رسالة مصرية ثقافية
مرحبا بك أخي الزائر نشكر زيارتك ونتمني انضمامك للمنتدي
زيارتك تسر إدارة المنتدي ومشاركتكك تسعدنا وتساهم معنا بارتفاع الثقافة العامة
بعض المنتديات الفرعية والموضوعات
لا يمكنك الإطلاع عليها إلا بعد التسجيل كعضو في المنتدي
رسالة مصرية ثقافية
مرحبا بك أخي الزائر نشكر زيارتك ونتمني انضمامك للمنتدي
زيارتك تسر إدارة المنتدي ومشاركتكك تسعدنا وتساهم معنا بارتفاع الثقافة العامة
بعض المنتديات الفرعية والموضوعات
لا يمكنك الإطلاع عليها إلا بعد التسجيل كعضو في المنتدي
رسالة مصرية ثقافية
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

رسالة مصرية ثقافية

ثقافية - علمية - دينية - تربوية
 
الرئيسيةرسالة مصريةأحدث الصورالتسجيلدخول

 

 الفصل الثاني - أولى الحضارات

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
Eng. Ahmedzoubaa
Admin
Eng. Ahmedzoubaa


عدد المساهمات : 1216
تاريخ التسجيل : 28/08/2010
العمر : 50

الفصل الثاني - أولى الحضارات Empty
مُساهمةموضوع: الفصل الثاني - أولى الحضارات   الفصل الثاني - أولى الحضارات Emptyالثلاثاء 14 يونيو 2011 - 7:20

الحضارات الأولى

بزغت الحضارات الأولى بين عامي 3500 ق.م و 500 ق.م، واستهلت العصر الذي صارت فيه كل التغيرات الهامة في حياة البشر من صنع الإنسان نفسه. وفيها يمكننا البحث عن أسس عالمنا نحن، لأنها مازالت تحدد جزءاً كبيراً من الخريطة الثقافية للعام حتى اليوم. لقد كانت تلك الحضارات نتيجة امتزاج مهارات البشر وعوامل الطبيعة بأشكال معينة، فأعطت كل حالة مستوى جديداً من الحياة المبنية على استغلال الطبيعة. صحيح إن أبكر الحضارات قد ظهرت كلها خلال بضعة آلاف من السنين، وهي تكاد تكون لحظة صغيرة أمام حقبة ما قبل التاريخ المديدة، ولكنها لم تظهر على نحو متزامن، ولا كانت على نفس الدرجة من النجاح، فقد اندفعت بعضها إلى الأمام فأحرزت إنجازات دائمة، بينما تقهقرت بعضها الأخرى أو اختفت، ولو من بعد ازدهار مذهل. إلا أنها جميعاً قد أظهرت ازدياداً حاداً في سرعة التغير ومستواه بالقياس إلى أي من إنجازات الأزمنة الأبكر.

يبدأ تسلسل الأمور بشكل تقريبي في حوالي عام 3500 ق.م في بلاد الرافدين، عندما ظهرت للعيان أول حضارة يعترف بها، وظهرت الحياة المتحضرة في مصر في تاريخ لاحق ولكنه باكر أيضاً، ربما في حوالي 3100 ق.م، ثم نجد في جزيرة كريت بحلول عام 2000 ق.م تقريباً معلماً آخر هو الحضارة التي تسمى الحضارة المينوية. ومنذ ذلك الحين يمكننا تجاهل الأسبقيات في شرق المتوسط والشرق الأدنى، لأن المنطقة أمست مكونة من مركب حضارات متداخلة ومتبادلة في التأثير. في تلك الأثناء، ربما بحلول عام 2500 ق.م ، كانت الحضارة قد نشأت في الهند، أما حضارة الصين فتبدأ بعدها في نحو منتصف الألف الثانية ق.م، وهي حالة منعزلة تدل على أن التفاعل قد لا يكون بالضرورة عاملاً هاماً في تفسير ما يحدث. ومنذ ذلك الحين لم تظهر حضارات من دون تحفيز خارجي أو صدمة أو ميراث من حضارات أخرى نضجت قبلها، إلا في أمريكا الوسطى والجنوبية.

ليس من السهل أن نجد أموراً مشتركة بين الحضارات الأولى عدا عن اعتمادها الكامل على الزراعة المحلية، وإنجازها الكتابة، وتنظيمها المجتمع على مستوى جديد في المدن. وحتى إذا كانت تقنيتها متقدمة بالقياس إلى تقنيات أسلافها غير المتحضرين، فإن مصادر الطاقة فيها مازالت قوة عضلات الحيوان والإنسان التي كانت تستخدمها لتلبية أغراضها المادية. وقد ظل شكل تلك الحضارات وتطورها يتحددان إلى درجة كبيرة ببيئتها، ولكن بدأت تقضم قيود الجغرافية وتزداد قدرة على استغلالها والتغلب عليها. إن تيارات الرياح والمياه التي كانت توجه السفر البحري الباكر مازالت اليوم هي هي، وحتى في الألف الثانية ق.م كان الناس يتعلمون تسخيرها لمنفعتهم، لذلك كانت إمكانيات التبادل والتفاعل بين البشر منذ زمن باكر جداً أوسع بكثير منها في الأزمنة قبل التاريخية.

الفصل الثاني - أولى الحضارات Chp2-1

طرق التجارة القديمة في الشرق الأدنى
بعض معالم التطور الزراعي في الحضارات الباكرة



8000-5000 ق.م زراعة أنواع مدجنة من القمح والشعير، تدجين الغنم والماعز والبقر في جنوب غرب آسيا والأناضول واليونان وفارس وحوض بحر قزوين، انتقال تقنيات الزراعة والحصاد من آسيا الصغرى إلى أوروبا، زراعة الدخن –الجاورس- في الصين.

3400-3100 ق.م استخدام الكتان لصنع الأنسجة في مصر، وأول دليل على الحراثة وتقليب الأرض وتسميدها فيها.

3000 ق.م الحمير تستخدم للحمل في مصر، السومريون يزرعون الشعير والقمح والتمر والكتان والتفاح والخوخ والبرقوق والعنب.

2900 ق.م تدجين الخنازير في شرق آسيا

2540 ق.م تعتبر بداية صناعة الحرير في الصين

2500 ق.م الأفيال المدجنة في وادي نهر الهندوس، البطاطا تزرع في البيرو.

2350 ق.م صناعة الخمر في مصر

1600 ق.م زراعة الكرمة والزيتون في كريت

1500-1300 ق.م الشادوف يستخدم للري في مصر، وأدلة على قنوات الماء فيها.

1400 ق.م المحاريث الحديدية تستخدم في الهند

1200ق.م الجمال المدجنة في الجزيرة العربية



لا يجوز إذاً أن نجزم في أصول الحضارات أو أسباب نشوئها أصلاً، لأن الحضارة لم تظهر بطريقة واحدة. لا ريب أنها كانت تنتج عادة من تضافر عدد من العوامل التي تؤهب منطقة معينة لإعطاء شيء معقد يعترف به بعد كحضارة، ولكننا لا نعلم ما هي العوامل التي تسرّع هذه العملية أو تطلقها. لقد كانت البيئات والتأثيرات الخارجية والمواريث الثقافية تختلف من مكان لآخر، لذلك لم يكن تطور البشرية بالسرعة نفسها ولا نحو النتائج نفسها في كل مكان. إن البيئة الجغرافية المناسبة هي عامل أساسي، ولكن للثقافة أهميتها أيضاً. لقد كان على الشعوب أن تستغل بيئاتها وأن تواجه التحديات، ومن الواضح أن وديان الأنهار كما في بلاد الرافدين ووادي الهندوس والصين ومصر كانت بيئات ملائمة، لأن أراضيها كانت غنية وسهلة الزراعة وقادرة على إطعام جماعات كثيفة من الفلاحين في قرى سوف تنمو لتشكل المدن الأولى. إلا أن الحضارات قد ظهرت أيضاً في بيئات مختلفة جداً، مثل ميزو- أمريكا* وكريت المينوية واليونان، ونحن نعلم عن وجود تأثيرات خارجية هامة في الحالتين الأخيرتين، ولكن مصر ووادي الهندوس أيضاً كانا على اتصال ببلاد الرافدين منذ زمن بعيد جداً. وقد تكون الاتصالات الخارجية هامة حتى في حالة الصين، ولو بدت منعزلة عن العالم الخارجي تقريباً للوهلة الأولى. كان الناس في السابق يقولون في البحث عن مصدر مركزي واحد للحضارة أتت منه جميع الحضارات الأخرى، ولكن هناك حالة الحضارات المنعزلة في القارتين الأمريكيتين التي يصعب تفسيرها بهذه النظرية، كما أنه من الصعب جداً أن نضع تسلسل هذا الانتشار المفترض بشكل يتفق مع تحسن معلوماتنا عن التواريخ القديمة بفضل استخدام طريقة الكربون المشع.

الحقيقة أن تمييز الحضارات الباكرة بعد ظهورها أسهل من معرفة طريقة نشوئها، ولا يمكننا إعطاء أحكام مطلقة تنطبق على نشوئها جميعاً. إننا نطلق كلمة حضارة على تفاعل البشر بطريقة خلاقة جداً، عندما تتراكم كمية حاسمة من القدرة الثقافية والموارد المادية، فتتحرر طاقات البشر على التطور الذي يسير عندئذٍ بقوته الذاتية. تضم الحضارة الجهود المشتركة لأعداد أكبر من الناس، وذلك بضمهم معاً في تجمعات أكبر، وإن كلمة حضارة civilization مرتبطة بكلمة لاتينية تعني المدينة city، وقد قدمت المدينة أكثر من أية مؤسسة أخرى ذلك التجمع الكبير والحاسم من البشر، ودعمت الإبداع بأكثر من أية بيئة أخرى، حتى الآن، ففي المدن الأولى استخدمت الثروة الناتجة عن الزراعة لإعالة طبقات الكهنة، التي طورت بنى دينية معقدة، وشجعت على تشييد أبنية كبرى لها وظائف أوسع من دورها الاقتصادي، وبهذا خصصت موارد أكبر بكثير من الأزمنة السابقة لأغراض غير الاستهلاك المباشر. ومع ظهور الكتابة تركز تخزين الأعمال والخبرات، وباتت هذه الثقافة المتراكمة بالتدريج أداة أكثر فأكثر فعالية في تغيير العالم.

مع قدوم الحضارة ازداد تباين الشعوب بعضها عن بعض سرعة في أصقاع العالم المختلفة. إن أوضح حقيقة حول الحضارات الباكرة هي التنوع المدهش بين أساليبها المختلفة، ولكننا نغفل هذه الحقيقة في العادة بسبب وضوحها الكبير. لقد سبب قدوم الحضارة تبايناً متزايداً وسريعاً في الملابس والعمارة والتقنية والسلوك والأفكار والأعراف الاجتماعية. ولا ريب أن حقبة ما قبل التاريخ قد أعطت مجتمعات تختلف فيما بينها في أنماط الحياة والعادات والذهنية عدا عن صفاتها الجسمانية المختلفة، إلا أن غياب الثروة والتقنية المتخصصة في ذلك الحين قد حد من درجة الاختلاف. أما مع الحضارات الأولى فيصبح التمايز أوضح بكثير، وهو نتيجة للطاقة الخلاقة للحضارة نفسها. ومنذ الحضارات الأولى حتى يومنا هذا توجد في الوقت نفسه نماذج متباينة من المجتمعات البشرية التي تؤثر إحداها في الأخرى وتخصبها، سواء كان ما تعرفه إحداها عن الأخرى كثيراً أو قليلاً. إن جزءاً كبيراً من هذه القدرة الجديدة عصي على الكشف اليوم، لأن معلوماتنا زهيدة جداً عن حياة الفكر في المراحل الأولى من الحضارة، إلا ما يتعلق منها بالمؤسسات حسبما نفهمها والرموز المقصودة، والإشارات غير المقصودة في الفن والأفكار المجسدة في الأدب.






* الجزء المتحضر من المكسيك وأمريكا الوسطى، قبل زمن الإسبان ( الموسوعة البريطانية).


عدل سابقا من قبل Admin-ahmed في الثلاثاء 14 يونيو 2011 - 7:28 عدل 1 مرات
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://resalahmasriyah.mam9.com
Eng. Ahmedzoubaa
Admin
Eng. Ahmedzoubaa


عدد المساهمات : 1216
تاريخ التسجيل : 28/08/2010
العمر : 50

الفصل الثاني - أولى الحضارات Empty
مُساهمةموضوع: رد: الفصل الثاني - أولى الحضارات   الفصل الثاني - أولى الحضارات Emptyالثلاثاء 14 يونيو 2011 - 7:21

تفاعل الثقافات في الهلال الخصيب

يظهر هذا التفاعل المتبادل بين الثقافات المختلفة واضحاً للمرة الأولى في الشرق الأدنى، فقد تعرضت هذه المنطقة لاضطراب عظيم بسبب قدوم عروق مختلفة إليها ورحليها

عنها طوال ثلاثة أو أربعة آلاف سنة، فأغنتها ومزقتها في الوقت نفسه. وسوف يصبح الهلال الخصيب في الجزء الأكبر من الأزمنة التاريخية بوتقة عظيمة للثقافات، ومنطقة للاستيطان والعبور أيضاً، تدفق الناس عبرها يتبادلون الأفكار والمؤسسات واللغات والمعتقدات، التي مازال الكثير منها يؤثر فيها اليوم.

كان السبب الأساسي لترحال الشعوب هو على الأرجح زيادة عدد السكان في مواطنها الأصلية، إلا أن عدد سكان العالم في نحو عام 4000 ق.م قد قدر بثمانين إلى تسعين مليوناً فقط، وسوف يزداد خلال الأربعة آلاف سنة التالية بمعدل خمسين بالمئة ليصبح مئة وثلاثين مليوناً تقريباً. إن معدل هذه الزيادة ضئيل جداً بالقياس إلى الأزمنة اللاحقة، وهو يدل على البطء النسبي في تزايد قدرة البشر على استغلال العالم الطبيعي، ولكنه في الوقت نفسه انقطاع ديموغرافي هائل يميز هذه الحقبة عن الأزمنة قبل التاريخية. كان هذا التزايد يعتمد على هامش ضئيل جداً من الموارد، فقد كان بإمكان الجفاف والقحط أن يدمرا موارد الغذاء في منطقة ما بصورة حادة ومفاجئة، ولابد أن يؤدي هذا إلى خطر المجاعة، وهي واحدة من القوى الأولى المحركة للتاريخ الباكر. فطوال آلاف السنين لم يكن بالإمكان نقل الغذاء إلا بواسطة الحيوان، لذلك كان الجفاف أو العواصف المدمرة أو حتى ارتفاع الحرارة أو انخفاضها لسنوات قليلة تجبر الشعوب على الترحال، فتدفع التقاليد المختلفة بعضها إلى بعض، فتتصادم وتتعاون وتتعلم إحداها من الأخرى، وتزداد بذلك غنى وقدرة على التطور.

يمكننا تمييز شعوب أزمنة الحضارة الباكرة في الهلال الخصيب من خلال الفروق اللغوية فيما بينها. وتنتمي تلك الشعوب كلها إلى واحدة من مجموعات أربع: مجموعة نشأت في أفريقيا إلى الشمال والشمال الشرقي من الصحراء الكبرى تسمى الحاميةثم مجموعة ”الساميين الذين نشأوا في شبه الجزيرة العربية، ومجموعة ”الهنود الأوروبيينالذين نشأوا في جنوب روسيا وانتشروا بحلول عام 4000 ق.م أيضاً إلى أوروبا وإيران، وأخيراً المجموعة التي يمكن أن نسميها ” قوقازيةوأصلها من جورجيا ومنطقة القوقاز. ويبدو أن الجزء الأكبر من الهلال الخصيب كانت تسكنه مجموعة من القوقازيين هذه في حوالي عام 4000 ق.م، وهم الأبطال الأساسيين للقصة في أبكر تاريخ للشرق الأدنى. ولكن الشعوب السامية أيضاً كانت قد بدأت بالتغلغل في المنطقة في ذلك الحين، وفي منتصف الألف الثالثة ق.م كانت قد ثبتت أقدامها وسط بلاد الرافدين على امتداد الألسنة الوسطى لنهري دجلة والفرات. لقد تمكن القوقازيون من التمسك بالمرتفعات المحيطة ببلاد الرافدين في الشمال الغربي، وكان التفاعل والتنافس بين الشعوب السامية والقوقازية موضوعاً مستمراً في التاريخ الباكر لهذه المنطقة. بحلول العام 2000 ق.م كانت قد دخلت المسرح شعوب أخرى تشكل لغاتها جزءاً مما يسمى المجموعة ” الهندية الأوروبية”. من هذه الشعوب الشعب الحثي الذي اندفع إلى الأناضول قادماً من أوروبا، بينما كان شعب هندي أوروبي آخر هو الشعب الإيراني يدخل الشرق. وبين عامي 2000 ق.م و 1500 ق.م تنازعت واختلطت فروع من هاتين المجموعتين مع الشعوب السامية والقوقازية في الهلال الخصيب نفسه، بينما يكمن التفاعل بين الحاميين والساميين وراء قسم كبير من التاريخ السياسي لمصر القديمة. إن هذا السيناريو المشوش هو بالطبع عام للغاية وتفاصيله غير أكيدة، ولكن بالرغم من هذا تبقى هجرات الشعوب ضمن هذا النمط العام هي الخلفية التي ظهرت عليها الحضارة الأولى وازدهرت، مهما كانت طبيعة تلك الهجرات وأسبابها.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://resalahmasriyah.mam9.com
Eng. Ahmedzoubaa
Admin
Eng. Ahmedzoubaa


عدد المساهمات : 1216
تاريخ التسجيل : 28/08/2010
العمر : 50

الفصل الثاني - أولى الحضارات Empty
مُساهمةموضوع: رد: الفصل الثاني - أولى الحضارات   الفصل الثاني - أولى الحضارات Emptyالثلاثاء 14 يونيو 2011 - 7:22

سومر

لقد ظهرت تلك الحضارة الأولى في القسم الجنوبي من بلاد الرافدين، أي في أرض العراق الحالية، فعلى هذه الأرض التي يبلغ طولها 700 ميل*، والتي يشكلها واديا نهري دجلة والفرات، كان الناس يعيشون

منذ زمن طويل. وقد صارت في الأزمنة النيوليتية مكتظة بالقرى الزراعية، ويبدو أن أقدم المستوطنات كانت في أقصى الجنوب. كان الساحل الجنوبي لبلاد الرافدين أعلى بنحو 100 ميل* إلى الشمال مما هو عليه اليوم، وبفضل قرون طويلة من تصريف مياه النهرين الكبيرين من الداخل وفيضاناتهما السنوية تراكمت تربة على درجة عظيمة من الخصب في المناطق المحيطة بالدلتا. وكانت المحاصيل تنمو بيسر إذا ما توفر الماء بشكل مستمر وآمن، وكان هذا الأمر ممكناً في العادة لأن قاع النهر كان أحياناً أعلى من مستوى الأرض المجاورة، أما المطر فقد كان شحيحاً وغير منتظم. وقد ظهرت هنا في زمان باكر إمكانية زراعة كمية تزيد من حاجة الاستهلاك اليومي، وهذا الفائض هو الذي سمح بظهور حياة المدن، كما كان صيد السمك من البحر المجاور ممكناً أيضاً.

كانت هذه البيئة تحدياً وفرصة في الوقت نفسه، لأن دجلة والفرات قد يغيران أحياناً مجراهما بشكل مفاجئ وعنيف، لذلك كان من الضروري تدبير أرض الدلتا المستنقعية الواطئة عن طريق تكويم السدود وحفر الأقنية من أجل تصريف المياه. كانت تصنع منصات من القصب والطين لتبنى عليها أول المساكن في بلاد الرافدين، وقد بقيت تلك التقنيات مستخدمة حتى هذا القرن*. وكانت الرقع الصغيرة المزروعة من الأرض تتجمع حيث تكون التربة في أخصب حالاتها، ولم يكن بالإمكان تدبير أمور تصريف المياه والري اللازمة إلا بشكل جماعي. لقد اضطرهم هذا بلا ريب إلى التنظيم الاجتماعي من أجل استصلاح الأراضي، ومعه ظهر نوع من السلطة المشروعة. وكيفما حدث ذلك فإن استصلاح الأراضي من المستنقعات المائية في سومر كان أول إنجاز من نوعه على ما يبدو، ولابد أن يكون قد دفع إلى درجة جديدة من التعقيد في طريقة عيش أهل بلاد الرافدين معاً.

الفصل الثاني - أولى الحضارات Chp2-2

الدولة السومرية والدولة الأكادية

ومع زيادة أعدادهم صاروا يأخذون مساحات أكبر من الأرض من أجل الزراعة، وعاجلاً أو آجلاً سوف يتواجه سكان القرى المختلفة بسبب الحاجة لاستصلاح المستنقعات التي تفصل بينهم، بل وربما كانوا على اتصال مع بعضهم البعض قبل ذلك بسبب حاجات الري المختلفة، وقد كان أمامهم أحد خيارين: إما الاقتتال أو التعاون؛ وفي مرحلة ما من هذا التطور بات من المنطقي أن ينضم الناس بعضهم إلى بعض في مجموعات أكبر من أجل حماية أنفسهم فضلاً عن تدبير بيئتهم. من النتائج المادية لهذا التطور ظهور المدن، كان مقام الإله المحلي محاطاً بسور من الطين في البداية لصد الفيضانات والأعداء، ثم صار يرفع على منصة فوق مستوى المياه، وكان من الطبيعي أن يختار هذا المقام موقعاً لمستوطنة أكبر: فقد كان الإله يقف وراء سلطة الجماعة، التي يمارسها كاهنه الأكبر، والذي أضحى رئيس حكومة دينية صغيرة تتنافس مع غيرها.

يفسر مثل هذا الأمر الفرق بين جنوب بلاد الرافدين في الألفين الثالثة والرابعة ق.م من جهة، والمناطق الأخرى ذوات الثقافة النيوليتية التي كانت على اتصال بها عندئذٍ من جهة أخرى. صحيح أنه كانت هناك أشياء كثيرة مشتركة تجمع بلاد الرافدين والأناضول وآشور وإيران في العصر النيوليتي، ولكن في هذه المنطقة الصغيرة وحدها بدأ ينمو ويتبلور بصورة أسرع نمط من قرى الشرق الأدنى ليصبح شيئاً جديداً، هو أول مدينة حقيقية. كان لتلك المدنية مراكز كثيرة، وكانت فيها أول حضارة يمكن تمييزها، أي حضارة سومر، وهو الاسم القديم لأقصى أجزاء بلاد الرافدين جنوباً، يطلق اسم السومريين على الذين كانوا يتحدثون لغة سميت فيما بعد باللغة السومرية، وهو على الأرجح ذوو جذور قوقازية. ومازال العلماء منقسمين حول زمن وصولهم إلى المنطقة، ولكنهم كانوا في عام 4000 ق.م قد رسخوا أقدامهم فيها، والحقيقة أن سكان سومر المتحضرة صاروا مزيجاً من الأعراق، ربما كان بينهم سكان أبكر من هذه المنطقة، وكانت في ثقافتهم عناصر أجنبية ومحلية.

كان السومريون الأوائل يعيشون في قرى مثل جيرانهم وكانت لديهم بعض مراكز العبادة الهامة والمسكونة بصورة مستمرة منذ زمن طويل. منها مركز في مكان يدعى أريدو*، نشأ على الأرجح في حوالي عام 5000 ق.م ، ثم راح ينمو بشكل مستمر حتى وقت متقدم من الأزمنة التاريخية، وفي منتصف الألف الرابعة كان فيه معبد يعتقد بعضهم أنه كان النموذج الأصلي لعمارة النُصُب في بلاد الرافدين، ولكن لم يبق منه اليوم إلا المنصة التي كان يقوم عليها. لقد بدأت أماكن العبادة هذه كأماكن للتعبد والحج، ولم يكن فيها عدد هام من السكان المقيمين، إلا أن المدن تبلورت من حولها فيما بعد، ويساعد هذا الأمر في تفسير العلاقة الوثيقة التي ظلت قائمة دوماً بين الدين والحكم في بلاد الرافدين القديمة.


سومر الباكرة



حوالي عام 5000 ق.م اللغة السومرية متداولة

حوالي عام 4000 ق.م الاستقرار في الموقع الذي سيصبح بابل فيما بعد

حوالي عام 3500 ق.م اللغة السومرية تظهر مكتوبة

حوالي عام 2800 ق.م السلالة السومرية الأبكر

حوالي عام 2350-2200 ق.م حكم سرجون الأول وسلالة أكد

حوالي عام 2150 ق.م الغوتيون والأموريون يطيحون بالسلالة الأكدية

حوالي عام 2000 ق.م عودة الحكم الأكدي باسم سلالة أور الثالثة

حوالي عام 1800-1600 ق.م تفوق بابل على سومر

الكتابة

استمرت الحضارة السومرية من عام 3300 إلى عام 2000 ق.م تقريباً. فمنذ زمن باكر جداً كان الناس فيها يصنعون أختاماً أسطوانية الشكل، محفور عليها صور صغيرة يدورونها بالصلصال. ومن هذه الصور طور السومريون صوراً مبسطة كانوا ينقشونها على ألوح الصلصال بواسطة ساق القصب، كانت هذه خطوة كبيرة نحو الكتابة الحقيقية. ثم تطورت هذه إلى أسلوب يسمى الكتابة المسمارية، تستخدم أدوات وإشارات ومجموعات من الإشارات للدلالة على الأصوات والمقاطع الصوتية. وقد أدى استخدام الكتابة المسمارية إلى تحسن في تبادل المعلومات لا سابق له، وسهل كثيراً العمليات المعقدة من ري الأراضي والحصاد وتخزين المحاصيل، فمكن بالتالي من استغلال الموارد بفعالية أكبر، كما أنه متن الحكم بصورة كبيرة وارتباطاته بطبقات الكهنة الذين كانوا يحتكرون معرفة الكتابة في البداية.

الفصل الثاني - أولى الحضارات Chp2-3

الفصل الثاني - أولى الحضارات Chp2-4

الكتابة المسمارية

لقد حفظت لنا الكتابة منذ ذلك الحين أعداداً كبيرة من السجلات، وأتاحت لنا معرفة أشياء كثيرة عن ذلك الزمان لأنها حفظت الأدب، فصار بإمكاننا أخيراً أن نتعامل بالعملة الصعبة عند الحديث عن الأفكار. إن أقدم قصة في التاريخ هي ملحمة جلجامش، وهي رواية ظهرت في الأزمنة السومرية، ودونت بعد عام 2000 ق.م بقليل، كان جلجامش رجلاً حقيقياً يحكم مدينة (أوروك)، وقد صار كذلك أول فرد وأول بطل في الأدب العالمي، وإن اسمه هو أول اسم شخص يجب ذكره في هذا الكتاب. إن أكثر ما يلفت نظر القارئ الحديث في تلك الملحمة هو قدوم طوفان عظيم يقضي على البشرية جمعاء، ما خلا عائلة نجت بفضل بنائها فلكاً، ومنها ينشأ عرق جديد ليعمر الأرض من بعد همود الطوفان. ولا نجد هذه القصة في أقدم نسخ الرواية، بل في قصيدة منفصلة تظهر بأشكال كثيرة في الشرق الأدنى، وبعد ذلك في العهد القديم لليهود، وسبب دمجها في الملحمة السومرية واضح، لأن الفيضانات كانت كوارث مميزة لجنوب بلاد الرافدين، وقد حاول علماء الآثار تحديد فيضان كارثي مفرد كان وراء أسطورة الفلك، ولكنهم لم يتوصلواً إلى نتائج مقنعة، ولو أن هناك أدلة وافرة على حدوث الفيضانات المتكررة. من الصعب أن ننفذ إلى التاريخ من خلال هذه الملحمة، فما بالك أن تعرف عن علاقتها بشخصية جلجامش التاريخية، تقول الملحمة إن الأرض تبزغ في النهاية من الماء، فربما كانت هذه رواية السومريين عن خلق العالم، عن تكوينه. وفي الكتاب المقدس المسيحي أيضاً تبزغ الأرض من المياه بإرادة الله، وقد ظلت هذه الرواية مقنعة لأكثر الناس المثقفين في أوروبا طوال ألف سنة، فنحن إذ ندين بشيء من تراثنا الفكري لأسطورة بناها السومريون بعناصر مما قبل تاريخهم، عندما كانت الأراضي الزراعية تستصلح من مستنقعات دلتا مابين النهرين.

الفصل الثاني - أولى الحضارات Chp2-5

جلجامش

الفصل الثاني - أولى الحضارات Chp2-6

إحدى أحداث أسطورة جلجامش

لقد ظلت الأفكار السومرية واسعة الانتشار في الشرق الأدنى بعد أن انتقلت بؤرة التاريخ بعيداً عن بلاد الرافدين بزمن طويل، وظهرت نسخ وأجزاء مختلفة من تلك الملحمة في أرشيف وبقايا شعوب كثيرة في أنحاء مختلفة في هذه المنطقة في الألف الثانية ق.م.

ورغم أن جلجامش قد توارى عن الأنظار إلى أن أعيد اكتشافه في الأزمنة الحديثة، فقد بقي طوال ألفي سنة تقريباً اسمه معروفاً يذكره الأدب في لغات كثيرة، وقد عاشت اللغة السومرية أيضاً قروناً في المعابد ومدارس الكتبة، مثلما استمرت اللاتينية بين المتعلمين في أوروبا من بعد انهيار العالم الكلاسيكي الغربي لروما.

الديانة السومرية

تجسد تقاليد الكتابة واللغة أفكاراً وصوراً تجعل الناس يرون العالم بأساليب معينة، فتفتح لهم طرقاً وتحد طرقاً أخرى، أي أن لها وزنها التاريخي. تعطينا ملحمة جلجامش بعض المعلومات عن آلهة بلاد الرافدين في زمن باكر، وكانت أهم الأفكار التي بقيت حية بفضل اللغة السومرية أفكاراً دينية على الأرجح في حوالي عام 2250 ق.م كان قد ظهر مجمع من الآلهة الفردية تجسد إلى حد ما عناصر الطبيعة وقواها، وسوف تبقى هذه الآلهة هي العمود الفقري لديانة بلاد الرافدين طوال آلاف السنين، وبداية اللاهوت. كان للمدن في الأصل آلهتها الخاصة بها، التي كانت تشكل تسلسلاً هرمياً فضفاضاً يعكس النظرة إلى المجتمع البشري ويساهم في صياغتها أيضاً، وقد أُعطي لكل منها نشاط أو دور خاص، فكان هناك إله للهواء، وإله للماء، وإله للمحراث، وآلهة للحب والتكاثر، ولكن للحرب أيضاً وعلى قمة هذا الهرم كان يتربع ثالوث مؤلف من ثلاثة آلهة مذكرة كبرى هي: أب الآلهة، و”السيد الريح” الذي لا يمكن فعل شيء من دونه، وإله للحكمة والمياه العذبة التي تعني الحياة نفسها بالنسبة إلى سومر. وإن هذه الصورة لدليل على نظرة ما إلى عالم ما فوق الطبيعة لا مثيل لها في تعقيدها وغناها في ذلك الزمان الباكر. ثم أن هناك ملاحظة هامة أخرى هي أن المعابد كانت تزداد حجماً وفخامة بمرور القرون ومن أسباب ذلك أنهم كانوا يبنون المعابد الجديدة على بقايا القديمة منها، وكانوا يقدمون الذبائح لضمان جودة المحاصيل، وبلغنا أن أحدهم قد بني بأرز مجلوب من لبنان ونحاس من الأناضول. لن تجد في ذلك الزمان مجتمعاً أعطى الدين مثل هذه المكانة البارزة، أو كرس مثل هذا القدر من موارده الجماعية لدعمه، وربما كان السبب أنه لا يوجد مجتمع قديم أعطى الناس الشعور بمثل هذا الاعتماد المطلق على مشيئة الآلهة. إذ يبدو أن بلاد الرافدين السفلى كانت في الأزمنة القديمة أرضاً مسطحة رتيبة مكونة من سهول الطين والمستنقعات والماء، فلم تكن ثمة جبال تسكن فيها الآلهة على الأرض مع البشر، بل السماء الخاوية في الأعلى، وشمس الصيف التي لا ترحم، والرياح العاتية، والفيضانات التي لا تقاوم، وهجمات القحط المدمرة التي لا يملكون ردها إلا بأوهى الأسباب. وكانت الآلهة تعيش في قوى الطبيعة هذه، ويمكن التقرب إليها في الأماكن العالية الوحيدة المشرفة على السهول، أي في الأبراج والزِّقُّرات المبنية بالقرميد، والتي تجد انعكاساً ضعيفاً لها في برج بابل في الكتاب المقدس، فليس من الغريب إذاً أن يكون السومريون قد اعتبروا أنفسهم شعباً خلق ليكدح من أجل الآلهة.

الفصل الثاني - أولى الحضارات Chp2-7

آلهة من آلهات سومر

كانت الآلهة تصويراً فكرياً لمحاولات السيطرة على الطبيعة، ولو كان من المستحيل على أهل بلاد الرافدين أن يعبروا عن ذلك بهذه العبارة، أي أنها كانت محاولات لمقاومة كوارث الفيضانات والعواصف الرملية المفاجئة، وضمان استمرار دورة الفصول عن طريق تكرار احتفال الربيع الكبير، حينما تزوج الآلهة من جديد ويعاد تمثيل دراما الخلق، فيضمنون عندئذٍ استمرار العالم لسنة أخرى؛ وما كان لديهم من خيار آخر. في زمن لاحق صار الناس يبغون من الدين أن يساعدهم على مواجهة رعب الموت الذي لامفر منه، ويبدو أن السومريين والذين ورثوا عنهم أفكارهم الدينية كانوا يرون العالم الآخر مكاناً حزيناً كئيباً، وهنا تكمن جذور فكرة جهنم التي ستظهر في زمن لاحق. ولكننا نعلم أيضاً أن ملكاً وملكة سومريين من منتصف الألف الثالثة قبل الميلاد قد لحقت بهما حاشيتهما إلى القبر حيث دفنوا معهما، ربما بعد تناول دواء ما، فلعلهم كانوا يؤمنون بأن الموتى يذهبون إلى مكان تفيدهم فيه الحاشية العظيمة والمجوهرات البديعة. أما من الناحية السياسية للديانة السومرية، فقد كانت الأرض كلها جوهرياً ملكاً للآلهة التي كان الملك وكيلاً عنها، والأرجح أنه كان ملكاً كاهناً مثلما كان قائداً محارباً، ومن حوله كانت طبقة الكهنة التي تقوم برعاية مهارات ومعارف خاصة، ومن هذه الناحية أيضاً كانت سومر منشأ تقليد آخر، هو تقليد عرّافي الشرق ومتنبئيه وحكمائه، وكان هؤلاء مسؤولين عن أول جهاز تعليم منظم ومبني على الاستذكار والنسخ.

الحياة في سومر

من الأشياء الأخرى التي نتجت عن الديانة السومرية أول تصوير للبشر يشبههم شبهاً حقيقياً، وتراهم أحياناً مجمعين في مواكب، وبذلك تأسس واحد من المواضيع الكبرى في فن التصوير، فضلاً عن موضوعين آخرين بارزين، هما الحرب وعالم الحيوان. لقد رأى البعض أيضاً في صور الناس في سومر الصفات النفسية التي مكنتهم من تحقيق الإنجازات المدهشة لحضارتهم، أي اندفاعهم نحو التفوق والنجاح، ولكن الشيء الذي تراه بشكل أكيد في الفن السومري هو الحياة اليومية التي كانت خافية عنك في الأزمنة الأبكر، فإذا أخذت بعين الاعتبار اتصالات سومر الواسعة وتشابه الحياة الزراعية بينها وبين الشعوب المجاورة لها، فقد تنبئك تلك الرسوم عن صور الحياة كما كانت تعاش في جزء كبير من الشرق الأدنى القديم. تظهر الأختام والتماثيل والرسوم شعباً يرتدي في العادة تنورة من الفرو، لعله فرو الماعز أو الغنم؟ وتضع النساء أحياناً ثنية منها فوق أحد الكتفين، أما الرجال فهم حليقون عادة ولكن ليس دائماً، ويرتدي الجنود الزي نفسه، ولكنهم يحملون أسلحة ويعتمرون أحياناً قبعة جلدية مستدقة الطرف. وأما الرفاهية فيبدو أنها كانت تتمثل بوقت الفراغ والممتلكات، خصوصاً المجوهرات، التي يبدو أن الغرض منها كان الإشارة إلى المرتبة، فإذا كان الأمر كذلك فإنما هو علامة أخرى على تزايد تعقيد المجتمع.



كان رأس العائلة هو الزوج، الذي يتخذ امرأته بعقد يبرمه مع أهلها، ويرأس أهل بيته من أقارب وعبيد، وهذا هو النمط الأبوي الذي بقي شائعاً حتى وقت قريب جداً في أنحاء كثيرة من العالم. إلا أن تغيرات لافتة قد طرأت عليه، فيما بعد، إذ يبدو أن النساء السومريات كن أقل انسحاقاً من أخواتهن في كثير من مجتمعات الشرق الأدنى حتى في أزمان لاحقة، ربما هناك اختلاف بين التقاليد السامية وغير السامية في هذا المجال. توحي قصص السومريين عن آلتهم بمجتمع شديد الوعي لجاذبية المرأة الجنسية، والحقيقة أن السومريين كانوا أول شعب كتب عن عاطفة الحب الجنسي، وقد منح قانونهم الذي يمكن تتبع أثره بعد عام 2000 ق.م بزمن طويل النساء حقوقاً هامة استمرت حتى الأزمنة بعد السومرية، فلم تكن المرأة مجرد متاع، بل حتى العبدة لها حقوق إذا كانت أماً لأولاد رجل حر. وكان يحق للمرأة مثل الرجل أن تطلب الانفصال، وأن تتوقع معاملة عادلة بعد الطلاق. صحيح أن زنى الزوجة يعاقب بالموت ولا يعاقب به زنى الزوج، إلا أن هذا الفرق يمكن فهمه في ضوء الحرص على الميراث والأملاك. ولم يبدأ قانون بلاد الرافدين بالتشديد على أهمية العذرية وفرض الحجاب على النساء المحترمات إلا بعد ذلك بزمن طويل، وكان هذان الأمران علامة على أن دور المرأة في الحياة يزداد قسوة وتقييداً لها.

عند نهاية تاريخهم كحضارة مستقلة كان السومريون قد تعلموا العيش في جماعات كبيرة، ويقال إن إحدى المدن كانت تحوي ستة وثلاثين ألف ذكر، وقد تطلب هذا الأمر مهارات كبيرة في البناء، وخاصة في تشييد الصروح الضخمة. ولم يكن في جنوب بلاد الرافدين حجارة، لذلك كان أهلها في البداية يبنون بالقصب الذي كانوا يلصقون بعضه ببعض بواسطة الطين، ثم انتقلوا إلى استخدام لبن الصلصال المجفف بأشعة الشمس. وعند نهاية الحقبة السومرية كانت تقنية البناء بالصلصال قد بلغت درجة من التطور سمحت بتشييد أبنية كبيرة جداً لها أعمدة وسطوح، وأعظمها زقّرة أور، التي كان لها طابق علوي يبلغ ارتفاعه أكثر من مئة قدم*، وقاعدة طولها مئتا قدم وعرضها مئة وخمسون** . وقد اكتشفت أول عجلة معروفة لصنع الفخار في أور، فكانت تلك خطوة تقنية أخرى، وكان هذا أول استغلال نعرفه للحركة الدائرية، وعليه ارتكزت صناعة الفخار بالجملة، فأصبحت مهنة رجال من بعد أن كانت مهنة نساء فيما مضى، وسرعات ما استخدمت العجلة في النقل بحلول عام 3000 ق.م. ومن اختراعات السومريين الأخرى، اختراع الزجاج، كما كان حرفيوهم المختصون يسبكون البرونز في بداية الألف الثالثة ق.م.

وتثير هذه الحقيقة أسئلة أخرى: فمن أين أتت المواد الأولية؟ إذ ليست هناك أية معادن في جنوب بلاد الرافدين، وحتى في الأزمنة النيوليتية لابد أن تكون المنطقة قد استوردت الصوان والسبج*** لصنع الأدوات الزراعية. من الواضح إذاً وجود شبكة واسعة من الاتصالات الخارجية، مع شعوب الخليج الفارسي من جهة، ومع شرق المتوسط وسورية البعيدين من جهة أخرى. ومن المؤكد أن بلاد الرافدين كانت في عام 2000 ق.م تحصل على البضائع من وادي الهندوس أيضاً ولكن ربما بصورة غير مباشرة، وتدل هذه الأمور بالإضافة إلى بقايا بعض الوثائق المتفرقة على بدايات نشوء نظام تجاري بين المناطق مابرح ينسج أنماطاً من الاعتماد الاقتصادي المتبادل.

إلا أن أساس المجتمع قد ظل الزراعة من أجل الاستهلاك المحلي، فكان الشعير والقمح والدخن والسمسم تزرع بكميات كبيرة، وربما كان الشعير هو المحصول الأساسي، وهذا يفسر كثرة الأدلة على وجود الكحول في بلاد الرافدين القديمة. كانت التربة التي يخلفها الفيضان سهلة يمكن زراعتها زراعة مكثفة من دون الحاجة لأدوات حديدية، إلا أن المساهمة الكبرى للتقنية هنا كانت في مجالات الري والبناء ونمو نظام الحكم. وقد تراكمت هذه المهارات رويداً رويداً، ولا ننس أن الأدلة على الحضارة السومرية تمتد على مدى أكثر من ألف وخمسمائة عام من التاريخ، وإذا كنا تحدثنا عنها حتى الآن كأن شيئاً لم يحدث خلالها، أو كأنها كانت وحدة ثابتة لم تتغير، فإنها بالطبع لم تكن كذلك. فمهما كنا متحفظين حول بطء التغير في العالم القديم، والذي قد يبدو لنا جامداً اليوم، فإننا نعلم أن تلك كانت خمسة عشر قرناً من التغير الكبير في بلاد الرافدين، ولو بقي جزء كبير منها غامضاً وتواريخه تقريبية.

التغير السياسي

يمكنك هنا تمييز ثلاث مراحل عريضة، فالمرحلة القديمة لسومر قد استمرت بالتقريب من عام 3360ق.م إلى عام 3400ق.م، وهي قصة من الحروب بين دول المدن وما يعتريها من بزوغ وأفول. ومن الأدلة على ذلك المدن المحصنة واستخدام العجلة في التقنية الحربية في عربات فظة ذوات عجلات أربع. نحو منتصف هذه المرحلة بدأت السلالات المحلية تثبت أقدامها بقدر من النجاح، ويبدو أن المجتمع السومري كان فيه بالأصل نوع من القاعدة التمثيلية أو حتى الديمقراطية، إلا أن النمو المتزايد قد أدى إلى تميز الملوك عن الحكام الكهنة الأسبق، وربما بزغ هؤلاء الملوك كأمراء حرب عينتهم المدن لقيادة قواتها، ثم بقوا متشبثين بالسلطة بعدما زالت حالة الطوارئ التي استدعتهم، ومنهم انبثقت السلالات التي راحت تتقاتل فيما بينها.

ثم يظهر فجأة رجل عظيم يفتتح مرحلة جديدة هو سرجون الأول، الذي كان ملكاً على مدينة تقع على قسم أعلى من الفرات اسمها أكد، لم يكتشف موقعها بعد. لقد فتح سرجون المدن السومرية بين عامي 2400 و 2350 ق.م واستهل مرحلة السيادة الأكدية عليها. وكان شعبه من القبائل السامية التي طالما ضغطت على حضارات وديان الأنهار من الخارج في الماضي. ثمة رأس محفور يعتقد أنه يمثله، فإذا كان صحيحاً فهي من أولى صور الملوك، كان سرجون الرجل الأول في سلسلة طويلة من بناة الإمبراطوريات، وقد زعموا أنه أرسل قواته حتى مصر وإثيوبيا. لم يكن حكمه مبنياً على السيادة النسبية لإحدى دول المدن على غيرها، بل إنه قد أسس إمبراطورية موحدة دمجت المدن كلها في كيان واحد، وخلفت أسلوباً جديداً في الفن السومري يتميز بموضوع انتصارات الملوك. إلا أن هذه الإمبراطورية الأكدية لم تكن نهاية سومر، بل فترة فاصلة وثاني مراحلها الأساسية، وهي تعبر عن إنجاز جديد في التنظيم، ففي عهد سرجون كانت قد ظهرت دولة حقيقية، وكانت السلطات الدنيوية والدينية قد افترقتا افتراقاً كاملاً، فظهرت القصور إلى جانب المعابد في المدن السومرية، وكان الملوك يستمدون سلطتهم من الآلهة.

الفصل الثاني - أولى الحضارات Chp2-8

الملك سرجون

إن اختراع الجندية كمهنة تحترف قد لعب على الأرجح دوراً في التطور السابق، فإنك ترى على صروح أور فرق المشاة المنضبطة تسير ضمن تشكيلات عسكرية، يغطي كل ترس فيها طرف الترس المجاور له، والرماح كلها مسددة إلى الأمام. كانوا يتباهون بأن لدى سرجون 5400 جندي يأكلون بحضرته في قصره، وكان هذا الأمر بلا ريب نتيجة للغزوات التي أمنت الموارد اللازمة للإنفاق على قوة كهذه. كانت سلطة الدولة قد نشأت بالأصل من التحديات والحاجات الخاصة ببلاد الرافدين، ومن الواجب الأول للحاكم في تنظيم الأشغال الكبرى من أجل الري والسيطرة على الفيضانات، وإن هذه السلطة القادرة على تعبئة المجهود البشري اللازم أمكنها أن تعبئ الجنود أيضاً. وقد ازداد الميل للاحتراف مع زيادة الأسلحة تعقيداً وكلفة، ومن أسباب نجاح الأكديين استعمالهم سلاحاً جديداً هو القوس المركبة المصنوعة من شرائح الخشب وقرن الحيوان.

الفصل الثاني - أولى الحضارات Chp2-9

يوم في أكاد

لقد أطيح بالهيمنة الأكدية بعد سرجون بقرون ونصف القرن، أي على عهد ابن حفيده، ويبدو أن ذلك الأمر قد تم على أيدي شعوب جبلية تسمى الشعوب الغوتية. فبدأت عندئذٍ ثالث مراحل سومر وآخرها، وهي التي يسميها العلماء ”المرحلة السومرية الجديدة” فعادت الهيمنة من جديد إلى السومريين الأصليين الذين كان مركزهم في أور، وقد استمرت هذه الهيمنة حوالي مئتي سنة أخرى، أي حتى عام 2000 ق.م. إن أول ملك من سلالة أور الثالثة مارس هذه السيادة قد سمى نفسه ملك سومر وأكد، ولا نعلم تماماً ماذا كان هذا اللقب يعني من الناحية العملية. يبدي الفن السومري في هذه المرحلة ميلاً جديداً لتمجيد سلطة الأمير، كما صار الحكام يسعون لتجسيد عظمتهم في زقّرات أكبر وأفضل. وتظهر الوثائق الإدارية الميراث الأكدي أيضاً، وربما كان الطموح إلى ملكية أوسع انعكاساً لهذا الميراث، فقد كانت البلاد الخاضعة لآخر ملوك أور الناجحين تمتد من شوش، سوس، على حدود أرض عيلام على القسم السفلي من دجلة، حتى بيبلوس* على ساحل لبنان.

الفصل الثاني - أولى الحضارات Chp2-10

الأمبراطورية الأكادية في عهد سيرغون

كانت هذه حقبة أفول الحضارة الأولى، وهي لم تختف بل سوف تضيع فرديتها في التاريخ العام لبلاد الرافدين والشرق الأدنى، وقد انتهت بذلك حقبة كبرى من الإبداع. ومن بعد هذه المنطقة الصغيرة نسبياً سوف يتسع أفق تاريخنا. كان الأعداء يعجون على حدود سومر، وفي نحو عام 2000 ق.م جاء العيلاميون وسقطت أور بأيديهم. ونحن لا نعلم السبب، ولكننا نعلم أن سقوطها قد تم من بعد عداوة متقطعة استمرت 1000 عام، وقد اعتبر سقوط أور هذا نتيجة صراع للسيطرة على الطرق المؤدية إلى مرتفعات إيران والمعادن التي يحتاجها أهل بلاد الرافدين.وكانت هذه على كل حال نهاية أور ونهاية التقاليد السومرية المتميزة، التي اندمجت الآن، في دوامات عالم مكون من حضارات عديدة. إلا أن سومر كانت طوال خمسة عشر قرناً تقريباً قد وضعت أول تربة للحضارة في بلاد الرافدين، مثلما استصلح أسلافها الأرض نفسها في عصر ما قبل الحضارة. لقد خلف السومريون كتابة، وأدباً ، وميثولوجيا، وصروحاً ضخمة ، وفكرة عن العدالة والشرعية، وجذور تقليد ديني عظيم.و إن هذه الأشياء كلها لتشكل سجلاً رائعاً، وسوف تكون بذرة لأشياء كثيرة غيرها، لأن انتشار الحضارة كان قد بلغ شوطاً بعيداً عندما ماتت سومر.

بلاد الرافدين بعد سومر

كان الشرق الأدنى عندئذٍ خليطاً من الشعوب مابرح يزداد تعقيداً، كان الأكديون قد اندفعوا بالأصل من منبع الشعوب السامية الكبير في شبه الجزيرة العربية لينتهوا في بلاد الرافدين، أما الغوتيون الذين شاركوا في الإطاحة بالأكديين فكانوا قوقازيين من الشعوب الأصلية في المنطقة. وأما الأموريون (العموريون) فكانوا شعباً سامياً انتشر في طول المنطقة وعرضها، وانضم إلى العيلاميين للإطاحة بجيوش أور وتحطيم سطوتها، وقد ثبتوا أقدامهم في دمشق وآشور، أي القسم العلوي من بلاد الرافدين، وفي بابل أيضاً، سلسلة من الممالك الممتدة حتى ساحل فلسطين، بينما بقوا يتنازعون على جنوب بلاد الرافدين مع العيلاميين. أما في الأناضول فكان جيرانهم الحثيون وهم شعب هندي أوروبي عبر من البلقان في الألف الثالثة. وعلى حواف هذه الصورة المتداخلة كانت توجد شعوب أخرى قوية.







* 1100 كم تقريباً

* 150 كم تقريباً


* العشرين


* هي اليوم أبو شَهرَين القريبة من أور


* نحو 30 متراً


** نحو 60× 45 متر


*** زجاج بركاني


* جبيل الحالية
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://resalahmasriyah.mam9.com
Eng. Ahmedzoubaa
Admin
Eng. Ahmedzoubaa


عدد المساهمات : 1216
تاريخ التسجيل : 28/08/2010
العمر : 50

الفصل الثاني - أولى الحضارات Empty
مُساهمةموضوع: رد: الفصل الثاني - أولى الحضارات   الفصل الثاني - أولى الحضارات Emptyالثلاثاء 14 يونيو 2011 - 7:23

بابل

من معالم قصتنا ظهور إمبراطورية جديدة في بلاد الرافدين، هي إمبراطورية بابل. ومن ملوكها حمورابي، الذي تكفي شهرته كصاحب شريعة لكي تضمن له مكاناً في التاريخ ولو لم نكن نعرف عنه شيئاً غيرها. فالحق أن شريعته هي أقدم تعبير مكتوب عن مبدأ العين بالعين. كما أنه أول حاكم وحد بلاد الرافدين كلها، ومع أن الإمبراطورية لم تعمر طويلاً فسوف تصبح مدينة بابل منذ أيامه المركز الرمز لشعوب الجنوب السامية. ربما ابتدأ حكم حمورابي في عام 1792 ق.م وقد حافظ خلفاؤه على تماسك الأمور إلى ما بعد 1600 ق.م، عندما عادت بلاد الرافدين فتقسمت من جديد.

الفصل الثاني - أولى الحضارات Chp2-11

مدينة بابل

كانت الإمبراطورية البابلية الأولى تمتد في أوجها من سومر والخليج حتى آشور، أي القسم الأعلى من بلاد الرافدين شمالاً، وكان حمورابي يحكم مدينتي نينوى ونمرود على نهر دجلة، ومدينة ماري في أعلى الفرات، كما كان يسيطر على هذا النهر حتى أقرب نقطة منه إلى حلب. كان طول هذه الدولة نحو سبعمئة ميل* وعرضها نحو مئة**، أي أنها كانت دولة كبيرة، بل هي في الحقيقة أكبر دولة ظهرت في المنطقة حتى ذلك الزمان، لأن أور لم تكن أكثر من تجمع فضفاض من المدن. كان الهيكل الإداري في بابل محكماً، وإن شريعة حمورابي لجديرة بشهرتها ولو أن للصدفة دوراً في هذا. لقد كانت هذه الشريعة منقوشة في الحجر ومنصوبة في ساحات المعابد لكي يراجعها الشعب، مثلما كان الأمر على الأرجح في المجموعات الأقدم من الأحكام والقوانين، والتي لم تبق منها إلا نتف قليلة. كانت شريعة حمورابي أطول وأحسن تنظيماً من المجموعات الأسبق، وهي تضم نحو 282 بنداً تعالج فيه مجالاً واسعاً من الأمور معالجة شاملة: مثل الأجور، الطلاق، أتعاب العناية الطبية، وأمور كثيرة غيرها. إلا أنها لم تكن تشريعاً، بل إعلاناً عن قانون موجود، ويجب ألا يغيب هذا الأمر عن بالنا عندما نسميها ” شريعة”، أي أن حمورابي قد جمع قوانين كانت دارجة أصلاً ولم يبتكرها من لاشيء.

الفصل الثاني - أولى الحضارات Chp2-12

تمثال لحمورابي

لقد أمنت هذه المجموعة من القوانين المبنية على العرف والعادة خطاً أساسياً من خطوط الاستمرارية في تاريخ بلاد الرافدين، ومن المؤسف أن عقوباتها قد ازدادت قسوة بمرور الزمن على ما يبدو بالقياس إلى قوانين سومر، أما من النواحي الأخرى فقد استمر التقليد السومري في بابل في مجال القانون.

الفصل الثاني - أولى الحضارات Chp2-13

المملكة البابلية في القرن الثالث عشر قبل الميلاد

يتضمن هذا القانون بنوداً تتعلق بالعبيد، لأن بابل كانت تقوم على العبودية مثل جميع الحضارات القديمة، ومثل كثير من حضارات الأزمنة اللاحقة أيضاً. كانت العبودية هي المصير الذي ينتظر الخاسر عادة في حروب التاريخ الباكر، ونساءه وأولاده أيضاً. وعلى عهد الإمبراطورية البابلية الأولى كان هناك أسواق منتظمة للعبيد، وكانت الأسعار الثابتة دليلاً على انتظام هذه التجارة. وكان العبيد الآتون من مناطق معينة يثمنون بشكل خاص. ورغم أن سطوة السيد على العبد كانت مطلقة، فإن بعض العبيد في بابل كانوا يتمتعون باستقلال اقتصادي ملحوظ، ويعملون بالتجارة، بل قد يملكون بدورهم عبيداً لحسابهم. وكانت لهم حقوق قانونية ولو أنها ضيقة. من الصعب أن نعرف ماذا كانت العبودية تعني من الناحية العملية، ولا فائدة من إطلاق أحكام عامة، لأن الأدلة تشير إلى أن العبيد كانوا يقومون بمهام متنوعة، وإذا كانت حياة أكثرهم شاقة فقد كانت حال أكثر الناس على الأرجح. لقد كانت الحضارة في الأزمنة القديمة تقوم على استغلال كبير للإنسان من قبل الإنسان، وإذا لم يشعر الناس بأن هذا الوضع وحشي، فذلك لأن أحداً ما كانت لتخطر بباله طريقة أخرى لتسيير الأمور.

الفصل الثاني - أولى الحضارات Chp2-14

حمورابي

الفصل الثاني - أولى الحضارات Chp2-15

نص من شريعة حمورابي

الفكر البابلي

مازالت حضارة بابل أسطورة من العظمة والأبهة، فقصر ماري الكبير في القسم الأعلى من الفرات كانت له أسوار حول ساحاته تبلغ سماكتها أربعين قدماً* في بعض الأماكن، وكان فيه نحو ثلاثمئة غرفة تشكل مجمعاً واحداً، تصرفه أنابيب مبطنة بالقار تجري على عمق ثلاثين قدماً**، وكان يغطي مساحة 150×200 ياردة***. كما وجدت فيه كميات كبيرة من رُقُم الصلصال التي تكشف لنا أعمال حكومة بابل، وهي تعطينا أيضاً أدلة على حياة الفكر، ففي ذلك الحين أخذت ملحمة جلجامش الشكل الذي نعرفها فيه. لقد دفع علم التنجيم في بابل مراقبة الطبيعة إلى الأمام، كان البابليون يأملون بمعرفة مصائرهم من خلال مراقبة النجوم، فأسسوا بذلك علماً هو علم الفلك، ووضعوا سلسلة هامة من الأرصاد الفلكية. فبحلول عام 1000 ق.م كان من الممكن التنبؤ بخسوف القمر، وخلال قرنين أو ثلاثة بعد ذلك كانت مسارات الشمس وبعض الكواكب قد حددت بدقة لافتة بالنسبة إلى مواقع النجوم التي تبدو ثابتة. وقد اعتمدت الرياضيات في بابل على الإنجازات الفكرية للسومريين، الذين ندين لهم بطريقة التعبير عن الرقم بحسب موقعه بالإضافة إلى شكله (كما يدل الرقم 1 مثلاً على الواحد أو العشر أو العشرة أو غيرها من القيم بحسب موقعه بالنسبة إلى الفاصلة العشرية). كان السومريون يعلمون عن النظام العشري ولكنهم لم يستغلوه، وقد توصلوا إلى طريقة لتقسيم الدائرة إلى ستة أقسام متساوية، ثم طور البابليون هذا الاكتشاف فقسموها إلى 360 درجة وقسموا الساعة إلى ستين دقيقة، كما أنهم وضعوا جداول في الرياضيات والهندسة الجبرية ذات منفعة عملية كبيرة.

الفصل الثاني - أولى الحضارات Chp2-16

تمثال من مملكة ماري

الفصل الثاني - أولى الحضارات Chp2-17

بقايا مدينة ماري

كان علم الفلك قد ابتدأ في المعبد، في تأمل حركة الأجرام السماوية التي تعلن قدوم احتفالات الخصب والبذار، وقد ظلت الديانة البابلية أيضاً وثيقة الصلة بالتقليد السومري. يبدأ خلق العالم عند البابليين، كما هي الحال في سومر، من غمر من المياه -وثمة إله يعني اسمه ”الطمي”- ثم يُصنع الإنسان في النهاية كعبد للإلهة، وفي إحدى النسخ تصنع الآلهة البشر في قوالب الصلصال، مثلما تصنع قطع القرميد، وكانت هذه الصورة للكون ملائمة للملكية المطلقة. كان لبابل إلهها مثل المدن القديمة، وهو مردوك، الذي شق طريقه رويداً رويداً، إلى أن تصدر منافسيه من آلهة بلاد الرافدين. وقد استغرق هذا الأمر زمناً طويلاً، وقال حمورابي إن آلهة سومر قد منحت مردوك رئاسة مجمع آلهة بلاد الرافدين، ورجته أن يحكم الناس جميعاً من أجل خيرهم. ومن بعد القرن الثاني عشر ق.م كانت مكانة مردوك لا غبار عليها في العادة. في هذه الأثناء بقيت اللغة السومرية مستخدمة في طقوس بابل الدينية، وفي أسماء الآلهة والنعوت التي كانت تتمتع بها.

الفصل الثاني - أولى الحضارات Chp2-18

الإله مردوك

إلا أن إنجازات حمورابي لم تعمر طويلاً من بعده، كان قد أطاح بمملكة أمورية، التي تأسست في أشور عند نهاية هيمنة أور، ولكن هذا النجاح كان مؤقتاً. وبقيت آشور طوال ألف عام بعدها ساحة للقتال والغنيمة معاً، إلى أن طغت على بابل في النهاية، فانتقل مركز ثقل تاريخ بلاد الرافدين إلى الشمال بشكل حاسم. أما الحثيون الذين كانوا قد ثبتوا أقدامهم في الأناضول في الربع الأخير من الألف الثالثة ق.م، فقد اندفعوا ببطء إلى الأمام خلال القرون القليلة التالية، وتبنوا هم أيضاً الكتابة المسمارية وكيفوها لكتابة لغتهم الهندية الأوروبية. وفي عام 1700 ق.م كانوا يحكمون البلاد الواقعة بين سوريا والبحر الأسود، ثم وجهوا غزواتهم نحو بابل التي كانت قد ضعفت وتقلصت، إلى أن قضوا أخيراً على سلالة حمورابي وإنجازاته.

وعندما انسحب الحثيون حكمت شعوب أخرى بلاد الرافدين وتنازعت عليها طوال أربعة قرون غامضة لا نعلم عنها إلا القليل، صار خلالها انفصال آشور عن بابل نهائياً، وسوف تكون لهذا الانفصال أهمية كبرى في الألف التالية. وفي ذلك الحين كانت بؤرة تاريخ العالم قد انزاحت بعيداً عن بلاد الرافدين.

الفصل الثاني - أولى الحضارات Chp2-19

المملكة الحثية







* 1000 كم تقريباً

* 150 كم تقريباً


* 12 م تقريباً


* 9 م تقريباً


* 140× 180م تقريباً
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://resalahmasriyah.mam9.com
Eng. Ahmedzoubaa
Admin
Eng. Ahmedzoubaa


عدد المساهمات : 1216
تاريخ التسجيل : 28/08/2010
العمر : 50

الفصل الثاني - أولى الحضارات Empty
مُساهمةموضوع: رد: الفصل الثاني - أولى الحضارات   الفصل الثاني - أولى الحضارات Emptyالثلاثاء 14 يونيو 2011 - 7:25

مصر القديمة

يمكنك رؤية أولى علامات الحضارة في مصر بعد ظهورها في سومر بزمن قصير. ومن المحتمل أن يكون المصريون قد تعلموا من سومر، ولكن إذا كان هذا صحيحاً فإننا لا نعلم مداه ولا كيف حصل، ومن الأسهل أن نعزي ظهور الحضارة هنا إلى البيئة، كما هي الحال في جنوب بلاد الرافدين. كان تغير المناخ في حقبة ما قبل التاريخ قد جفف شيئاً فشيئاً القسم الأكبر من مصر خارج وادي النيل، إلا أن ذلك الشريط الضيق من الأرض الخصبة كان كافياً. فكان الطين ينحرف من المرتفعات الداخلية ليتوضع هناك، وهذا ما جعل الزراعة سهلة. فتشكلت ضفاف من الطمي طولها 1100 كم وعرضها من ستة إلى عشرين، استطاع المصريون الأوائل أن يبدؤوا الزراعة، وتحولت أرضهم رويداً رويداً إلى واحة طويلة تمتد من غير انتظام، وتحيط بها الصحراء والصخور.

الفصل الثاني - أولى الحضارات Chp2-20

وقد كانت هذه البيئة تختلف عنها في بلاد الرافدين القديمة اختلافاً هاماً كبيئة لمرحلة جديدة من تطور البشر، فالمصريون لم يكونوا بحاجة لاستصلاح الأرض مثل السومريين، لأن النيل ألطف من دجلة والفرات. صحيح أنه يفيض مثلهما في كل عام، إلا أن فيضاناته متوقعة وليست كوارث مفاجئة، حتى إن انتظامها قد وضع نمط السنة الزراعية، فكان النيل ساعة عظيمة تنظم حياة المصريين القدامى على إيقاع لا يتغير من عام إلى عام.




السلالات المصرية


1-2

المرحلة السابقة للسلالات

حوالي 3200-2665 ق.م

3-8

المملكة القديمة

2664-2155 ق.م

9-11

المرحلة المتوسطة الأولى

2154-2052 ق.م

12

المملكة الوسطى

2052-1786 ق.م

13-17

المرحلة المتوسطة الثانية

1785-1554 ق.م

18-20

المملكة الحديثة

1554-1075 ق.م

مصدر الجدول:R.A.parker's table in the legacy of Egypt.2nd edn, ed. J. R.Harris (Oxford, 1971), pp.24-5

في نحو عام 3300 ق.م كانت هناك أعداد كبيرة من الناس تعيش على طول خمسمائة إلى ستمائة كيلو متر من النيل الأسفل في قرى بعضها صغيرة لا تفصل بينها مسافات كبيرة. ويبدو أن أولئك المصريين كانوا يعتبرون أنفسهم في البداية أفراداً في عشائر لا جماعات مستقرة. ولم تنشأ المدن على طول نهر النيل إلى بعد مرور آلاف السنين، ربما لأنه لم يكن ثمة جيران أقوياء يهددون المزارعين ويدفعونهم إلى العيش في مدن لحماية أنفسهم. من الصعب أن نعرف الكثير عن تلك الأزمنة الباكرة، لأن النيل كان يخرب آثار الناس كل عام، فيحرفها إلى الدلتا أو يدفنها عميقاً في ضفاف الطمي التي صارت ترتفع عن مستوى الفيضان بمرور القرون.

ولكننا نعلم أن أولئك المصريين كانوا يعرفون صنع القوارب من نبات البردي، وشغل الحجر الصلب، وتطريق النحاس من أجل صنع أغراض للاستعمال اليومي. وفي حوالي منتصف الألف الرابعة أيضاً نجد علامات على الاتصال بمناطق أخرى خاصة ببلاد الرافدين. ثم نشعر فجأة بحدوث تبلور سريع.

وسرعان ما تكثر المعلومات عن الحضارة الباكرة في مصر بصورة لا مثيل لها في ذلك الزمان. لقد كان للمصريين منذ البداية تقريباً شكل من الكتابة يسمى ” الهيروغليفية” وكانت هذه الكتابة بالأصل تصويرية، أي أنها مكونة من صور صغيرة ترمز لأسماء الأشياء، وبمرور الزمن صارت ترمز للأصوات. كانت الهيروغليفية أصعب كتابة من المسمارية لذلك لم تنتشر مثلها قط، ولكن حياتها لا تقل عنها طولاً، فآخر نموذج معروف منها قد كتب في عام 394 م. ثم ضاعت مهارة الكتابة بها فلم تعد مقروءة. في بداية القرن التاسع عشر أحضر ” حجر الرشيد من مصر إلى فرنسا،

الفصل الثاني - أولى الحضارات Chp2-21

حجر الرشيد

وكان منقوشاً عليه باليونانية والكتابة ”الديموطية” وهي كتابة مصرية لاحقة، عدا عن الهيروغليفية. وهذا ما مكن من ترجمتها، ففتحت الطريق لفهم مصر القديمة بصورة لاسابق لها، بفضل الأعداد الكبيرة الباقية من الكتابات المنقوشة على المدافن والصروح وأوراق البردي.

الفصل الثاني - أولى الحضارات Chp2-22

الهيروغليفية

ومن هذه الكتابات الهيروغليفية تبزغ قصة مصر القديمة، كانت مصر في عام 3000 ق.م قد انتظمت في مملكتين، شمالية هي مصر السفلى، وجنوبية هي مصر العليا*، وتخبرنا السجلات أن ملكاً من الجنوب اسمه مينيس سرعان ما غزا الشمال وأسس سلالة استمرت حتى عام 2884 ق.م، وكانت تحكم من مدينة منف (ممفيس)* في مصر السفلى. كان طول هذه المملكة حوالي 1000 كم أي أنها أكبر بكثير من أية دولة معاصرة لها. ومن الصعب أن نعرف المعنى الحقيقي لهذا الحكم، إلا أن الادعاء بحكم منطقة بهذا الحجم هو بحد ذاته إنجاز مبهر. والأعجب من هذا أنها كانت بداية ألفي عام تقريباً ظلت مصر فيها عادة تحت حاكم واحد، ونظام ديني واحد، ونمط واحد من الحكم والمجتمع، من دون أن يؤرقها تأثير هام من الخارج. صحيح أنها قد مرت بفترات من المد والجزر، وأن الدولة كانت أحياناًَ قوية ومزدهرة وأحياناً أخرى ضعيفة وفقيرة، إلا أن استمرارها المديد هذا يبقى أمراً مذهلاً، وقد مكن من تحقيق إنجازات باهرة سوف تظل آثارها تسحر ألباب البشر، كأعظم تراث منظور من العصور القديمة.

تمكن السجلات التاريخية العلماء من الحديث عن مصر القديمة كسلسلة من السلالات تقع في ثلاثة أقسام زمنية كبرى. يسمى القسم الأول منها بـ”المملكة القديمة وهو يمتد من عام 2664 إلى 2155 ق.م، ثم يتلوه نحو قرن من الفوضى قبل أن تبدأ في عام 2051 ”المملكة الوسطى” التي استمرت حتى عام 1786 ق.م، عندما ابتدأت مرحلة ثانية من الاضطراب انتهت في عام 1554 ق.م مع بداية ”المملكة الحديثة”. وضمن هذا المخطط الثلاثي تدخل بعد ذلك مرحلتان متوسطتان وتواريخ السلالات. ومن المناسب أن نختم قصة مصر القديمة عند بداية الألف الأولى ق.م، عندما كانت أعظم إنجازات المصريين قد ولت، ولو أن بلادهم قد بقيت مستقلة تحت حكم أبنائها حتى عام 30 ق.م، عندما بلغت نهايتها بانتحار ملكتها الشهيرة كليوباترا.

الفصل الثاني - أولى الحضارات Chp2-23

خارطة مصر الفرعونية

الملكية في مصر

كانت الدولة نفسها تجسيداً للحضارة المصرية، وكان مركزها أولاً في منف (ممفس) عاصمة المملكة القديمة، ثم صار على عهد المملكة الحديثة في طيبة (ثيبة)** عادة. وكان هذان المكانان عبارة عن مركزين دينيين كبيرين ومجمعات من القصور، ولم يكونا مدينتين حياتهما منفصلة عن الحكم. ومن أسباب ذلك أن ملوك مصر لم ينشأووا كوجهاء في دولة مدينة وكلتهم بالتصرف نيابة عنها، كما أنهم لم يكونوا بشراً عاديين مثل غيرهم يخضعون لآلهة تحكم الناس جميعاً كبيرهم وصغيرهم، بل سوف يصبحون هم أنفسهم آلهة. فمنذ مرحلة مبكرة كان ملوك مصر يتمتعون بسلطة عجيبة، كما تدل صورهم الهائلة على الصروح الأولى، وكانوا قد ورثوا تلك السلطة بالأصل من ملوك ما قبل التاريخ، الذين كانت لهم قدسية خاصة بسبب قدرتهم على ضمان الازدهار من خلال إنجاح الزراعة. وكان الناس يعتقدون أن الملوك يتحكمون بارتفاع النيل وانخفاضه السنويين، أي بالحياة نفسها عند الجماعات التي تعيش على ضفتيه، وإن أول طقوس للملكية المصرية نعرفها تتعلق بالخصب والري واستصلاح الأراضي، وأبكر صور لمينيس تظهره وهو يحفر قناة.

الفصل الثاني - أولى الحضارات Chp2-24

من فراعنة مصر العليا

وفي عهد المملكة القديمة ظهرت فكرة أن الملك أو ”فرعون” هو السيد المطلق، وسرعان ما صار يعبد كإله. كانت العدالة هي ما يحبه فرعون والشر هو ما يكرهه فرعون، وهو إله كلي العلم ولا حاجة به إلى شريعة تهديه. بعد ذلك على عهد المملكة الحديثة، صار الفراعنة يصورون بهيئة المقاتلين الأبطال العظام، فتراهم في عرباتهم رجال حرب جبابرة يدوسون أعداءهم ويذبحون بكل جرأة فرائس صيدهم. ولكن رغم هذا الجانب الدنيوي بقيت الملكية في مصر مقدسة ومهيبة، وحتى عام 1500 ق.م كتب موظف مصري من موظفي فرعون يقول: ” هو إله يعيش المرء وفق أفعاله، هو أب وأم الناس جميعاً، هو وحده لا كفؤ له”.

في ذلك الزمان كانت مصر قد اكتسبت تسلسلاً هرمياً من البيروقراطيين مدهشاً بإحكامه، وكان أهمهم يأتون عادة من طبقة النبلاء، وقد دفن بعض عظماءهم بفخامة تضاهي ما كان للفراعنة. أما العائلات الأقل بروزاً فكانت تقدم آلاف الكتبة لخدمة هذا النظام المتقن من الحكم، وكان الكتبة يدربون في مدرسة خاصة في طيبة، ويمكننا أن نستشف قيمهم من خلال النصوص التي تسرد الفضائل المطلوبة في الكاتب لكي ينجح، وهي الانكباب على الدراسة وضبط النفس والحذر واحترام الرؤساء، والتقيد الدقيق بقدسية الأوزان والمقاييس وملكية الأرض والأعراف القانونية.

إلا أن غالبية المصريين كانت من الفلاحين، وهم الذي كانوا يبذلون الجهود اللازمة للقيام بالأشغال العامة الكبرى، ويقدمون الفائض الزراعي الذي تعيش عليه طبقة النبلاء والبيروقراطية والمؤسسة الدينية الكبيرة. كانت الأرض خصبة، وكانت خصوبتها تتحسن باستمرار بفضل تقنيات الري، وهذا واحد من أقدم الأدلة على القدرة الكبيرة لحكومة مصر في تعبئة المجهود الجماعي، وهي قدرة استمرت لزمن طويل. كان الخضار والشعير والعلس* هي المحاصيل الأساسية في الحقول الممتدة على طول قنوات الري، وكانوا يأكلون أيضاً لحم الطيور والسمك وحيوانات الصيد، وكلها تظهر بوفرة في الفن المصري، وكانت الأبقار تستخدم للجر والحراثة منذ المملكة القديمة على الأقل، وقد بقيت هذه الزراعة عماد الحياة في مصر من دون تغير هام حتى الأزمنة الحديثة.

الفصل الثاني - أولى الحضارات Chp2-25

مشهد من الفن المصري القديم الذي استمر حتى العهد الوسيط



البناء في مصر

لقد مكن هذا الأمر أيضاً من تشييد أشغال عامة مبنية من الحجر لا يضاهيها شيء في زمانها، كانت البيوت وأبنية المزارع تبنى من لبن الصلصال، ولم يرد لها أن تبقى إلى الأبد، أما القصور والمدافن والصروح التذكارية للفراعنة فقد شيدت لكي تعرف الخلود. وهي انتصارات اجتماعية وإدارية فضلاً عن أنها انتصارات في فن العمارة. فقد كان آلاف العبيد وأحياناً أفواج من الجنود تفرز بإدارة كاتب واحد لتقطيع كتل الحجارة الهائلة ووضعها في مكانها بقوة عضلاتهم، وكانت تزين بعناية بواسطة أدوات من النحاس أولاً ثم من البرونز، وكثيراً ما تحفر وتلون بدقة كبيرة. لم تكن لديهم إلا عتلات بسيطة ومزالج إذ لم تكن ثمة بكرات للرفع، بل كانوا يبنون منحدرات هائلة من التراب يرفعون عليها الأبنية رويداً رويداً، فتمكنوا من تشييد سلسلة من الصروح مازالت تذهل الناظرين. إن أشهر تلك الصروح هي الأهرام، وهي الأكبر في تجمعات كبيرة من الأبنية التي يسكنها الملك بعد موته. من أبنية السلالة الثالثة تجد في سقارة قرب منف (الهرم المدرج) وهو أعظم أعمال إمحوتب أول مهندس عمارة معروف ومستشار الملك.

الفصل الثاني - أولى الحضارات Chp2-26

أولى الإهرامات في سقارة

وقد أله إمحوتب فيما بعد كإله للطب، وكان يبجل كعالم فلك وكاهن وحكيم، كما نسبت إليه بداية البناء بالحجر. يبلغ ارتفاع هذا الهرم مائتي قدم**، وهو شيء لم يكن الناس قد رأوا مثله من قبل قط، فلا عجب إذاً أن يعتبروا بناءه دليلاً على قدرة إلهية. إلا أن أهراماً أكبر منه سوف تكتمل في الجيزة بعهد السلالة الرابعة، مثل هرم خوفو الذي استغرق بناؤه عشرين سنة، وتطلب إحضار كميات هائلة من الحجارة، من خمسة إلى ستة ملايين طن، من مسافة 500 ميل*، هذا البناء العملاق موجه توجيهاً دقيقاً، ورغم أن طول أضلاعه يبلغ 750 قدم** فإنها لا تتفاوت إلا بمقدار يقل عن عشر بوصات 25 سم، وليس من الغريب أن تعتبر الأهرام في زمن لاحق من عجائب الدنيا السبع. إلا أنها لم تكن بالطبع الأبنية الكبرى الوحيدة في مصر، بل كانت هناك في أماكن أخرى صروح عظيمة غيرها، مثل المعابد والقصور ومدافن وادي الملوك.



الفصل الثاني - أولى الحضارات Chp2-27

أهرامات الجيزة: خوفو وخفرع ومنقرع

تفسر لنا هذه الأشغال العامة الضخمة لماذا اعتقد الناس فيما بعد أن المصريين كانوا علماء عظاماً، إذ أنهم كانوا يحسبون أن أبنية كهذه تحتاج إلى أرقى المعارف الرياضية والعلمية. صحيح أن المصريين كانوا ماهرين جداً في مساحة الأراضي، وأن موظفيهم قد برعوا كمهندسين مدنيين، إلا أن تلك الأبنية لا تحتاج في الحقيقة إلا أبسط أشكال الحساب، مثل القياس الدقيق ومعالجة معادلات معينة لحساب الأحجام والأوزان. ولم تتجاوز الرياضيات في مصر هذا الحد، فالمصريون لم يتفوقوا على البابليين في العلوم. لقد بقي المنجمون قروناً طويلة يجلون أرصاد المصريين الفلكية المنقوشة، ولكن الحقيقة أن قيمتها العلمية كانت ضئيلة وقدرتها التنبؤية قصيرة المدى نسبياً. إلا أن إنجازهم الراسخ هو التقويم، إذ أن المصريين قد وضعوا السنة الشمسية المؤلفة من 365 يوم، وقسموها إلى اثني عشر شهراً، كل منها مؤلف إلى ثلاثة أسابيع طول الأسبوع منها 10 أيام، وأضافوا خمسة أيام عند نهاية السنة، ونذكر هنا أن الثوار الفرنسيين قد أعادوا إحياء هذا الترتيب في عام 1793 في محاولة لإحلال تقويم أكثر عقلانية محل التقويم المسيحي.

الفصل الثاني - أولى الحضارات Chp2-29 الفصل الثاني - أولى الحضارات Chp2-28

التصميم الهندسي الخارجي والداخلي للهرم

الدين

كانت الحياة الدينية في مصر القديمة أمراً أدهش الأجانب أيضاً إلى حد كبير، ولكن مازال من الصعب علينا أن نستوعبها، لأنها كانت هيكلاً شاملاً يتخلل كافة نواحي الحياة، وحقيقة طبيعية تسري فيها كما تسري الدورة الدموية في جسم الإنسان، ولم تكن بنية مستقلة مثل مفهوم الكنيسة في أزمان لاحقة. فالمصريون لم يروا الدين قوة حية تنمو، بل مظهراً من مظاهر الواقع ووصفاً لكون لا يتبدل. ولكن حتى هذا الوصف قد يكون مضللاً، لأن المفاهيم والفروق التي نعتبرها بديهية لم يكن لها وجود لدى قدماء المصريين، فهم لم يكونوا يهتمون بالتمييز بين الدين والسحر مثلاً.

ومهما كان الدين يعني في مصر القديمة، فقد كان لديهم طوال زمن حضارتهم تقريباً نزوع دائم لأن يبحثوا من خلاله عن طريق للنفاذ من عالم الحواس المتغير أبداً، من أجل بلوغ عالم لا يتبدل يمكن فهمه من خلال حياة الموتى فيه. وربما تشعر بنبض النيل هنا أيضاً، لأنه كان يجرف كل شيء ليعيد خلقه من جديد في كل عام، ولكن من دون أن تتغير دورته، بل إنها ما تبرح تتكرر باستمرار مجسدة إيقاع الكون. كان التغير الأعظم الذي يتهدد الناس هو الموت، وهو أبشع تعبير عما يمرون به جميعاً من انحلال وتبدل، ويبدو أن الديانة المصرية كانت مهووسة بموضوع الموت منذ البداية، كما تدل المومياءات والأغراض التي وجدت في الغرف الجنائزية والمحفوظة في متاحفنا. على عهد المملكة الوسطى صاروا يؤمنون أن جميع الناس يمكنهم رجاء الحياة في العالم الآخر وليس الملك وحده، لذلك كان المرء يحضر لحياته المقبلة بالطقوس والرموز، وبتهيئة القضية التي سوف يضطر لعرضها أمام قضاته في العالم الآخر، وهو على ثقة كافية بأنه قادر على بلوغ الهناء الأبدي المتاح له من حيث المبدأ. لم تكن نظرة المصريين إلى ما بعد الموت نظرة كئيبة إذاً كما في بلاد الرافدين، بل إن بإمكان المرء أن يكون سعيداً فيها، وقد جاهد المصريون جهاداً امتد قروناً طويلة لكي يضمنوا تلك الحياة، ويفسر هذا الأمر العناية العجيبة بتحضير المدافن وقيادة الميت إلى مكان راحته الأبدي.

كان مجمع آلهة المصريين هائل العدد، فقد كان يضم نحو ألفي إله، وعدداً من العبادات الهامة التي نشأ بعضها من الآلهة الحيوانية في حقبة ما قبل التاريخ. من تلك العبادات عبادة حورس، الإله الصقر، الذي كان أيضاً إله السلالة.

الفصل الثاني - أولى الحضارات Chp2-30

الإله حورس

لقد مرت هذه الحيوانات بتحول بطيء وغير كامل إلى الشكل الإنساني، فصار الفنانون يضعون رؤوسها على أجساد بشرية، وكانت العلاقات بينها يعاد ترتيبها بأشكال جديدة كلما حاول الفراعنة تحقيق أهداف سياسية من خلال دمج عباداتها. وهكذا تم دمج عبادة حورس بعبادة إله الشمس، الذي صار فرعون يعتبر تجسيداً له. ولم تكن تلك نهاية القصة بعد، لأن حورس قد مر بعد ذلك بتحول آخر، فصار ابناً لأوزوريس وهو الشخصية المركزية في عبادة وطنية ولزوجته إيزيس التي كانت آلهة الخلق والحب، وهي على الأرجح أقدم الآلهة جميعاً، إذ تعود أصولها هي الأخرى إلى حقبة ما قبل السلالات، وهي من تطورات الآلهة الأم التي نملك أدلة على وجودها في كافة أنحاء الشرق الأدنى في العصر النيوليتي. وسوف تستمر زمناً طويلاً لتظهر وهي تحمل الطفل حورس بين ذراعيها في الأيقونات المسيحية بصورة مريم العذراء. وقد كانت هناك أيضاً أشكال من العبادة ذات صفة عقائدية وتأملية يجب أن نذكر منها محاولة مشهورة قام بها فرعون في القرن الرابع عشر لترسيخ عبادة آتون، وهو تظاهر آخر للشمس. ويعتبر البعض هذا العبادة أول ديانة توحيدية.

الفصل الثاني - أولى الحضارات Chp2-31

الآله أوريس

الفن والتقنية في مصر

تشغل الآلهة حيزاً كبيراً في فن مصر القديمة، إلا أن فيه أشياء كثيرة غيرها، كان هذا الفن مبنياً على الواقعية، ومع أن تعابير الوجه والوضعيات كانت تقليدية، فقد منحته تلك الواقعية طوال ألفي سنة بساطة جميلة في البداية، وحتى في فترة تراجعه بعد ذلك بقي محتفظاً بسحره وقربه. وقد سمح بالتصوير الواقعي لمشاهد الحياة اليومية، فترى فيه المواضيع الريفية من زراعة وصيد سمك وصيد حيوانات، كنا ترى الحرفيين يعملون على منتجاتهم، والكتبة منكبين على أعمالهم. وقد بقي الفنانون طوال ألفي سنة تقريباً يعملون ضمن نفس التقليد الكلاسيكي مع استعارة تأثيرات خارجية، ولكن بقوة ورسوخ لا يتزعزعان، ولاريب أن هذا الأمر كان من أكثر ما يبهر نظر الزائر لمصر في الأزمنة القديمة، لأنه كان يرى الأشياء كلها مثل كيان واحد، وإن هذا التقليد هو أطول وأقوى تقليد مستمر في كل تاريخ الفن في عصر الحضارة.

لقد بقي بعض الفن المصري القديم بفضل اختراع ورق البردي، منذ السلالة الأولى، ويتكون هذا الورق من لب نبات القصب الذي يوضع بشكل متصالب ويدق معاً حتى يصير صفحة متجانسة. وكانت تلك مساهمة حقيقية في تقدم البشرية، لأنها ساهمت في نقل المعلومات أكثر من الهيروغليفية. فورق البردي أرخص من الجلد الذي كان يصنع منه الرق، وأسهل استعمالاً من رقم الصلصال أو الحجر، ولو أنه كان أكثر هلاكاً منه، لهذا سوف يصبح أكثر وسائل المراسلة وحفظ السجلات في الشرق الأدنى حتى وقت متقدم من الحقبة المسيحية، وعندما وصل اختراع الورق من الشرق الأقصى، وقد أخذ الورق اسمه في اللغة الإنكليزية Paper من ورق البردي Papyrus ، وبعد ظهور ورق البردي بزمن قصير صار الكتاب يلصقون صفحات منه معاً ليصنعوا لفة طويلة، فاخترع المصريون بذلك الكتاب، مثلما اخترعوا أول مادة له، وإن جزءاً عظيماً مما نعرفه عن الأزمنة القديمة إنما وصلنا على ورق البردي.

الفصل الثاني - أولى الحضارات Chp2-32

لوحة مرسومة على ورق البردى

إن القوى العجيبة التي نسبت لكهنة مصر وسحرتها، والتجسيد الباهر لإنجازاتها السياسية في الفن والعمارة، تفسر الكثير من مكانة مصر الدائمة. ولكن إذا نظرت إلى حضارتها بالقياس إلى حضارات أخرى لا تجدها شديدة الخصب ولا قوية التفاعل، فقد بقيت العمارة بالحجر هي التجديد الأساسي الوحيد لزمن طويل بعد قدوم الكتابة، وقد اخترع المصريون العمود. كما يشير تاريخ التقنية فيها إلى أن شعبها كان بطيئاً في تبني المهارات، ونفوراً من التجديد بعد أن قام بقفزته الخلاقة نحو الحضارة، فإن لا تجد أدلة أكيدة على وجود عجلة صنع الفخار قبل المملكة القديمة، ورغم المهارة الكبيرة في شغل الذهب والنحاس لا يظهر صنع البرونز إلا في زمن متقدم من الألف الثانية ق.م، ولا تظهر المخرطة إلا بعده بزمن طويل، ويكاد يكون المثقاب القوسي هو الأداة الوحيدة المتاحة للحرفيين المصريين من أجل مضاعفة الطاقة ونقلها. صحيح أن ورق البردي والعجلة كانا معروفين على عهد السلالة الأولى، إلا أن مصر قد ظلت على اتصال ببلاد الرافدين طوال ألفي عام قبل أن تأخذ عنها اختراع الشادوف المستخدم لرفع المياه من الآبار، مع أنه كان يستخدم لري الأراضي هناك منذ زمن طويل.

كانت حياة الفقراء في مصر شاقة، ولكن ليس بصورة دائمة. ولابد أن العبء الأكبر كان أعمال السخرة، أما عندما لا يأمر فرعون بتلك الأعمال فيتوفر للفلاح وقت كبير من الفراغ بانتظار فيضان النيل الذي يقوم بالعمل عوضاً عنه. كما أن القاعدة الزراعية كانت غنية وكافية لإعالة مجتمع معقد وفيه تنوع كبير من الحرفيين، وإن ما نعرفه عن نشاطاتهم أكثر مما نعرفه عن حرفيي بلاد الرافدين بفضل ما بقي من رسوم ونقوش حجرية. كان التمييز الأكبر في هذا المجتمع هو بين المتعلمين الذين يمكنهم الانخراط في خدمة الدولة من جهة، وبقية الشعب من جهة أخرى. وكانت العبودية هامة، ولكن يبدو أنها كانت مؤسسة أقل وزناً منها في بقية أنحاء الشرق الأدنى القديم.

المرأة في مصر القديمة

تذكر تقاليد الأزمنة اللاحقة إغراء نساء مصر وسهولة منالهن، ويعطي هذا الأمر انطباعاً بأن المجتمع كان يعطيهن استقلالاً أكبر ومكانة أعلى من أخواتهن في حضارات أخرى. ويصور الفن المصري سيدات البلاط في ملابس قطنية رقيقة تكشف أجسادهن، بشعورهن المتقنة الزينة وجواهرهن الرائعة ومواد التجميل الموضوعة بعناية كبيرة، والتي كان تجار مصر يهتمون بتأمينها أي اهتمام. كما أن الصور التي تظهر كيف كانت تعامل نساء الطبقة الحاكمة تترك في النفس الانطباع بالكرامة والاستقلال. وهي صور هامة لابد من إعطائها بعض الوزن من دون المغالاة في التعويل عليها. وترى الفراعنة أحياناً مع زوجاتهم، وغيرهم من النبلاء مع زوجاتهم أيضاً، في حال من الألفة الحميمة التي لا تراها في أي من فنون الشرق الأدنى القديم قبل الألف الأولى ق.م، ويوحي هذا الأمر بمساواة عاطفية حقيقية لا يمكن أن تكون مجرد صدفة.

إن النساء الجميلات والفاتنات اللواتي تراهن في الكثير من الرسوم والتماثيل قد يعكس أهمية سياسية للمرأة لا وجود لها في البلاد الأخرى. فكثيراً ما كان العرش ينتقل من الناحية العملية عن طريق سلسلة النسب الأنثوية، أي أن وريثة العرش تحمل لزوجها حق الخلافة. لذلك كان زواج الأميرات مصدر قلق كبير، وكثيراً ما كانت الزيجات الملكية تتم بين أخ وأخته، من دون أن تعطي نتائج وراثية ضارة على ما يبدو. كما كان بعض الفراعنة يتزوجون بناتهم، ولكن ربما لمنع غيرهم من الزواج بهن وليس لضمان استمرار الدم الإلهي في السلالة. وقد مارست بعض زوجات الفراعنة سلطات هامة، بل إن إحداهن قد شغلت العرش نفسه فكانت تظهر في الطقوس ملتحية وفي ثياب رجل طوعاً منها، كما أنها اتخذت لقب فرعون.

الفصل الثاني - أولى الحضارات Chp2-33

نسوة من مصر القديمة

وتجد أيضاً حضوراً كبيراً للأنثى في مجمع الآلهة المصرية، خصوصاً في عبادة إيزيس، ولهذا الأمر دلالات هامة. كما يشدد الأدب والفن على احترام للزوجة والأم يتجاوز حدود حلقة الوجهاء، وتركز قصص الحب ومشاهد الحياة العائلية على العاطفة الجنسية اللطيفة والاسترخاء والعفوية. وقد كانت بعض النساء معلمات، بل إن هناك كلمة مصرية تدل على الكاتبة، ولكن لم تكن هناك بالطبع مهن كثيرة متاحة لهن خارج البيت عدا عن مهنتي الكاهنة والمومس. وكان بإمكان الميسورات منهن حيازة أملاك، ويبدو أن حقوقهن القانونية كانت مشابهة لحقوق نساء سومر من أكثر النواحي.

الفصل الثاني - أولى الحضارات Chp2-34

الإلهة إيزيس

المملكتان القديمة والوسطى

رغم كثرة السجلات فإن من الصعب أن نعرف علاقات مصر بالعالم الخارجي بأبعادها الصحيحة، أو مد وجزر السلطة ضمن وادي النيل نفسه. فنحن نتحدث عن فترات زمنية طويلة جداً من دون أن نعلم بالتأكيد ما الذي كان يحدث فيها وما مدى أهميته. ويمكننا اعتبار تاريخ مصر معزولاً طوال ألف سنة تقريباً بعد مينيس، وسوف يعتبرون هذه المرحلة فيما بعد فترة استقرار للبلاد ومناعة للفراعنة. إلا أن العلماء اكتشفوا على عهد المملكة القديمة انتقالاً للسلطة من المركز إلى الولايات، حيث صار الولاة يبدون أهمية واستقلالاً متزايدين، بل إن فرعون نفسه كان مضطراً لوضع تاجين اثنين وكان يدفن مرتين، مرة في مصر العليا ومرة في مصر السفلى، إذ أن انقسامهما قد بقي انقساماً حقيقياً. ولم تكن علاقات مصر بجيرانها لافتة، عدا عن سلسلة من الحملات قامت بها ضد شعوب فلسطين قرب نهاية المملكة القديمة. ثم انعكست الآية عندما جاءت المرحلة المتوسطة الأولى، فغزيت مصر بعد أن كانت هي الغازية، ولاريب أن الضعف والانقسام قد ساعدا الغزاة الآسيويين على تثبيت أقدامهم لفترة من الزمن في وادي النيل الأسفل.

أما المملكة الوسطى فقد استهلها ملك قوي أعاد توحيد المملكة من عاصمته في طيبة، وتمتعت مصر لحوالي مائتين وخمسين سنة بعد عام 2000 ق.م بفترة من التعافي، عاد فيها التشديد على النظام والتماسك الاجتماعي. وتغيرت المكانة الإلهية لفرعون تغيراً دقيقاً ، ففضلاً عن كونه إلهاً صاروا يشددون على أنه متحدر من آلهة، وأنه سوف يليه آلهة، وعلى أن النظام الأزلي سوف يبقى راسخاً بعد الأيام السود التي ألقت الشك في قلوب الناس. ومن الواضح أيضاً حدوث توسع ونمو ماديين، فقد أنجزت أشغال استصلاح كبرى للأراضي في مستنقعات النيل، وفتحت بلاد النوبة في الجنوب بين الشلالين الأول والثالث، واستغلت مناجم ذهبها، كما أسست مستوطنات مصرية أبعد منها جنوباً، في البلد التي سوف تصبح ذات يوم مملكة غامضة اسمها مملكة كوش. وقد تركت التجارة آثاراً تدل على تطور لا سابق له، كما أعيد تشغيل مناجم النحاس في سيناء أيضاً، إلا أن المملكة الوسطى قد انتهت بهيجان سياسي وتنازع بين السلالات.

واستمرت المرحلة المتوسطة الثانية نحو مائتي عام، وتميزت بغزو جديد أخطر بكثير من الغزو السابق قام به شعب أجنبي أطلق عليه اسم الهكسوس.إننا لا نعرف الكثير عنهم، ولكن لعلهم كانوا شعباً سامياً استفاد من الميزة العسكرية للعربات الحربية المزودة بالحديد من أجل السيطرة على دلتا النيل. ويبدو أنهم قد تبنوا عادات المصريين وأساليبهم، بل حافظوا في البداية على البيروقراطيين الموجودين. إلا أن هذا الأمر لم يؤد إلى اندماجهم، بل تم طردهم على عهد السلالة الثامنة عشر، وكانت تلك بداية المملكة الحديثة، التي تابعت انتصاراتها بعد عام 1570 ق.م بمطاردة الهكسوس حتى معاقلهم في جنوب كنعان، إلى أن احتلت في النهاية قسماً كبيراً من سوريا وفلسطين.

المملكة الحديثة

كانت المملكة الحديثة في ذروة أبهتها على درجة كبيرة من النجاح على المستوى الدولي، كما أنها خلفت صروحاً مادية غنية. لقد حدثت على عهد السلالة الثامنة عشر نهضة في الفنون، وتبدل في التقنيات العسكرية بتبني اختراعات آسيوية مثل العربة، والأهم من كل هذا هو التمتين الهائل للسلطة الملكية. واللافت أن امرأة هي حتشسبوت قد شغلت العرش لفترة من الزمن في هذه المرحلة أيضاً، وراحت مصر تحرز المزيد من الأمجاد العسكرية طوال قرن كامل، فوصل زوج حتشسبوت وخليفتها تحوتمس الثالث بحدود الإمبراطورية إلى الفرات. وتشهد الصروح التي تسجل وصول الجزية والعبيد والزيجات من أميرات آسيويات على صدارة مصر، كما تعتبر هذه المرحلة عادة ذروة إنجازاتها الفنية، ولو أن بالإمكان اكتشاف تأثيرات أجنبية فيها أتتها من جزيرة كريت.

الفصل الثاني - أولى الحضارات Chp2-35

تحوتمس الثالث

قرب نهاية المملكة الحديثة تظهر العلامات على اتصالات مصر المتزايدة بالخارج، وتشير أيضاً إلى أن العالم خارج مصر كان قد تغير من نواح كثيرة: كان تحوتمس الثالث قد لزمه رغم قوته سبع عشرة سنة لكي يخضع شرق المتوسط، وقد عجز مع هذا عن غزو إمبراطورية كبيرة يحكمها شعب يدعى الشعب الميتاني، كان يسيطر على شرق سوريا وشمال بلاد الرافدين. بعد ذلك تزوج فرعون أميرة من الميتاني، فصارت المملكة الحديثة تعتمد على صداقة شعبها لحماية مصالح مصر في تلك المنطقة، وباتت مصر مكرهة على الخروج من عزلتها التي طالما أمنت لها الحماية في الماضي. إلا أن الميتاني كانوا خاضعين لضغط الحثيين المتزايد في الشمال، والحثيون هم أحد أهم الشعوب التي راحت طموحاتهم وتحركاتهم تمزق عالم الشرق الأدنى في النصف الثاني من الألف الثانية ق.م، ومابرحت الأمور تتبدل.

لقد بلغت مصر ذروة مكانتها وازدهارها على عهد أمنحوتب الثالث نحو 1410-1375 ق.م، وكانت تلك أعظم حقبة، حيث مُنِحَ أمنحوتب الدفن اللائق به في أكبر مدفن أعد لملك في يوم من الأيام، ولو لم تبق منه الآن إلا بقايا التمثالين العملاقين اللذين سماهما الإغريق فيما بعد جباري ممنون وهو بطل أسطوري كانوا يظنون أنه أثيوبي. لقد حاول خليفة هذا الفرعون، أي أمنحوتب الرابع، القيام بثورة دينية تتمثل بإحلال عبادة توحيدية هي عبادة إله الشمس أتون محل الديانة القديمة، وللدلالة على جديته غير اسمه إلى أخناتون، كما أسس مدينة جديدة في تل العمارنة بعد ثلاثمائة ميل (خمسمائة كم) إلى الشمال من طيبة، وجعل فيها معبداً قدسه مكشوف لأشعة الشمس، لكي يكون مركزاً لهذا المعتقد الجديد. إلا أن هذه الثورة الدينية قد حرضت معارضة ساهمت في شل أخناتون على جبهات أخرى، وفي تلك الأثناء كان ضغط الحثيين يظهر آثاره على البلاد التابعة لمصر، وقد عجز أخناتون عن إنقاذ الميتاني، فخسر هؤلاء كل أراضيهم إلى الغرب من الفرات عندما أخذها الحثيون في عام 1372 ق.م، ثم نشبت حرب أهلية أنبأت بزوال مملكتهم بعد نحو ثلاثين سنة، وهكذا كان عالم مصر الإمبراطوري يتداعى.

الفصل الثاني - أولى الحضارات Chp2-36

أخناتون

حقبة التراجع

لقد غير أمنحوتب الرابع اسمه لأنه أراد أن يمحو كل ما يذكر بعبادة الإله القديم آمون، أما خليفته وزوج ابنته فقد غير اسمه من توت عنخ آتون إلى توت عنخ آمون لكي يعبر عن

الفصل الثاني - أولى الحضارات Chp2-37

توت عنخ آمون

إعادة العبادة القديمة والإطاحة بمحاولة الإصلاح الديني. وربما كان العرفان له بهذا الجميل هو الذي أدى إلى دفنه ذلك الدفن الفخم والمذهل في وادي الملوك من بعد حكم قصير ليس فيه شيء آخر يستدعي الانتباه. عندما مات توت عنخ آمون كان أمام المملكة الحديثة قرنان من الحياة بعد، ولكنهما كانا قرنين من التراجع المتسارع الذي لا يتمهل إلا نادراً. وقد بذل ملوك لاحقون جهودهم من أجل استعادة ما ضاع، ونجحوا في ذلك أحياناً، وظلت موجات الغزوات تنقلب جيئة وذهاباً فوق فلسطين. واتخذ أحد الفراعنة أميرة حثية زوجة له مثلما كان أسلافه يتزوجون من أميرات الشعوب الأخرى، إلا أن أعداءً جدد سوف يظهرون، وحتى التحالف مع الحثيين لن يعود ضمانة كافية ضدهم. كان بحر إيجة في حالة هيجان، وتقول سجلات مصر أن الجزر " قد لفظت سكانها كلهم معاً" و "لم تقف في وجههم بلد" وقد تم طرد " شعوب البحر" هذه في النهاية، ولكن من بعد صراع شاق. ومنذ عام 1150 ق. تقريباً تكثر علامات التفكك الداخلي أيضاً، فقد مات الملك رعمسيس الثالث نتيجة مؤامرة من حريمه، وكان آخر ملك أحرز بعض النجاح في صد موجة الكوارث المتعاظمة. ثم تسمع عن إضرابات ومشاكل اقتصادية على عهد خلفائه، وعن انتهاك لحرمة مدافن الملوك في طيبة ونهبها، والحقيقة أن عصر سلطة مصر الإمبراطورية قد ولى.

ومثلها ولت سلطة الحثيين، وإمبراطوريات غيرها عند نهاية الألف الثانية، كان العالم الذي أحرزت فيه مصر إنجازاتها يتوارى، وكان هذا سبباً أساسياً من أسباب تقهقرها. إلا أنك تشعر أيضاً شعوراً لا يقاوم بأن نهاية المملكة الحديثة تكشف عن نقاط ضعف كانت كامنة فيها منذ البداية. والحقيقة الغريبة هي أن إبداع حضارة مصر لم يؤت في النهاية أكله، لقد كان المصريون يحشدون الجهود الجبارة تحت إشراف موظفين بارعين، ولكن لمجرد تشييد المدافن العملاقة، وكان حرفيوهم يكرسون مهاراتهم الرائعة ولكن من أجل صنع أغراض مآلها القبور.

وكانت لديهم نخبة معلمة جداً تستخدم لغة معقدة ودقيقة، وتملك في ورق البردي مادة مناسبة لا مثيل لها، استعملتها بغزارة في النصوص والنقوش، إلا أنها لم تترك للبشرية أفكاراً فلسفية أو دينية عظيمة. ومن الصعب ألا تشعر بالعقم والتفاهة في قلب هذا الاستعراض الباهر، وحدها قدرة حضارة مصر العجيبة على الاستمرار تبقى أمراً مذهلاً، لأنها ظلت تعمل زمناً طويلاً جداً، وقد تعرضت لمرحلتين من الكسوف الكبير على الأقل ثم تعافت منهما من دون أن يغيرها على ما يبدو. إن حياة بهذا الطول إنما هو نجاح مادي وتاريخي عظيم، ويبقى السؤال المحير هو لماذا اقتصرت حضارة مصر على أرضها؟ فالحقيقة أن سلطتها العسكرية والاقتصادية لم تغير العالم بشكل دائم، وحضارتها لم تنتشر بنجاح إلى الخارج قط.

لقد كان التغير الاجتماعي والثقافي في تلك الأزمنة الباكرة بطيئاً جداً وغير محسوس بالطبع، وقد تعودنا نحن على التغير السريع بحيث صار من الصعب علينا أن نشعر بالجمود الكبير في الأنظمة الاجتماعية القديمة، وهي على كل حال أنظمة ناجحة لأنها مكنت الناس من معالجة بيئتهم المادية والعقلية. كانت مصادر التجديد في تلك الحضارات أقل بكثير منها اليوم؛ إن سرعة التاريخ كبيرة في مصر القديمة بالقياس إلى حقبة ما قبل التاريخ، ولكنها تبدو لنا بطيئة للغاية إذا فكرنا بقلة تبدل الحياة اليومية بين زماني مينيس وتحوتمس الثالث، وهي فترة تمتد لأكثر من ألف وخمسمائة سنة، وتقارب المسافة بيننا وبين نهاية بريطانيا الرومانية. ولم تكن التقنية أو القوى الاقتصادية بقادرة على دفع الأمور نحو التغيير كما اعتدنا اليوم إلا بصورة بطيئة جداً. أما الحوافز الفكرية فلا يمكن لها أن تكون قوية في مجتمع مكرس لغرس الروتين في النفوس والتحضير للموت.




* الصعيد

* آثارها اليوم بمحافظة الجيزة على الضفة الشمالية للنيل، 30 كم جنوبي القاهرة – المنجد في الأعلام


** في صعيد مصر على النيل بمحافظة قنا الحالية – المنجد في الأعلام


* نوع من القمح البري


** 60 م تقريباً

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://resalahmasriyah.mam9.com
Eng. Ahmedzoubaa
Admin
Eng. Ahmedzoubaa


عدد المساهمات : 1216
تاريخ التسجيل : 28/08/2010
العمر : 50

الفصل الثاني - أولى الحضارات Empty
مُساهمةموضوع: رد: الفصل الثاني - أولى الحضارات   الفصل الثاني - أولى الحضارات Emptyالثلاثاء 14 يونيو 2011 - 7:26

أولى حضارات آسيا

إذا نظرت إلى العالم في عام 1000 ق.م ، وهو تاريخ اعتباطي، وجدت أن الحضارة كانت قد ترسخت فيه إلى الشرق من الهلال الخصيب ومصر، فكانت كل من الهند والصين قد طورت لنفسها أنماطاً متميزة من الحياة المتحضرة، ومختلفة تماماً عن تلك الحضارات الأسبق الواقعة إلى الغرب منها، ولو حصلت اتصالات سطحية بها. وكانت الثقافات الأصلية في الصين والهند قد خلقت فيهما طرقاً في التفكير والسلوك متميزة تماماً وممتدة على رقعة شاسعة من الأرض. وكان هذان البلدان هما قلبا المنطقتين الجغرافيتين (ثم الثقافيتين) الأساسيتين اللتين تقسمان آسيا إلى الشرق من أفغانستان ومرتفعات إيران وجنوب سيبيريا. فالمنطقة الهندية تحدها جبال الهيمالايا وسلاسل الجبال المجاورة لها، أي مرتفعات بورما وسيام* وسواحل أرخبيل اندونيسيا. أما المنطقة الأساسية الثانية في شرق آسيا فهي تتكون من أرض الصين الكبيرة، ولكنها تشمل أيضاً كوريا واليابان والهند الصينية. وطوال القسم الأكبر من الأزمنة التاريخية كانت الحضارات التي تظهر في الهند والصين تنزع إلى السيطرة على هذين الجزئين الكبيرين من آسيا، وهما منطقتان متنوعتان تنوعاً كبيراً من حيث طبيعة الأرض والمناخ الجغرافية، وتضمان أكبر أنهار العالم، مثل الهندوس**والغانح والبرهمابترا والميكونغ واليانغ تسي كيانغ والنهر الأصفر وجميعها تصرف كميات هائلة من المياه من مرتفعات آسيا الداخلية، وقد كان وادياً اثنين من هذه الأنهر موقعين لأول أشكال الحياة المتحضرة في آسيا.

الفصل الثاني - أولى الحضارات Chp2-38

خارطة الهند والصين وأندونيسيا ودول شرق آسيا

وإذا نظرت إلى شبه القارة الهندية نظرة أقرب وجدتها تعادل أوربا في الحجم تقريباً، وقد بقيت معزولة لزمن طويل بسبب جغرافيتها، فلم تُغْزَ إلا نادراً من خلال ممرات الشمال الغربي، وذلك حتى القرن السادس عشر. إن جبال هذه المنطقة –خاصة منها الأبعد نحو الشمال- هي من أعلى الجبال في العالم، وإلى الشمال الشرقي تمتد الأدغال. أما الضلعان الآخران لشبه القارة الهندية فهما يطلان على المحيط الهندي الواسع. وقد منحتها هذه الجغرافية مناخاً متميزاً ومتنوعاً جداً ولكنه استوائي، فالجبال الشمالية تصد الرياح الجليدية القاسية الآتية من آسيا الوسطى، ولو أن شمال الهند قد يكون أحياناً قارص البرودة في الشتاء، بينما تجد السواحل الطويلة مفتوحة أمام الغيوم المحملة بالمطر، والتي تجري إليها من المحيط لتروي سهول الشمال الجافة بأمطارها الموسمية السنوية. ويحدد هذا الترتيب ساعة الهند المناخية وبالتالي الزراعية، فيأتي بالمطر خلال أكثر شهور السنة حرارة، ويؤمن لمرتفعات الدكن الجنوبية غطاء من الغابات الكثيفة، ويبدو أن الزراعة قد ترسخت أول ما ترسخت في سهول نهر الهندوس الغرينية في الشمال الغربي.

أما منطقة الصين الثقافية فهي أكبر حتى من هذه، وهي أكبر من الولايات المتحدة، إذ أن بين بكين وهونغ وكونغ إلى الجنوب حوالي 1200 ميل* في خط مستقيم. وتضم هذه الأرض الشاسعة مناخات كثيرة ومناطق كثيرة، ففي الصيف يكون الشمال حارقاً وجافاً بينما يكون الجنوب رطباً ومعرضاً للفيضانات، ويبدو الشمال عارياً ومغبراً في الشتاء بينما يبقى الجنوب أخضر على الدوام. وكانت الحضارة في الصين تنزع دوماً إلى الانتشار من الشمال إلى الجنوب، وإلى التأثر بتيارات آتية من منغوليا وآسيا الوسطى. وينقسم هذا البلد الكبير إلى ثلاثة أقسام طبوغرافية أساسية تحددها وديان ثلاثة أنها كبرى تصرف القسم الداخلي من البلاد، وتجري عبرها من الغرب نحو الشرق تقريباً. هذه الأنهار هي من الشمال إلى الجنوب: الهوانغ هو أو النهر الأصفر، واليانغ تسي كيانغ، والسيكيانغ، ولم تساعد هذه الأنهار في ربط الصين بالعالم الخارجي إلى أن جاء الأوروبيون، لذلك بقيت الصين زمناً طويلاً منعزلة مثلها مثل الهند. وتغطي الجبال قسماً كبيراً منها، ومازالت حدودها تمتد بلا انتظام عبر سلاسل كبيرة من الجبال والمرتفعات وعلى امتدادها، إلى في أقصى الجنوب والشمال الشرقي. وتقع منابع نهر اليانغ تسي كيانغ مثل منابع الميكونغ في مرتفعات كون لون شمالي التيبت. وإن هذه الحدود الجبلية هي عوامل عزل كبيرة، وهي تشكل قوساً لا يقطعها إلا جريان النهر الأصفر نحو الجنوب آتياً إلى الصين من وسط منغوليا.







* تايلاند اليوم

** السند


* 1900 كم تقريباً
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://resalahmasriyah.mam9.com
Eng. Ahmedzoubaa
Admin
Eng. Ahmedzoubaa


عدد المساهمات : 1216
تاريخ التسجيل : 28/08/2010
العمر : 50

الفصل الثاني - أولى الحضارات Empty
مُساهمةموضوع: رد: الفصل الثاني - أولى الحضارات   الفصل الثاني - أولى الحضارات Emptyالثلاثاء 14 يونيو 2011 - 7:27

حضارة الهند الباكرة

إن الحضارة في الهند أقدم منها في الصين، ولكن تاريخها أكثر تفككاً. ومازالت الهند القديمة تعيش بيننا من بعض النواحي بعكس جميع مراكز الحضارات الباكرة الأخرى. فحتى بداية القرن العشرين كان كثير من الهنود يعيشون مثل جميع أجدادنا القدامى، أي على الصيد والجمع الطعام، ومازالت العربة التي يجرها الثور وعجلة صنع الفخار في قرى كثيرة حتى اليوم مثل التي كانت مستخدمة منذ أربعة آلاف سنة على ما يبدو، بل مازالت تعبد في مقامات القرى آلهة وإلهات تعود في أصولها إلى العصر الحجري. كما أن الترتيبات الاجتماعية قبل عام 1000 ق.م بزمن طويل مازالت تنظم حياة الملايين من الهنود، من مسيحيين ومسلمين فضلاً عن الهندوس.

إن الشعوب ذات البشرة الداكنة والتي تسمى شعوباً دراويدية وتجد أحفادها اليوم بشكل أساسي في جنوب الهند، كانت تعيش في الشمال أيضاً منذ حوالي خمسة آلاف سنة، وربما كان هؤلاء هم الهنود الأصليون، ولكن هذا الأمر غير مؤكد. لقد دخلت شعوب كثيرة إلى شبه القارة الهندية من خلال ممرات الجبال في الشمال الغربي، وربما جاء شعب آخر وأطلق شرارة الحضارة في وادي الهندوس، حيث بدأت الزراعة في الهند وحيث توجد الأدلة الأولى على صنع الفخار على عجلة، ولكن لا أحد يعلم الحقيقة بشكل أكيد. صحيح أن بعض العلماء قد اجتذبتهم فكرة أن تكون الهند أخذت حضارتها عن الشرق الأدنى، ولكن ربما توصل الهنود إلى الحضارة بأنفسهم، مثلهم مثل أهل بلاد الرافدين.

لقد ظهرت الحضارة في الهند منذ عام 2500 ق.م تقريباً، وتشهد على ذلك أعمال علماء الآثار في أربعين أو خمسين موقعاً، من بينها بقايا مدينتين كاملتين في موهنجو دارو وهرابا، وكلتاهما قريبتان من نهر الهندوس، ولكن بينهما مسافة 400 ميل (650 كم تقريباً). كانت هاتان المدينتان كبيرتين ومدهشتين حقاً، وربما كان في كل منهما ثلاثين ألف نسمة عندما كانتا في ذروة امتدادهما، وكان محيطهما بين 2-205 ميل (3-4 كم ). من الواضح أن وادي نهر الهندوس لم يكن في ذلك الزمان جافاً بعد، لأن حضارة على هذا المستوى -وكانت حضارة هرابا هذه تشمل منطقة واسعة جداً- تحتاج إلى زراعة غنية جداً، ولابد من وجود طرق للتحكم بنهر الهندوس المعرض للفيضانات عن طريق نظم للتصريف والري من أجل أن تنشأ حياة المدن، ويشير هذا بدوره إلى مهارات عالية في التنظيم والإدارة والتقنية. وربما كان اختراع القرميد المشوي اختراعاً حاسماً، لأنه المادة التي بنيت بها مدن هرابا، وهو مناسب للتحكم بالفيضانات في هذا الوادي الخالي من الحجارة، إذ يمكن استخدامه لبناء السدود والمجارير والقنوات، بينما لا يمكن ذلك باستخدام القرميد المجفف بأشعة الشمس الذي كان يصنع في بلاد الرافدين.

كانت هنالك أرصفة للسفن أيضاً، منها رصيف في لوثال تصله بالبحر قناة طولها ميل كامل 1.5 كم ، ويدل على وجود تجارة مع العالم الخارجي، ربما كانت تجارة بالبضائع القطنية لأنك تجد في هذه الحضارة أبكر الأدلة على صنعها، ويعزز هذا الأمر الانطباع الذي تعطيه بقايا المدن بأنها كانت مدن غنية. فقد كان في كل مدينة قلعة ومناطق سكنية منازلها مرتبة بانتظام على مخطط متصالب، ولم تكن الشوارع مبلطة ولكن منازلها كانت متينة ومبنية من قطع قرميد ذات حجم واحد ومجهزة تجهيزاً حسناً، كما كانت هناك جوارير مبطنة بالقرميد تحمل الماء من أحواض الغسيل والمراحيض، ولها فوهات مغطاة تسمح بتنظيفها وفحصها، وكانت البيوت مزودة بأنابيب لرمي الأنواع الأخرى من الفضلات ثم جمعها. وقد اكتشفت أيضاً حمامات أو أحواض كبيرة في أماكن عامة مثل التي تراها اليوم في قرى الهند التي لا حصر لها، ولعلها كانت تستخدم للعناية بنظافة الجسم لأن ثمة أدلة على ممارسة هذه العادة، أي أنه ربما كانت هناك أصول قديمة جداً لعادة الاغتسال التي طالما شددت عليها ديانة الهند، وطقوس الوضوء في الديانة الهندوسية اللاحقة.

كانت حضارة هرابا تعرف الكتابة، وتجد كتاباتها على آلاف الأختام التي يبدو أنها كانت تستخدم لتعلمي بالات البضائع التي كانت تباع للخارج، كما تجدها على كسر قليلة باقية من الفخار. وكانت هذه الكتاب تصويرية، ولم تكشف الكثير لبحوث العلماء عدا عن احتمال أن تكون لغة هرابا قريبة من اللغة الدراويدية التي مازالت حية في جنوب الهند اليوم، ولكن من الواضح أن الكتابة كانت هامة جداً لعمل جهاز الإدارة الفعال والواسع. ويبدو أيضاً أن الأوزان والمقاييس كانت موحدة على امتداد منطقة واسعة؛ وأنه كانت هناك مخازن حبوب عامة كبيرة في المدن. كما تدل أحجار المراسي التي وجدت على رصيف لوثال على أن سفناً كبيرة كانت ترسو فيه، وقد وجدت بقايا من الأختام المستخدمة لتعليم بالات البضائع في الطرف العلوي من الخليج الفارسي، أي أن تجارة هرابا كانت تجارة واسعة المدى. ومن المعروف أيضاً أن أفكاراً وتقنيات من وادي الهندوس قد انتشرت عبر السند والبنجاب وعلى طول الساحل الغربي لغجرات، ولكن هذه العملية استغرقت قروناً طويلة، ومازالت الصورة التي تكشفها لنا الآثار مشوشة وغير واضحة.

الهند الآرية

بعد عام 2000 ق.م ببضعة قرون آلت حضارة وادي الهندوس إلى نهايتها، ولا نعلم السبب الذي أدى إلى ذلك. يقول البعض إنها ربما راحت ضحية كارثة بيئية من صنع البشر، فربما كان السبب هو المغالاة في قطع الأشجار من أجل تغذية أفران صنع القرميد، وبالتالي تخريب توازن الزراعة الدقيق القائم على ضفاف الهندوس، أو ربما سبّب اقتلاع الأشجار للزراعة أو الرعي، تعرية وجفافاً وانهياراً في الإنتاجية. وإذا كان أحد هذين الاحتمالين أو كلاهما صحيحاً فقد صار التحكم بفيضانات الهندوس المدمرة أمراً أصعب بكثير، وهي أخطار كانت ماثلة على الدوام، إلا أننا في الحقيقة لا نعلم السبب.

هناك أيضاً احتمال وجود عامل آخر زاد الطين بلة في هذه البلد التي خربتها أصلاً المغالاة في استغلال بيئتها، وهو احتمال نال بعض التأييد لأنه قد يربط تاريخ الهند بالاضطرابات الكبرى التي كانت تجري في أماكن أخرى من العالم. يبدو أن حضارة هرابا قد انتهت في حوالي عام 1750 ق.م، ويتزامن هذا تزامناً لافتاً مع اندفاع مجموعة جديدة من الشعوب الغازية إلى شبه القارة، هي الشعوب التي تسمى آرية. لقد كان هؤلاء هنوداً أوربيين، وإن تسمية آري هي تسمية تدل على اللغة مثل تسمية هندي أوروبي، ولكنها تطلق عادة بشكل خاص، وهو استخدام ملائم على مجموعة واحدة من الشعوب الهندية الأوروبية التي بدأت تدخل الهند من جبال هندوكوش في حوالي عام 2000 ق.م، بينما كان غيرهم من الهنود الأوروبيين يتدفقون إلى إيران. وكانت هذه بداية قرون عديدة سوف يزداد فيها امتداد موجات هؤلاء المهاجرين عمقاً ضمن وادي الهندوس وإقليم البنجاب.

وقد وصلوا في النهاية إلى أعلى نهر الغانج، ولا يميل العلماء إلى فكرة أن يكون الآريون وحدهم سبب خراب مدن هذا الوادي، كما أنهم لم يقضوا على الشعوب الأصلية، ولكن لا ريب أن قدومهم قد تميز بمقدار كبير من العنف، لأنهم محاربون وبدو ومسلحون بأسلحة برونزية، كما أنهم جلبوا معهم الخيل والعربات، وقد وجدت في مدن وادي الهندوس هياكل عظمية توحي بحدوث اقتتال. ولكن ثمة علامات كثيرة أيضاً تدل على أن السكان الأصليين في أماكن أخرى قد عاشوا إلى جانب الوافدين الجدد محتفظين بمعتقداتهم وعاداتهم، وقد امتزجت بعض تقاليد هرابا بالتقاليد اللاحقة.

لم يكن لدى الآريين ثقافة متقدمة مثل التي وجدوها، وقد زالت الكتابة بقدومهم، ولم تظهر من جديد إلا في منتصف الألف الأولى ق.م. والمدن أيضاً زالت لتعود فتنشأ من جديد، ولكن كان ينقصها عندئذٍ الإحكام والنظام اللذين اتصفت بهما مدن وادي الهندوس من قبلها. ويبدو أن الآريين لم يتخلوا عن عاداتهم الرعوية ويستقروا للزراعة إلا ببطء، وقد انتشروا شرقاً وجنوباً من مناطق استقرارهم الأصلية في امتداد من القرى بغير انتظام. واستغرق هذا الانتشار قروناً عديدة، ولم يكتمل ولا استوطن وادي الغانج حتى قدوم الحديد، إلا أن الثقافة الآرية قد ساهمت مساهمات حاسمة في تاريخ الهند.

الفصل الثاني - أولى الحضارات Chp2-39

مصور الهند مع نهر الغانج وإقليم البنجاب

أولى تلك المساهمات هي وضع أسس الديانة الهندية، كان جوهر ديانة الآريين هو مفهوم الأضاحي، فمن خلال القرابين كانوا يعيدون بلا نهاية عملة الخلق التي أنجزتها الآلهة في بداية الزمان. وكان الإله آغني إله النار، وهو عظيم الأهمية، لأنه من خلال لهب قرابينه يمكن للإنسان أن يبلغ الآلهة، كما منح البراهمة أهمية ومكانة كبيرتين، لأنهم الكهنة الذين يرأسون هذه الاحتفالات. ومن أهم الآلهة الأخرى اثنان هما فارونا إله السموات وضابط النظام الطبيعي وتجسيد العدالة، وإندرا الإله المحارب الذي يذبح التنين سنة بعد سنة، فيطلق من جديد مياه السموات التي تأتي مع اندفاع الرياح الموسمية. ويخبرنا عن هذين الإلهين وعن غيرهما الريغ فيدا وهي مجموعة تضم أكثر من ألف ترتيلة فيدية تؤدى أثناء تقديم القرابين، وقد تراكمت عبر القرون.

يبدو أن الريغ فيدا تعكس الثقافة الآرية بعد أن غيرها الاستقرار في الهند، وليس كما كانت في أزمنة أبكر، وكانت في البداية كتقليد شفهي، وبسبب قدسيتها كان من الضروري استظهارها استظهاراً دقيقاً، وقد حماها هذا الأمر من التحريف عن شكلها الأصلي الذي جمع أولاً في حوالي عام 1000 ق.م، عندما سجلت للمرة الأولى بعد عام 1300 للميلاد. وهي تشكل مع التراتيل اللاحقة والأعمال النثرية أفضل مصادر معلوماتنا عن الهند الآرية، التي تبقى آثارها بكماء لزمن طويل، لأن الآريين كانوا يبنون بالخشب وليس بالقرميد كما في مدن وادي الهندوس.

تمتد الهند الموصوفة في الريغ فيدا من ضفاف الهندوس الغربية إلى نهر الغانج، ضمنها كانت تعيش شعوب آرية وسكان أصليين قاتمي البشرة جنباً إلى جنب في مجتمعات وحداتها الأساسية هي العائلات والعشائر. وكانت فيها أنماط اجتماعية من أصل آري وسوف تبقى لها أهمية دائمة، وكان أساس حياتهم الاجتماعية هو ما نسميه اليوم نظام الطبقات المنغلقة Caste. إن نظام الطبقات المنغلقة هي الميراث الأساسي الذي تركه الآريون للهند، إلى جانب ديانتهم ولغتهم السنسكريتية، وهي أساس لغات الهند التي مازالت محكية اليوم، ثم تطورت تلك الطبقات، فصارت عبارة عن مجموعات من الناس يتبعون نفس المهنة وتحق لهم وحدهم. وعضوية الطبقة وراثية، ولا يتزوج أفرادها في الحالة المثالية إلا من طبقتهم، ويشتركون بطقوس خاصة وأعمال إجبارية، وإذا كانوا متزمتين فإنهم لا يأكلون إلا طعاماً حضره أفراد من الطبقة نفسها. وقد صارت في النهاية مئات من الطبقات وفروع الطبقات، ومع تزايد تعقيد المجتمع وضعت محرمات جديدة في الزواج والطعام، وأصبحت متطلبات هذا الترتيب في النهاية ناظماً أساسياً لمجتمع الهند، بل الناظم الأهم في حياة الكثيرين من الهنود. وفي الأزمنة الحديثة أضحت هناك آلاف من الطبقات المحلية والمهنية، وقد شكلت هذه مع روابط العشيرة والعائلة والانتماء المحلي بنية من السلطة في مجتمع الهند يعادل نفوذها نفوذ المؤسسات السياسية الرسمية والسلطة المركزية.

كان هذا النظام قد بدأ بتقسيم بسيط للمجتمع الآري إلى ثلاث طبقات: البراهمة، المحاربون، المزارعون. لم تكن هذه الطبقات في البدء محددة بدقة ولا حصرية كما صارت لاحقاً، بل يبدو أن الانتقال من إحداها إلى الأخرى قد ظل ممكناً طوال قرون عديدة، ويبدو أن الحاجز الاجتماعي الوحيد الذي كان يستحيل عبوره في الأزمنة القديمة هو الحاجز بين الآريين وغير الآريين. إذ يبدو أن هناك طبقة اجتماعية رابعة قد ميزت وحددت تحديداً شديداً وقاسياً، وهي تضم السكان الأصليين ذوي البشرة الأقتم من الغزاة، لأن الغزاة أرادوا البقاء منفصلين عنهم فاعتبروهم بالتالي خارج نظام الطبقات الثلاث أصلاً. وصار غير الآريين، أي أفراد الطبقة الرابعة الجديدة يسمون ”النجسين” ولما كانوا غير آريين فلم يكن يحق لهم الاشتراك في القرابين الدينية أو الدراسة أو سماع تراتيل الفيدية. وفي النهاية أمسى هؤلاء النجسون الذين ميزوا أصلاً لرغبة في الحفاظ على نقاوة العرق، هم طبقة ”المنبوذين” the untouchables في الهند الحديثة، وهي طبقة تترك لها الأعمال القذرة من تنظيف وكنس، وينظر إليها باحتقار شديد، إلى حد أن بعض البراهمة مازالوا يشعرون أن ظل الكناس يلوث الطعام إذا وقع عليه.

كان هناك ملوك منذ المجتمع القبلي الآري الباكر، وفي نحو عام 600 ق.م كان هناك ما يقرب من ستة عشر مملكة موزعة في وادي الغانج وراسخة فيه. وكانت هذه نتيجة قرون من الضغط الدائم نحو الشرق والجنوب الشرقي، ويبدو أن الاستقرار السلمي والتزاوج قد لعبا دوراً لا يقل عن دور الغزو في هذا التطور، ولكننا لا نستطيع من خلال الميثولوجيا أن نرى بوضوح كيف حدث ذلك. لقد انتقل مركز الثقل في الهند الآرية أثناء هذه الحقبة رويداً رويداً من البنجاب إلى وادي الغانج مع تبني الشعوب التي كانت هناك للثقافة الآرية. وكان وادي الغانج منذ القرن السابع ق.م المركز الرئيسي لسكان الهند، وربما صار هذا ممكناً بفضل زراعة الأرز. فبدأ عندئذٍ عصر ثان من المدن الهندية، كانت أبكرها أسواقاً ومراكز تصنيع تجمع الحرفيين المختصين، وبفضل وجود السهول الكبيرة ونشوء جيوش أكبر وأفضل تجهيزاً، بلغنا خبر استخدام الفيلة، سهل الاندماج في وحدات سياسية أوسع، كما أن ظهور النقد واكتشاف الكتابة من جديد قد ساعدا في زيادة تماسك الحكومات وانتظامها، وتجد في وثائق لاحقة معلومات عن تلك الحكومات وعن الأسماء الكبيرة المرتبطة بها، خصوصاً في ملحمتين هنديتين كبيرتين، هما الرامايانا والمهابهاراتا اللتان دونت نصوصهما كما نعرفها للمرة الأولى في نحو عام 400 ق.م.

ومهما كانت السمات المحلية للثقافات الهندية، فقد استمرت الحضارة الآرية بالانتشار، فتقدمت نحو البنغال على طول وادي الغانج، كما امتدت جنوباً على طول السواحل الغربية نحو غجرات، ثم المرتفعات الوسطى لشبه القارة الهندية، ويبدو أن استيطان الآريين قد توقف هناك. لقد كانت منطقة الدكن في الجنوب معزولة دوماٌ عن الشمال بواسطة هضاب مغطاة بالأدغال، هي هضاب فنديا، كما أن جنوب الهند نفسه مقسم بالهضاب، وقد أعاق هذا الأمر بناء دول كبيرة فيه، لذلك بقي مفككاً وبقيت بعض شعوبه تعيش في ثقافات الصيد وجمع الطعام القبلية بسبب صعوبة الوصول إليها. إلا أن هذا الوصف لا يجوز أن يجعلنا ننسى وجود النصف غير الآري في شبه القارة، ولو أن الكتابات والنصوص الكلاسيكية مقتصرة على الشمال الآري. والحقيقة أن الأدلة القليلة الموجودة من آثار الجنوب تشير إلى تأخره الثقافي الواضح والمستمر عن منطقة نهر الهندوس وبقية شبه القارة منذ المرحلة الباكرة، وإن اسم الهند إنما أتى من اسم نهرها الشمالي هذا. أما في الجنوب فلا يبدأ البرونز والنحاس بالظهور إلا بعد وصول الآريين إلى الشمال بزمن طويل، ومتى خرجت من وادي نهر الهندوس لا تعود تجد تماثيل معدنية ولا أختاماً، كما تندر التماثيل الفخارية العائدة للأزمنة ما قبل الآرية، وإن استمرار اللغات الدراويدية في الجنوب لدليل على انعزال هذه المنطقة الدائم.

إن تقديرات أعداد السكان في الأزمنة القديمة تخمينية لا يعول عليها كثيراً، وقد قدر عدد سكان الهند بحوالي 25 مليوناًً في عام 500 ق.م ، وربما كان هذا تقريباً ربع سكان العالم كله في ذلك الحين. إلا أن أهمية تاريخ الهند الباكر تكمن في تأثيره المستمر في صياغة حياة مئات الملايين من الناس اليوم، وليس في عدد سكانها الكبير في العصور القديمة. ويصح هذا الأمر بالأخص على موضوع الدين، فقد تبلورت الديانة الهندوسية الكلاسيكية في الألف الأولى ق.م، كما كانت البوذية أيضاً قد ظهرت كديانة عالمية كبرى في طور النشوء؛ ولما كانت أفعال الناس محكومة بما يؤمنون أنهم قادرون على فعله، فإن هاتين الديانتين هما مفتاحان لتاريخ الهند، أي أن جوهر تاريخ هذا البلد هو صياغته لثقافة معينة وليس صياغة أمة أو اقتصاد ولقد كانت الديانة في قلب تلك الثقافة.

ديانة الهند الباكرة

إن جذورها لسحيقة القدم، ثمة ختم من موهنجو دارو صورة شخص كأنه شكل باكر للإله شيفا، وهو أحد شخصيات العبادة الشعبية الكبرى في الهندوسية، كما وجدت في مدينة هرابا أحجار بشكل قضيب الرجل lingam الذي يمثل شعاره في المعابد الحالية، وربما كانت عبادة شيفا أقدم عبادة باقية في العالم، ولو أن لها ملامح آرية هامة. كما أن ثمة أختاماً أخرى من هرابا توحي بعالم ديني يتمحور حول إلهة أم وثور. ومازال الثور مستمراً حتى اليوم بشكل الإله ناندي الذي تراه في مقامات القرى التي لا حصر لها في كافة أنحاء الهند الهندوسية، وقد اكتسب قوة جديدة في تجسده الأخير كشعار انتخابي لحزب الكونغرس.

أما الإله فشنو فهو آري بصورة أوضح؛ وهو أيضاً يشكل عبادة هامة في الهندوسية الشعبية الحديثة، وقد انضم إلى مئات الآلهة والإلهات المحلية التي مازالت تعبد اليوم لتشكل معاً مجمع الآلهة الهندوسية. ومهما كانت آثار عصر هرابا أو حتى ما قبل هرابا في الديانة الهندوسية، فإن تقاليدها الفلسفية والتأملية الكبرى قد انبثقت من الديانة الفيدية ومن التراث الآري. إن السنسكريتية هي لغة التعليم الديني التي ما زالت تستخدم اليوم في الجنوب المتحدث باللغات الدراويدية مثلما هي مستخدمة في الشمال، وقد كانت السنسكريتية رباطاً ثقافياً عظيماً، وكذلك الديانة التي حملتها. وكانت التراتيل الفيدية نواة نظام من الفكر الديني أكثر تجريداً وفلسفة من الروحانيات البدائية[1]، وقد تطورت المفاهيم الآرية حول الجحيم والجنة، أي ما كان يسمى بيت الطين وعالم الآباء، رويداً رويداً نحو الإيمان بأن أعمال الإنسان في الحياة هي التي تحدد مصيره.

وبزغت من هذه العناصر بالتدريج بنية هائلة وشاملة من الفكر، ونظرة للعالم ترتبط فيها الأشياء كلها ضمن شبكة عظيمة من الوجود. فقد تمر الأرواح بأشكال مختلفة من حياة إلى حياة ضمن هذا الكل الشاسع، وقد تصعد سلم الوجود أو تهبطه، كأن تنتقل بين الطبقات مثلاً أو حتى بين عالمي الإنسان والحيوان. ويتحدد شكل التقمص من حياة إلى حياة أخرى بالسلوك السليم، كما أن هذا التقمص مرتبط بفكرة التطهر والتجدد، والثقة بالتحرر مما هو عابر وعارض وظاهر، والإيمان بالتطابق الجوهري بين الروح والوجود المطلق في البراهما، أي المبدأ الخالق. وكان واجب المؤمن هو التقيد ”بالدارما” وهي مفهوم لا يمكن ترجمته، ولكنه يجسد شيئاً من الأفكار الغربية عن قانون عدالة طبيعي، وشيئاً من فكرة أن على الإنسان احترام الواجبات التي تفرضها عليه مرتبته في الحياة وطاعتها.

لقد استغرقت هذه التطورات زمناً طويلاً، ومرت التقاليد الفيدية بخطوات معقدة وغامضة حتى تحولت إلى الهندوسية الكلاسيكية، وكان البراهمة في قلب المراحل الباكرة من هذا التطور، وكان لهم دور أساسي في طقوس تقديم القرابين في الديانة الفيدية، ويبدو أنهم سرعان ما تعايشوا مع آلهة عالم أقدم. ولم تظهر علامات مقاربة أكثر فلسفية إلا عام 700ق.م تقريباً، وذلك في نصوص مقدسة تسمى الأبانيشد، وهي مزيج من التلاوات والتراتيل والحكم والتأملات وضعها رجال قديسون، ترشد إلى المعاني العميقة للحقائق الدينية التقليدية. إن التركيز على الآلهة والإلهات الشخصية فيها أقل بكثير من النصوص الأبكر، كما أنها تضم بعض أبكر التعاليم الزاهدة، التي سوف تصبح ملمحاً بارزاً ولافتاً من ملامح الديانة في الهند، مع أن الذين مارسوها كانوا قلة قليلة. لقد لبت الأبانشيد الحاجة التي شعر بها البعض للبحث عن الرضا الديني خارج إطار التقاليد، ويبدو أن بعضهم كانت تساورهم الشكوك حول مبدأ القرابين. كانت أنماط جديدة من التفكير قد بدأت بالظهور عند بداية الحقبة التاريخية، وتجد التعبير عن الشك بالمعتقدات القديمة، منذ التراتيل المتأخرة في الريغ فيدا، وسوف تجسد الديانة الهندوسية الكلاسيكية تأليفاً بين أفكار مثل أفكار الأبانشيد التي تشير إلى مفهوم توحيدي للكون وبين التقاليد الأقرب إلى تعدد الآلهة والأكثر شعبية التي كان ينادي بها البراهمة.







[1] الأرواحية animism هي الاعتقاد بأن لكل ما في الكون وحتى للكون نفسه روحاً أو نفساً - المورد
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://resalahmasriyah.mam9.com
Eng. Ahmedzoubaa
Admin
Eng. Ahmedzoubaa


عدد المساهمات : 1216
تاريخ التسجيل : 28/08/2010
العمر : 50

الفصل الثاني - أولى الحضارات Empty
مُساهمةموضوع: رد: الفصل الثاني - أولى الحضارات   الفصل الثاني - أولى الحضارات Emptyالثلاثاء 14 يونيو 2011 - 7:27

الصين القديمة

منذ نحو ألفين وخمسمائة عام تعيش على الأرض أمة صينية تستخدم لغة صينية، وإن هذا لدليل على حضارة طويلة ومستمرة ومنيعة على التأثير الخارجي، لا يجاريها في ذلك إلا حضارة مصر القديمة. ولقد بقيت حكومة الصين لزمن طويل وحدة واحدة بالرغم من فترات الانقسام والاضطراب، وصاغت لها هذه الخبرة هوية تاريخية ثقافية بقدر ما هي سياسية، لأن ثقافة الصين هي التي سهلت توحيد الحكم. ومنذ تاريخ باكر جداً تبلورت فيها مؤسسات ومواقف تناسب ظروفها الخاصة، وسوف تستمر لزمن طويل.

تظهر الأدلة على الزراعة في شمال الصين، في أرض أعلى بقليل من مستوى فيضان النهر الأصفر؛ كانت تلك زراعة من النوع الذي يستنفذ التربة بشكل كامل أو جزئي، وتعود الأدلة عليها لحوالي 5000 ق.م. من هذه المنطقة الهامة انتشرت الزراعة شمالاً إلى منشوريا وجنوباً أيضاً. وسرعان ما ظهرت فيها ثقافات معقدة تستخدم حجر اليشب والخشب للحفر، وتدجن دودة القز، وتصنع الأواني المعدة للاحتفالات بأشكال سوف تصبح تقليدية، بل ربما كان الصينيون يستخدمون العيدان في تناول الطعام منذ ما قبل التاريخ. ويقصد من هذا كله أن الصين كانت منذ الأزمنة النيوليتية تبدي ملامح كثيرة سوف تميزها في المستقبل. ومن هذه العلامات الاستخدام الواسع للدخن، وهو نوع من الحبوب ملائم للزراعة الجافة* التي كانت تمارس أحياناً في الشمال، كما أنه قد ظل المادة الأساسية في طعام الصينيين حتى ألف سنة خلت تقريباً.

تتحدث كتب الصين القديمة وأساطيرها عن شخصية اخترعت الزراعة، ويدل ذلك على أهمية هذا الاختراع. إن الأشياء التي يمكنك استنتاجها بشكل أكيد وواضح عن التنظيم الاجتماعي الباكر هي أشياء قليلة جداً، ولكنهم كانوا يعتبرون أن كل بقعة تحت السماء هي أرض الحاكم، وربما كان هذا انعكاساً لأفكار قديمة تقول إن الأرض برمتها ملك للجماعة ككل. ويمكنك أيضاً أن تنسب إلى الأزمنة الباكرة ظهور بنية العشيرة والطواطم، إذ تكاد القرابة أن تكون أول مؤسسة يمكن تمييزها، وسوف تستمر لتصبح هامة في الأزمنة التاريخية. وتوحي الأدلة التي يقدمها الخزف ببعض التعقيد في الأدوار الاجتماعية، لأن هناك قطعاً رقيقة منه تعود إلى الأزمنة النيوليتية لا يمكن أن تكون قد صنعت لأغراض الاستعمال اليومي، فيبدو إذن أن مجتمعاً متعدد الطبقات كان قد بدأ يبزغ قبل أن نصل إلى الحقبة التاريخية.

لقد بقيت تلك الزراعة التي قامت عليها ثقافة الصين المتقدمة محصورة بشمال البلاد، وإن هناك مناطق كثيرة في هذا البلد الشاسع لم تبدأ بالزراعة إلا بعد زمن طويل، وفي مرحلة متقدمة من الحقبة التاريخية. ولكن العلماء متفقون مع التقاليد التي تقول إن قصة الحضارة تبدأ في هذه المنطقة الشمالية الهامة على عهد حكام ينتمون لشعب يدعى الشانغ، وهو أو اسم في اللائحة التقليدية للسلالات له أدلة مستقلة تؤيد وجوده. وقد بقيت هذه اللائحة أساس تقسيم تاريخ الصين لزمن طويل، وسوف تصبح التواريخ أكثر دقة منذ أواخر القرن الثامن ق.م، ولكن ليس ثمة تقسيم جيد لتاريخ الصين الباكر مثل الذي نعرفه عن مصر. وفي حوالي عام 1700 ق.م مع هامش قرن واحد زيادة أو نقصاناً تمكنت قبيلة اسمها الشانغ، كانت تتميز باستخدام العربة في المعارك الحربية، من فرض نفسها على جيرانها على امتداد رقعة واسعة من النهر الأصفر، وعلى حوالي 40.000 ميل مربع (100.000 كم2) من شمال هونان.



صين الشانغ

كان ملوك الشانغ شخصيات عظيمة عاشوا وماتوا في أبهة، وكان العبيد والضحايا يقدمون قرابين ويدفنون معهم في مدافن عميقة وفخمة. ويبد أن حكومة الشانغ كانت عبارة عن ملاك أراضي محاربين يرأسون سلالات أرستقراطية لها أصول شبه أسطورية، ولكنها تمكنت من توحيد العملة وتشييد تحصينات ومدن على مستوى يحتاج إلى مجهود جماعي واسع. وكان في بلاط الشانغ كتبة وأمناء أرشيف، فقد كانت تلك مملكة تعرف الكتابة، ويبدو أنها كانت تحكم أول ثقافة عرفت الكتابة بحق إلى الشرق من بلاد الرافدين إلا إذا تبين أن الكتابة في وادي الهندوس كان أكثر تطوراً مما يبدو الآن، وكان لحضارة الشانغ أيضاً تأثير يمتد وراء المنطقة التي سيطرت عليها هذه السلالة سياسياً.

الفصل الثاني - أولى الحضارات Chp2-40

صين التشانغ والصين الحالية

في الأزمنة الباكرة كانت القرارات الكبرى والأقل منها أيضاً تتخذ عن طريق قراءة الوحي، فكانوا يحفرون رموزاً على تروس السلاحف أو عظام ترقوة الكتف المأخوذة من حيوانات معينة، ثم يوضع عليها دبوس برونزي محمى بحيث يصنع شقوقاً على الطرف المقابل، وينظر في اتجاه هذه الشقوق وطولها بالنسبة إلى الرموز ويقرأ الوحي بناء على ذلك. ويقدم هذا الأمر دليلاً على فترة تأسيس اللغة الصينية، لأن الرموز المنقوشة على هذه العظام والتي كانت تحفظ كسجلات هي الأشكال الأساسية للغة الصينية الكلاسيكية. كان لدى شانغ نحو 5000 رمز من هذه الرموز، ولكن لا يمكن قراءتها كلها، إلا أننا نعلم أن بنية اللغة منذ ذلك الحين كان مثل بنية اللغة الصينية الحديثة، أي أنها مكونة من صور يمثل كل منها مقطعاً صوتياً واحداً، وهي تعتمد على ترتيب الكلمات وليس على تصريفها من أجل إضفاء المعنى، فقد كان الشانغ إذن يستخدمون شكلاً من أشكال اللغة الصينية. وسوف يتحول قراء الوحي في المستقبل إلى طبقة العلماء النبلاء، وهم خبراء لا غنى عنهم لأنهم يملكون مهارات مقدسة وسرية. وهكذا بقيت اللغة حكراً على نخبة صغيرة نسبياً وجدت أن امتيازاتها متأصلة فيها، وأن من مصلحتها أن تحميها من الفساد والتحريف. وكانت اللغة قوة عظيمة في تأمين الوحدة والثبات، كما صارت الصينية المكتوبة لغة للحكم والثقافة تسمو على تقسيمات اللهجات المحلية والأديان والمناطق، وسوف يبقى فن التخطيط ذا مرتبة عالية بين فنون الصين، وبهذه الوسيلة تمكنت النخبة من ضمن هذا البلد الواسع والمتنوع برباط واحد.

حقبة التشو

انهار الشانغ في النهاية أمام قبيلة أخرى من غرب الوادي، هي قبيلة التشو، وقد حدث هذا على الأرجح في عام 1027 ق.م. لقد تم على عهد التشو الحفاظ على الكثير من بني الشانغ الحكومية والاجتماعية المتقدمة وازدادت تطوراً أيضاً، كما استمرت طقوس الدفن وتقنيات شغل البرونز والفنون التزيينية بأشكال لم تتغير تقريباً. وقد شهدت مرحلة التشو تمتين هذا الميراث وزيادة انتشاره، وتبلور مؤسسات إمبراطورية الصين القادمة، واللافت أن التشو كانوا يعتبرون أنفسهم محاطين بشعوب بربرية تتمنى أن تحقق لها سلالتهم السلام كي تنعم بخيراته، والحقيقة أن سيادتهم كانت ترتكز على الحروب. كانت الحكومة في العادة عبارة عن مجموعة من الوجهاء والأتباع، بعضهم أكثر اعتماداً على السلالة من بعضهم الآخر، ويؤدون لها في أيام الرخاء على الأقل اعترافاً شكلياً بسلطتها، كما يزداد اشتراكهم بثقافة واحدة. كانت الصين ككيان سياسي من المنطقي استخدام هذا التعبير ترتكز على أملاك بيرة على درجة من التماسك تسمح لها بالبقاء طويلاً، وأحياناً كان سادتها الأصليون يتحولون إلى حكام يمكن أن نسميهم ملوكاً، تخدمهم بيروقراطيات بسيطة خاصة بهم.

الفصل الثاني - أولى الحضارات Chp2-41

مملكة التشو

في نحو 700 ق.م طرد البرابرة التشو من مركز أجدادهم إلى وطن جديد إلى الشرق في هونان، ولكن سلالتهم بقيت حتى عام 256 ق.م. وتمتد المرحلة التالية التي يمكن تمييزها منذ عام 403 وحتى 221 ق.م، وتعرف باسم ذي دلالة، هو مرحلة الدول المتحاربة. لقد بات الاصطفاء التاريخي عن طريق الصراع الآن ضارياً، وراحت الأسماك الكبيرة تلتهم الصغيرة حتى لم يبق في النهاية إلا حوت واحد كبير، فصارت جميع أراضي الصينيين للمرة الأولى إمبراطورية واحدة كبيرة تحكمها سلالة التسين، التي أتى منها اسم الصين. ومن المناسب أن نتوقف عند هذه النقطة، فقد دلتنا سجلات الصين التاريخية التقليدية حتى الآن، على نحو خمسة عشر قرناً من الصراعات الغامضة بين الملوك والرعايا الأقوياء من دون أن تعطينا خطاً للقصة، إلا أننا نستطيع تمييز عمليات أساسية كانت تجري خلالها سوف تكون لها أهمية عظيمة في المستقبل.

من تلك العمليات الانتشار المستمر للثقافة من حوض النهر الأصفر نحو الخارج، لقد بدأت الحضارة الصينية بشكل جزر صغيرة جداً في بحر من البربرية ولكنها صارت في عام 500 ق.م ملكاً مشتركاً لعشرات بل ربما مئات الدويلات والإقطاعيات الموزعة عبر الشمال، كما انتقلت إلى وادي اليانغ تسي كيانغ. وكانت هذه منذ زمن بعيد أرض مستنقعات وغابات كثيفة ومختلفة جداً عن الشمال، وكانت تسكنها شعوب أكثر بدائية. وعند نهاية مرحلة الدول المتحاربة كان مسرح تاريخ الصين على وشك الاتساع بشكل كبير، فقد تغلغل نفوذ التشو في هذه المنطقة، ولعب التوسع العسكري دوراً في ذلك وساهم في هذا التغلغل في صنع أول ثقافة ودولة كبريين في وادي اليانغ تسي كيانغ.

مجتمع الصين الباكر

منذ عهدي الشانغ والتشو كان قد وضع نمط مجتمع المستقبل بشكل انقسام جوهري إلى طبقتين، هما طبقة النبلاء أصحاب الأرض، وطبقة العامة وسوادها من الفلاحين. لقد دفعت الطبقة العامة وأحفادهم، وهم الأكثرية العظمى من الشعب، ثمن كل ما أنتجته الصين من حضارة وسلطة، ولكننا لا نعلم إلا القليل من أعدادهم التي لا تحصى، لأن الفلاح الصيني كان ينتقل بين كوخه الطيني في الشتاء ومخيم يعيش فيه خلال أشهر الصيف لكي يحرس المحاصيل ويرعاها، لم يترك أي من هذين المسكنين أثراً يذكر. عدا عن هذا يبدو الفلاح مغموراً في جماعة لا اسم لها، فهو لا ينتمي إلى عشيرة ومرتبطاً بالأرض التي يؤخذ منها في بعض الأحيان لكي يؤدي واجبات أخرى ويخدم سيده في الحرب أو في الصيد.

وقد استمر التمييز بين عامة الشعب والنبلاء زمناً طويلاً جداً، وفي أزمنة لاحقة كان النبلاء معفيين من عقوبة الجلد التي قد تطبق على العامة، ولو أنهم كانوا بالطبع معرضين لعقوبات مناسبة بل رهيبة في حال ارتكابهم جرائم أخطر، كما كانوا يتمتعون باحتكار فعلي للثروة استمر بعد احتكارهم الأبكر للأسلحة المعدنية. إلا أن الفرق الحاسم في المنزلة إنما هو في مكانة النبيل الدينية الخاصة والناشئة من احتكاره طقوساً دينية معينة. والنبيل وحده ينتمي إلى عائلة أي أن له أجداداً وإن تقاليد توقير الأجداد واسترضاء أرواحهم تعود إلى ما قبل أزمنة الشانغ.

إن العائلة هي تطوراً قانونياً للعشيرة وفرعاً منها، وكان هناك نحو مائة عشيرة لا يحق لأفرادها الزواج من شخص من العشيرة نفسها، وكانوا يعتقدون أن كلاً منها قد أسسها بطل أو إله. كان آباء عائلات العشائر وبيوتها يمارسون سلطة خاصة على أفرادها، وكان جميعاً مؤهلين لأداء طقوسها المضنية والطويلة، التي يطلبون فيها من الأرواح أن تتوسط لصالح العشيرة لدى القوى المسيطرة على الكون. ثم صارت هذه الطقوس تميز الأشخاص المؤهلين لامتلاك الأراضي وشغل المناصب. وكان هناك نوع من تساوي الفرص على مستوى العشيرة، لأن أياً من أفرادها يمكنه أن يعين في أعلى مناصبها، فكلهم مؤهلون لذلك بفضل تحدرهم جوهرياً من أصول شبه إلهية؛ وبهذا المعنى لم يكن الملك إلا رجلاً أول بين رجال متساوين، ونبيلاً بارزاً بين جميع النبلاء.

أما عامة الشعب فكانت تجد متنفسها الديني في آلهة الطبيعة، وكان استرضاء أرواح الجبال والأنهار وعبادتها واجباً ملكياً هاماً منذ الأزمنة الباكرة، ولو أن سلطة عبادات الطبيعة في الصين كانت أضعف منها في أنظمة دينية أخرى. كان جوهر ادعاء الأسرة الحاكمة بحق الطاعة هو صدارتها الدينية، لأنها تستطيع عن طريق ممارسة الطقوس بلوغ رضا قوى غير منظورة، يمكن معرفة نياتها من خلال قراءة الوحي. وعندما يفسر الوحي يمكن تنظيم الحياة الزراعية للجماعة، لأنه هو الذي يحدد البذار والحصاد وغيرها. لذلك كانت أشياء كثيرة تعتمد على المكانة الدينية للملك، وكانت لها الأهمية الكبرى في الدولة. في عهد تشو ظهرت فكرة وجود إله أعلى من الآلهة المؤسسة للسلالات، وأنه قد منح انتداباً من السماء بالحكم، فكانت هذه بداية فكرة أخرى أساسية في المفهوم الصيني للحكم، وسوف ترتبط ارتباطاً وثيقاً بمفهوم التاريخ الدوري، الذي يرسمه صعود السلالات وهبوطها. وقد أدى هذا الأمر بالطبع إلى محاولات تخمين من أجل معرفة العلامات التي تسمح بالتعرف على صاحب الانتداب الجديد.

لا تعطي السجلات الباكرة لحكومة الصين الانطباع بأن الملكية كانت لديها أشغال كثيرة، فعدا عن اتخاذ قرارات السلم أو الحرب في الحالات غير العادية، يبدو أن الملك لم تكن لديه أشياء كثيرة يفعلها سوى أداء واجباته الدينية والصيد واستهلال مشاريع البناء أو تأسيس المستوطنات الزراعية، كما كان يفعل بعض ملوك التشو، وقد بزغ رويداً رويداً وزراء كانوا ينظمون حياة البلاط، بينما كان الملك عبارة عن صاحب أراضٍ لا يحتاج في الغالب إلا وكلاء ومشرفين وبعض الكتبة، ولا ريب أنه كان يقضي جزءاً كبيراً من حياته متنقلاً بين أراضيه. أما النشاط الأخير الوحيد الذي يحتاج فيه إلى مساعدة الخبراء هو النشاط المتعلق بأمور ما فوق الطبيعة، ومن هنا سوف تنمو رابطة وطيدة بين الحكم وتحديد الوقت والتقويم، وكلاهما على أهمية كبرى في المجتمعات الزراعية. كانت التقنيات اللازمة مبينة على علم الفلك، ورغم أنها اكتسبت أساساً هاماً من الملاحظة والحساب فقد كانت أصولها سحرية ودينية.

الحديد والمدن

كانت مرحلة التشو قد انتهت باضطرابات اجتماعية متزايدة، سببها الأرجح هو ضغط السكان على الموارد. ولهذا كان الحديد عاملاً هاماً جداً، ويبدو أنه كان مستعملاً في حوالي عام 500 ق.م، وقد أدى استخدامه إلى ارتفاع حاد في الإنتاج الزراعي، وبالتالي في عدد السكان، مثلما حدث في أماكن أخرى. وتعود أولى الأدوات الحديدية التي وجدت إلى القرن الخامس ق.م، أما الأسلحة الحديدية فقد ظهرت في زمن لاحق. ومنذ تاريخ باكر كانت هذه الأدوات تصنع عن طريق السبك، وقد وجدت قوالب لسبك شفرات المناجل الحديدية تعود إلى القرن الرابع أو الخامس، أي أن تقنية الصين في معالجة هذا المعدن كانت متقدمة جداً منذ أزمنة باكرة. وسواء أحدث هذا الأمر كتطور لسبك البرونز أو للتجريب في أفران الخزف القادرة على إعطاء درجات حرارة عالية، فإن الصين قد توصلت إلى سبك الحديد في نفس الوقت الذي عرفت فيه معالجته بالتطريق، بينما لم تصل مناطق العالم الأخرى إلى درجات حرارة كافية لسبكه إلا بعد نحو خمسة عشر قرناً.

هناك تطور هام آخر في أواخر عهد التشو هو نمو المدن، لقد نشأت أبكر المدن على الأرجح في مواقع المعابد التي كان أصحاب الأراضي يستخدمونها كمراكز إدارية لأملاكهم، فكانت الجماعات تتجمع من حولها ومن حول معابد آلهة الطبيعة الشعبية القائمة عادة في السهول قرب الأنهار. وتجد على عهد الشانغ متاريس مصنوعة من التراب المضروب وأحياء أرستقراطية ومسورة وبقايا أبنية كبيرة. كانت آنيانغ عاصمة للشانغ في حوالي عام 1300 ق.م، وكانت فيها مسابك للمعادن وأفران للخزف فضلاً عن قصور ومقبرة ملكية. أما عاصمة التشو بعدها فكانت وانغ تشنغ، وكانت بشكل مستطيل من الأسوار الترابية يبلغ طول كل منها حوالي ثلاثة كيلو مترات. وفي عام 500 ق.م ظهرت عشرات المدن، وكانت لها في العادة ثلاثة مناطق محددة: بقعة صغيرة مسورة تعيش فيها الأرستقراطية، وبقعة أكبر يسكنها الحرفيون المختصون والتجار، ثم الحقول خارج الأسوار التي تغذي المدينة. كانت أحياء التجار إذن مفصولة عن أحياء الأرستقراطية بأسوار ومتاريس تحيط بالأخيرة، ولكنها كانت هي أيضاً واقعة ضمن أسوار المدينة، وهي علامة على تزايد الحاجة للحماية. كما كنت تجد الشوارع التجارية للمدن في مرحلة الدول المتحاربة محالاً تبيع المجوهرات والتحف الغريبة والطعام واللباس، عدا عن الحانات وبيوت القمار والبغاء.

إلا أن قلب مجتمع الصين قد ظل بالرغم من ذلك في الريف، ومع نهاية حقبة التشو صارت طبقة أصحاب الأراضي تبدي علامات لا لبس فيها على استقلال متزايد عن ملوكها. كانت سيطرتها الاقتصادية متأصلة في امتلاكها للأرض بحكم العرف، وهذه الملكية التي يمنحها الملك نظرياً لا تقتصر على الأراضي وحدها، بل تشمل أيضاً العربات والحيوانات والأدوات، وبالأخص البشر، فالعمال يمكن بيعهم أو مبادلتهم أو توريثهم بوصية. وكان النبلاء يحتكرون الأسلحة باستمرار، وبمرور الزمن لم يعد أحد غيرهم بقادر على امتلاك الأسلحة الأغلى ثمناً والدروع والخيول التي مابرح استخدامها يتزايد. وفي عام 600 ق.م بدا من الواضح أن ملك التشو قد صار خاضعاً لكبار النبلاء، وكانت الفوضى تتزايد وكذلك الشك بالمعايير التي تحدد الحق بالحكم، وقد بلغت هذه التطورات ذروتها في الأزمة الاجتماعية والسياسية العميقة والمديدة التي ظهرت في قرون الانحلال الأخيرة من عهدي التشو والممالك المتحاربة، وأدت إلى فورة هامة من الأفكار حول أسس الحكم والأخلاق. فكان هناك مدرسة من المعلمين يسمون "القانونيين" يشددون على أن سلطة التشريع وليس أداء الطقوس[2]يجب أن تكون هي المبدأ الأساسي في الدولة، وأن يكون هناك قانون واحد للجميع، يضعه حاكم واحد ويطبقه بحزم شديد. وقد استهجن البعض هذه الأفكار واعتبروها عقيدة مشككة ومؤيدة للسلطة، ولكنها اجتذبت الملوك في القرون القليلة التالية، وقد استمر الجدال زمناً طويلاً. إن أكثر من انتقد القانونيين هم أتباع أشهر معلمي الصين قاطبة ”كونفوشيوس.

كونفوشيوس والثقافة الصينية

إن اسم كونفوشيوس هو الشكل اللاتيني لاسمه الأصلي كونغ فو تزو، وقد أطلق عليه الأوروبيون اسم كونفوشيوس هذا في القرن السابع عشر، أي بعد مرور أكثر من ألفي سنة على ولادته التي حدثت في منتصف القرن السادس ق.م ، وسوف يكون له في الصين توقير أعمق من أي فيلسوف آخر، لأن ما قاله ونسب إليه قد صاغ تفكير مواطنيه طوال ألفي سنة. كان كونفوشيوس ينتمي لعائلة من قراء الوحي من طبقة النبلاء الأدنى، وقد أمضى بعض الوقت وزيراً للدولة ومشرفاً على أهراء الحبوب، وكانت لديه أفكار وتوصيات حول أسس الحكم العادل، ولكنه عجز عن إيجاد حاك يطبقها بصورة عملية، فتحول عندئذٍ إلى التأمل والتعليم. وكانت غايته هي أن يقدم صيغة نقية ومجردة للحقائق التي كان يؤمن أنها كامنة في جوهر الممارسات التقليدية، وأن يعيد بذلك إحياء الاستقامة الشخصية والخدمة المنزهة عند الطبقة الحاكمة. كان كونفوشيوس رجلاً محافظاً مصلحاً، وكان يؤمن أن هناك في الماضي عصراً أسطورياً كان كل إنسان فيه يعرف مكانه ويؤدي واجبه، وكانت العودة إلى ذلك العصر هي غايته الأخلاقية. وكان يوصي بمبدأ النظام أي وضع كل شيء في مكانه الصحيح ضمن تجربة الحياة الكبرى، وقد تجلى هذا الأمر في نزعة قوية لتأييد المؤسسات التي تحافظ على ذلك النظام، مثل العائلة والتسلسل الهرمي والأقدمية، وفي احترام الواجبات الكثيرة والمتدرجة التي تربط بعضها ببعض. وكان من شأن هذه التعاليم أن تعطي رجالاً يحترمون الثقافة التقليدية، ويشددون على قيمة الأعراف السليمة والسلوك القويم، ويسعون إلى تحقيق واجباتهم الأخلاقية في الأداء الدقيق لمهامهم.

لقد نجحت هذه التعاليم نجاحاً فورياً من ناحية أن الكثيرين من تلاميذه قد اكتسبوا شهرة ونجاحاً دنيويين مع أن تعاليمه تستنكر السعي المقصود نحو هذه الأهداف، وتحض على إنكار الذات بشهامة، ولكنها نجحت أيضاً من ناحية أعمق وأطول عمراً بكثير، لأن أجيالاً من الموظفين الصينيين سوف تدرب على مبادئ السلوك والحكم التي وضعها. لقد صارت نصوص كونفوشيوس، وليست كلها أصلية، تعامل بما يشبه الخشوع الديني، واستخدمت لقرون طويلة بصورة موحدة وخلاقة من أجل قولبة أجيال من حكام الصين ضمن مبادئ كان يعتقد أنه قد وافق عليها، ويلفت النظر هنا التشابه مع استخدام الكتاب المقدس المسيحي في زمن لاحق، على الأقل في البلاد البروتستانتية، إلا أن كونفوشيوس لم يقل أشياء كثيرة حول أمور ما فوق الطبيعة، فهو لذلك لم يكن معلماً دينياً بالمعنى المألوف للكلمة، وربما لهذا السبب حقق معلمون آخرون نجاحاً أكبر منه بين الجماهير، بل كان همه الأكبر هو الواجبات العملية. ويبدو أن الفكر الصيني اللاحق أيضاً لم يهتم كثيراً بالأمور النظرية، مثل حقيقة عالم الحواس أو إمكانية الخلاص الفردي، بعكس تقاليد فكرية أخرى أرقتها هذه الأفكار، كما أن الفلاسفة الصينيين لم يهتموا كثيراً بوضع مخطط للمعرفة عبر الاستجواب المنهجي لطبيعة العقل ومدى قدراته، بل صاروا يهتمون بعبر الماضي وحكمة الأزمان الغابرة والحفاظ على النظام السليم، أكثر من تأمل الألغاز الثيولوجية والأحاجي الفلسفية، أو البحث عن الأمان بين ذراعي آلهة غامضة. ولا تدين التقاليد الفكرية الصينية بعد كونفوشيوس بالكثير لتعاليم الأفراد، بعكس التقاليد الأوروبية التي تقوم على الاستجواب المنهجي.

ومع ذلك فقد ظهرت أنظمة فكرية منافسة للكونفوشيوسية، فهناك المعلم لاوتسه، وهو حكيم ذائع الصيت جداً، مع أننا في الحقيقة لا نكاد نعلم عنه شيئاً، ويقال إنه مؤلف النص الذي يعتبر الوثيقة الأساسية في نظام فلسفي سمي فيما بعد ”بالطاوية. يدعو هذا النظام إلى الإهمال المقصود لأشياء كثيرة تؤيدها الكونفوشية، مثل احترام النظام السائد واللياقة والتقيد الدقيق بالتقاليد والطقوس، كما تحض الطاوية على الخضوع لمفهوم كان موجوداً في الفكر الصيني أصلاً ومألوفاً لدى كونفوشيوس، هو مفهوم الطاو أو ” الطريق”، وهو المبدأ الكوني الذي يتخلل الكون المتناغم ويدعمه. ومن الناحية العملية يؤدي هذا التفكير إلى الاستكانة السياسية والزهد واتخاذ البساطة والفقر مثالاً. كما أن ثمة حكيماً آخراً أتى لاحقاً في القرن الرابع هو منشيوس (منغ تزو)، علم الناس أن يسعوا لخير البشرية، فكانت تعاليمه تطويراً لتعاليم كونفوشيوس وليست افتراقاً عنها. والحقيقة أن جميع مدارس الفلسفة الصينية كان عليها أن تحسب حساب تعالم كونفوشيوس، إذ أنها قد حظيت بمكانة ونفوذ عظيمين. ولا يمكنك أن تقيم التأثير الكامل لتعاليمه، التي لم تبلغ فترة نفوذها الكبرى إلى بعد موته بزمن طويل، إلا أنه قد وضعت المعايير والمثل للنخب الإدارية حتى يومنا هذا. وكانت تركز على اهتمام كبير بالماضي سوف يعطي كتابة التاريخ في الصين نزعة منحازة ومميزة لها، وربما كانت لها تأثيرات ضارة على البحث العلمي، وقد تغلغل الكثير من مبادئها أيضاً مثل توقير الأجداد في الثقافة الشعبية من خلال القصص والمواضيع التقليدية للفن، فزادت بذلك من تمتين حضارة الصين التي كانت ملامحها اللافتة قد ترسخت بحلول القرن الثالث ق.م.

مازال فن الصين أكثر جوانب حضارتها القديمة جاذبية وقرباً، ولم يبق شيء هام من عمارة الشانغ والتشو لأنهم كانوا يبنون بالخشب عادة، كما أن المدافن لا تكشف عن أشياء كثيرة.

ولكن من ناحية أخرى دلت الآثار على قدرة لتشييد الأبنية الكبرى، فقد كان سور إحدى عواصم التشو مصنوعاً من تراب مضروب علوه ثلاثون قدماً أي (تسعة أمتار)، وثخانته أربعون قدماً أي (اثنا عشر متراً)، كما أن الأغراض الصغيرة والكثيرة الباقية تدل على أن هذه الحضارة كانت قادرة على صنع أعمال رائعة منذ أيام الشانغ، وينطبق هذا بالأخص على الخزف، الذي لم يكن يضاهيها فيه أحد في العالم القديم، فضلاً عن أشغال البرونز العظيمة، والتي بدأت تصنع في أوائل عصر الشانغ، ثم استمرت بعد ذلك بلا انقطاع. كان فن سبك أوعية القرابين والقدور وجرار النبيذ والأسلحة والأوعية الثلاثية الأقدام قد بلغت ذروته منذ عام 1600 ق.م، ويظهر سبك البرونز بصورة مفاجئة وعلى مستوى عال من الإتقان جعل البعض يحاولون تفسيره بانتقال التقنية من الخارج، ولكن ليس هناك دليل على ذلك. كما أنه ليس هناك دليل على أن أشغال البرونز الصينية قد بلغت العالم الخارجي في الأزمنة الباكرة، إذ لم يكتشف أي عمل في أي مكان آخر يعود لما قبل منتصف الألف الأولى ق.م. وحتى في الأزمنة الأبكر لم يكتشف خارج الصين أي من الأشياء الأخرى التي أولاها الفنانون الصينيون اهتمامهم الكبير، مثل حفر الرسوم الجميلة والدقيقة على الحجر والحجر اليشب. ويبدو أن الصين لم تصبح لها علاقات هامة بالعالم الخارجي إلا في زمن متقدم من الحقبة التاريخية فيما عدا بعض الأشياء القليلة التي تعلمتها من جيرانها البرابرة. فكان مثلها مثل حضارة الهند، في أنها لم تبد نزعة قوية للتوسع خارج مهدها، على عظمته.







* نوع من الزراعة يمارس في المنطقة الجافة من دون ري، بالحفاظ على طبقة رقيقة من التربة المحروثة أو المهاد تمنع الرطوبة الطبيعية للتربة من التبخر.

[2] النص الأصلي تنقصه كلمة وليس وقد استوى المعنى بعد مراجعة النسخة الأكبر من تاريخ العالم
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://resalahmasriyah.mam9.com
 
الفصل الثاني - أولى الحضارات
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1
 مواضيع مماثلة
-
» الفصل الخامس - نزاعات الحضارات
» الفصل الثاني - الدولة الأموية
» الفصل الثاني عشر - النظام العالمي الأوروبي
» الفصل الثالث - أسس عالمنا
» الفصل السابع - صنع أوروبا

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
رسالة مصرية ثقافية :: قسم العلوم التربوية والأدبية :: التاريخ العربي :: كتاب تاريخ العالم-
انتقل الى: