد في الأعلام


* أحد آلهة المثلث الهندي إله الدمار والخراب- المنجد في الأعلام


* أرخبيل إسباني في غرب المتوسط شرقي خليج بلنسية


* تدل هذه التسمية اليوم على المستبد أو الطاغية - المترجم


* ومعناها الحديث هو الأحمق
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://resalahmasriyah.mam9.com
Eng. Ahmedzoubaa
Admin
Eng. Ahmedzoubaa


عدد المساهمات : 1216
تاريخ التسجيل : 28/08/2010
العمر : 50

الفصل الثالث - أسس عالمنا  Empty
مُساهمةموضوع: رد: الفصل الثالث - أسس عالمنا    الفصل الثالث - أسس عالمنا  Emptyالثلاثاء 14 يونيو 2011 - 7:39

إيطاليا والإتروريون*(الإتروسك)

لم يواجه الإغريق في الغرب أي إمبراطورية كبيرة، ولكن شغلتهم مدينة قرطاجة. كانت قرطاجة دولة مدينة في شمال أفريقيا أسسها الفينيقيون في حوالي عام 800 ق.م، ثم كبرت خلال بضعة قرون فصارت أعظم قوة وثروة من مدن الفينيقيين القديمة الواقعة على الساحل الشرقي للمتوسط مثل صور وصيدون**، وباتت تهدد الإغريق المقيمين في جنوب إيطاليا وصقيلية. أما على المدى الطويل فإن الخطر الآتي من الغرب إنما كان يكمن في الشمال، عندما كانت حركة الاستيطان الإغريقية جارية على قدم وساق لم تكن هناك على الهضاب المطلة على نهر تيفيرة (التيبر) إلا بضعة أكواخ للرعاة، ولكن موقعها هذا سوف يصبح عاصمة إمبراطورية قادمة، هي إمبراطورية روما. إن تأثير روما الكبير على التاريخ وولع الرومان بحبك روايات خيالية مثيرة حول أصولهم تجعل من الصعب أن تتخيل كم كانت بدايات قصتهم ضئيلة. تقول التقاليد إن روما مدينة تقوم على سبعة تلال، ويختلف علماء الآثار حول ما إذا كان تاريخ تأسيسها أقرب إلى عام 100 ق.م أو 800 ق.م، إلا أننا نعلم أن أبكر المستوطنات قد ظهرت على قمتي تلتين من التلال السبعة، وكان يسكنها رعاة أتوا إليها من المرتفعات المجاورة. ويبدو أن المراعي هناك كانت أفضل منها في القسم الداخلي البعيد عن البحر، وكان من السهل حماية هذين الموقعين، فضلاً عن وجود معبر مناسب لنهر تيفيرة، وهو في الحقيقة أخفض معبر يمكن اجتيازه قبل البحر.

الفصل الثالث - أسس عالمنا  Chp3-3

موقع إريتوريا في إيطاليا الحالية

صحيح أن هذا الموقع كان دوماً يؤهب المنطقة لأن تصبح مركزاً أساسياً للمواصلات، إلا أن تلك المستوطنات الصغيرة ما كانت لتصبح ذات شأن لولا وصول شعب نسميه الآن الشعب الإتروري، قبل عام 600 ق.م بقليل، وهو اسم مشتق من اسمهم اليوناني. مازال الأتروريون شعباً غامضاً، ويرجح أن يكونوا قد أتوا أولاً عبر البحر من البلقان في القرن العاشر، وربما انضم إليهم فيما بعد مهاجرون من آسيا الصغرى في حوالي عام 700 ق.م. وعندما انتقل الأتروريون إلى موقع روما كانوا بالتأكيد شعباً مزيجاً يعرف مهارات وثقافات غريبة عن إيطاليا في ذلك الزمان. ومنذ وصولهم إلى شبه الجزيرة الإيطالية كانوا ماهرين في شغل المعادن فاستغلوا مكامن خام الحديد الغنية في جزيرة إلبا وفي البر أيضاً.

مازلنا نجهل الكثير عن الإتروريين، ولكن يبدو أنهم كانوا يعيشون في اتحاد فضفاض من المدن التي يحكمها ملوك. وقد بلغ موطنهم إتروريا الذي كانوا يسيطرون عليه مساحة كبيرة تمتد من نهر البو في الشمال حتى السهل الساحلي إلى الجنوب من نهر تيفيرة. وكانوا يعرفون الكتابة وقد تبنوا الأبجدية الإغريقية من المدن الإغريقية في الجنوب على الأرجح، ولكن الكثير من نقوشهم مازالت غير مفهومة. وكانوا يعيشون في مدن إحداها مدينة كايرة* التي كان فيها حوالي 25000 نسمة في عام 600 ق.م أكثرهم من الإغريق، ولابد أن يكون وصولهم بأعداد كبيرة إلى روما قد بدل من طبيعة المكان. لقد شدد الرومان فيما بعد على فكرة المدينة والمواطن، وبدؤوا تقويمهم ad urba condiat أي (من تأسيس المدينة) الذي أرخ خطأ بعام 753 ق.م في التقويم المسيحي. ولكن الرومان كانوا يدينوا للإتروريين بأشياء كثيرة غير هذه، فمن خلالهم تعرفوا على الحضارة الإغريقية، وعنهم ورثوا الأسطورة الإغريقية التي تقول إن إنياس بطل طروادة المذكور في الإلياذة قد هرب منها عند هزيمتها وأبحر غرباً ليؤسس مدينة روما. كما أن هناك عادات رومانية كثيرة مثل إقامة ألعاب المصارعة وارتداء ثوب التوغة وقراءة المستقبل أتت كلها من الإتروريين. ولقد تشكلت أهم معتقدات الرومان الدينية في الأزمة الإترورية أيضاً؛ حتى أنثى الذئب التي ظهرت في أسطورة رومولس وريمس عن تأسيس روما هي على الأرجح بقية من عبادة الإتروريين لهذا الحيوان. وربما كان اهتمام الرومان بتصريف المياه أيضاً شيئاً آخر تعلموه من الإتروريين.

كانت روما مدينة في بداية القرن السادس ق.م ومنذ ذلك الحين أو بعده بقليل لم يعد هناك شعبان يعيشان في المكان نفسه، ولو بقيت هناك لغتان ضمن المدينة بسبب امتزاج الإتروريين بالسكان السابقين الذين يدعون باللاتينيين أحياناً ، وعندما اكتمل هذا الامتزاج صار بإمكاننا أن نتحدث عن الرومان كشعب متميز. ومازالت السنوات مابين عام 600 و 500 ق.م غامضة جداً، وقد نسج الرومان فيما بعد أساطير كثيرة حولها، ولكن خلالها كانت روما قد اكتسبت مؤسسات عديدة سوف تستمر زمناً طويلاً جداً. إحدى هذه المؤسسات كانت مؤسسة لتجنيد المواطنين الإلزامي في الخدمة العسكرية، وقد كان من الواجب العسكري في الأيام الأولى لروما مرتبطاً ارتباطاً وثيقاً بالحقوق المدنية. كما كانت هناك مؤسسة أخرى، وهي مؤسسة للحكم المقتصر على النبلاء Patricians، الذين أتت تسميتهم من مرتبتهم كأرباب أسرPatres.

تقول التقاليد إن آخر ملك إتروري قد طرد في عام 510 ق.م، ولكن هذا التاريخ مغلوط بمقدار ثلاث أو أربع سنوات على الأرجح. ويمكننا أن نقول إن روما قد خرجت عندئذٍ من الشرنقة الإترورية. بينما كان الإتروريون يعانون الأمرين، فقد طردهم الإغريق من كمبانيا كما أخذوا منهم جزيرة ألبا. كانت روما دولة مدينة جديدة ظلت علاقاتها بالمدن الإترورية المجاورة علاقات ودية، لأنه كانت تواجه أخطاراً شديدة من جيرانٍ أخر، كما كانت طرق الاتصالات التي تسيطر عليها هامة لتجارة الإتروريين. إلا أن القرن الخامس ق.م قد شهد أيضاً بداية حقبة طويلة من الحرب بين روما والمدن الإترورية، وفي نفس الوقت تقريباً تظهر آخر علامات الوجود الإتروري في روما، مثل النقوش والبضائع التجارية. لقد كانت روما في ذلك الحين مستقلة استقلالاً حقيقياً، ولكن لم يكن فيها بعد ما يدل على ما ستبلغه في المستقبل من قوة عالمية.




* إتروريا هو الاسم القديم لتوسكانا


** صيدا الحالية


* caere وهي اليوم تشيرفيتيري الواقعة على بعد 50 كم شمال غربي روما – الموسوعة البريطانية
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://resalahmasriyah.mam9.com
Eng. Ahmedzoubaa
Admin
Eng. Ahmedzoubaa


عدد المساهمات : 1216
تاريخ التسجيل : 28/08/2010
العمر : 50

الفصل الثالث - أسس عالمنا  Empty
مُساهمةموضوع: رد: الفصل الثالث - أسس عالمنا    الفصل الثالث - أسس عالمنا  Emptyالثلاثاء 14 يونيو 2011 - 7:39

المعجزة الإغريقية

كان إغريق إيطاليا معرضين لضغط الإتروريين في القرن السادس ق.م، كما كان القرطاجيون مصدر خطر دائم على إغريق صقلية، ولكن هذين الخطرين قد أمكن صدهما، وعند بداية القرن الخامس صار الإغريق الشرقيون هم الذين يعانون الأمرين على أيدي جيرانهم. ولم يكن هذا بالأمر الجديد، فلطالما كانت مدن إيونيا الإغريقية عرضة للابتزاز والغزو من القوى الآسيوية. ولقد بدا الآن أن بر اليونان بات مهدداً هو الآخر، إذ ازداد احتكاك الإغريق والفرس ببعضهما في آسيا الصغرى مع غزو الفرس للممالك غير الإغريقية هناك، والذين اندفعوا عبر مضيق الدردنيل واحتلوا المدن الواقعة على ساحل تراقيا. وفي عام 499 ق.م ثار إغريق إيونيا على المطالب المفروضة عليهم، وأغضبهم بالأخص تدخل الفرس في شؤونهم الداخلية، ودعمهم للطغاة ضد رعاياهم. وقد نجحوا في ثروتهم لفترة من الزمن بفضل مساعدة بعض مدن بر اليونان، ولكنهم هزموا في النهاية، ثم قرر الفرس معاقبة إغريق بر اليونان على مساعدتهم للمتمردين.

فقام الفرس بغارة بحرية فاشلة، ثم أطلقوا أسطولاً آخر في عام 490 ق.م، وقد رسا الجيش الذي يحمله حسب الخطة المرسومة، إلا أن الأثينيين انتصروا عليهم في معركة ماراتون، حيث أثبتت قوات الهبليت المنظمة أنها قادرة على هزيمة جيش الفرس العظيم. ولكن الفرس عادوا بعد عشر سنوات، وقد جاءوا هذه المرة عن طريق البر، فراحوا يتقدمون على طول الساحل، ثم بنوا جسراً عظيماً من القوارب عند مضيق الدردنيل لكي يعبر عليه جيشهم إلى أوروبا، وتابعوا مسيرهم ببطء نحو الغرب والجنوب تحت حماية أسطولهم الذي كان يغطي ميسرتهم. واستلم الإسبرطيون عندئذٍ زعامة الدفاع عن الإغريق، وعند مضيق ترموبيل هزم الملك الإسبرطي ليونيداس مع 300 من جنوده، ولكنهم تركوا للمستقبل أسطورة خالدة من البطولة. ومابرح الفرس يتابعون تقدمهم، واضطر الإغريق للتخلي عن سهل الأتيك، فاحتلت أثينا وخربت، وانسحب الإغريق إلى كورنتس وجمعوا أسطولهم في خليج سلامينا. كان الخريف قد حل، وربما خاف ملك الفرس من الشتاء لأن شتاء اليونان قاسياً، فقرر أن يحسم الأمر ويهاجم سفن الإغريق. كان عددهم أكبر، ولكنه هذه الميزة ضاعت في المياه الضيقة حول جزيرة سلامينا، فحطم الإغريق أسطوله واضطر جيش الفرس للانسحاب عندما خسر دعم أسطوله وتموينه. وفي العام التالي 479 ق.م هزم الفرس في معركة بلاتيا، وفي اليوم نفسه أحرز الإغريق انتصاراً عظيماً آخر في ميكالي على الساحل الآسيوي، حيث أحرقوا أسطولاً فارسياً ثانياً، ورغم أن الحرب بقيت تجرجر أذيالها سنوات بعد ذلك، فقد كانت هذه الحقيقة نهاية خطر الفرس، وهي التي استهلت أعظم عصور تاريخ الإغريق.

وتم تحرير المدن الإيونية تحت زعامة الأثينيين، وقد اتسمت العقود التالية بنمو قوة أثينا، وخاصة في البحر، وأدى هذا الأمر إلى خوف بقية الدول منها، وبالأخص اسبرطة. ويبين الفرق بين أثينا واسبرطة مدى التباين الذي قد تبلغه إحدى دول المدن عن الأخرى. فقد كان تحكم اسبرطة ارستقراطية واسعة (حوالي 5000 رجل حسب كتاب القرن الخامس) بطريقة متقشفة جداً بل متزمتة، وكانت الرفاهية فيها ممنوعة، ولم يكن يحق للإسبرطيين أن يمتلكوا ذهباً ولا فضة. وكان دورهم ضئيلاً في حركة الاستيطان، فظلوا شعباً زراعياً يحتل أراضي جيرانه كلما احتاج إلى ذلك. ولم يكونوا أغنياء ولكنهم كانوا يحتفظون بجماعة كبيرة من عبيد الأرضي يسمون الهلّوت وكانوا يخشون ثوراتهم. وكانوا يفخرون بانتصاراتهم العسكرية، وكانت تقاليد الهبليت عندهم قوية بشكل خاص.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://resalahmasriyah.mam9.com
Eng. Ahmedzoubaa
Admin
Eng. Ahmedzoubaa


عدد المساهمات : 1216
تاريخ التسجيل : 28/08/2010
العمر : 50

الفصل الثالث - أسس عالمنا  Empty
مُساهمةموضوع: رد: الفصل الثالث - أسس عالمنا    الفصل الثالث - أسس عالمنا  Emptyالثلاثاء 14 يونيو 2011 - 7:40

سيادة أثينا

أما أثينا القرن الخامس، التي بنيت من جديد وعاد لها ازدهارها من بعد كارثة عام 480 ق.م، فقد كانت مدينة تجارية، وكانت حكومتها أكثر حكومات الدول الإغريقية ديمقراطية، إذ إن جميع القرارات كانت تتخذ عن طريق المجلس العام للمواطنين ولو أنهم لم يكونوا جميعاً قادرين على حضور الاجتماعات، ولا كانوا يشكلون أغلبية السكان، كما أن إدارييها كانوا يختارون عن طريق القرعة. وفي أعقاب الحروب مع الفرس أغرى الأثينيين أن يحاولوا تزعم بلاد اليونان، فشكلت عصبة من أجل دعم أسطول مشترك لمحاربة الفرس، لم ينضم إليها الإسبرطيون، كان أعضاؤها في البدء يساهمون بالسفن، ثم صاروا يدفعون المال للأثينيين بدلاً من ذلك من أجل بناء السفن وتزويدها بالرجال. وعندما بدأ أعضاء العصبة يشعرون أن خطر الفرس قد بات بعيداً رفضوا دفع ما يترتب عليهم، إلا أن الأثينيين أكرهوهم على ذلك. وحتى بعد عقد السلم في عام 449 ق.م استمرت هذه العصبة الديلية (سميت بهذا الاسم لأن قيادتها كانت أولاً في جزيرة ديلوس) وفي ذروتها كان هناك 150 دولة تدفع كلها الجزية لأثينا.

نادراً ما يحظى الغالبون بالشعبية، ولكن الأثينيين قد حظوا بالدعم والإعجاب بدلاً من العداوة، وكانوا ميالين إلى التدخل في الشؤون الداخلية للمدن الأخرى ودعم النظم الديمقراطية حيثما وجدت. إلا أن هذا الأمر لم يرق للمواطنين الأغنياء في المدن الأخرى، وكانوا هم الذين يدفعون الضرائب التي أضحت الآن جزية لأثينا. من ناحية أخرى كانت الأغلبية الفقيرة تحوز على دعم الأثينيين وكثيراً ما كان ذلك بالقوة، ولم يضرها أن يدفع الضرائب مواطنوها الأغنياء، ولا همها على ما يبدو المال المجتبى لم يعد يصرف على أسطول أثينا بل على تجميلها بالأبنية والصروح الفخمة. وقد كان إغريق القرن الخامس في العادة يعترفون لأثينا بالصدارة الثقافية وبأنها مثال لبقية اليونان. إلا أن العالم الإغريقي ما فتئ يزداد انقساماً، في أحد الجانبين وقفت دول ديمقراطية كثيرة تتطلع إلى زعامة أثينا، وقد ربط هذا الأمر الديمقراطية بالصراع ضد الفرس وبتفوق أسطول الأثينيين مثلما كان الإنكليز في القرن التاسع عشر يعتقدون أن انتشار الحضارة والحكم الدستوري عملية لا تنفصل عن البحرية الملكية التي تصون إمبراطوريتهم، بينما وقفت في الجانب الآخر الدول الأكثر أوليغرشية وأرستقراطية، والتي كانت حريصة على تجنب الصراع مع الفرس وتخشى زيادة امتداد قوة أثينا.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://resalahmasriyah.mam9.com
Eng. Ahmedzoubaa
Admin
Eng. Ahmedzoubaa


عدد المساهمات : 1216
تاريخ التسجيل : 28/08/2010
العمر : 50

الفصل الثالث - أسس عالمنا  Empty
مُساهمةموضوع: رد: الفصل الثالث - أسس عالمنا    الفصل الثالث - أسس عالمنا  Emptyالثلاثاء 14 يونيو 2011 - 7:40

الحياة في اليونان

صحيح أن إغريق القرن الخامس كانوا يعيشون تحت دساتير مختلفة، وأنهم كانوا يفكرون بالعالم بطرائق مختلفة جداً عن الرجال والنساء في الحضارات الأولى، إلا أن بعض الأشياء لم تتغير كثيراً منذ نهاية عصور الظلام، إننا قد ننسى أحياناً حتى اليوم الكثيرين من الناس هم فلاحون، وفي العالم الإغريقي كان أكثر الناس يحصلون معيشتهم من الأرض، حيث ظلت الزراعة شاقة وبدائية حتى مع ظهور الأدوات الحديدية. أما في مجال التصنيع، فلم يكن هناك إلا بضع مئات من الفخارين هم الذين يصنعون الأعمال التي اشتهرت أثينا بتصديرها. وكان أكبر معمل للتروس في المدينة يعتبر هائلاً لأن فيه 120 عاملاً. وكان هناك عدد قليل نسبياً من الحدادين والحجارين وصناع الدروع والمجوهرات وغيرها من الاختصاصات. لقد بقيت الزراعة عماد الاقتصاد، مثلما هي الحال اليوم في كثير من دول العالم، ولكنها لم تنتج ثروة كبيرة، ولو أن الزيتون والكرمة قد وسعا من إمكانياتها، لأن تربة اليونان ليست غنية في العادة، فظلت المحاصيل قليلة وضعيفة النوعية طوال الأزمنة الكلاسيكية. وكانت بقع الأرض صغيرة جداً ، فحتى الرجل الغني لم يملك إلا 20-30 هكتاراً من أراضي الحبوب والكرمة معاً كما يبين تصنيف لمواطني أثينا بحسب الثروة وضع في القرن السادس. وقد ظل الاتجاه العام هو تقسيم الأملاك مرة بعد الأخرى عند الميراث، وكان أكثر الرجال الأحرار من صغار الملاك بمقاييسنا. وقد اقتضى الاعتماد على الزراعة في أراض صغيرة أن تكون الحياة شاقة وبسيطة، فإنك حين تنظر إلى آثار اليونان العظمية مثل بناء البارثينون في أثينا أو المعابد الإغريقية الكثيرة الباقية فقد تشكل انطباعاً خاطئاً عن الحياة في اليونان القديمة، لأن هذه كانت أبنية عامة تمول بموارد جماعية، ولكن الحقيقة أن أكثر الإغريق كانوا يعيشون في بيوت صغيرة متواضعة ويأكلون طعاماً بسيطاً، ولم يكن لديهم عبيد ولا حتى خدم.

لم يكن الفرق الأساسي بين الناس في دولة المدينة هو الفرق بين الأغنياء والفقراء ولا بين الأحرار والعبيد، بل كان بين المواطنين وغير المواطنين. لقد كان هناك الكثير من الفقراء بين مواطني دولة ديمقراطية مثل أثينا، وكان تزايد فقر الفلاحين في أماكن كثيرة مشكلة تتكرر باستمرار، كما يبدو أن عدد الأحرار الذين لا يملكون أرضاً كان يزداد بمرور الزمن، وكانت أعداد الأجانب المقيمين تزداد حيث تزدهر التجارة، أحد التقديرات يقول أن حوالي أربعين بالمئة من سكان أثينا الذكور في القرن الخامس ق.م كانوا من غير المواطنين على اختلاف أنواعهم. إلا أن هذه المدينة تبقى حالة خاصة، فقد كانت أكثر اعتماداً على التجارة والصناعة من أكثر المدن، لذلك كانت فيها نسبة أعلى من الرجال الأثرياء، وكان بعضهم ينتمون للعائلات الأرستقراطية القديمة، ويعيش هؤلاء على الدخل الذي تؤمنه له أملاكهم وهذا ما يفسر استهجان الإغريق لكسب المال عن طريق ممارسة المهن أو التجارة. إلا أن طبقة الأثرياء هذه كانت تتسع عن طريق انضمام التجار الأغنياء إليها أيضاً، ولم يكن الغنى يعني الكثير قياساً إلى أنماط الاستهلاك الحديثة ولكنه كان على كل حال يجعل الحياة مختلفة اختلافاً كبيراً عن حياة الفلاحين.

الرق

هناك جماعة أخرى هامة من سكان دولة المدينة كان لها وضع قانوني خاص، هي جماعة العبيد. في الأزمنة البعيدة القدم كان المهزومون في الحرب يستعبدون أحياناً، ولكن الرجال كانوا يقتلون في العادة بينما يبقى على النساء للاستفادة منهن في أشغال البيت واستغلالهن جنسياً. وعدا عن حالة الحرب هذه، كان الإنسان يصير عبداً إما بحكم ولادته أو بحكم محكمة أو بأن يشترى من أحد أسواق الرق الكبيرة في آسيا الصغرى. لقد نما بين القرنين الخامس والرابع ق.م شعور أن استرقاق الإغريق للإغريق أمر ظالم وشاذ، ولكن بقي هناك عبيد إغريق بالرغم من ذلك. كان عدد العبيد في اليونان أقل منه في إمبراطوريات الشرق الكبيرة أو في الأزمنة الرومانية اللاحقة، وإن لهذا الأمر علاقة أساسية بصغر حجم الأراضي الزراعية في اليونان، فقد كان بإمكان المزارعين أن يدبروا معيشتهم بالاعتماد على أنفسهم وعلى عائلاتهم، ولم يكونوا قادرين على شراء عبد ولا على إطعامه، لأنه لا ينتج ما يقوم بأود نفسه. ولم تكن هناك أملاك كبيرة تعتمد على عمل العبيد، وكان أكثرهم يعيشون في المدن، حيث يؤدون أنواعاً مختلفة من الأعمال كخدم وحرفيين. وقد ذاعت شهرة أحدهم وهو القاص ايزوبس. يبدو أن ربع عدد سكان أثينا في القرن الخامس كانوا من العبيد، ولكن لم يكن هناك أي قطاع في الاقتصاد يعتمد عليهم اعتماداً مطلقاً، ماعدا مناجم الفضة التي كانت تملكها الدولة، وكان بعض العبيد لا يعملون في خدمة شخص واحد بصورة دائمة بل يستأجرون ضمن جماعات ويدفع لهم أجر مثل العمال الأحرار، وكانوا يعملون إلى جانبهم في الأشغال نفسها، وكان على العبد أن يعطي سيده جزءاً من أجره، ولكن وضعه لم يكن يختلف كثيراً من الناحية العملية عن وضع عامل حر فقير.

كان من الممكن تحرير العبيد، كما كان بإمكانهم شراء حريتهم، ولكن يبدو أن هذا الأمر لم يكن شائعاً. على كل حال ما كان وضعهم ليتحسن كثيراً إذا تحرروا ماداموا يعملون مقابل أجر. إننا لا نسمع عن ثورات العبيد ماعدا ثورات عبيد الأرض الهلوت في إسبرطة، وهي حالة خاصة، ولكن هذا الصمت لا يعني الكثير، إذ يبدو أن أكثر العبيد المنزليين لم يعاملوا معاملة سيئة، ولكنهم كذلك كانوا معرضين لظروف قاسية جداً في مناجم الفضة بسهل الأتيك. إلا أن هذا الأمر لم يكن يصدم الإغريق القدامى كما يصدمنا اليوم، والحقيقة أن كل الناس كانوا يعيشون حياة قاسية بالنسبة إلى معاييرنا الحديثة، ويبقى الشيء الذي يميز العبد هو أن هناك إنساناًً آخراً يملك عليه سلطة مطلقة.

المرأة في اليونان القديمة

كانت النساء الحرات أيضاً مستثنيات من المواطنة، وتشير بعد الأدلة إلى أن حياتهن كانت مقيدة ومحجوبة من نواح أخرى أيضاً، وإن اختلفت العادات من مكان لآخر. يبدو أن أكثر الإغريق كانوا يرون أن الفتيات الاسبرطيات يتمتعن بحرية زائدة، وكانوا يستهجنون ارتدائهن السراويل الصغيرة أثناء ممارستهن التمارين الرياضية مع الفتيان. أما في منزل غني بأثينا مثلاً فكانت النساء يعشن في قسم منفصل من البيت تقفل أبوابه أثناء الليل، وهذا يذكرنا بعزلة النساء في الحريم الشرقي، والهدف منه كان على الأرجح هو منع الرجال من الوصول إلى الخادمات، لأنهن إذا حملن أو ولدن فسوف تضعف فائدتهن في العمل، وسوف تصير في البيت أفواه جديدة لابد من إطعامها. ونحن نعلم أيضاً أن النساء المتزوجات المحترمات كن يرتدين الحجاب عند الخروج من المنزل عادة، ولا يغادرنه وحدهن، ولا يجوز أن يتكلمن مع أحد في الطريق. كان الإغريق يحبون الحفلات كما تدل أعمالهم الخزفية، ولكن يبدو أن جو حفلاتهم كان مختلفاً كل الاختلاف عن جو الاسترخاء الذي يجمع بين النساء والرجال من النبلاء في رسوم المدافن المصرية. وقد لا يقابل رجال الإغريق نساء أصدقائهم أبداً، وإذا قابلوا امرأة في حفلة ما فهي حتماً امرأة تحترف مهنة الترفيه وتسمى hetaera وقد بلغت بعضهن من الشهرة ما سمح لأسمائهن بالوصول إلينا، ولم يكنّ مجرد مومسات بل كنّ يجدن الغناء والمحادثة والرقص، ولكنهن لم يكن محترمات أبداً لأن مفاتنهن هذه كانت معروضة للبيع.

لم يكن خارج البيت نشاط متاح لسيدة إغريقية من عائلة كريمة، كان بإمكان النساء الفقيرات أن يعملن عند الناس، ولكن السيدة لا تستطيع ذلك. لم يكن أمام المرأة أن تصبح ممرضة أو ممثلة أو كاتبة أو أي شيء من ذلك لأن هذه المهن لم تكن متاحة للإناث. ويبدو أن الإغريق كانوا في العادة يعتبرون الفتيات غير جديرات بالتعليم، أما في البيت فكانت هناك أشغال كثيرة، إذ كن يغسلن الملابس ويصنعنها ابتداءً من غزل الخيوط ثم حياكتها لصنع النسيج، وقد كان تدبير أمور البيت شاقاً ومضنياً.

من أسباب قلة الحقوق القانونية للمرأة بالنسبة إلى الرجل في أثينا كمثال خاص، أن المجتمع الإغريقي مثل كل مجتمع قبل مجتمعنا ومثل القسم الأكبر من العالم اليوم، كان يهتم بالعائلة وليس بالفرد. لقد كان مجتمعاً أبوياً، ولم يكن بإمكان النساء أن يمتلكن أو يدرن أعمالاً، وكن دوماً تحت الوصاية القانونية لأزواجهن أو لأقرب أقاربهن الذكور.وإذا صارت المرأة الوريثة الوحيدة لأملاك أبيها فيحق لأقرب أقاربها الذكور بل يفرض عليه أن يطلب يدها من أجل ضمان بقاء الأملاك للعائلة. أما عدا عن هذه التفاصيل فمن الصعب أن نقول أشياء عامة حول النظرة إلى المرأة في اليونان، ومن أسباب ذلك أن الأدب لا يكاد يذكر شيئاً عن الحياة في المنزل، ولكننا نعلم أيضاً أن النساء كن يذهبن إلى المسرح في أثينا، ولابد أنهن كن يشاهدن ويستمعن إلى الشخصيات الأنثوية الكبرى في التراجيديا الإغريقية، مثل أنتيغون وإلكترا وجوكاستا، وميديا، وغيرها من الأدوار الأنثوية المتنوعة جداً ولا يمكن أن يفهمنها إذ كن مجرد شغالات هامشيات. كما أنك تجد على شواهد القبور والمزهريات صور زوجات وأمهات راحلات يودعن عائلاتهن ويوحي هذا الأمر بحنان عميق، ولا تجد ما يشير إلى الازدراء في معاملتهن، بأن تحجب وتعيش حياة معزولة. لقد كانت زوجة سقراط تناكده باستمرار وهي حتماً لم تتصرف بصورة خانعة، ولابد أن تكون هناك زوجات كثيرات مثلها في اليونان القديمة، ففي المحصلة يستحسن أن نكون حذرين حين حكمنا على مواقف الإغريق من المرأة. قال هوميروس: ”لاشيء أجمل من أن يعيش الرجل وزوجته معاً في وحدة حقيقية، وأن يشتركا بالأفكار نفسها”. وكان جميع الإغريق المتعلمون يقرؤون هذا الكلام.

عندما يكون أطفال الإغريق صغاراً كانت تربيهم أمهاتهم، أما إذا أريد للصبية أن يذهبوا إلى المدرسة، ولم تكن البنات يرسلن إليها قط، فإنهم يخرجون عن نطاق رعاية الأم في عمر مبكر، وكان التعليم متاحاً للصبية الإغريق إذا كانت عائلتهم قادرة على دفع تكاليفه، وكان يشدد تشديداً كبيراً على حفظ الأشياء عن ظهر قلب، فتسمع عن صبية حفظوا أعمال هوميروس كلها بهذه الطريقة، وكان الأدب والكتابة والموسيقى والجمباز تشكل الجزء الأكبر من منهاج الدراسة. كان الهدف هو صنع "الرجل الكلي" وإعطاؤه تعليماً شاملاً ومتوازناً يؤهله لأن يأخذ مكانه في دولة المدينة ويشارك في قيمها وأذواقها، ولم يكن الغرض من التعليم التدرب على مهارات خاصة، بل كان الإغريق يعتبرون هذا الأمر أجدر بالعبيد. ولم تكن هناك جامعات إلى أن ظهر ما يشبه الجامعة في أثينا في أواخر القرن الخامس، ولكن يبدو أن المستوى العام لمعرفة القراءة والكتابة كان عالياً جداً، إذا حكمنا على ذلك من استخدام لوحات الإعلان والنقوش العامة في أثينا.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://resalahmasriyah.mam9.com
Eng. Ahmedzoubaa
Admin
Eng. Ahmedzoubaa


عدد المساهمات : 1216
تاريخ التسجيل : 28/08/2010
العمر : 50

الفصل الثالث - أسس عالمنا  Empty
مُساهمةموضوع: رد: الفصل الثالث - أسس عالمنا    الفصل الثالث - أسس عالمنا  Emptyالثلاثاء 14 يونيو 2011 - 7:41

الفكر الإغريقي

لقد كانت قبضة العادات والتقاليد في اليونان محكمة وكان الإغريق متشبثين بها بقوة، إلا أنهم استطاعوا في هذه الأثناء أن يأتوا على حين غرة بدفق متتال من الإنجازات التي كانت مدهشة بجدتها، ومنذ ذلك الحين يتعجب الناس كيف حدث هذا، وقد سماها بعضهم ”المعجزة الإغريقية” لشدة ما أذهلتهم. لقد تم ذلك على امتداد فترة أطول من العصر الكلاسيكي العظيم نفسه، فخلال أربعمائة عام تقريباً اختراع الإغريق السياسة والفلسفة وقسطاً كبيراً من الحساب والهندسة. وأسماء هذه العلوم كلها في اللغة الإنكليزية أسماء يونانية الأصل*ومفاهيمهم عن الفن مازال الأوروبيون يقبلون بها حتى يومنا هذا تقريباً. وتدل هذه الخطوة العملاقة على مدى اختلاف الحضارة الإغريقية عن سابقاتها. لقد كانت أكثر إبداعاً منها بقدر كبير. وفي قلب هذا الإنجاز كانت الأهمية الجديدة التي أعطاها الإغريق للتحري العقلاني الواعي للعالم الذي يعيشون فيه، صحيح أن الكثيرين منهم ظلوا يؤمنون بالخرافات والسحر، ولكن لا يجوز لهذا الأمر أن ينسينا إنجازاتهم. إن طريق الإغريق في استخدام المنطق والحجة قد أعطت البشر سيطرة على العالم الذي يعيشون فيه أكبر من أي شعب قبلهم، ورغم أن أفكارهم لم تكن صحيحة دوماً، فإنهم كانوا يستنبطونها ويفحصونها بطرائق أفضل من أي طرائق سابقة. لقد ساهمت المعجزة الإغريقية مساهمة عظيمة في تطور طاقات العقل البشري، ولم يقم أحد قبلهم بمثل هذا المجهود المركز لمعالجة أعمق مشاكل الفكر والحياة، ولن يظهر مثله إلا بعد زمن طويل.

من الأمثلة البارزة على ذلك العلم، فقد كان العلم الإغريقي مختلفاً كل الاختلاف عن المحاولات السابقة لمقاربة العالم الطبيعي. ففي القرن السادس ق.م وضع عدد من المفكرين في إيونيا للمرة الأولى تفاسير لطريقة عمل الكون بصورة قوانين وقواعد متناسقة بدلاً من صورة الآلهة والشياطين. بيد أن الفيلسوف الإغريقي ديمقريطس قد توصل إلى فكرة أن المادة كلها مؤلفة من ذرات atoms وكانت تلك نظرية سابقة لأوانها بألفي سنة، ولكنها لم تنتشر. إن النظرية التي استمرت أيضاً نظرية إغريقية تقول إن المادة مؤلفة من أربعة عناصر هي التراب والماء والهواء والنار، التي ترتبط فيما بينها بطرق تختلف من مادة إلى أخرى. لقد كانت هذه النظرية أبعد عن الحقيقة من نظرية الذرات، ولكنها مع ذلك مكنت من استمرار التفكير في هذا الموضوع وسيرت العلم حتى القرن السابع عشر الميلادي تقريباً. وبالصورة نفسها بقيت تعاليم أبقراط أساس الطب حتى أزمنة حديثة جداً، وهو إغريقي من جزيرة كوس كان تلميذاً لديمقريطس، إن من الصعوبة بمكان أن تميز الحقيقة من الأسطورة في ما يروى عن أبقراط، ولكن من الواضح أن تعاليمه كانت البداية الحقيقية للدراسة العلمية لصحة الإنسان، عن طريق ملاحظة الأعراض وتأثيرات العلاج، وإعطاء توصيات معقولة حول الغذاء وفصل المعرفة عن الخرافة. ومازال قسم أبقراط الذي سمي على اسمه أساس الأخلاق الطبية في يومنا هذا.

بل إن الإغريق قدموا مساهمات أعظم حتى من تلك في مجال الرياضيات، وتبدأ هذه القصة أيضاً بعيداً عن بر اليونان. كان يعيش في كروتون بجنوب ايطاليا في القسم الثاني من القرن السادس ق.ن فيلسوف اسمه فيثاغورث، هو أول الذين استخدموا عملية الاستدلال أو الاستنتاج، أي تطبيق حجج منطقية محضة على المبادئ الأولى أو البديهيات. وكان هذا التطور هاماً لا لأنه أدى إلى تطور علمي الحساب والهندسة، بل أيضاً لأنه ساهم في جعل الناس يفكرون بصورة واضحة ودقيقة في مسائل غير المسائل الرياضية. ويعرف فيثاغورث أكثر ما يعرف بنظرية المثلث القائم الزاوية التي سميت على اسمه، مع أنها في الحقيقة تعود لتاريخ لاحق.

الفلسفة

من أشهر الإغريق الذين أصروا على أهمية الفكر الدقيق الصارم رجل أثيني هو سقراط الذي عاش في أواخر القرن الخامس. لم يؤلف سقراط كتباً ولا نعلم عنه إلى من خلال ما يخبرنا به أشخاص آخرون، ولكن أكثر الأشياء التي يعتقد أنه قالها وعلمها (ومن الجلي أنه كان واحداً من خير المعلمين قاطبة) مسجلة في سلسلة ”المحاورات” أو المحادثات التي دونها أعظم تلاميذه، الفيلسوف أفلاطون. مازال الناس مختلفين حول ما إذا كانت تلك التعاليم هي حقاً تعاليم سقراط أم أن أفلاطون هو الذي كتبها بنفسه، إلا أن رسالتها واضحة:” يقول سقراط إن أهم شيء ينبغي على الإنسان فعله هو أن يحاول معرفة كيف يمكنه أن يعيش حياة صالحة، وما هي الحياة الصالحة التي يجب على الإنسان أن يسعى لها؟ يجيب سقراط بأن السبيل الوحيد لمعرفة ذلك بصورة أكيدة هو الفحص الدقيق لمفاهيم مثل الخير والعدالة الحقيقية، أي باختصار أن نمحص القيم التي يعيش الناس بحسبها.

لقد قال سقراط أشياء كثيرة غير هذه، ولكن الناحية الأهم في تعاليمه هي اتجاهها العام وطريقته فيها وليس النتائج التي توصل إليها. ويبدو أنه كان يشكك في جميع الأشياء التي تعتبر بديهية. لقد مثل سقراط أخيراً للمحاكمة في أثينا عام 399 ق.م بتهمة نكران الآلهة التي تعترف بها الدولة، وإفساد الشباب عن طريق الدعوة لازدراء مؤسسات أثينا والسخرية من الديمقراطية والأخلاق العامة، خصوصاً وأنه ذكر فقرات من هوميروس بصورة مسيئة، وبأنه علم الشباب التمرد على والديهم. وربما كان وراء هذه التهم عداوة سياسية، ولكن لاريب أن محاكمته والحكم عليه قد تما بطريقة شرعية، وليست الديمقراطية بأكثر تسامحاً مع الآراء غير التقليدية من أشكال الحكم الأخرى، ثم أمر سقراط بالانتحار وقد انتحر فعلاً، ويبدو أنه كان يعتقد أن للدولة كل الحق في إدانته، وربما كان هذا دليلاً على الولاء الذي يمكن لدولة المدينة أن تستدعيه من خيرة مواطنيها. ومنذ ذلك الحين يظهر دوماً أشخاص يزعزعون شعورنا بالرضا عن طريق الشك بمعتقداتنا اليومية، وإظهار ضعفنا من خلال النظر إلى الأفكار المألوفة في ضوء جديد، لقد اتهم سقراط بالمبالغة في قوة المنطق وباستخدامه استخداماً سلبياً فحسب، إلا أن كشف الأخطاء وإزالة الأفكار الفاسدة خطوة ضرورية نحو اكتشاف الحقيقة. كانت تعاليمه مناهضة لتماسك البنى التقليدية، وكانت دولة المدينة في المحصلة ترتكز على افتراضات مطلقة لا تخضع للشك مثل جميع مؤسسات البشر.

وحاول أفلاطون بوحي من أفكار سقراط أن يذهب إلى أبعد من ذلك، فكان يعتقد أن العقل هو الذي يستطيع أن يعطينا اليقين بأن مفاهيم مثل العدالة والجمال والخير توجد وجوداً حقيقياً في عالم مؤلف من مُثل. وهو لا يقصد بذلك أنها توجد كما توجد الأفكار العادية في أذهاننا، بل إن هناك في مكان ما عالماً من الحقيقة الثابتة التي لا تتبدل وراء العالم المادي المتبدل. هذه الحقيقة يمكن للنفس الإنسانية بلوغها (وكان أفلاطون يميز النفس عن الجسد مثل سقراط) من خلال استخدام العقل، الذي يتألف هو نفسه من هذه الأفكار. ولم يكن أفلاطون يحترم طريقة سلوك أكثر الناس، وكان يزدري ديمقراطيي أثينا الذي حكموا على معلمه، إذ كان يعتقد أن أكثر الناس لن يستطيعوا أبداً عيش الحياة الصالحة التي يكشفها عالم " المثل” الحقيقي هذا. لقد كانت تعاليمه على درجة كبيرة من الأهمية، لأنها جعلت الناس يفكرون بالمشاكل على اختلاف أنواعها حتى يومنا هذا، وبالأخص لأنها أسست تقليداً هاماً في الفكر هو المذهب المثالي، أي الإيمان بوجود عالم أكثر حقيقة من عالم تجربتنا المادية، يمكن فهمه من خلال العقل وليس بعالم سحري مبهم لا يسبر غوره.

كان أعظم تلامذة أفلاطون هو أرسطو، كان أرسطو من تراقيا، وقد كتب في مواضيع كثيرة جداً، في البيولوجيا والفيزياء والرياضيات والمنطق والأدب وعلم النفس والأخلاق والسياسة، فوضع للمثقفين أساساً ظلوا يبنون عليه طوال ألفي عام، كما أنه حدد الأساليب الأساسية التي بقي الناس يفكرون بواسطتها في هذه المواضيع حتى أزمنة حديثة جداً. كان أرسطو مفكراً أقل تجريداً من أفلاطون، وكان يحب الحقائق والأفكار وتصنيفها من أجل أن يوضح القوانين العامة الكامنة وراءها، وكان على درجة عظيمة من الملاحظة، وربما كان تأثيره الإجمالي أوسع حتى من تأثير أفلاطون، ولو كان من شبه المستحيل أن يحكم الإنسان في أمر كهذا إلا أن الشيء الأكيد هو أن هذين الفيلسوفين الإغريقيين قد سيطرا على تاريخ الفكر العقلاني سيطرة مديدة لم تكتب لسواهما.

المؤرخون الأوائل

لقد قام الإغريق بخطوة عظيمة أخرى في ميدان الفكر في القرن الخامس ق.م هي اختراعهم لعلم التاريخ. كانت كلمة Istorie كلمة يونانية تعني التحري وإن أول رجل تحرى الأحداث عبر الزمن هو إغريقي من آسيا الصغرى يدعى هيرودوتس ويلقب أبا التاريخ. لقد سجل هيرودوتس نتائج تحرياته في أول عمل فني نثري مكتوب بلغة أوروبية، ويمكننا أن نترجم عنوان كتابه بكلمة ”أبحاث”، وهو سرد هائل للتفاعل بين اليونان وفارس يصل حتى نهاية الحرب مع الفرس. وهو في الحقيقة تاريخ للعالم أي عالم هيرودوتس*، ورغم أن فيه قصصاً مختلفة، إلا أنه مبني على دراسة جدية لشهادات وروايات أشخاص آخرين حول الأحداث. وكان خليفته هو الأثيني ثوقيديدس، الذي فاقه دقة في تحرياته، وقد جمعها في كتاب وضعه قرب نهاية القرن لكي يفسر الصراع الكبير الذي اندلع داخل العالم الإغريقي والمسمى حرب البيلوبونيز**. ولقد حاز ثوقيديدس على إعجاب أكبر من هيرودوتس لأنه حاول أن يفسر لماذا حدثت هذه الأشياء مثلما حاول أن يفسر كيف حدثت.

لقد دفع الإغريق قوة العقل والفكر في مجالات الفلسفة والعلم والرياضيات والتاريخ بأسرع من أي زمن مضى. كما أنهم ساهموا مساهمات عظيمة في الفنون، ومنها تأسيسهم للمسرح الأوروبي أو الغربي إذا شئنا. تعود جذور الدراما الإغريقية إلى الاحتفالات الدينية، خاصة احتفالات ديونيزوس إله الخمر. في تلك الاحتفالات كانت الأغاني تتلى من قبل الخورس، وفي القرن السادس أضيفت إليها خطابات يؤديها شخص منفرد، فظهر بذلك أول الممثلين. ومن هذه البدايات البسيطة حصلت تغيرات أخرى فيما بعد إلى أن كتبت في القرن الخامس ق.م سلسلة عظيمة من المسرحيات التراجيدية التي تشكل ( مع أعمال هوميروس) ذروة فن الأدب الإغريقي. ولم تكن هذه المسرحيات تؤدى إلا في مناسبات شبه دينية هي احتفالات المدينة التي تهم المواطنين جميعاً، وكانت تسرد في العادة قصصاً وأساطير مألوفة محبوك ضمنها مواضيع دينية وفوق الطبيعة. لقد قدمت في أثينا في القرن الخامس حوالي ثلاثمائة مسرحية تراجيدية لم يبق لنا منها إلى ثلاث وثلاثون للمؤلفين التراجيديين العظام اسخيلس، وسوفوكليس، وأوريبيدس. وكانت هذه المسرحيات تعطي المتفرجين نظرة جديدة إلى قصص قديمة ومألوفة، ربما لإظهار ناحية جديدة لم تكن في بالهم، ولو أن جوهر التراجيديا الأثينية قد ظل دوماً مشدداً على الأعمال الغامضة للقوانين التي تحكم حياة البشر والمصائر الحزينة التي تنتظر حتى ذوي الحظ السعيد منهم. وعدا عن التراجيديا كانت هناك مسرحيات كوميدية، فكان أرستوفانس وهو أيضاً أثيني أول كاتب كوميدي عظيم للمسرح، وكانت الكوميديا تتحول على أيامه من التهريج الفظ إلى وسيلة للتعليق على الحياة العامة، فقد سخر من سقراط مثلاً كما أنه كتب أول مسرحية عن تحرر المرأة هازئاً به، مثل أكثر الكتاب الذين تناولوا هذا الموضوع خلال الألفي سنة القادمتين.

أما من الميراث المادي للثقافة الإغريقية فقد بقيت أعمال عظيمة كثيرة في العمارة والنحت، وظلت زمناً طويلاً نماذج لأجيال المستقبل، ولكنه لم تكن في أيامها كما تبدو لنا اليوم، لأن الحجر والرخام يعمران طويلاً بعكس الدهان والخشب والقماش. فالآثار الجميلة في أكروبوليس أثينا مثلاً كانت مكتظة بالمقامات الصغيرة وكانت تماثيلها وأفاريزها مطلية بالألوان الصارخة. لقد استعار الإغريق في هندستهم الكثير من آسيا كما يبدو أنهم أخذوا العمود عن مصر، ولو أنهم قد طوروا فيما بعد أسلوباً خاصاً بهم، ويبدو أن أفكار تماثيلهم الأولى قد أتت هي أيضاً من مصر أو من الشرق ثم طوروها إلى أسلوب ذي أصالة حقيقية. وكان أعظم إنجازاتهم هو تصوير جسم الإنسان، فرويداً رويداً صارت الوضعيات المتيبسة والمتكررة التي تراها في التماثيل القديمة تتحول إلى وضعيات طبيعية وعفوية. ويبدو أن الإغريق كانوا مغرمين بإظهار كم يمكن للإنسان أن يكون بديعاً في الفكر والجسد معاً.




* Politics, Philosophy, arithmetic, geometry


* نشره المجمع الثقافي بأبو ظبي عام 2001، ترجمة عبد الإله الملاح


** نشره المجمع الثقافي في أبو ظبي 2003، ترجمه عمرو ولينا الملاح
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://resalahmasriyah.mam9.com
 
الفصل الثالث - أسس عالمنا
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 2انتقل الى الصفحة : 1, 2  الصفحة التالية
 مواضيع مماثلة
-
» الفصل الثالث عشر - الشوط الطويل
» الفصل الثامن - عصر الاكتشافات والمواجهة
» الفصل الحادي عشر - التسارع الكبير
» قصة يوسف عليه السلام-الجزء الثالث
» الفصل السابع - صنع أوروبا

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
رسالة مصرية ثقافية :: قسم العلوم التربوية والأدبية :: التاريخ العربي :: كتاب تاريخ العالم-
انتقل الى: