التاريخ القريب
يبدو أن التغير التاريخي يجري بشكل منحني تصاعدي، أي أنه يزداد حدة وتسارعاً بمرور الزمن، وليس النمو السريع في السيطرة على الطبيعة إلا علامة واحدة من علامات كثيرة، فإن السياسة أيضاً قد تغيرت بالسرعة نفسها، والقوى العظمى الأوروبية التي كانت قائمة في عام 1900 لم تعد أي منها اليوم قوة عظمى، ولم تبق منها إلا اثنتان مازالتا تحكمان ولو شكلياً كما كانت تحكمان في بداية القرن، وهما بريطانيا وفرنسا، والأولى ملكية دستورية والثانية جمهورية.
أما خارج أوروبا فإن الإمبراطوريات الاستعمارية التي كانت تبدو متينة وراسخة منذ مائة عام قبل ذلك، قد اختفت بين ليلة وضحاها في خمسينيات وستينيات القرن العشرين، ومن الصعب أن يميز المرء طريقه في هذه الصورة التاريخية الدائمة التغير، أو حتى أن يميز الحقائق الأساسية التي سببت تلك الانقلابات الكبيرة، ولاتبرز منها بوضوح إلا حقائق قليلة.
إحدى تلك الحقائق هي اكتمال عملية كانت قد بدأت قبل بضع مئات من السنين أي عملية تحول العالم كله أخيراً إلى عالم واحد حقاً، فقد جعلت التقنية السياسية والاقتصاد، ثم الثقافة أيضاً، من العالم عالماً واحداً، ولو أن الذين يدركون ذلك هم قلائل. ويدين هذا التحول بالكثير إلى سيطرة الشعوب ذات الأصول الأوروبية على الأرض كلها، ولكن هذه السيطرة قد انتهت من الناحيتين السياسية والعسكرية، إذ انهارت إمبراطوريات الأمس وصارت مثلها مثل نينوى وصور، بحسب تعبير رجل إنكليزي من أواخر العصر الفيكتوري إلا أن هذا الانهيار قد ترافق بنجاح فريد على الصعيد الثقافي، لأن العالم تبنى الكثير من الحضارة الأوروبية، وأن تأثيرها اليوم أوسع وأوضح من أي وقت مضى سواء أعلم غير الأوروبيين من أين أتت أم لم يعلموا، وهي سبب أساسي من أسباب هذا العالم الواحد الذي ذكرناه.
أما الحقيقة الثالثة الواضحة فهي العلم، فقد أصبح العلم تقريباً ديانة العصر، ويتوقع الجميع منه أن يأتي دوماً بالمعجزات، بل يستغربون إذا لم تحدث. لقد بدل العلم حياتنا، وكان له الدور الأكبر في جعل تاريخ هذا القرن تاريخاً دينامياً ومتسارعاً. وإن بعض الناس لاتبهجهم هذه الحقيقة بل ترعبهم، وهم يخشون أن يكون هذا التغير أسرع من قدرة البشرية بتقاليدها ومعايير سلوكها على التعامل معه من دون حصول كوارث.
ومن حسن حظ المؤرخين أن ليس عليهم أن يتنبؤوا بالمستقبل، بل لايجوز لهم أن يفعلوا ذلك، إذ أنهم لايعلمون إلا عن الماضي، والماضي مليء بالأمثلة عن التنبؤات الفاشلة، فالأحرى بهم إذاً أن يتحدثوا عن الأشياء التي حدثت. وأفضل مكان للبداية هو تلك التطورات والتيارات الممتدة خلال القرن الماضي والتي لم تتخللها إلا انقطاعات قليلة.