حدود الإسلام الأبعدكان قلب الإسلام دوماً هو شبه الجزيرة العربية والشرق الأدنى القديم الذي حكمه الخلفاء، أي البلاد الواقعة بين مصر في الغرب وجبال
هندوكوش وما وراء بحر قزوين في الشرق والشمال. ولكن الإسلام انتشر بعيداً خارج هذه المنطقة، لأنه كسب بعد الفتوحات أتباعاً جدد فانتقل بسرعة على طول ساحل أفريقيا إلى إسبانيا، بينما احتل عرب آخرون أجزاء من صقلية وبعض الجزر الأخرى في البحر المتوسط، ولو أن الفتوحات خارج أفريقيا لن تبقى بلاداً إسلامية إلى الأبد.
توسع الدولة الإسلامية
ثمة فرع من العائلة الأموية في إسبانيا لم يقبل قط بالإطاحة بخلافتهم، بل أسس فيها
إمارة أي مملكة مستقلة في عام 756 في قرطبة، وسوف يحكم هؤلاء طوال قرون جزءاً كبيراً من جنوب إسبانيا، حيث سيبلغ المجتمع الإسلامي من بعض النواحي ذرى جديدة في الثقافة والحضارة أعلى مما بلغه الشرق من قبله، كما أن إسبانيا العربية أصبحت في القرن العاشر مركزاً لخلافة جديدة منافسة للخلافة القديمة. ولكنها سرعان ما وجدت نفسها في موقع الدفاع عندما راحت الممالك المسيحية تضغط عليها إلى أن سقطت قرطبة بأيديهم في عام 1236م ، ثم استغرقت عملية استعادة المسيحيين لشبه الجزيرة بأكمله قرنين آخرين، وانهارت الحضارة الإسلامية البديعة في الأندلس أخيراً في القرن الخامس عشر.
وتأسست أيضاً خلافة جديدة أخرى في القرن العاشر في مصر، فكانت هذه علامة على التمزق السياسي في بلاد الإسلام المركزية التي لن تتحد بعد ذلك أبداً ولو أنها بقيت مسلمة، وفي هذه الأثناء تغلغل الإسلام إلى آسيا الوسطى والهند والسودان وحوض النيجر بين القرنين الثامن والثاني عشر، وحمله التجار العرب إلى شرق أفريقيا عن طريق الساحل، وإلى غربها بواسطة القوافل عبر الصحراء الكبرى، كما حملته قوارب
الدهو التجارية العربية عبر خليج
البنغال إلى ماليزيا وإندونيسيا. لقد فرض الفاتحون الإسلام على جزء كبير من الهند، وعندما استطاع مبشروهم أسلمة
المغول ضمنوا أن تصل ديانتهم في النهاية إلى الصين، إن قصة انتشار الإسلام هذه هي قصة مذهلة في نجاحها، ولكن نموه السريع قد جعل من المستحيل عليه الحفاظ على وحدة سياسية ولو مثل التي كانت له على عهد الخلفاء.
كما أنه تطور من نواح كثيرة خارج تعاليم الرسول، وأصبح باختصار قلب حضارة معقدة ومتنوعة تشكل تحدياً دائماً للتقاليد الأخرى، وقادرة في الوقت نفسه على التفاعل الغني معها.
عصر بيزنطة الكبير: صنع أوروبا السلافيةسوف تكون بيزنطة درعاً تاريخياً للمسيحية الغربية لأنها حمتها من الفرس أولاً ثم حمتها لزمن طويل من خطر أكبر بكثير هو الإسلام، عدا عن الموجات المستمرة من الشعوب البربرية في الشمال، فقط ظلت الإمبراطورية الشرقية متراساً للعالم الإغريقي الروماني القديم في المتوسط، حتى بعد أن طوقها المسلمون بفتحهم شمال أفريقيا وإسبانيا ولم تزل في النهاية إلا بعد أن عاشت ألف سنة. إلا أن الرياح كانت مؤاتية للإسلام منذ القرن السابع عندما فقدت الإمبراطورية الشرقية كل الأراضي التي كانت قد استردتها من الفرس، بل إن الجيوش العربية حاصرت القسطنطينية نفسها طوال خمس سنوات 673-678 م وفي تلك الأثناء اجتاحت القبائل المسماة قبائل السلاف كلاً من
تراقيا ومقدونيا، بينما عبرت قبائل
البلغار نهر الدانوب.
وفي عام 717 م ارتقى العرش إمبراطور من الأناضول هو
ليون الثالث، وكانت هذه علامة على وصول التأثير الشرقي إلى قمة الإمبراطورية. كان
ليون على درجة عالية من الكفاءة، إذ تمكن من استعادة جزء كبير من أراضي الإمبراطورية السابقة كما ثبت هو وابنه الحدود بين الإمبراطورية والخلافة، فاستعادت الإمبراطورية إقليم الأناضول وأحكمت قبضتها عليه رغم حصول المناوشات والغارات. وكانت قد عقدت حلفاً هاماً مع شعب بدوي ثبت قدميه في جنوب روسيا هو شعب
الخزر. كان شعب
الخزر بمثابة حاجز للإمبراطورية أمام تقدم الإسلام من تلك الناحية، أما في الغرب فكان نفوذ الإمبراطورية ضعيفاً لأنها ضيعت
رافينا ولم يبق لها إلا مواطئ أقدام صغيرة في إيطاليا وصقلية، ولو أن
ليون أعاد نفوذ بيزنطة إلى أطراف البلقان حيث ستتمكن الإمبراطورية من احتواء خطر البلغار فيما بعد، وكانت الفترة الممتدة حتى القرن الحادي عشر بالإجمال فترة نجاح وتعافي، فقد استعادت كلاً من قبرص واليونان وأنطاكية واستمر الصراع لاسترجاع شمال سوريا، ورغم حدوث مشاكل داخلية في السلالة وخلافات دينية استطاعت بيزنطة أن تلعب دورها كقوة كبرى، وقبل أن تحل الأزمة العالمية القادمة كانت قد أنجزت دوراً تاريخياً عالمياً آخر هو صنع
السلافية المسيحية. لقد نصرت بيزنطة الشعوب
السلافية ومن خلال هذه العملية منحتهم الحضارة أيضاً، وربما كان إنجازها المضاعف هذا هو أطول الأشياء التي خلفتها عمراً، إذ لولا تنصر الشعوب
السلافية لتغير العالم كثيراً.
الشعوب السلافية (الصقالبة)
مازال الخلاف قائماً حول المكان الذي نشأ منه السلاف في الأساس، وتشكل كثير من الأراضي السلافية خاصة في روسيا جزءاً من الامتداد الواسع الذي تلتقي فيه أوروبا بآسيا، وكانت الشعوب البدوية تنتقل عبرها طوال ألوف السنين، ومنها اندفعت هجرات الشعوب الكبرى المرة تلو المرة. لقد تمكن السلاف من التمسك بأراضيهم التي تقابل بولندا وروسيا الحاليتين رغم تعرضهم لمضايقة السقيتيين والأفار والقوط والهون، وبين القرنين الخامس والسابع كانوا قد ثبتوا أقدامهم على الطرفين الشرقي والغربي لجبال الكربات، وبدؤوا بالتحرك جنوباً بتأثير ضغوط تشبه الضغوط التي دفعت هجرات الشعوب الأخرى، وفي القرن السابع كانت تحميهم في الطرف الشرقي إلى حد ما شعوب أخرى استقرت هناك.
وانتشرت قبائل السلاف في البلقان رويداً رويداً، إلا أن أول مملكة سلافية نشأت هي مملكة البلغار، وهم ليسوا بسلافيي الأصل، بل كانوا على الأرجح من الهون ثم صاروا سلافاً عن طريق اتصالهم بالسلافيين وتزاوجهم معهم. ولكن يمكننا أن نعتبر أن مملكتهم هذه كانت سلافية عندما اعترفت بيزنطة بوجودها في عام 716 م، وكان شعبها عندئذٍ قد تبنى أساليب سلافية كثيرة. وسوف يصبح البلغار مصدر متاعب كثيرة للإمبراطورية، فقد احتلوا أراضي كانت بالأصل لها، كما أنهم وصلوا بغاراتهم حتى القسطنطينية نفسها جنوباً، وكان المجهود اللازم لصدهم يعيق دوماً جهود بيزنطة في استعادة مكانتها في الغرب. ويعرف أحد الأباطرة بلقب ”قاتل البلغار”، ولكن البلغار تمكنوا في بداية القرن التاسع من قتل إمبراطور آخر في ساحة المعركة، فكان هذا أول إمبراطور يقتل بأسلحة البرابرة منذ خمسمائة عام، وقد صنعوا من جمجمته كأساً لملكهم.
وأرسلت بيزنطة للبلغار مبشرين كانوا يمزجون الدبلوماسية بالتنصير، وأهمهم رجلا كنيسة عظيمان في القرن التاسع هما الراهبان القديسان كيرلس وميثوديوس. ومازال اسم كيرلس حياً في الأبجدية التي ابتكرها من أجل اللغات السلافية، وهي الأبجدية الكيرلسية المشتقة من الأبجدية اليونانية، والتي مازالت نسخ مبسطة منها تستخدم في صربيا وبلغاريا وروسيا. ثم جاء ملك بلغاري أو قيصر كما كان يسميه البيزنطيون، وقبل المعمودية المسيحية، ولم تكن هذه نهاية الصراع بعد ولكنها كانت خطوة هامة، وقد سمى أحد ملوك البلغار في القرن العاشر نفسه إمبراطور الرومان وهاجم القسطنطينية ولكن بلا جدوى، وأخيراً وفي عام 1014 تمكن البيزنطيون من ضرب البلغار ضربة قاضية أركعتهم، وفقأ الإمبراطور الذي هزمهم عيون 15.000 من سجنائه البلغار وأرسلهم إلى وطنهم ليكونوا عبرة لأهل بلدهم، فمات حاكم البلغار آنذاك ربما من هول الصدمة، وسرعان ما أضحت بلغاريا مقاطعة بيزنطية.