رسالة مصرية ثقافية
مرحبا بك أخي الزائر نشكر زيارتك ونتمني انضمامك للمنتدي
زيارتك تسر إدارة المنتدي ومشاركتكك تسعدنا وتساهم معنا بارتفاع الثقافة العامة
بعض المنتديات الفرعية والموضوعات
لا يمكنك الإطلاع عليها إلا بعد التسجيل كعضو في المنتدي
رسالة مصرية ثقافية
مرحبا بك أخي الزائر نشكر زيارتك ونتمني انضمامك للمنتدي
زيارتك تسر إدارة المنتدي ومشاركتكك تسعدنا وتساهم معنا بارتفاع الثقافة العامة
بعض المنتديات الفرعية والموضوعات
لا يمكنك الإطلاع عليها إلا بعد التسجيل كعضو في المنتدي
رسالة مصرية ثقافية
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

رسالة مصرية ثقافية

ثقافية - علمية - دينية - تربوية
 
الرئيسيةرسالة مصريةأحدث الصورالتسجيلدخول

 

 الفصل الثاني عشر - النظام العالمي الأوروبي

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
Eng. Ahmedzoubaa
Admin
Eng. Ahmedzoubaa


عدد المساهمات : 1216
تاريخ التسجيل : 28/08/2010
العمر : 50

الفصل الثاني عشر - النظام العالمي الأوروبي  Empty
مُساهمةموضوع: الفصل الثاني عشر - النظام العالمي الأوروبي    الفصل الثاني عشر - النظام العالمي الأوروبي  Emptyالخميس 16 يونيو 2011 - 5:38

أشكال السيطرة الأوروبية

كان الأوروبيون في القرن التاسع عشر يتسابقون على بناء إمبراطوريتهم باندفاع أكبر من السابق، ولم تكن سلطتهم العالمية في تلك الحقبة مقتصرة على رفع أعلامهم فوق أراضي جديدة، بل كانت تشكل أخطاراً مختلفة كثيرة على العالم غير الأوروبي، وكانت بعض تلك الأخطار أعمق لأنها ليست مباشرة مثل الاحتلال العسكري أو السياسي.

لقد أدى وصول التجار والمنقبين والممولين الأوروبيين والأمريكيين إلى تنازلات اقتصادية من جانب الحكام المحليين بعد أن كانوا في السابق مستقلين، وربط هذا الأمر رعاياهم بعجلات العربة الغربية سواء بصورة مقصودة أم غير مقصودة.

فقد تبدلت الحياة تماماً، في ماليزيا مثلاً عندما أتى إليها الأوروبيون بنبات المطاط من أمريكا الجنوبية، مبتكرين بذلك صناعة جديدة سرعان ما صار الكثيرون من السكان معتمدين عليها في معيشتهم.

وقد تعطي عمليات استخراج المعادن بلداً ما أهمية سياسية جديدة، فقد وجد حكام المغرب أن الأوروبيين راحوا يتدخلون في شؤون بلدهم ويتنازعون عليها حالما ظهر احتمال أن تحتوي على معادن قابلة للاستثمار.

وقد يمتد التدخل في شؤون الحكم الذاتي لتلك الدول المستقلة شوطاً بعيداً من دون أن يصل إلى الضم المباشر، لقد جرت أولى المفاوضات حول هذا الشكل من التنازلات مع الأتراك العثمانيين في القرن السادس عشر، ومنذ ذلك الحين صارت تعقد مع قوى غير مسيحية من أجل ضمان الأمن والامتيازات للأوروبيين المقيمين فيها.

وكانت تسمح لهم بالإعفاء من المحاكم المحلية وبالمثول بدلاً منها أمام مسؤولين أو محاكم خاصة يديرها قضاة أوروبيون، فيتجاوزون بذلك قانون البلاد. فقد كان الأوروبيون والأمريكيون يعيشون في الصين في أواخر القرن التاسع عشر في مناطق خاصة ممنوحة لهم ضمن المدن التي يديرون منها أعمالهم، ولم تكن حكومات هذه المناطق مسؤولة أمام السلطات الصينية بل أمام السلطات الأجنبية، وكانت لها أحياناً حاميات وقوات شرطة غربية أيضاً.

وقد أضعفت هذه الترتيبات مكانة الحكام المحليين في نظر شعوبهم، كما أن الأوروبيين كانوا أحياناً يتفاوضون مع بعض الحكام على معاهدات تعطيهم سيطرة على سياستهم الخارجية، وكان هناك بالإجمال مجال واسع من التدخل الفعلي في شؤون الدول غير الأوروبية يمتد بعيداً خارج الحدود الرسمية للإمبراطوريات.

وكان هناك أخيراً شكل آخر غير مباشر من الهيمنة بدأت الحضارة الأوروبية تمارسه بصورة متزايدة في القرن التاسع عشر، وسوف يستمر بعد انتهاء حكمها الصريح في دول كثيرة، هذه السيطرة هي سيطرة الأفكار والأساليب الغربية، أي الحضارة الأوروبية بأعمق معانيها، ومن الصعب أن نحدد هذا التأثير إلا في حالات منفردة.

لقد بقي ملايين الناس في مساحات شاسعة من العالم يعيشون ضمن أنماط تقليدية من السلوك والمعتقدات لم تمسها الحضارة الغربية أو الأوروبية بشيء، وهذه حقيقة هامة لايجوز أن تغيب عن بالنا.

ولكن الأفكار القومية كانت أفكاراً غربية سوف تتبناها شعوب آسيا وأفريقيا بحماس كبير، وسوف تحرز فيها انتصارات واسعة، ومثلها أفكار العلم والتقنية ومفاهيم التقدم المرتبطة بها، فضلاً عن المفاهيم الغربية في مجالات القانون والاقتصاد والدين والسياسة والحكم وغيرها الكثير الكثير.

صحيح أن الأفكار لم تؤثر في البداية إلا في أعداد قليلة من الناس هي النخب المتعلمة في المجتمعات غير الأوروبية، ولكنها في النهاية تغلغلت عميقاً ضمن أساليب الحياة وامتدت آثارها بعيداً خارج تلك الحلقات الضيقة.

لقد لعبت هذه التيارات المختلفة في عصر توسع الإمبراطوريات أدواراً مختلفة من بلد إلى أخرى، وبالإجمال كان الاستملاك المباشر للأراضي يظهر في أبرز أشكاله في أفريقيا وجزر المحيط الهادي، بينما انتشرت الأشكال غير المباشرة من النفوذ الغربي في الإمبراطوريات الآسيوية القديمة، وإن هذا الوصف تقريبي جداً ولكنه يبقى مع ذلك وصفاً مفيداً.

دوافع وفرص

لقد كانت دوافع الأوروبيين في سيطرتهم على العالم عديدة ومتنوعة، من الواضح أن الرغبة بالمكاسب الاقتصادية كانت واحداً من تلك الدوافع منذ القرن الخامس عشر، فقد كان الناس دوماً يسعون لإيجاد مناطق جديدة يتاجرون معها ويكسبون الأموال، أو موارد جديدة بشكل أراضٍ أو ثروات معدنية أو مجهود بشري، أو فرص للسلب والنهب الصريحين.

وازدادت جاذبية هذه الموارد في القرن التاسع عشر بسبب ارتفاع الطلب في أوروبا على المواد الأولية من أنحاء العالم المختلفة بقيام الحركة الصناعية، إلا أنك لست مضطراً لحكم بلد ما من أجل أن تتاجر معها، والحقيقة أن الكثيرين من رجال الأعمال كانوا يفضلون العمل بعيداً عن متناول القوانين والأنظمة الأوروبية، وحتى عندما بلغت المنافسة بين الدول الاستعمارية أشدها للاستحواذ على أراضٍ جديدة، كان مسؤولوها وسياسيوها عادة غير راغبين باتخاذ مستوطنات جديدة، لأنهم يعلمون أن حكمها وحمايتها يكلفان الكثير من المال، وأن لاضمانة لأن تسدد نفقاتها في النهاية.

كما أن سعي الناس نحو استثمارات ذات مردود مجز لايفسر رغبتهم في الحصول على أراضٍ جديدة، فقد كانت بريطانيا تستثمر في الخارج مبالغ أكبر من أي دولة أخرى في عام 1900، وكانت لها أيضاً أوسع إمبراطورية في العالم، ولكن الأموال التي أودعها فيها المستثمرون البريطانيون كانت ضئيلة جداً بالقياس إلى استثماراتهم الواسعة في الولايات المتحدة وأمريكا الجنوبية، لأن عوائد الأمريكتين كان أوفر بكثير من عوائد الاستثمار في أفريقيا.

صحيح أن توسع الاقتصاد الحر في أوروبا وأمريكا الشمالية قد تزامن تقريباً مع بناء الإمبراطوريات الجديدة، وأن بعض رجال الأعمال كانوا أحياناً يحاولون جذب حكوماتهم إلى ضم مستوطنات جديدة لأن لهم فيها مصلحة خاصة، ولكن الرأسمالية بحد ذاتها لاتكفي لتفسير هذه الموجة من التوسع الاستعماري.

الحقيقة هي أن الدوافع والأهداف كانت تتباين كثيراً بين أنحاء العالم المختلفة، لأن الحكومات المختلفة كانت تستمع بدرجات مختلفة إلى مصالح كثيرة ومختلفة أيضاً، مثل مصالح الجنود، وأصحاب المشاريع الإنسانية، والمبشرين الدينيين، وبعض الأشخاص المعتوهين، والمستوطنين، عدا عن رجال الأعمال.

كما أنها كانت تستمع بدرجات مختلفة إلى الرأي العام، وقد تميز هذا العصر الأخير من الاستعمار في بلاد كثيرة ببداية الاهتمام برغبات جماهير الناخبين للمرة الأولى، وكان أولئك الناخبون يقرؤون الجرائد أكثر مما مضى، وكان الصحفيون ومازالوا يختارون المواضيع التي تسهل المبالغة العاطفية فيها وتحويلها إلى مقال صحفي يجتذب القراء ويرفع المبيعات، وقد كانت هذه المواضيع وافرة في عصر الاستعمار.

ولهذا كان رجال الدولة أحياناً يسيرون مع التيار الشعبي أو ما يبدو أنه التيار الشعبي ولو أنهم غير مؤمنين بالتوسع الاستعماري، وحتى في روسيا، التي كانت أقل الدول الاستعمارية ديمقراطية، يبدو أن الحكومة كانت تشعر أن سيرها على طريق الاستعمار سوف يساهم في حشد الدعم والتأييد لنظامها.

والناحية الأخيرة المهمة والتي تزيد قصة الاستعمار تعقيداً هي اختلاف درجات وسعة امتداده بسبب تباين درجات المقاومة نحوه، كان الاستعمار عبارة عن محاولات لفتح أبواب جديدة، ولكن الباب قد يكون مغلقاً أحياناً أو قد يكون هناك من يدفعه من الجانب الآخر لكي يبقيه مغلقاً، بينما لم تكن هناك أي مقاومة وراء أبواب أخرى.

أي أن الإمبراطوريات الجديدة كانت تواجه في توسعها فرصاً متباينة جداً، وهذا ما اكتشفه المستوطنون الأوروبيون في الخارج، لقد ذهب بعضهم إلى أجزاء من العالم لا يألفها الأوروبيون، مثل أستراليا ونيوزلندا وجزر المحيط الهادي وشرق أفريقيا، فكان لهم دورهم في عملية الامتداد الاستعماري، ولكن أعدادهم كانت تختلف كثيراً بين البلاد الأوروبية، فكنت تجد أكثر جماعات المستوطنين في مستعمرات بريطانيا، بينما كان المهاجرون من الدول الأوروبية الأخرى يذهبون عادة إلى الولايات المتحدة أو أمريكا الجنوبية.

ثم أنه لم يكن هناك في تلك الأراضي الجديدة حضارات متطورة أو إمبراطوريات ذات ماض عظيم أو ديانات كبرى مثل التي في الهند أو في الصين، أي أنهم لم يجدوا ما يستدعي إعجابهم واحترامهم.

كما أن عدد السكان الأصليين كانت قليلة، لذلك كان المستوطنون البيض يبنون حياتهم بحرية أكبر بكثير من حكام البلاد الأخرى التي استعمرتها بريطانيا، والذين كانوا يواجهون ظروفاً محلية أكثر تعقيداً، أما في المستعمرات التي لم يأت إليها مستوطنون فكانت الدول الأوروبية تميل للتوسع بسبب صعوبة حدود ثابتة ونظامية من دون المشاركة في شؤون الشعوب التي تعيش فيها، وكان الروس في آسيا الوسطى والبريطانيون في الهند يرون أنفسهم في هذا الوضع، سواء كانوا على صواب أم على خطأ.

وإذا نحن استعرضنا القوى الكبرى القديمة في العالم غير الأوروبي، وجدنا أن الإمبراطورية العثمانية في غرب آسيا وفي أوروبا أيضاً كانت تعاني من مصاعب كبيرة في عام 1800، وقد ازدادت المصاعب بمرور القرن سوءً على سوء، فلم يعد الأتراك قادرين على حكم الشعوب التابعة لهم بصورة ملائمة، وراحت بعضها تطلب المساعدة من الدول الأوروبية.

وإلى الشرق منها كانت إمبراطورية فارس ذات الماضي العظيم ترزح تحت ضغوط خارجية كبيرة خاصة في روسيا، كما كانت في الداخل مقسمة وضعيفة. وإذا ابتعدنا أكثر نحو الشرق رأينا أن إمبراطورية المغول لم تعد إلا صورة باهتة عن إمبراطورية القرن السابع عشر، وأن الدول الهندية المتعاقبة كانت عاجزة عن تأمين الحكم الثابت لنفسها، وحتى إمبراطورية الصين التي كانت في الماضي قوة عظمى كانت تبدو ضعيفة في بداية القرن التاسع عشر، وكانت إندونيسيا خاضعة للهولنديين، وكان جنوب شرقي آسيا يخرج عن سيطرة سادته الصينيين، فلم يكن في هاتين المنطقتين مقاومة قوية لحضارة أوروبا المهيمنة والعدوانية.

أما في بقية أنحاء العالم، أي في أفريقيا وجزر المحيط الهادي، فقد وجد المستعمرون البيض شعوباً أكثر تخلفاً، إن الذي حمى هذه الأماكن من السيطرة الأجنبية لزمن طويل إنما هو العوائق الطبيعية كالمناخ وبعد المسافات والأمراض، ولكن القرن التاسع عشر قد أتى بأساليب جديدة للتغلب على تلك العوائق.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://resalahmasriyah.mam9.com
Eng. Ahmedzoubaa
Admin
Eng. Ahmedzoubaa


عدد المساهمات : 1216
تاريخ التسجيل : 28/08/2010
العمر : 50

الفصل الثاني عشر - النظام العالمي الأوروبي  Empty
مُساهمةموضوع: رد: الفصل الثاني عشر - النظام العالمي الأوروبي    الفصل الثاني عشر - النظام العالمي الأوروبي  Emptyالخميس 16 يونيو 2011 - 5:39

المعرفة والتقنية

لقد لعب تقدم المعرفة دوراً كبيراً في بناء نظام جديد، وكانت معرفة الأوروبيين بالجغرافية ميزة كبيرة بيدهم على حكومة الصين مثلاً، حتى في بداية القرن التاسع عشر كانت سواحل العالم وأشكال قاراته الأساسية معروفة عندئذٍ بصورة جيدة، ماعدا مناطق القطب الجنوبي.

وكان قسم كبير من أمريكا الشمالية قد استكشف، كما كان المستكشفون الإسبان والفرنسيون قد فتحوا منطقة الجنوب الغربي ورسموا الخرائط للبحيرات الكبرى ووادي الميسيسيبي قبل نهاية القرن السابع عشر، أما السهول الواقعة وراء الميسيسيبي ومنطقة الشمال الغربي فقد تركي لمستكشفي القرن التاسع عشر، وأعظم اسمين في هذه القصة هما لويس وكلارك اللذان تعقبا نهر ميسوري حتى منابعه بين عامي 1804-1806 ثم عبرا مرتفعات جبال روكي ونزلا نهري سنيك وكولومبيا حتى ساحل المحيط الهادي فيما كان يسمى أرض أوريغن.

كان الناس قد رأوا ذلك الساحل بما فيه لسان فانكوفر البحري من ناحية المحيط، ولكن هذا كان أول عبور بري إليه، وسرعان ما تبعهم التجار والمستوطنون إلى الشمال الغربي، ومع هذا بقيت مساحات كبيرة من سطح العالم مجهولة، فكانت هناك جزر كثيرة في امتدادات المحيط الهادي تنتظر من يكتشفها، كما بقي جزء كبير من داخل أفريقيا وأمريكا الجنوبية بل بعض أنحاء آسيا أيضاً غير مستكشفة، أما في عام 1914 فكانت الصورة قد تبدلت، وكانت الأراضي غير المستكشفة في العالم قليلة جداً.

أفريقيا

عند نهاية القرن الثامن عشر، كانت قد ابتدأت الجهود المتواصلة والمنظمة للوصول إلى أعماق أفريقيا، فقد وصل البريطانيون إلى جنوبي الصحراء الكبراء وإلى مناطق نهر النيجر، ويبدو أن رجلاً ألمانياً كان أول أوروبي يعبر الصحراء الكبرى- منذ الأزمنة الرومانية، وقد انطلق من القاهرة ومات قبل أن يصل إلى النيجر بقليل.

في هذه الأثناء انطلقت حملات أخرى من الساحل الغربي، كانت آخرها الحملة التي قام بها المستكشف الاسكتلندي العظيم مونغو بارك في عام 1805، والتي بينت الأخطار التي تترصد من يقوم بمحاولات كهذه، فقد شارك فيها أربعون أوروبياً انطلقوا من الساحل، لم يبق منهم أحياء عندما وصلوا على أعالي نهر النيجر إلا أحد عشر شخصاً، وعندما صارت البعثة جاهزة للعودة لم يبق إلا خمسة، وكان أحدهم قد أصيب بالجنون. ثم انطلقت هذه الحفنة الصغيرة من جديد، ولكنهم جميعاً قتلوا أو غرقوا في الطريق.

وبالرغم من هذا ظل المستكشفون يرحلون إلى أفريقيا، ففي عام 1828 وصل رجل فرنسي إلى طنجة من الجنوب، وكان بذلك أول أوروبي يزور تمبكتو ويعود سالماً وبعد سنوات قليلة وصل الناس إل مصب نهر النيجر لأول مرة من الداخل. وشيئاً فشيئاً صارت تتراكم المعرفة بالصحراء الكبرى وبالسهول الواقعة إلى الجنوب منها، وفي هذه الأثناء كانت تجري سلسلة من الحملات من الساحل الشرقي بحثاً عن منبع نهر النيل.

الفصل الثاني عشر - النظام العالمي الأوروبي  Nile

نهر النيل

ليفينغستن

لقد ألهمت الحماسة الجغرافية والعلمية أكثر المستكشفين، ولكن أشهرهم كان المبشر الديني الاسكتلندي ديفيد ليفنغستن، كان هناك بعثات مسيحية كثيرة تعمل في أفريقيا عندما رسا ليفنغستن في جنوب القارة في عام 1841، ولكنه استحوذ على خيال مواطنيه وربط أفكار الحضارة الأوروبية بالتنصير في أفريقيا بصورة لامثيل لها، وقد أصبح بطلاً شعبياً حقيقياً.

لقد ذهب أولاً نحو الشمال باحثاً عن مواقع لمحطات تبشير جديدة، وبعد أن عبر صحراء كالاهاري مع زوجته وطفله ووصل إلى نهر الزامبير قرر أن يسير مسافة 1.500 ميل (2.400 كم) غرباً عبر أراضي مجهولة إلى المحيط الأطلسي، فبلغه عند لواندا في عام 1854، وقرر عندئذٍ أن يستدير ويقفل راجعاً، وقد عاد بالفعل.

وتلت ذلك رحلات كثيرة، في عام 1866 انضم ليفنغستن إلى عمليات البحث عن منابع النيل، وقد روعه ما رآه من مآسي سببها النخاسون العرب، كانت النخاسة قد منعت على الساحل الغربي منذ زمن بعيد باتفاق دولي وعبر القارة مرة ثانية سيراً على الأقدام متبعاً هذه المرة مجرى نهر الكونغو الأعلى نزولاً من المنطقة الواقعة إلى الغرب من بحيرة طنجنيقة.

وبينما كان يقوم بهذا المسير حصلت واحدة من أشهر الحوادث في تاريخ الاستكشاف قاطبة، هي لقاؤه في عام 1871، بالمراسل الصحفي الأمريكي هنري ستانلي ، الذي أرسل بحثاً عن هذا المستكشف الشهير، وإن أبلغ رواية لهذه القصة الشهيرة هي كلمات ستانلي نفسها إذ يقول: ”كنت أود أن أجري نحوه، ولكنني كنت جباناً في حضرة هذا الرجل، كنت أود أن أعانقه، ولكنني ما كنت أعلم كيف سيستقبلني. ففعلت عندئذٍ ما أملاه علي جبني وكبريائي الزائف، وسرت إليه بتؤدة، ونزعت قبعتي وقلت : الدكتور ليفيغستن، على ما أظن؟"

لقد توفي ليفنغستن في عام 1873 وهو ساجد يصلي في آخر رحلاته الرهيبة، وقام خدامه الأوفياء بدفن قلبه ثم حملوا جسده المحنط طوال أحد عشر شهراً في مسيرة ألف ميل حتى الساحل في ذلك الحين كان عصر استكشاف أفريقيا قد شارف على نهايته، وخلال سنوات قليلة رسمت خرائط دقيقة لأنهار النيجر والزامبيز والنيل والكونغو.

الفصل الثاني عشر - النظام العالمي الأوروبي  David_livingstone

ليفنغستن

صحيح أن تفاصيل كثيرة لم تكن معروفة بعد، إلا أن عصر السكك الحديدية والطرق والتلغراف كان قد بزغ، وأخيراً راحت عتمة الجهل المكتنفة لأرض أفريقيا تنقشع بصورة متزايدة ومتسارعة عاماً بعد عام.

لقد استحوذ استكشاف أفريقيا على خيال الناس في أوروبا، والأمريكتين في القرن التاسع عشر لأسباب كثيرة ومتنوعة، وكان هناك الاندفاع لتنصير شعوب القارة الأصلية، وهذا ما جعل ليفنغستن يتمتع بجاذبية تشه جاذبية لاعبي كرة القدم أول المغنيين الشعبيين في أيامنا. وكانت هناك أيضاً مصلحة الأفراد والحكومات الذين يدعمون الحملات بحثاً عن الثروات الطبيعية التي تحتويها أفريقيا.

ثم كان هناك تأثير الحركة المناهضة للاسترقاق، وشعور الأوروبيين بالذنب تجاه أفريقيا بسبب الأضرار التي سببها النخاسون الأوروبيون في الماضي، حتى النافسات بين الدول كان لها دورها، إذ راحت الحكومات تسعى للحصول على معلومات يمكنها أن تبني عليها مطالبها بالأراضي أو بالنفوذ على الحكام الأفارقة. وكانت هذه العوامل تفعل فعلها أحياناً بصورة متسارعة، إذ كثيراً ما كانت الحكومات الأوروبية تسعى لبسط نفوذها في أفريقيا خوفاً من أن تسبقها إليها بلد أخرى.

استكشاف أستراليا

إن الدوافع المذكورة لاتنطبق على هذه الأرض الكبيرة التي كانت تنتظر استكشافها في عام 1801 أي قارة أستراليا، لقد كان عدد السكان الأصليين في أستراليا قليلاً نسبياً، كما أنهم كانوا أكثر تخلفاً في حضارتهم من شعوب أفريقيا، وحتى زمن متقدم من القرن التاسع عشر، لم يكتشف فيها الكثير من الموارد الطبيعية.

كانت أستراليا بعيدة عن أوروبا وعن أمريكا، ولم يدخلها أحد حتى نهاية القرن الثامن عشر، بينما كان الأوروبيون يعرفون جزءً كبيراً من سواحل أفريقيا قبل ذلك بزمن طويل، ولم يكن ثمة تنافس بين الدول فيها يدفع استكشافها إلى الأمام.

الفصل الثاني عشر - النظام العالمي الأوروبي  Aus-hadi

كان الأستراليون أنفسهم أهم مستكشفي قارتهم، وراحت حملاتهم تشق طريقها نحو الداخل ضمن صعوبات هائلة في النصف الأول من القرن التاسع عشر، وكان الأمر شبيهاً باختراق غرب أمريكا الشمالية.

ولم تبدأ الهجمات الكبرى الأولى على الصحارى إلا بعد استيطان أستراليا الجنوبية وفكتوريا، ففي عامي 1840-1841 قام رجل إنكليز بمسير رهيب على طول الساحل الجنوبي الصحراوي للقارة، حتى ألباني في الغرب، ولكن القارة لم تعبر بصورة كاملة حتى عام 1860 عندما قطعت حملة مزودة بالجمال المستوردة للنقل المسافة من ملبورن حتى خليج كاربنتاريا في الشمال، ثم تم عبور آخر من آدليد إلى بورت داروين في عام 1862.

وبعد ذلك راحت خريطة أستراليا تكتمل رويداً رويداً، وقد ساهم الأستراليون الحقيقيون أي السكان الأصليين للبلاد في هذه العملية مساهمة كبيرة ولكنها منسية، فهم الذين كانوا يزودون المستكشفين بالمعرفة والمهارات الضرورية، مثل أماكن وجود الماء وطريقة استخراجه وأنواع اليرقانات التي تؤكل، وهذا ما مكنهم من البقاء على قيد الحياة.

القطب الشمالي والقطب الجنوبي

كانت منطقتا القطبين الشمالي والجنوبي مسرحين لجهود كبرى غيرها في مجال الاستكشاف في هذه المرحلة التي استحوذت على الاهتمام الشعبي. ولم يتوقف الناس عن الحلم بإمكانية العبور إلى آسيا عن طريق الالتفاف حول أمريكا الشمالية أو سيبيريا، وعادت الحكومة البريطانية فعرضت من جديد في عام 1818 جائزة مقدارها 20.00 جنيه لأول شخص يقوم بهذه الرحلة، فراحت محاولات المستكشفين تشد انتباه الناس إلى مسافات أبعد نحو الشمال.

وقد حاول ضابط بحري بريطاني أن يبلغ القطب الشمالي فوصل حتى خط 82ْ.45َ في عام 1827 منطلقاً من سبيتزبرغن، وظل هذا الإنجاز رقماً قياسياً طوال خمسين سنة مع أن رجلاً آخر وصل إلى القطب الشمالي المغناطيسي بعد أربع سنوات من ذلك، واستمرت في هذه الأثناء المحاولات للبحث عن ممر شمالي غربي، إلى أن دخل النرويجي أمندسن في عام 1906 مضيق بيرنغ للمرة الأولى بعد أن أبحر بسفينة عبر شمالي كندا وألاسكا.

ويبدو أن الأمريكي بيري قد سبقه إلى القطب الشمالي بعد بضع سنوات، ولكن هذا الأمر ليس مؤكداً تماماً، إلا أن أمندسن صار فيما بعد من أول الذين حلقوا فوق القطب الشمالي في طائرة، وذلك في عام 1926. وكان قد أحرز قبل هذا انتصار أعظم في قارة أنتاركتيكا.

كان كوك أول إنسان عبر بالسفينة دائرة أنتاركتيكا، وكانت حملة روسية هي أول من رأى اليابسة فيها في عام 1921، وقد وصل البحار البريطاني الكابتن روس إلى مسافة 710 أميال (1136)كم عن القطب الجنوبي ورسم الخريطة لألف ميل 1600 كم من ساحل أنتاركتيكا في عام 1842، وكان هذا أيضاً رقماً قياسياً استمر حتى نهاية القرن عندما استطاعت جماعة من المستكشفين أن تمضي أول شتاء في هذه القارة وقطعت مسافة أبعد نحو الجنوب على المزالج.

وصارت المعلومات تتراكم بصورة أسرع، واضطرت حملة سويدية أن تمضي شتاءين متتاليين في أنتاركتيكا قبل أن ينفذوها في عام 1903، وقد تم لها هذا الإنجاز بفضل سوء حظها، إذ أن الثلج قد حطم سفينتها وأغرقها.

وكانت الحملات عندئذٍ قد تسارعت، فوصل فريق بريطاني إلى مسافة 97 ميلا (155كم) عن القطب الجنوبي في عام 1909 قبل أن يرتد عائداً، وأخيراً بلغه أمندسن في عام 1911 في يوم 16 كانون الأول/ديسمبر ويمكننا اعتبار هذا التاريخ رمزاً لنهاية هذا العصر الكبير من الاستكشاف الذي ابتدأ في القرن الخامس عشر.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://resalahmasriyah.mam9.com
Eng. Ahmedzoubaa
Admin
Eng. Ahmedzoubaa


عدد المساهمات : 1216
تاريخ التسجيل : 28/08/2010
العمر : 50

الفصل الثاني عشر - النظام العالمي الأوروبي  Empty
مُساهمةموضوع: رد: الفصل الثاني عشر - النظام العالمي الأوروبي    الفصل الثاني عشر - النظام العالمي الأوروبي  Emptyالخميس 16 يونيو 2011 - 5:39

استيطان الرجل الأبيض

من الطرق التي غير بها الأوروبيون مجرى تاريخ العالم زرعهم لمستوطناتهم في القارات الأخرى، ففي عام 1800 كانت هناك الولايات المتحدة، ومجموعات سكانية كبيرة من أصول إسبانية وبرتغالية في أمريكا الوسطى والجنوبية.

وكان هناك أيضاً مستوطنون بريطانيون وفرنسيون في كندا، وهولنديون في رأس الرجاء الصالح، وعدد قليل من البريطانيين أكثرهم من المحكومين في نيوساوث ويلز بأستراليا، وفي عام 1914 كانت هذه المجموعات السكانية قد نمت نمواً واسعاً وأصبحت دولاً جديدة وناضجة.

إذا استثنينا أمريكا الوسطى والجنوبية، وجدنا أن بريطانيا كانت المصدر الأساسي لأولئك المستوطنين، وهناك سببان أساسيان لذلك: أولهما كثرة المهاجرين منها، وثانيهما النفور العميق لدى حكامها من حكم مستوطناتهم، إذ أنهم كانوا يريدونها أن تبلغ بسرعة طور النضج والاستقلال، وكانت ذكريات حرب الاستقلال الأمريكية وجراحها عميقة، فكان الإنكليز يعتبرون أن المستوطنات سوف تنقلب عليهم في النهاية، وأنها على كل حال تكلف مبالغ باهظة.

وعندما بدأت هذه الأفكار بالانقشاع والزوال لم يعد من الممكن وقف تيار الاستقلال في المستوطنات البريطانية، لقد ظل العلم البريطاني طوال القرن يرفرف على إمبراطورية لاتغرب عنها الشمس حقاً، ولكن الإنكليز كانوا ينظرون إلى تلك المساحات الوردية الكبيرة على الخريطة بمشاعر متضاربة، ومن دون حماس كبير.

كندا

كانت كندا البريطانية تعيش إلى جوار جمهورية ولدت من الثورة ضد التاج البريطاني، وكان الكثيرون من مواطني أمريكا يعتقدون أن الولايات المتحدة سوف تمتصها في النهاية. وقد جرت حرب بين الولايات المتحدة بريطانيا من 1812 إلى نهاية 1814 فكانت هي المحاولة الوحيدة التي قامت بها أمريكا لغزو كندا، إلا أنها لم تفلح.

ولكن مشاكل الحدود ظلت مستمرة طوال نصف قرن تقريباً في داخل كندا كانت هناك مشكلة حكم مجموعتين من المستوطنين، هما الفرنسيين الذي وصلوا إلى هناك أولاً واستوطنوا بشكل أساسي في كيبك، والبريطانيون الذين وصلوا بعدهم، وكان بعضهم في المستوطنات الأمريكية السابقة ولكن الكثيرين منهم اسكتلنديين، وقد استقروا بشكل أساسي في المقاطعات البحرية وفي الغرب.

وفي عام 1837 اشترك أفراد من الشعبين معاً في ثورة ساعدهم فيها الأمريكان، وقد قمعت تلك الثورة ولكن الحكومة البريطانية بدأت تتخذ خطوات أعطت فيها للكنديين أولاً السيطرة على شؤونهم الداخلية ثم استقلالهم الكامل تحت رئاسة تاج بريطانيا. وتأسس دومينيون كندا كدولة اتحادية في عام 1867 وصارت لها حكومتها الوطنية، فكانت تلك خاتمة مرحلة من تاريخها ومنذ ذلك الحين يمكننا اعتبار كندا دولة مستقلة، ولو أنها ظلت مرتبطة ببريطانيا بكثير من الروابط العملية والعاطفية.

كانت كندا في عام 1867 بلداً فقيراً وقليل السكان، وقد افتتحت فيها أول سكة حديدية عبر القارة بعد عشرين سنة فكانت ذات أهمية عظيمة لأنها ضمنت البلاد كلها كوحدة اقتصادية وحكومية واحدة، وقد استخدمت في عام 1885 لنقل الجنود من أجل إخماد ثورة في الشمال الغربي، وكما حدث في الولايات المتحدة، كانت السكك تكملة لعمل السفن البخارية في ربط العالم الجديد بالمراكز الكبرى للسكان في أوروبا.

لقد وصل إلى كندا 500.000 أوروبي بين عامي 1815 و 1860، فساهموا مع التكاثر الطبيعي في رفع عدد سكانها إلى 3 ملايين في ذلك العام، ولكن بسبب تسرب الكثيرين منهم إلى الولايات المتحدة لن يتضاعف هذا العدد حتى عام 1900، عندما بدأت فورة جديدة من الاستيطان والنمو السريع.

أستراليا ونيوزيلندا

كان نمو عدد سكان أستراليا في البداية أكبر منه في كندا، لقد كانت الدفعة الأولى من المستوطنين التي وصلت إلى أستراليا في عام 1788 مكونة من 376 شخصاً، وكان هؤلاء مجموعة من المحكومين والنساء والحراس، وقد تكاثروا حتى بلغ عددهم 100.000 مستوطن تقريباً في ثلاثينيات القرن التاسع عشر ومليوناً في حوالي عام 1860.

وكانت مشاكل الحكم في أستراليا أقل منها في كندا ولم يكن لها جيران أقوياء، ولكن اقتصادها المتقلقل والنقل المستمر للمحكومين، وقد رسا آخرهم في عام 1867 قد سببا الكثير من المتاعب لحكامها البريطانيين. وكان خروف المرينوس هو الأول للمشكلة الاقتصادية، ثم جاءت السفن ذات البرادات القادرة على نقل اللحوم.

في عام 1850 منحت كل واحدة من المستوطنات التي تتألف منها أستراليا حكماً ذاتياً داخلياً، ثم سحبت القوات البريطانية في عام 1870، وولدت أستراليا بعد ذلك وكانت دولة اتحادية مثل كندا، في الأول من كانون الثاني/يناير من عام 1901، أي في أول يوم من القرن العشرين.

لقد ساعد تحسن المواصلات أستراليا مثلما ساعد كندا من قبلها، وبدأ أول خط منتظم من السفن البخارية في إنكلترا إلى سيدني في عام 1856. وقد سهل هذا الأمر عملية الهجرة، وكذلك السكك الحديدية ولو أن كل مستوطنة قد اتخذت عرضاً مختلفاً لسككها مسببة بذلك قدراً كبيراً من الفوضى، وفي عام 1872 مد خط تلغرافي من أدليد إلى داروين في الشمال، وسرعان ما أمكن الاتصال من هناك بأندونيسيا والهند، وبالتالي بأوروبا عبر خط مباشر.

لقد كان أغلب المستوطنين من المملكة المتحدة، ومع ازدياد أعدادهم تزايدت أيضاً المقاومة لاستيطان الصينيين واليابانيين، واتخذت المستوطنات كل على حدة سياسات أستراليا البيضاء. كما حصلت أمور مشابهة على الساحل الغربي لكندا وفي الولايات المتحدة حدت من هجرة الشرقيين إليها؛ فربما كانت هجرات الأوروبيين هذه إلى أنحاء العالم أكثر نجاحاً من هجرات الشعوب السابقة في صد منافسيها وإبعادهم.

وبموافقة جميع الأطراف تم ضم القيود على الهجرة إلى اتفاقيات عام 1901 التي أسست عليها دولة أستراليا، وعندما هزمت اليابان روسيا في الحرب تجددت المخاوف من الخطر الأصفر الكامن في الشمال، ولهذا السبب قامت أستراليا بالاستيلاء على نيوغينيا البريطانية لأسباب إستراتيجية وسمتها بابوا.

وهكذا أصبحت أستراليا بدورها قوة استعمارية، وابتدأ بناء البحرية الأسترالية بعد سنوات قليلة، وتم تبني التدريب العسكري الإلزامي في عام 1910، وفي هذه الأثناء كان يتشكل مجتمع أستراليا، وهو بالأساس مجتمع بريطاني ولكنه أكثر ديمقراطية بكثير وأكثر تسامحاً في مواقفه الاجتماعية. وقد ذهل بعض الأوروبيين من بعض نواحي ديمقراطيته، مثل حق التصويت الذي كانت النساء يتمتعن به في أستراليا في تسعينيات القرن التاسع عشر، ومن تشريعاته السخية في مجال العمل والخدمات الاجتماعية.

وظهرت في نيوزيلندا أيضاً دولة جديدة ذات ثقافة بريطانية راجحة، ولكنها أكثر ديمقراطية وتشبه أستراليا من ناحية أنها أسخى من الوطن الأم في نظامها الاجتماعي وخدمات الرفاهية، لقد كن مستوطنوها الأوائل من صيادي الحيتان والمحكومين الفارين من أستراليا والتجار الباحثين من مكاسب هزيلة من بيع الأسلحة النارية لشعوب الماوري الأصلية، وقد بلغت سمعتهم من السوء ماجعل الحكومة البريطانية تمتنع عن اتخاذ المسؤولية نحو هذه الجزر أصلاً.

وكان المبشرون الأوائل يعملون بكد ونشاط، وكان ثمة أسقف أنغليكاني في نيوزيلندا منذ عام 1827 ولكن المستوطنين المحترمين لم يحظوا بالتشجيع والمساندة إلى أن لاح خطر استيلاء الفرنسيين على الجزر، فعقدت عندئذٍ معاهدات مع زعماء الماوري في عام 1840 قبلوا فيها بالسيادة البريطانية، وبدأ بذلك التاريخ الاستعماري القصير لنيوزيلندا.

لقد كان المستوطنون جشعون، فاستولى على أراضي شعب الماوري ودفعوهم إلى الثورة مرتين، ولكن الماوري لم يكونوا ضعفاء مثل السكان الأصليين في كندا وأستراليا، بل كانوا كثيري العدد وذوي قوة عسكرية كبيرة.

ومع هذا نمت المستوطنة بسرعة، خاصة في الجزيرة الجنوبية التي كانت أعداد الماوري فيها قليلة حتى بلغ عدد المستوطنين 300.000 في عام 1875. وربما كان الأهم من هذا أن عدد الخراف قد بلغ عندئذٍ عشرة ملايين في الجزيرة الجنوبية وحدها. ووجدت نيوزيلندا في الصوف بضاعة مناسبة تعتمد عليها من أجل التصدير، ثم جاءت سفن الشحن المبردة في عام 1882 فصار بإمكان المزارع أن يربي الخراف للحم فضلاً عن الصوف، كما مهدت هذه الوسيلة من النقل الطريق لتصدير مشتقات الحليب.

كانت الجزيرتان تحت حكم حاكم محلي واحد منذ عام 1875 ولم تحتفظ لندن بمسؤوليتها إلا على شؤون السكان الأصليين، واتخذ النيوزيلنديون مثل الأستراليين خطوات نحو صد المهاجرين الآسيويين، ووضعوا قانوناً ينص على 8 ساعات من العمل في اليوم، وعلى نظام تعويضات للشيخوخة في تسعينيات القرن التاسع عشر، كما أنهم منحوا النساء حق التصويت، وأخيراً اعترف في عام 1907 بنيوزلندة كدولة مستقلة ضمن الإمبراطورية البريطانية (دمينيون).

الفصل الثاني عشر - النظام العالمي الأوروبي  Aus-hadi

جنوب أفريقيا

كانت أستراليا ونيوزلندا تتمتعان في عام 1899 بدرجات مختلفة قليلاً من السيادة القانونية، ولكنهما كانتا من الناحية العملية حرتين من السيطرة البريطانية مثل كندا، ولهذا كان من الغريب أن ترسل هذه الدول الثلاث كلها قوات للقتال إلى جانب البلد الأم عندما نشبت الحرب في جنوب في أفريقيا في ذلك العام.

كانت خلفية هذه الحرب قصة طويلة وأليمة في الصراع بين الإنكليز والهولنديين، كان الهولنديون قد وصلوا إلى جنوب أفريقيا في القرن السابع عشر، وكان عددهم حوالي 25.000 في عام 1800. وبعكس الحال في أمريكا الشمالية أو أستراليا لاحقاً.

كان في جنوب أفريقيا بالأصل مجموعة كبيرة من السكان المحليين لم يرحلوا ولم يفنوا، بل ازدادت أعدادهم بمرور الزمن وحتى في عام 1900 بعد أن كانت أعداداً كبيرة جداً من البيض أكثرهم بريطانيون وقد رحلت إلى جنوب أفريقيا، لم يكن سكانها البيض يشكلون إلا حوالي ربع عدد السكان السود.

وكان الحكام البريطانيون والمزارعون الهولنديون يحملون آراء متضاربة حول معاملة الأفارقة الأصليين، وقد منعهم هذا الخلاف من التفاهم فيما بينهم. ولكن كانت هناك صعوبات أخرى، إذ أن الهولنديون كانوا يشكلون مجتمعاً مغلقاً بتقاليده ولغته وديانته، ولم يكونوا راغبين في أن يفسد الغرباء أساليب حياتهم.

وبدأت المتاعب بعد عام 1815 بقليل عندما ضم البريطانيون هذه المنطقة، وكانوا قد احتلوا رأس الرجاء الصالح بسبب أهميته الإستراتيجية أثناء الحرب مع نابليون، وسرعان مابدأ المستوطنون البريطانيون بالوصول، وكان برفقتهم مبشرون تبنوا من توهم قضية الدفاع عن حقوق السكان الأصليين وراحوا يسعون لتنصيرهم، فأغاظ هذا الأمر الهولنديين، كما أصبحت الإنكليزية هي اللغة الرسمية بدلاً من الهولندية وحلت الترتيبات القضائية محل الترتيبات القديمة، وعندما ألغي الرق في كافة أنحاء الإمبراطورية البريطانية في عام 1834 تذمر الهولنديون كثيراً من شروط التعويض.

وبالنظر إلى هذه الأسباب كلها لم يكن من الغريب أن تبدأ في عام 1835 الهجرة الكبيرة، التي سار فيها حوالي 10.000 من البور وهو الاسم الذي كان يطلق على الهولنديين مع عائلاتهم وقطعانهم وممتلكاتهم نحو الشمال عابرين نهر الفال، وكانت هذه الهجرة أساس جمهورية البور التي ظهرت لاحقاً في الترانسفال[1] ، وبعد سنوات قليلة تأسست سلطة بريطانية أخرى في ناتال بهدف حماية أهل البلاد الأصليين من البور هناك، فأدت إلى رحيل المزيد من المستوطنين ذوي الأصول الهولندية شمالاً للانضمام إلى أبناء جلدتهم.

وتلت ذلك خمسون سنة من المرارة والاقتتال أحياناً والمحاولات لإيجاد حلول لمشكلة حكم جنوب أفريقيا، وكانت الغنيمة المتنازع عليها تنمو باستمرار. لقد وصل المزيد منن المستوطنين البريطانيين، واكتشف الألماس في نهر الأورانج ثم الذهب في منطقة الراند بالترانسفال التابعة للبور.

ونشبت حروب مع أهل البلاد الأصليين، خاصة في الزولو، رفعت تكاليف الحكم كثيراً، وفي تسعينيات القرن التاسع عشر بات زعماء البور مقتنعين بأن البريطانيين مزمعون على تدمير جمهورياتهم، بينما كان البريطانيون يعتقدون أن البور قد ينالون مرفأ بحرياً على المحيط الهندي، فيشكلوا خطراً على اتصالاتهم بالهند، وكانت النتيجة حدوث حرب جنوب أفريقيا أو حرب البور الثانية بين عامي 1899 و 1902.

لقد أحرز البور عدداً من النجاحات الباهرة في البداية، وتمكنوا من الاستمرار بحرب العصابات لزمن طويل بعد هزيمة جيوشهم الأساسية، ولكنهم في النهاية اضطروا للاستسلام، فاستولى البريطانيون على الجمهوريات السابقة ووعدوا بوضع مؤسسات تمثيلية خلال وقت قريب، وسرعان ما تم هذا بالفعل.

وفي عام 1907 كانت الانتخابات قد منحت البور حكماً ذاتياً داخلياً في الترانسفال من جديد، وما لبثوا أن أقروا قوانين ضد هجرة الآسيويين خاصة الهنود، وبعد سنتين وضعت مسودة دستور لاتحاد جنوب أفريقيا سمحت لكل مقاطعة بأن تنظم بنفسها ترتيبات التصويت فيها، وقد حصرت أراضي البور السابقة حق التصويت بالبيض على الفور، بعكس المستوطنات البريطانية السابق، وبدا أن صراعات الهولنديين والإنكليز قد سويت أخيراً.

وفي يوم 31 أيار/مايو من عام 1910 أقر البرلمان البريطاني قانون جنوب أفريقيا، فظهرت بذلك دولة جديدة ضمن الإمبراطورية البريطانية سوف يكون لها مستقبل حافل بالأحداث.

كانت المستعمرات البريطانية السابقة هي أهم أراضي الاستيطان الأوروبي التي تحولت إلى دول، ولم يحدث هذا في غيرها من المستوطنات الأوروبية الأساسية، مع أن الفرنسيين والإيطاليين استقروا بأعداد كبيرة في شمال أفريقيا خلال القرن التاسع عشر، فإذا استثنينا الجزائر، التي لم تعد تعامل قانونياً كجزء من فرنسا، وجدنا أن مناطق الاستيطان هذه إما بقيت اسمياً تحت حكم السلطات الأصلية للبلاد كما في تونس، أو أنها كانت مستعمرات مباشرة لا أمل لها بالاستقلال، كما كانت الحال في ليبيا وطرابلس الغرب اللتين استولى عليهما الإيطاليون من العثمانيين قبل عام 1014 ولم يحدث فيهما أي استيطان يذكر.

الفصل الثاني عشر - النظام العالمي الأوروبي  Africa-south

أمريكا اللاتينية

المكان الآخر الوحيد الذي ظهرت فيه دول قومية من مستوطنات أوروبية هو أمريكا الجنوبية، وكان الاحتلال الفرنسي لإسبانيا والبرتغال قد سبب انقطاعاً في الروابط بين هذين البلدين ومستوطناتهما في الأمريكتين أثناء الحروب مع نابليون.

وكان الأشخاص المولودون في أمريكا من أصول أوروبية يسمون الكريول، وكانوا قد رأوا كيف قام أهل أمريكا الشمالية بكسر نير الحكم البريطاني، فبدا لهم أن هذا هو الوقت الملائم لفعل الشيء نفسه مع إسبانيا. وهكذا نشبت في عام 1810 سلسلة من الانتفاضات في أماكن متباعدة وابتدأت بذلك حروب الاستقلال.

ثم دخل القصة طرفان خارجيان، أولهما هو الولايات المتحدة، التي أعلنت في عام 1823 أنه لايجوز لأي قوة أوروبية أن تعتبر الأمريكتين مكاناً للمزيد من الفتوحات والاستيطان، وقد سمي هذا مبدأ مونرو على اسم الرئيس الذي أعلنه، وكان يعتمد على قوة خارجية أخرى هي بريطانيا، التي أسعدها أن ترى أمريكا الجنوبية والوسطى مستقلتين عن إسبانيا والبرتغال لأسباب تجارية. ولما كانت البحرية الملكية هي القوة الوحيدة القادرة على سحق أي محاولة لاستعادة تلك الجمهوريات الجديدة، فقد ضمن لها هذا الوضع البقاء والاستمرار.

ونشأت من حروب الاستقلال هذه مجموعة من الدول الجديدة كانت أكثرها تحت حكم ديكتاتوريين عسكريين، بينما حكم البرازيل لفترة من الزمن إمبراطور من العائلة المالكة البرتغالية، وكان من المستحيل قيام اتحاد فيما بينها مثل الذي تم في القارة الشمالية ؛ بالنظر إلى جغرافية البلاد وتاريخها.

ولكن هذه الدول الجديدة لم تكن معرضة لخطر خارجي، كما أن اندماجها في دولة واحدة ما كان ليزيل نقاط ضعفها الداخلية الكثيرة، وقد أدت النزاعات والحروب أخيراً إلى ظهور أربع جمهوريات في البر الرئيسي لأمريكا الوسطى بحلول عام 1900 كانت أكبرها المكسيك ودولتين في جزر الكاريبي سرعان ما أضيفت إليهما دولة ثالثة هي كوبا وعشر جمهوريات في أمريكا الجنوبية, وقد بدا سياسيوها على درجة كبيرة من الشبه بالسياسيين الأوروبيين، أقله من ناحية مواقفهم وخطاباتهم العلنية، وإن الإمبراطور الفرنسي نابليون الثالث هو الذي ابتكر تسمية أمريكا اللاتينية، لوصف هذه القارة في منتصف القرن التاسع عشر.

لقد اجتذبت أمريكا الجنوبية المهاجرين الأوروبيين بصورة أقوى بكثير من أمريكا الوسطى، ولكنها ظلت دون جاذبية أمريكا الشمالية، فمن بين الـ41 مليون أوروبي الذين عبروا الأطلسي بين عامي 1845 و 1914 لم يذهب إلا 6 ملايين إلى الجنوب من نهر ريو غرانده. ومع ذلك فقد ثبتت هذه الهجرات الطابع الأوروبي لهذه المجتمعات، التي كان الكثيرون من سكانها هنوداً أمريكيين أو من أصل أفريقي كما هي الحال في البرازيل وبعض جزر الكاريبي.

ولكن زيادة عدد السكان في أمريكا الوسطى والجنوبية لم تكن مثل سرعتها في الولايات المتحدة بالإجمال، إذ كانت أعدادهم في هذه المنطقة كلها بحدود الـ80 مليون في عام 1914.





[1] أي ماوراء نهر الفال

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://resalahmasriyah.mam9.com
Eng. Ahmedzoubaa
Admin
Eng. Ahmedzoubaa


عدد المساهمات : 1216
تاريخ التسجيل : 28/08/2010
العمر : 50

الفصل الثاني عشر - النظام العالمي الأوروبي  Empty
مُساهمةموضوع: رد: الفصل الثاني عشر - النظام العالمي الأوروبي    الفصل الثاني عشر - النظام العالمي الأوروبي  Emptyالخميس 16 يونيو 2011 - 5:40

الإمبراطوريات تبلغ ذروتها

كان وجود هذه الدول الجديدة ذات الأصول الأوروبية عاملاً حاسماً في التطور المستقبلي للعالم، ولكن التعبير الأوضح عن هيمنة الأوروبيين إنما كان إمبراطورياتهم الاستعمارية وحكمهم المباشر للشعوب غير الأوروبية. فقد كانت بريطانيا وروسيا تحكمان حوالي ثلث مساحة الكرة الأرضية في عام 1914، وكانت الإمبراطورية البريطانية تضم حوالي 400 مليون نسمة، أي خمس البشرية في ذلك الوقت تقريباً وكان حوالي 35 مليون منهم يعيشون في المملكة المتحدة.

أما الفرنسيون فقد بلغ عددهم رعاياهم في مستعمراتهم 50 مليون، وهو أيضاً أكبر من عدد سكان فرنسا نفسها؛ ثم كانت هناك ملايين غيرها من البشر، ومساحات شاسعة من الأراضي أيضاً خاضعة لقوى أوروبية أخرى. وكانت هذه السيطرة المباشرة على الأرض وسكانها واحدة من أبرز العلامات على أن الأوروبيين كانوا حقاً سادة العالم عند بداية القرن العشرين.

كانت هذه الصورة مختلفة كل الاختلاف عما كانت عليه في عام 1800، ففي عام 1900 كانت البلاد والوحيدة غير الخاضعة لحكم البيض المباشر خارج الأمريكتين هي الصين والإمبراطوريتان العثمانية والفارسية اللتان تقلصتا كثيراً واليابان وحفنة من البلدان الأصغر.

وقد تم الانتقال إلى هذه الحال بسرعة كبيرة، خاصة في الثلاثين سنة الأخيرة في القرن التاسع عشر، فازداد الحديث كثيراً في عام 1900 عن الإمبراطوريات والإمبريالية أو الاستعمار Imperialism ، ويبدو أن هذه الكلمة بدأت تستخدم في اللغة الإنكليزية في خمسينيات القرن التاسع عشر. وكان الجميع متفقين على أن الإمبراطوريات حقيقة بارزة من حقائق العصر، ولو أنهم لم يؤيدوها جميعاً. والحقيقة أن العالم لم يعرف قط قرناً بلغ فيه الاستعمار هذا الحد ولا إمبراطوريات بلغت في المظهر مثل هذا النجاح.

إن الإمبراطوريات موجودة منذ بدايات الحضارة تقريباً، ولكنها كانت تختلف كثيراً فيما بينها باختلاف الزمان والمكان. فيبدو أن المسؤولين في إمبراطورية الصين مثلاً كانوا قانعين بأن تعترف الشعوب الخاضعة لهم بسيادة إمبراطورهم عن طريق أداء الجزية بصورة دورية وإبداء الاحترام والتوقير فحسب، ولو ظل المبدأ الرئيسي هو أن البشري كلها خاضعة له، وليس من الغريب أن تكون للإمبراطوريات الأوروبية في القرن التاسع عشر هي الأخرى ملامحها الخاصة بها.

إن أبرز ملامح تلك الإمبراطوريات هو امتدادها الجغرافي العجيب، وقد صارت بعضها في النهاية تدعي لنفسها الحق في مساحات الجليد الشاسعة في قارة أنتاركتيكا، بينما راحت بعضها الأخرى تتنازع على الأراضي الجافة في الصحراء الكبرى وكلتاهما تبدوان منطقتين منفرتين للوهلة الأولى، ولم يعد هناك مكان في العالم لايهتم به بناة الإمبراطوريات ولايسعون للامتداد فيه.

وتعود بعض أسباب هذا التوسع إلى سهولة الوصول إلى تلك الأنحاء من العالم بفضل جهود الاستكشاف والتقنية والعلم، وبفضل القوة العسكرية العاتية لهذه الإمبراطوريات.

ولم يكن هناك من بين الدول غير الأوروبية إلا دولتان صدتا تلك الموجة الاستعمارية قبل عام 1914 فحافظتا بذلك على استقلالهما، وهما الأثيوبيون الذين تمكنوا من تدمير جيش إيطالي غزا بلدهم في عام 1896، واليابانيون الذين بلغوا درجة عالية في تبني الأساليب الأوروبية من أجل أن يتمكنوا من البقاء.

تبين هاتان الحقيقتان أن الاستعمار في القرن التاسع عشر، كان بالأصل استعماراً أوروبياً، ولم تشارك فيه إلا دولة آسيوية واحدة هي اليابان، أما الإمبراطوريات الصينية والعثمانية والفارسية التي كانت كلها قد قامت بفتوحات عظيمة في الماضي فقد أصبحت في القرن التاسع عشر دولاً خاسرة وكانت تتقلص بدلاً من أن تتسع.

وقد ازداد عدد الدول التي تستحوذ على أراضٍ جديدة، وكانت كلها أوروبية باستثناء الولايات المتحدة واليابان، وكانت بعضها تشيد إمبراطورياتها منذ زمن بعيد، مثل روسيا وبريطانيا وفرنسا، كانت إسبانيا واحدة من الدول الاستعمارية القديمة في أوروبا، ولكن خسارتها تجاوزت مكاسبها خلال القرن حتى خرجت من السباق في نهايته، ولو أنها ضمت بعض الأراضي الجديدة.

ثم كان هناك الشعبان الهولندي والبرتغالي، اللذان برزا في مرحلة أبكر من بناء الإمبراطوريات، وأصبحا الآن في وضع يشبه وضع إسبانيا، أما ألمانيا وإيطاليا اللتان لم يكن لهما وجود بعد عام 1850 فكانتا تكسبان أيضاً أراضي جديدة في الخارج، ومثلهما بلجيكا، التي لم تظهر إلا في عام 1830.

كان هذا العصر إذاً عصر الاستعمار الأوروبي بالدرجة الأولى، ولو أن الولايات المتحدة التحقت به في النهاية، ولكن حالتها كانت حالة خاصة، فقد لايبدو توسع أراضي الولايات المتحدة في القارة الأمريكية عادة كواحدة من حالات امتداد الإمبراطوريات مثل توسع روسيا في آسيا، ولكنه في الحقيقة قد استمر طوال القرن التاسع عشر، كما أنه في الوقت نفسه ينسجم مع النمط العام، أي نمط الاستعمار الذي قامت به شعوب بيضاء أي في أصول وثقافات أوروبية ماعدا اليابان. وكانت هذه أيضاً جزءً من عملية أساسية أخرى كانت تجري في القرن التاسع عشر، هي نمو قوة عالمية جديدة.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://resalahmasriyah.mam9.com
Eng. Ahmedzoubaa
Admin
Eng. Ahmedzoubaa


عدد المساهمات : 1216
تاريخ التسجيل : 28/08/2010
العمر : 50

الفصل الثاني عشر - النظام العالمي الأوروبي  Empty
مُساهمةموضوع: رد: الفصل الثاني عشر - النظام العالمي الأوروبي    الفصل الثاني عشر - النظام العالمي الأوروبي  Emptyالخميس 16 يونيو 2011 - 5:41

قوة عالمية جديدة

لقد سيطر الأمريكيون بين الاستقلال وعام 1850 على نصف القارة، فارتفع عددهم من 6 ملايين في عام 1800 إلى 23.5 مليون بعد خمسين عاماً، وكانوا منذ ذلك الحين منصهرين في بوتقة واحدة، كما وصفها أحد كتاب القرن التاسع عشر، أي أن تجربة القارة الجديدة وبيئتها ومؤسسات الجمهورية قد قولبتهم وصنعت منهم أمة جديدة.

كان الكثيرون من الأمريكيين قد اختاروا طوعاً عبور الأطلسي إلى بلدهم الجديدة، أو رافقوا والديهم وأقرباءهم الذين اختاروا ذلك، وحتى الذين ولدوا في أمريكا نشأوا في أسر قام بعض أفرادها بهذا الخيار، وقد ساهمت هذه الأمور في تعزيز شعور وطني قوي، أي أن الولايات المتحدة كانت تتميز عن جميع القوى الكبرى بأن الناس اختاروا الانتماء إليها طوعاً.

كانت حدودها غنية بعد بالأراضي والموارد الجاهزة للاستثمار، وكان اقتصادها التجاري والصناعي في الشرق يتسع ويقدم فرصاً من نوع آخر، لذلك كان الأمريكيون يعلمون تماماً أن أحوالهم أفضل من أحوال الشعوب الأوروبية الأخرى.

لقد ضمن الولايات المتحدة خلال القرن التاسع عشر أعداداً من المهاجرين مساوية لأعدادهم في بقية بلاد العالم مجتمعة، وكان الكثيرون منهم يصلون إليها غير قادرين على التحدث بالإنكليزية، ومع ذلك بقيت اللغة الإنكليزية لغة البلاد، وظل الرواد الأمريكيون يتطلعون زمناً طويلاً إلى إنكلترا في تراثهم الثقافي وفي الكثير من أفكارهم.

ولم ينتخب رئيس جمهورية أمريكي لايحمل اسماً إنكليزياً أو اسكتلندياً أو ايرلنديا حتى عام 1837، ولن يظهر غيره حتى عام 1901، وكانت الكثير من المؤسسات الأساسية أيضاً إنكليزية، مثل الأفكار القانونية والتشديد على المسيحية البروتستنتية والإيمان بقدسية الأملاك الشخصية، وكانت هذه كلها دعامات الجمهورية نفسها.

كانت هاتان الدولتان حرتين بالمعايير الأوروبية، ولكن معنى هذه الحرية كان مختلفاً في كل منهما، إذ لم تكن إنكلترا ديمقراطية، أما الولايات المتحدة فكانت كذلك، ولم يشكل هذا الأمر في بداية القرن التاسع عشر تهديداً للطبقات القائدة القديمة في السياسة الأمريكية، إلى أن استلم الرئاسة في الثلاثينيات من القرن التاسع عشر الرئيس آندرو جاكسون، الذي يعتبر أول رئيس يحظى تأييد ديمقراطي حقيقي ويتحدث باسم جماهير واسعة من الأمريكيين على أساس برنامج وطني، ومنذ أيامه راح يبزر موضوع هام في السياسة الأمريكية، هو أن إرادة الأمة ككل كما يعبر عنها في التصويت الديمقراطي أعلى من مصالح الأقليات التي يعبر عنها الدستور، خاصة مصالح الولايات منفردة.

الفصل الثاني عشر - النظام العالمي الأوروبي  Usa1837

الولايات المتحدة الأمريكية 1837

التوسعات الأولى

لم يكن العالم الخارجي مهتماً بما كان يجري داخل الولايات المتحدة، ماعدا الملكيات التي بقيت لها في عام 1783 أراضي في أمريكا الشمالية، أي بريطانيا وفرنسا وإسبانيا وروسيا. وعندما ألقى جورج واشنطن خطابه الوداعي لمواطنيه بمناسبة تركه منصبه في عام 1796 أوصاهم بتجنب التورط السياسي مع أوروبا، ولم يكن في كلامه ما يشير إلى الدور العالمي الذي سوف تلعبه بلاده ذات يوم.

صحيح أن الولايات المتحدة تحاربت لفترة وجيزة مع بريطانيا في عام 1812، إلا أنها لم تلعب دوراً هاماً في العلاقات الدولية أثناء الثورة الفرنسية والحقبة النابوليونية، ولم يكن الأجانب ماعدا البريطانيين يهتمون بالولايات المتحدة، لأن الأمريكيين لم يكونوا يهتموا بهم. ومن السهل أن نفهم هذا الانعزال إذا تذكرنا أن المستوطنات القديمة على المحيط الأطلسي لم تتجاوز في عام 1800 وادي أوهايو غرباً.

لقد كان عدد السكان في الولايات المتحدة قليلاً حوالي 6 أمثال عدد سكان لندن في ذلك الحين، وكان الكثيرون منهم قد أداروا ظهورهم للعالم القديم عمداً، وكان لديهم ما يكفيهم من المشاغل في هذا البلد الجديد ومنذ البداية كانت نظرة الأمريكيين تتصف بميل عميق لما سمي فيما بعد النزعة الانعزالية، وقد شدد على هذه النزعة حدث هام هو أهم أعمال الدولة الأمريكية في النصف الأول من القرن التاسع عش، أي صفقة شراء لويزيانا، إذ اشترت الولايات المتحدة في عام 1803 بمبلغ 11.25.000 من فرنسا أرضاً أوسع من مساحة الجمهورية كلها في ذلك الحين وقد منحت هذه الأرض الجديدة للدولة الفتية ولايات مستقبلية هي لويزيانا وآركنسو (آركنساس) وأيوا ونبراسكا وداكوتا الشمالية وداكوتا الجنوبية وجزء كبير من كولورادو، فضلاً عن أنها أمنت لها منفذاً إلى النصف الغربي من القارة الواقع وراء نهر الميسيسيبي، والذي كانت تفصلها عنه في السابق أراضي الإسبان ثم الفرنسيين، وقد بدأ التوازن الكلي للولايات المتحدة بالتغير عندما راح المهاجرون يدخلون هذه الأراضي الجديدة.

كانت حرب عام 1812 حرباً لامبرر لها وفاشلة تماماً، ولكنها كانت معلماً آخر في قصة التوسع هذه، وفي تطور السياسة الأمريكية والشعور الوطني الأمريكي أيضاً، ففي تلك المرحلة اخترع رسام كاريكاتوري صورة العم سام Uncle Sam (US) رمزاً للدولة، وفيها لحن نشيد الراية المرصعة بالنجوم الذي صار اليوم النشيد الوطني للولايات المتحدة.

وجعلت الحرب الطرفين حريصين على تسوية الخلافات بينهما، ولم يعد من بعدها ثمة خطر كبير في نشوب حرب جديدة بين إنكلترا وأمريكا على كندا، بل سوف تحل النزاعات حول الحدود في المستقبل عن طريق التفاوض السلمي.

وقد حلت أبرز مسائل الحدود قبل منتصف القرن ولم يعد أي رجل إنكليزي يحلم بأخذ المزيد من الأراضي إلى الجنوب من خط عرض 49 ، وبعد معاهدة جنت التي أنهت الحرب بات من الواضح أن الولايات المتحدة سوف تكون الدولة الأهم في ذلك الشطر من العالم.

صارت بحوزة الولايات المتحدة الآن أراضي واسعة تنتظر من يسكنها، وسوف تمتد حدودها بصورة أوسع من هذا بعد، ومع امتداد منطقة الاستيطان إلى الغرب من جبال الأليغني ثم إلى الغرب من نهر الميسيسيبي صار الكثيرون من الأمريكيين يشعرون أن لهم مصيراً خاصاً، وبالتالي الحق في الهيمنة على القارة من أقصاها إلى أقصاها، فبدأت تسمع عبارة المصير الجلي، وكان هذا نذير شؤم لغيرهم من شعوب أمريكا، فإذا كانت كندا آمنة لأنها مستوطنة تابعة لقوة كبرى، فإن هنود أمريكا لم يكونوا بأمان، بل إنهم قد جرفوا من أراضيهم وانتزعت منهم مناطق صيدهم وسكنهم، وكانوا يقتلون إذا هم قاوموا، وكانوا يعتبرونها همجاً لا يحق لهم أن يقاوموا اندفاع حضارة أسمى من حضارتهم، فكان هذا واحداً من الجوانب المظلمة لقصة التوسع في أمريكا.

ومن الجوانب المظلمة الأخرى قصة المكسيك، فبعد حروب الاستقلال في أمريكا الجنوبية حلت جمهورية المكسيك محل الجيران الإسبان للولايات المتحدة في الجنوب، وسوف تكون هذه الجمهورية هي الضحية الأساسية لذاك المصير الجلي.

لقد ثار المستوطنون الأمريكان في المكسيك ضد حكمها وأسسوا جمهورية تكساس، وسرعان ما ضمتها الولايات المتحدة إلى أراضيها، فنشبت عندها الحرب بينها وبين المكسيك، وهزمت المكسيك فيها واضطرت في عام 1848 لعقد صلح تخلت بموجبه عن تكساس وعن الأراضي التي سوف تشكل ذات يوم ولايات يوتا ونيفادات وكاليفورنيا والقسم الأكبر من أريزونا.

ثم اشترت الولايات المتحدة في عام 1853 بعض الأراضي الأخرى من المكسيك فاكتملت بذلك الصورة العامة لأراضيها وبقيت على حالها حتى اليوم، وفي عام 1867 اشترت ألاسكا من الروس، وكان هؤلاء أيضاً قد تنازلوا منذ زمن بعيد عن مطالبهم السابقة بالمحطات التي أسسوها ذات يوم في كاليفورنيا.

الرق والانفصال

لم يكن الأمريكان ينظرون إلى توسعهم المظفر في القارة الأمريكية بالمعايير الأخلاقية التي كانوا يطبقونها على الاستعمار الأوروبي، ولكنه كان يسبب لديهم مشكلة أخلاقية من نوع آخر. وسبب ذلك أن هذا التوسع أثار مواضيع دستورية وسياسية في مجال الصدام القديم بين الأغلبية الديمقراطية ومصالح الولايات المنفردة ضمن الاتحاد.

كما اختلط هذا الموضوع بموضوع آخر، هو مصائر السود الأمريكيين، الذين كانوا أكبر مجموعة من الأشخاص الخاضعين للقانون الأمريكي لم تستفد من الحمايات الديمقراطية التي يؤمنها ذلك القانون، وهكذا بات مسرح الأحداث مهيئاً لصراع مأساوي كبير.

عندما أصبح جورج واشنطن رئيساً للجمهورية كان عدد السود في الولايات المتحدة حوالي 700.000، وكانت الأكثرية العظمى منهم أرقاء، وكانوا ملكاً مطلقاً لسادتهم، الذين يمكنهم أن يطلبوا منهم القيام بأي قدر من العمل يرغبون به، وأن يؤدبوهم إذا رفضوا إلى حد الجلد وغيره من العقوبات الجسدية، كما يمكنهم بيعهم أو التخلي عنهم بوصية لسادة جدد.

وكان أكثرهم يعيشون في الولايات الجنوبية، حيث كانوا يستخدمون للعمل في الحقول أو الخدمة في البيوت وكان بعضهم يعاملون معاملة حسنة وبعضهم معاملة سيئة، فكان بعض السادة متوحشين عمداً، وبعضهم عطوفين مثل الأب على أبنائه، ولكن سواء أكان الأرقاء سعداء أم تعساء فإنهم لم يكونوا أحراراً مثل الأمريكان البيض، بل كانوا ملكاً لهم.

قلائل هم الأشخاص الذين طرحوا الشكوك حول هذا الترتيب للأمور، لقد كان واشنطن نفسه يملك عبيداً، مثله مثل جميع الآباء المؤسسين تقريباً، ولكن في عام 1850 كان السود في أمريكا قد أصبحوا مشكلة سياسية فظيعة، فقد ازدادت أعدادهم كثيراً 4 ملايين في عام 1860 وكانوا منتشرين في ولايات أكثر مما كان الوضع عليه في أيام واشنطن.

ولما كان استيراد الأرقاء في أفريقيا قد أصبح غير شرعي فقد كان أكثرهم مولودين في أمريكا، وازدادت أعدادهم بسبب ارتفاع الحاجة للعبيد مع انتشار زراعة القطن إلى مناطق جديدة.

لقد كان للذهب الأبيض King Cotton سوق مضمونة في مصانع النسيج بإنكلترا التي كانت أمريكا المورد الأساسي لها، وقد تضاعف المحصول الإجمالي بين بداية القرن وعشرينياته ثم تضاعف مرة ثانية خلال السنوات العشر التالية وفي عام 1860 كان ثلثا قيمة الصادرات الإجمالية للولايات المتحدة يأتيان من القطن.

لقد بدل هذا التغير الهائل الشطر الجنوبي من الولايات المتحدة، فانتشرت زراعة القطن ومعها العبودية عبر الجنوب مبتعدتين عن ولايات ساحل الأطلسي القديمة حيث نشأت العبودية في البداية إلى ألاباما وميسيسيبي وتنييسي وآركنسو. فصارت هذه الولايات أكثر فأكثر اعتماداً على الرق، وصار أكثر أهل الجنوب يعتبرونه أساس كل ما يجعلهم مختلفين عن أهل الشمال، وفي منتصف القرن كان بعضهم قد بدؤوا يعتبرون أنفسهم أشبه بأمة منفصلة ضمن الولايات المتحدة، وأن الأشياء التي تميزهم كانت مهددة من الخارج من قبل الحكومة في واشنطن.

وسبب هذا الفرق هو أن موضوع الرق قد اختلط بموضوع توسع أراضي الولايات المتحدة، فمع افتتاح الغرب بعد صفقة لويزيانا وظهور ولايات جديدة فيه صارت الأسئلة الكبرى تهيمن على أجوائها: هل يجب السماح بالرق في الولايات الجديدة بما أنه موجود في الولايات الأقدم؟ أم أنه يمكن حظره بقوانين من وضع الكونغرس؟ كان أهل الجنوب يقولون أنه لايمكن حظر الرق، وإذا كان ذلك ممكناً فإنه لايجوز أن يحدث إلا بقرار سكان هذه الولايات الجديدة أنفسهم، لأن الدستور ترك أمر الرق بيد السلطات في كل ولاية.

ولكن معارض الرق كانوا ينكرون هذا، وكانوا يقولون أنه يمكن لمرسوم من الكونغرس أن يحظره في أي أراضي جديدة تنضم للولايات المتحدة، وهكذا صار الخلاف يدور حول معنى الدستور، فهل أسس الدستور هيئة تشريعية وطنية تسمو قراراتها على الولايات المنفردة في النهاية، أم أن للولايات حقوقاً معينة لايجوز أن ينتزعها منها شيء ولو كان قانوناً من وضع الكونغرس؟..

كانت معالجة هذه المسائل بصورة سلمية تزداد صعوبة باستمرار، خاصة بسبب نشاطات ابتدأت منذ ثلاثينيات القرن التاسع عشر ضد الرق، وصار أصحابها يسمون الإلغائيين. لقد كان بعض المناهضين للرق يريدون فقط أن يمنعوا امتداده إلى الولايات الجديدة، أما الإلغائيون فكانوا يريدون إلغاءه حتى في الولايات التي لم يشكك أحد بحقه في الوجود فيها.

وكان هؤلاء يتمتعون بميزة هي أن الرأي العام كان منذ القرن الثامن عشر يتحول ضد العبودية في جميع البلاد المتحضرة وأكثرها لم تكن فيها أعداد كبيرة من العبيد ولا حتى في الخارج، وكان الرق قد منع بصورة مؤقتة في المستوطنات الفرنسية في عام 1794، وفي البريطانية بصورة دائمة في عام 1834. أما في الولايات المتحدة فكان في حالة من الازدياد السريع بينما كان يتراجع في البلاد الأخرى.

وقد أشعر هذه الأمر الكثيرين من الأمريكان بالارتباك والقلق، ولكن الشيء الأهم هو أن الديمقراطية كانت إلى جانب الإلغائيين، إذ أنهم كانوا يقولون إن القرار يجب أن يتم بأغلبية شعب الولايات المتحدة، وأن عليهم إذا اقتضى الأمر أن يغيروا ما قاله الدستور قبل خمسة أو ستة عقود حول حقوق الولايات المنفردة.

وراح الإلغائيون يرفعون حرارة هذا الجدال بأعمالهم الاستفزازية، فكانوا يساعدون العبيد على الهرب من الجنوب، ويقاومون إعادتهم عن طريق المحاكم في الشمال، وينشرون الدعاية لقضيتهم.

أما السياسيون فكانوا يفعلون ما بوسعهم لترتيب حلو وسط، وقد ظلت هذه الترتيبات كافية لزمن طويل، فلم يشعر الجنوب أنه مهدد، ولم تنهار روح التسوية هذه إلا في خمسينيات القرن التاسع عشر، كان لابد عندئذٍ من تنظيم أرض جديدة هي أرض كنساس وتحويلها إلى ولاية، فراح الإلغائيون وخصومهم يتحاربون فيما بينهم لتحديد ما إذا كان سيسمح بالعبودية في هذه الولاية الجديدة، فوقع قتلى وبدأ الناس يتحدثون عن كنساس النازفة.

وبزغ من هذا الموضوع حزب جديد هو الحزب الجمهوري، الذي قال إن الكونغرس هو الذي يحب أن يقرر مصير كنساس، وبالتالي فقد اعتبره الجنوب على الفور عدواً له. وفي الانتخابات الرئاسية لعام 1860 قال الجمهوريون أن العبودية يجب حظرها في أي أرض جديدة سوف تضم إلى الاتحاد، أي أنهم لم يكونوا إلغائيين، ولكن الكثيرين من السياسيين في الجنوب كانوا رافضين حتى لهذا المطلب.

وعندما انتصر في تلك الانتخابات مرشح الحزب الجمهوري أعلنت ولاية كارولاينا الجنوبية في كانون الأول/ ديسمبر 1860 أنها سوف تنفصل عن الاتحاد احتجاجاً، وخلال شهر واحد تقريباً كانت ست ولايات أخرى قد انضمت إليها، وقد أسست هذه الولايات اتحاداً جديدة هي الولايات الاتحادية الأمريكية، التي كان لها دستورها وحكومتها ورئيسها.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://resalahmasriyah.mam9.com
Eng. Ahmedzoubaa
Admin
Eng. Ahmedzoubaa


عدد المساهمات : 1216
تاريخ التسجيل : 28/08/2010
العمر : 50

الفصل الثاني عشر - النظام العالمي الأوروبي  Empty
مُساهمةموضوع: رد: الفصل الثاني عشر - النظام العالمي الأوروبي    الفصل الثاني عشر - النظام العالمي الأوروبي  Emptyالخميس 16 يونيو 2011 - 5:42

الفصل الثاني عشر - النظام العالمي الأوروبي  Usa1858

الولايات المتحدة الأمريكية 1858

الحرب الأهلية

وهكذا ابتدأت أكبر المآسي في التاريخ الأمريكي، لأن كلا من الطرفين كانت لديه حجج قوية لايمكن دحضها، فكنت تجد في الشمال أكثر الولايات الباقية ضمن الاتحاد والشعور الأقوى بضرورة إلغاء العبودية، وهناك قالت الحكومة أن للكونغرس السلطة في وضع قوانين ملزمة للاتحاد برمته، لأن يمثل الأغلبية.

ولم يطالب الجمهوريون بإبطال العبودية في الجنوب، بل بعدم السماح بها في الولايات الجديدة. فرد أهل الجنوب على هذا بأن من حق من لايوافقون على ذلك أن ينسحبوا من اتحاد أنشئ على أساس تفاهم مختلف. وكانوا يسألون لماذا لايكون سكان كارولاينا الجنوبية وبقية الولايات الجنوبية أحراراً في إدارة شؤونهم الداخلية مثل الهنغاريين أو الإيطاليين المطالبين بحرية بلادهم في أوروبا؟ وفوق هذا كان الجنوبيون يخشون أنهم إذا تنازلوا للكونغرس عن حق التشريع حول موضوع الرق في جميع أنحاء الاتحاد فإنه سرعان ما سيبدأ بوضع القوانين حول الشؤون الداخلية في الولايات الجنوبية.

ولقد قسمت هذه الحجج الأصدقاء والجيران بل حتى الأسر نفسها، كما هي الحال دوماً في القضايا الكبرى والمأساوية، وجلبت على الولايات المتحدة صراعاً هائلاً ودموياً كان الناس يسمونه الثورة أو الحرب بين الولايات حسب موقفهم منه، ولكن أكثر المؤرخين مازالوا يسمونه الحرب الأهلية.

كان رئيس الجمهورية الجديد للولايات المتحدة محامياً من ولاية إيلينوي، هو ابراهام لنكولن وهو أعظم رجل شغل هذا المنصب حتى اليوم، كان لنكولن مزمعاً على بذل كل ما باستطاعته من جهد لكي يمكن من عودة الولايات الجنوبية إلى الاتحاد، ولكنه كان أكثر عزماً على الحفاظ على الاتحاد.

لقد عبأ أولاً القوات الفدرالية لكي يعيد الحكم في الولايات الجنوبية إلى وضعه الطبيعي، ولكن الإلغائيين لم يرضوا بهذا لأنهم كانوا يريدون المزيد، وقد قال لنكولن ذات مرة : "إذا أمكنني أن أنقذه بتحرير العبيد جميعاً فسوف افعل". ولكنه بعد ذلك أعلن تحرير جميع العبيد في الولايات المتحدة في يوم رأس السنة من عام 1863، لأنه شعر أن لابد من ذلك من أجل كسب الحرب.

إلا أن هذا الإعلان قد زاد من عزم الجنوب على المقاومة، وقد لزم عامان ونصف العام بعد ذلك لهزم الاتحاد الجنوبي، وفي عام 1865، بعد تلك الهزيمة وبعد اغتيال لنكولن، اتخذت الخطوة الأخيرة وغير الدستور بحظر العبودية في الولايات المتحدة.

لقد كانت تلك الحرب حرباً فظيعة، قتل فيها أكثر من 600.000 أمريكي من أصل 30 مليون عند بدايتها، أي أكثر من الذين قتلوا في أي حرب خاضتها الولايات المتحدة ضد بلد أخرى منذ ذلك الحين، وقد مات أكثر هؤلاء من الأمراض، ولكن البنادق والمدافع الجديدة التي تحشى من الخلف، فضلاً عن السكك الحديدية التي مكنت من حشد أعداد ومواد كثيرة، قد حولت ساحات القتال إلى مجازر مروعة.

وكان الجنوب يعاني من نقاط ضعف عديدة منذ البداية، فقد كانت أعداده أقل، كانت النسبة حوالي 2 إلى 1 وكان هيكله الصناعي ضعيفاً، ولم يكن لديه سوى محصول القطن يبيعه لشراء المواد من الخارج. ولكنه كان يضم في الوقت نفسه جنوداً أكفاء، وكان شعبه مؤمناً بأنه يقاتل من أجل بقائه، كما أن العبيد فيه لم ينقلبوا عليه.

وهكذا لزم في النهاية أربع سنوات من القتال الوحشي، فحصر الجنوب بالولايات القديمة الواقعة على البحر شيئاً فشيئاً، وعاش معاناة رهيبة في تخريب أراضيه وفي خسارة الأرواح.

ولكن الحرب الأهلية كانت حرباً حاسمة، بعكس الكثير من الحروب الأخرى، لأنها سوت بعض المسائل العامة إلى الأبد، لا من أجل أمريكا وحدها، بل من أجل البشرية جمعاء، لقد ضمنت أولاً أن الأمريكيتين سوف تظلان تحت سيطرة قوة عظمى واحدة، وزال خطر انقسام الولايات المتحدة، وإن استغلال قوة واحدة عظمى لثروات هذه الرقعة الكبيرة من الأرض سوف يحدد خلال القرن التالي نتيجة حربين عالميتين.

وحددت الحرب أيضاً أن هذه الأرض الواسعة سوف تكون تحت حكم ديمقراطي، فكان هذا انتصاراً للديمقراطية. لقد أعطى لنكولن ذات مرة تعريفاً شهيراً للديموقراطية هو أنها حكم الشعب من قبل الشعب ومن أجل الشعب. ولم يتحقق هذا المثال بمعناه الكامل بعد في أي ركن من أركان العالم، ولكن الحرب الأهلية حددت أن الكلمة الأخيرة في المستقبل سوف تكون للأكثرية من خلال حكومة وطنية للولايات المتحدة وليس للولايات المنفردة.

أما بالنسبة إلى أولئك الذين صارت الحرب تخاض من أجلهم في النهاية، أي السود فقد كانت النتيجة واضحة من الناحية القانونية والدستورية، ألا وهي نهاية العبودية، وتحولهم إلى مواطنين أمريكيين لهم نفس الحقوق الدستورية والقانونية التي لسواهم من الأمريكان.

ولكن ليست هذه القصة كلها، فرغم أن الملايين من العبيد في الجنوب وجدوا أنفسهم فجأة أحراراً وظلوا يعيشون في الجنوب إلا أنهم كانوا في الوقت نفسه غير متعلمين ولايعرفون غير العمل في الحقول، ولم يكن بينهم إلا القليل من الزعماء لقيادتهم.

لقد احتلت جيوش الشمال أجزاء من الجنوب لبضع سنوات، وعندما كانوا هناك كانوا يحمونهم في استخدامهم حقوقهم الجديدة، ولكن عندما رحلت الجيوش وجد السود أنفسهم بين البيض الذين يبغضون أشد البغض تلك التغييرات التي جلبها القوانين الجديدة على أساليب حياتهم، ويكرهونهم لأنه يرون فيهم رمز هزيمة الجنوب. فراحوا يضايقونهم ويضغطون عليهم اقتصادياً لقمعهم، وقد ساءت العلاقات بين العرقين في الجنوب كثيراً بعد عشرين عاماً من الحرب عما كانت عليه من قبل، كما تراجعت أوضاع السود ولم تتحسن، والحقيقة أن مسألة العلاقات بين العرقين قد ولدت عندما ماتت العبودية.

وأدت الحرب أيضاً إلى اتخاذ السياسة في أمريكا شكل نظام مؤلف من حزبين مازال مستمراً حتى اليوم فمازال الحزبان الجمهوري والديمقراطي اللذان كانا المتنازعين الأساسيين في انتخابات عام 1860 يتشاطران الرئاسة بينهما منذ ذلك الحين، وسوف ترتبط قضية الديمقراطيين طوال عقود عديدة بالجنوب ويرتبط المذهب الجمهوري بالشمال، بينما كان الاتحاد يخرج من كابوس الحرب لكي يتابع مسيرة التوسع التي انقطعت في عام 1961.

الفصل الثاني عشر - النظام العالمي الأوروبي  Usa1861

الولايات المتحدة الأمريكية 1861

الفورة الاقتصادية الأمريكية

سرعان ما أصبح تيار المد الاقتصادي إلى جانب الجمهوريين مع عودة التوسع الكبير بعد انقطاعه القصير أثناء الحرب، كان أبرز مظاهر هذا التوسع قبل ذلك هو توسع الأراضي، أما الآن فسوف يصبح توسعاً اقتصادياً.

ففي سبعينيات القرن التاسع عشر كانت أمريكا على عتبة عصر سوف يبلغ مواطنوها فيه أعلى دخل للفرد في العالم كله، وقد بدا في خضم هذه النشوة والثقة والآمال الكبيرة أن جميع المشاكل السياسية قد حلت، وتحولت أمريكا على عهد إدارتها الجمهورية إلى الانشغال بالتقدم الاقتصادي وليس بالجدالات السياسية، وهو وضع سوف يتكرر في المستقبل.

صحيح أن الجنوب ظل بعيداً عن هذا الازدهار الجديد وأنه ازداد تخلفاً عن الشمال، إلا أن الأمريكان في الشمال والغرب كانوا يتطلعون بثقة إلى قدوم أيام أفضل بعد، وقد شعر الأجانب أيضاً بذلك، لهذا كانت تراهم يفدون إلى الولايات المتحدة بأعداد متزايدة، وقد بلغ عددهم مليونين ونصف المليون في خمسينيات القرن التاسع عشر وحدها، وأضيفت هذه الأعداد الوافدة إلى السكان الذين ارتفعوا من حوالي خمسة ملايين وربع المليون في عام 1800 إلى ما يقرب من أربعين مليوناً في عام 1870، وكان نصف هؤلاء تقريباً يعيشون عندئذٍ إلى الغرب من جبال اللغيبي كما كانت الأغلبية العظمى منهم في المناطق الريفية.

كان بناء السكك الحديدية يفتح السهول الكبرى للاستيطان والاستثمار اللذين لم يكونا قد بدآ بعد، وفي عام 1869 تم دق المسمار الذهبي أي الأخير في أول امتداد للسكك الحديدية يصل أقصى القارة بأقصاها. وسوف تجد الولايات المتحدة في الغرب الجديد أعظم توسع زراعي لها، فبفضل نقص اليد العاملة أثناء سنوات الحرب كانت الآلات تستخدم بأعداد كبيرة تدل على أن الزراعة قد بلغت مستوى جديداً تماماً، وكانت تلك بداية مرحلة جديدة في الثورة الزراعية في العالم سوف تجعل من أمريكا الشمالية واحداً من أهراء أوروبا، وقد بلغ عدد الحصادات الميكانيكية العاملة وحدها ربع مليون عند نهاية الحرب.

ومن الناحية الصناعية أيضاً كانت تنتظر الولايات المتحدة سنوات عظيمة، فمع أنها لم تكن بعد قوة صناعية تقارن ببريطانيا، كان عدد الأمريكان العاملين في الصناعة أقل من مليونين في عام 1870 إلا أن الأساس كان قد وضع، وكانت السوق المحلية الواسعة والغنية تبشر الصناعة الأمريكية بغد مشرق.

لقد نسي الأمريكان وهم على عتبة أكثر حقب تاريخهم ثقة، ونجاحاً أن هناك خاسرين في هذه العملية، وكان هذا الإغفال سهلاً لأن النظام الأمريكي كان بالإجمال يعمل بصورة حسنة، لقد انضم الآن السود والفقراء من البيض أيضاً إلى الهنود الذين كانوا يخسرون باطراد طوال قرنين ونصف القرن، فصار هؤلاء جميعاً هم الخاسرون المنسيون.

أما الفقراء الجدد في المدن الشمالية التي كانت تزداد نمواً فلا يمكن اعتبارهم من بين الخاسرين نسبياً، لأن أوضاعهم كانت مثل أوضاع الفقراء في مانشستر أو نابولي مثلاً، بل أفضل منها. وإن رغبتهم بالقدوم إلى الولايات المتحدة دليل على أنها كانت منذ ذلك الحين قوة جاذبة كبرى.

ولم تكن قوتها مادية فحسب بل معنوية، أيضاً إلى جانب البؤساء المنبوذين كنت تجد أيضاً الجماهير المحتشدة التواقة إلى استنشاق الحرية، ومازالت الولايات المتحدة في عام 1870 مصدر وحي وإلهام سياسي للراديكاليين الأوروبيين.

الإمبريالية الأمريكية فيما وراء البحار

لم يعلن عن زوال حدود الاستيطان حتى تسعينيات القرن التاسع عشر، فاكتملت بذلك عملية إعمار الغرب بالسكان، ولكن منذ نهاية الحرب الأهلية وربط ساحلي الولايات المتحدة بالسكك الحديدية والتلغراف كثر الحديث عن مصالح الولايات المتحدة في الخارجة وعن الحاجة لرعايتها. وأدى هذا عند نهاية القرن إلى قرار أمريكي بالانضمام إلى حركة الاستعمار مثل جميع الدول الأخرى.

وكان لهذا الاستعمار ملامحه الخاصة مثل جميع أشكال الاستعمار المختلفة، من تلك الملامح شعور الكثيرين من الأمريكان بعدم الراحة نحوه، فكانوا يقولون أن جمهوريتهم نفسها قد ولدت من ثورة ضد قوة مستعمرة فلا يجوز لها أن تقوم باستعمار غيرها بدورها.

ولم يكن في الدستور بنود تتعلق بحكم مستعمرات، بل فقط بالأراضي التي قد تصبح في النهاية ولايات كاملة ضمن الاتحاد، فكيف يمكن إذاً استعمار أراضي تبعد مئات أو حتى آلاف الأميال؟ والحقيقة أن هذه الحجة كانت غافلة عن أن أراضي الولايات المتحدة قد ضمت ضمن ظروف مشكوك فيها أصلاً، وحتى شراء ألاسكا من روسيا عن طريق الاتفاق كان توسيعاً لحكم الولايات المتحدة على أرض أجنبية ليست امتداداً لأراضيها، إلا أن الاستعمار الأمريكي قد تابع تقدمه بالرغم من ذلك.

لقد دفعت الجغرافية الأمريكيين وراء سواحلهم باتجاهين، أحدهما نحو الغرب عبر المحيط الهادي، والآخر نحو الجنوب في الكاريبي وأمريكا الجنوبية، كانوا قد بنوا لأنفسهم تجارة وصيد حيتان هامين في الشرق الأقصى منذ زمن بعيد، ومنذ عشرينيات القرن التاسع عشر، كان للبحرية الأمريكية أسطول هناك. وقد وصل الأمريكيون الأوائل إلى هاواي في الوقت نفسه تقريباً وما إن رأت الحكومة الأمريكية القوى الأخرى تنال الامتيازات من الإمبراطورية الصينية حتى راحت تعقد معها اتفاقيات مشابهة، ثم أرسل القبطان بيري لإكراه اليابانيين على فتح موانئهم للتجارة الخارجية.

في النصف الثاني من القرن صار الأمريكيون يشاركون في إدارة جزيرة ساموا، كما حصلوا على جزيرة هاواي ثم أخذوا من إسبانيا جزر الفيليبين وغوام. وكانت دوافعهم في ذلك معقدة، فبعضهم كانوا حريصين على رعاية مصالح بلادهم وحصولها على بعض الأراضي مثل الدول الأخرى، وكان بعضهم يتحدث عن الاقتصاد الوطني وعن الحاجة للأسواق من أجل التصدير، ولكن هذه الحجة لا أساس لها لأن الولايات المتحدة كانت تتمتع بسوق داخلية هائلة من أجل مصنوعاتها.

أما بعضهم الآخر فقد فهموا أفكار داروين، أو ماحسبوا أنها أفكاره، على أن الصراع بين الشعوب مثل الصراع بين الأجناس في الطبيعة من أجل البقاء، وأن الشعوب الأقوى هي التي تنتصر في النهاية، وأن انتصارها هذا يكون بحكمها للشعوب الأخرى.

ولكن الحقيقة أن الاستعمار الأمريكي لم يستمر طويلاً من ناحية الاستيلاء على أراض جديدة، وقد جاء الضم الأخير لهاواي في تموز/يوليو 1898 في فورة من العدوانية والتوسع كانت ضحيتهما الأساسية هي القوة الاستعمارية القديمة إسبانيا.

ففي شهر شباط/فبراير 1898 انفجرت طرادة أمريكية اسمها السفينة مين بصورة غامضة بينما كانت في المرفأ في هافانا بجزيرة كوبا، وكانت كوبا في ذلك ملكاً لإسبانيا، وكانت المصالح الاقتصادية الأمريكية الهامة في هذه الجزيرة منذ زمن بعيد، ولطالما تعاطف الأمريكان مع الثورة في كوبا التي عجز الإسبان عن السيطرة عليها رغم جهودهم الكبيرة ووحشيتهم.

وأعلنت الولايات المتحدة الحرب على إسبانيا من دون سبب وجيه، إذ لايعلم أحد حتى الآن لماذا انفجرت السفينة مين، وقد قال أحد الرؤساء الأمريكيين اللاحقين عن تلك الحرب أنها كانت حرباً صغيرة رائعة. لقد هزم البحارة والجنود الأمريكان الإسبان في كوبا، وأغرق أسطول إسبانيا الأطلسي برمته في معركة لم يصب فيها الأمريكان إلا بخدوش بسيطة.

أما على الطرف الآخر من المحيط الهادي فقد دمر أسطول إسبانيا في تلك المنطقة في خليج مانيلا كما دعم الأمريكان حركة ثورية للإطاحة بالحكم الإسباني في الفيليبين. وأثناء السلم الذي عقد بعد ذلك صارت كل من غوام والفيليبين وبورتوريكو للولايات المتحدة، واستعادت كوبا استقلالها ولكن بشروط سمحت للولايات المتحدة بإعادة احتلالها في ظروف معينة، كما حدث بين عامي 1906 و 1908 مثلاً.

منطقة الكاريبي

لقد خمد الحماس للفتح الاستعماري بعد الحرب الإسبانية بسرعة، ولكن الجبهة الجنوبية ظلت تشغل بال الولايات المتحدة بطريقة خاصة. كان التفسير القديم لمبدأ مونرو هو أن ذلك الشطر من العالم ذو أهمية خاصة للولايات المتحدة، وأنه يحق لها بالتالي أن تتصرف فيه دفاعاً عن مصالحها.

وظهرت حينئذٍ ناحية جديدة لهذه المصالح، لأن التقنية الحديثة باتت قادرة على حفر قناة عبر البرزخ الواقع بين أمريكا الشمالية وأمريكا الجنوبية يصل المحيط الهادي بالمحيط الأطلسي عبر منطقة الكاريبي.

وكان الاستراتيجيون الأمريكان ذوي اهتمام خاص بالإمكانيات التي سوف تفتحها هذه القناة، وإن صعود القوة البحرية اليابانية قد جعل الحفاظ على أسطول قوي في المحيط الهادي أمراً أهم من أي وقت مضى وسوف يصبح إمداده أسهل وأسرع بكثير إذا تم عن طريق بناما، بدلاً من أن يتم من حول رأس هورن (كيب هورن) في الطرف الأقصى من أمريكا الجنوبية.

في عام 19.3 رفضت الحكومة الكولومبية معاهدة ترمي للحصول على جزء من أراضيها من اجل أن تمر عبرها القناة، ولهذا دبرت بدعم أمريكي ثورة في بناما، التي كان مخططاً أن تمر القناة فيها، ومنعت الولايات المتحدة من قمع الثورة، فظهرت جمهورية جديدة في بناما، سلمت للأمريكيين السلطة القضائية وسمحت لهم باحتلال شريط من الأرض سوف يصبح منطقة قناة بناما، كما أنها تنازلت للولايات المتحدة عن حق التدخل في شؤونها إذا اقتضت الحاجة من أجل الحفاظ على الأمن.

فابتدأ بعدها العمل بالقناة، وكانت ذات هندسة متميزة كما كانت مزدوة بأهواس، تجهيزات لرفع السفن أو خفضها من مستوى إلى آخر بعكس قناة السويس، وقد أمكن افتتاحها في عام 1914.

لقد غيرت قناة بناما استراتيجية أمريكا، وسببت منعطفاً جديداً في سياستها في منطقة الكاريبي بأسرها، ولما كانت القناة مفتاح دفاعات أمريكا البحرية فقد كان لابد من حمايتها حماية خاصة، فراحت الولايات المتحدة تزيد من تدخلها في شؤون جمهوريات أمريكا الوسطى والكاريبي وبقوات مسلحة أحياناً، لأن الأميركيين كانوا يعتقدون بأن اختلال الأمن فيها قد يخلق وضعاً يمكن لقوة معادية للولايات المتحدة أن تستغله. أما الأمريكيين الذين لم ترق لهم هذه الحجة فسرعان ما هاجموها على أنها استعمار تحت زي جديد.

وسرعان مابدأت مخاوف أولئك الأمريكيين المناهضين للاستعمار بالتحقق في الشرق الأقصى، فبعد الاستيلاء على جزر الفيليبين بوقت قصير تحولت الثورة المعادية للإسبان فيها ضد الأمريكان، وبدأت حرب عصابات طويلة ومكلفة.

وعندما تمت السيطرة عليها في عام 1902 كان الرأي الأمريكي متلهفاً لتسليم الحكم للفيليبيين إذا كان ذلك ممكناً بطريقة آمنة، ولكن هذا الأمر كان صعباً، ويم يتم حتى ثلاثينيات القرن العشرين، كما كان هناك خطر أن تتقدم قوة استعمارية أخرى فتأخذ الجزر إذا تركتها الولايات المتحدة، مثل اليابان. وقد يهدد هذا الأمر المصالح الأمريكية في المنطقة، خاصة مصالحها التجارية مع الصين. إن خوف الأمريكان مما قد يحدث إذا انهارت الصين جعلهم يدعمون ما سموه سياسة الباب المفتوح هناك، فقالوا أن على القوى الأجنبية أن ترفع أيديها عن الصين، وأن تحافظ على المعاهدات التي تمنحها حقوق التجارة، وأن تتنافس فيما بينها بسلام عن طريق الوسائل الاقتصادية، ولما كانت هذه سياسة بريطانيا بالأصل فلن يكون للولايات المتحدة من معارض إذا سارت على هذا الخط.

إن الرئيس ثيودور روزفلت مدبر ثورة بناما التي مكنت من بناء القناة، كان أيضاً أول رئيس يؤكد على حق التدخل في دول الكاريبي، وقد اعتبر هذا نتيجة طبيعية لمبدأ مونرو، لقد أرسل روزفلت قوات بحرية إلى سانتو دومينغو لضمان تسديدها ديونها للمستثمرين الأجانب، فحرم بالتالي القوى الأجنبية من أي عذر للتدخل فيها.وقد سمى جيرانها هذا التدخل على عهد خلفائه دبلوماسية الدولار.

ثم أرسل الرئيس تافت قوات بحرية إلى نيكاراغوا، أما الرئيس ودرو ولسن الذي استلم الرئاسة في عام 1912، فقد قال الكثير في شجب الأساليب الاستعمارية واستنكارها، ولكنه عملياً سار على طريق من سبقوه. فاحتلت القوات البحرية الأمريكية سانتو دومينغو من عام 1914-1916، وتم مع الحكومة أخيراً من أجل فرض دستور جديد من قبل الأمريكان. واحتلت هاييتي لفترة من الزمن في عام 1915.

إلا أن أكثر مثال صارخ عن تدخل ولسن إنما كان في المكسيك، فعندما استلم دكتاتور عسكري الحكم هناك امتنع ولسن عن الاعتراف به بحجة أن نظامه ليس بمستوى المعايير الأخلاقية للولايات المتحدة. ورست القوات البحرية في فيرا كروز في عام 1914، ولم تنسحب إلا بعد خلع الدكتاتور من منصبه بالقوة، ثم عادت الحملات التأديبية الأمريكية إلى المكسيك بعد سنوات قليلة ولكن الحقيقة أنها كانت في هذه المرة استجابة لغارة قام بها قائد مكسيكي على ولاية نيومكسيكو.

كان الكثيرون من الأمريكان في ذلك الحين ينفرون نفوراً عميقاً من المغارات الخارجية، لأنها كلفتهم الكثير من المال ولم تأت بمكسب ما، كما أنه لم يمكن ثمة فرصة لمزيد من التوسع في أي مكان إلا في منطقة الكاريبي، لأن بقية العالم كانت قد اقتسمتها القوى الأخرى اقتساماً كاملاً تقريباً. وعندما اندلعت حرب كبرى في أوروبا في عام 1914 ظل الأمريكيون يكرهون التورط في المشاكل الخارجية.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://resalahmasriyah.mam9.com
Eng. Ahmedzoubaa
Admin
Eng. Ahmedzoubaa


عدد المساهمات : 1216
تاريخ التسجيل : 28/08/2010
العمر : 50

الفصل الثاني عشر - النظام العالمي الأوروبي  Empty
مُساهمةموضوع: رد: الفصل الثاني عشر - النظام العالمي الأوروبي    الفصل الثاني عشر - النظام العالمي الأوروبي  Emptyالخميس 16 يونيو 2011 - 5:42

آسيا في العصر الأوروبي

الصين

كانت هناك في عام 1800 إمبراطوريتان كبيرتان في مرحلتين مختلفتين من الانحلال، وكانتا تواجهان من دون أنت علما قرناً كاملاً من الذل والمهانة على أيدي الشعوب البيضاء، إحدى هاتين الإمبراطوريتين هي الصين، التي تقول الرواية الشهيرة أن نابوليون وصفها بأنها عملاق نائم فلا توقظوه. ولكن بعد سنوات طويلة من موت نابليون راح الأوروبيون يوقظون هذا العملاق من دون أن يروا خطراً في تجاهل نصيحته تلك.

كانت قوة المنشو قد تقوضت في الداخل وضعفت في الخارج عن أيامها العظيمة في بداية القرن الثامن عشر ومع هذا فقد صرف مسؤولوها في عام 1793 مبعوثاً بريطانياً وحملوه رسالة متعالية إلى حاكمه الملك جورج الثالث فيما سموه "جزيرتكم النائية الموحشة، المعزولة عن العالم ببحار ممتدة تحول دونها". وكان هذا الموقف متفقاً تماماً مع نظرتهم الأزلية إلى العالم الخارجي، إذ كانت الصين مركز الحضارة والمملكة الوسطى المحاطة بشعوب تابعة لها وخاضعة لنفوذ حضارتها كأهل التبت وفيتنام وكوريا مثلاً أما وراء هؤلاء فبرابرة دونيون لا شأن لهم.

إلا أن المنشو كانوا في ذلك الحين قد تجاوزوا ذروة قوتهم، كانت الثورات الكبيرة قد بدأت تمزق السلام الداخلي الطويل، وهذه هي العلامة التقليدية الدالة على انحلال السلطة الإمبراطورية.

إن الارتفاع الكبير في عدد السكان منذ منتصف القرن السابع عشر فقد وصل به إلى أكثر بكثير من مثلين خلال القرن ونصف القرن التاليين حتى بلغ في عام 1800 ثلاثمائة وثلاثين مليوناً. وكانت هذه الزيادة أكبر من قدرة الزراعة في الصين، فكانت كل الأراضي القابلة للزراعة مستخدمة تقريباً، وحتى أشق الجهود لم تكن بقادرة على زرع محاصيل أكبر بالمعرفة والتقنية المتوفرتين.

وإن الاضطرابات الكبيرة التي سببتها الثورات كنت تعبر عن معاناة رعايا الإمبراطورية، وكانت الجمعيات السرية والفرق الدينية تستغلها لإذكاء الحق القديم ضد السلالة، ولاننس أن المنشو كانوا أجانب وكانت المظالم الشعبية تزداد قسوة وشراسة بعد عام 1800 لأن التضخم كان قد بدأ برفع الأسعار.

كانت السلالات السابقة تستمر أحياناً قروناً طويلة، رغم الأزمنة العصيبة التي تمر بها، وقد استمرت سلالة التشنغ المنشو في النهاية حتى عام 1911، ولكنها واجهت في الخارج خطراً جديداً لاسابق له. لم تكن المشاكل التي يسببها البرابرة الآتون عادة من آسيا الوسطى بالجديدة، بل إنهم قد أطاحوا في بعض الأحيان بسلالات قبل التشنغ. ولكن الأمر كان ينتهي دوماً بالاندماج الثقافي لأولئك البرابرة، فبعد كل غزو جديد كانت الإدارة الإمبراطورية تظل في أيدي طبقة النبلاء الأدباء المتدربين على التقاليد الكونفوشية، ولم يكن الشعب يتأثر بتبدل الحكام. ثم كان البرابرة يتصينون بتأثير تلك الحضارة الأعلى التي سيطروا عليها.

أما في القرن التاسع عشر فقد واجهت الصين للمرة الأولى برابرة لن تبهرهم حضارتها بل سوف ينظرون إليها بازدراء، ولم يكن الصينيون يميزون بين البيض بل كانوا يسمونهم كلهم feringhi وهو الشكل الذي تحولت إليه عندهم كلمة franks*. بل إن الأوروبيون هم الذين سوف يحاولون بث أفكارهم في حياة الصينيين وفي حكامهم، وكثيراً ماكانوا يفعلون ذلك بأساليب عسكرية وسياسية.

الفصل الثاني عشر - النظام العالمي الأوروبي  Tchu

الفصل الثاني عشر - النظام العالمي الأوروبي  Tchang

فتح الصين على الغرب

لقد أتى هذا الخطر الجديد على الصين بأسرع مما كان متوقعاً منذ القرن السادس عشر، لم يكن ميزان التجارة بين الصين وأوروبا لمصلحة الأوروبيين، إذ لم يكن لدى أوروبا بضائع كثيرة يرغب بها الصينيون. لهذا كان التجار الأوروبيون في الصين مضطرين لتسديد أثمار مشترياتهم بشكل فضة، لأنها كانت أساس العملة في الصين. ولم يكن لديهم بضائع يبيعونها بالمقابل.

فكانت الشركة البريطانية للهند الشرقية مثلاً مضطرة لشحن سبائك الفضة إلى الشرق من أجل دفع ثمن الشاي وغيره من البضائع التي كانت تحملها سفنها في كانتون في القرن الثامن عشر، إلا أن هذا الوضع تغير في السنوات الأولى من القرن التاسع عشر، بل إنه تغير بسرعة كبيرة.

إن الأفيون دواء مخدر يصنع من نبات الخشخاش وله تاريخ طويل في تسكين الألم، ولكنه مرغوب جداً لأسباب أخرى أيضاً، إذ يبدو أنه يجعل الحياة ألطف بأن يزيل منها المتاعب والهموم، ولهذا الغرض كان يستخدمه بعض الناس كما يستخدم غيرهم الكحول، وهو دواء آخر مرغوب له بعض الاستخدامات المشابهة. ولكن التشابه بين الاثنين ليس كاملاً، لأن الكحول قد يجعل المرء يبدي المزيد من الإثارة والصخب، بينما يعطي الأفيون شعوراً بالاطمئنان المترافق بتبلد الحس والنعاس الذي ينتهي بالنوم والأحلام السعيدة.

ويمكن تناول الأفيون ومشتقاته بأشكال كثيرة، من أكثرها شيوعاً استنشاق دخانه من غليون مثل غليون التبغ، وهكذا كان الصينيون في الجنوب يتناولونه، وسرعان ما صار لديهم هوس به، فوجد البريطانيون في الأفيون أخيراً بضاعة يرغب بها الصينيون ويمكن زراعتها في الهند.

إن الأفيون يسبب الإدمان مثل الكثير من الأدوية المخدرة، أي أن المرء يصبح معتمداً عليه فيخرج عن القواعد المألوفة للحياة الاجتماعية من أجل أن يشبع توقه إليه، والأنكى من ذلك أن التأثيرات الخاصة بهذا الدواء، أي تسببه بالبلادة واللامبالاة بالمستقبل واللامسؤولية كانت كلها صفات يكرهها المسؤولون الصينيون كرهاً شديداً. لذلك حظر مسؤولوا المنشو استيراد هذا المخدر، وكانت له في نظرهم سيئة أخرى هي أنه قد يجعل الصين معتمدة على الأجانب لأنه يأتيها من الخارج، وعندما فرض الحظر صودرت شحنات من الأفيون وأتلفت، وهكذا بدأ استيقاظ الصين.

لقد احتج التجار البريطانيون احتجاجاً عنيفاً إثر إحراق كمية كبيرة من الأفيون في عام 1839 في كانتون، وأخبرهم اللورد بالمرستن المسؤول عن الشؤون الخارجية في لندن جواباً منطقياً، هو أن حكومته لاتستطيع التدخل لمساعدة رعاياها في خرق قوانين البلد التي يطلبون المتاجرة فيها. ولكن المسؤولين البريطانيين في الصين كان لهم موقف مختلف من هذا الأمر، وسرعان ما ابتدؤوا عملياتهم العدوانية، وفشلت محاولات تسوية النزاع محلياً، فحدثت عمليات بحرية أكبر بكثير ونشب ماعرف باسم حرب الأفيون التي رست فيها قوات بريطانية لاحتلال عدد من الموانئ الجنوبية وغيرها من المواقع.

وضايقت بريطانيا الصين وفرضت عليها في عام 1842 معاهدة سلام تفتح بموجبها خمسة من موانئها للتجارة الخارجية، وتضع نسبة واحدة ثابتة من الضرائب على المستوردات، وتتنازل لها فيها عن هونغ كونغ، وكانت هذه كلها عمليات تدخل في سياستها الداخلية.

إن الإنكليز لايشعرون اليوم بالفخر من هذه الحادثة، ولكن الحضارة في ذلك الحين لم تكن تعين ملء الجيوب بالمال فقط، بل كان الغرض منها أيضاً التغلب على التخلف.وكان يراد من التجارة الحرة عدا عن خلق الازدهار الاقتصادي للطرفين أن تمكن المسيحية والحملات الإنسانية من تحسين ماكانوا يعتبرونه وحشية ذلك المجتمع الوثني، مثل إخضاعه للنساء واستمرار أساليب التعذيب فيه بتأييد القانون.

وخلال عشر سنوات كان الأمريكان والفرنسيون قد وقعوا هم أيضاً مع الإمبراطوريات معاهدات غير متكافئة كما سميت فيما بعد أكسبتهم حقوقاً في التجارة والتمثيل الدبلوماسي، ومنحتهم حماية قانونية خاصة لمواطنيهم، وسمحت في النهاية للمبشرين وقبلت بالتسامح نحو المسيحية. وهكذا بدأ في أربعينيات القرن التاسع عشر التقويض الواضح لسلطة الإمبراطورية ومكانتها، مع أن هذا الأمر لم يكن هدف الحكومات الأوروبية.

لقد أكرهت المعاهدات سلالة المنشو على الاعتراف بنهاية ذلك المبدأ الأزلي في علاقات الصين الخارجية الذي يعتبر جميع الشعوب الأجنبية شعوباً تابعة لها، وصارت الدبلوماسية الصينية الآن مضطرة لقبول الأفكار الغريبة عن سيادة الدول المنفردة. والأسوأ من هذا أن وصول التجار الأجانب والمبشرين المسيحيين بأعداد متزايدة وعدم إمكانية مثولهم أمام المحاكم الصينية كان دليلاً على أن الحكومة الإمبراطورية غير قادرة على مقاومة إرادة أولئك البرابرة الذين كانت تزدريهم من الناحية الرسمية.

كان المبشرون يعظون ويعلمون بأساليب تقوض التقاليد الكونفوشية والنظام الاجتماعي، ففكرة أن جميع البشر متساوون في نظر الله مثلاً كانت فكرة ثورية في الصين، كما أن المتنصرين على أيديهم راحوا يطلبون حماية القناصل والمحاكم الأوروبية، وكانوا يحاولون العيش في مناطق أوروبية لايستطيع المسؤولون الصينيون أن يضايقوهم فيها.

وعندما كان المبشرون يواجهون عداء شعبياً وكان هذا الأمر شائعاً، كان المسؤولون يتعرضون للضرر، لأنهم إذا حموهم فسوف يصبحون مكروهين من الشعب، وإذا لم يحموهم فقد يقتل بعضهم، ويرسل القنصل الأوروبي في طلب سفينة حربية أو جنود من أجل القبض على القتلة فتظهر الإدارة الإمبراطورية عندئذٍ بمظهر العاجزة عن حماية أهل البلاد من الأجانب.

لقد حدثت هذه الضغوط على خلقية من الضيق الاجتماعي المتفاقم والخطر المتزايد من الثورة، ولكن المنشو ومسؤوليهم لزمهم وقت طويل لكي يعترفوا بأن إمبراطوريتهم تقترب من أزمة قد تنتهي بالقضاء عليها. وكان بعضهم يرون تقديم بعض التنازلات للأجانب، ولكن جميع المسؤولين تقريباً كانوا يشعرون أن هذه ليست أول مرة تتعرض فيها الصين للمصاعب، وأنها قد تجاوزتها في كل مرة واجهتها في الماضي.

كان آخر غزو للأفكار الأجنبية قد أتى من البوذية، وقد تم استيعابه بنجاح في النهاية، وكانوا واثقين من أن تفوق ثقافتهم سوف يعيد للصين مكانتها التي تستحقها في العالم، مهما بدت الأمور سيئة.

وكان البعض يرغبون بأن يتعلموا من البرابرة بعض أسرار سفنهم البخارية ومدافعهم لكي تستطيع الإمبراطورية استخدامها، ولكن حتى الصينيون المتعلمون لم يكونوا يعتقدون بضرورة تبديل الأساليب التقليدية أو التخلي عنها، ولم يدركوا أنهم كانوا بحاجة إلى أفكار جديدة تماماً إذا شاءت إمبراطوريتهم أن تنجو وتستمر.

التنازلات والتراجع

إن هذه المواقف قد جعلت من الصعب جداً على الصين أن ترد بفعالية على تأثير الحضارة الأوروبية، كان من استجاباتها أنها استعارت الآلات واستخدمت القادة العسكريين الأوروبيين ولكن بفتور، مثلما استخدمت السلالات السابقة قادة برابرة من صحارى آسيا الوسطى وفي ستينيات القرن التاسع عشر، استخدم الأوروبيون للمساعدة العسكرية في السيطرة على واحدة من أكبر ثورات القرن، أي ثورة تاينغ، التي استعرت من عام 1850-1864.

لقد بدأت هذه الثورة بصورة محلية تحت زعامة قائد بين أنه قادر على كسب نفوذ واسع، وكان يدين في بعض أفكاره إلى المبشرين الأمريكان، فكان ينادي بنوع من الشيوعية المسيحية، وقد سحقت هذه الثورة في النهاية، ولكن بعد أن أكره التشنغ على تقديم المزيد من التنازلات الدبلوماسية والتجارية للأجانب من أجل كسب الوقت وكسب دعمهم أيضاً في مواجهة الثورة، ولم يكن قمعها سهلاً حتى مع المساعدات الأجنبية،إذ يبدو أنها كلفت ما يقرب من عشرين مليون نسمة.

في خضم اضطرابات ثورة تاينغ حصل غزو إنكليزي فرنسي بين عامي 1857-1860 وأدى إلى احتلال بكين وسلب القصر الصيفي وإحراقه قبل أن تنتزع معاهدات جديدة المزيد من التنازلات المذلة من الصين، ففي عام 1858 أعطيت أراضيها الواقعة إلى الشمال من نهر أمور إلى روسيا، ثم سلمت لها شبه جزيرة أوسوري بعد سنتين وعليها سوف يبنى الروس مدينة فلاديفوستوك، كما تنازلت الصين أيضاً عن أراضي واسعة لروسيا في آسيا الوسطى وراء مقاطعة سين كيانغ.

ولم يكن جشع روسيا هذا بالأمر الغريب، إذ كانت لها أطول حدود برية مع الصين وكانت تندفع في آسيا الوسطى منذ عقود عديدة قبل ذلك وعلى نهر الأمور أيضاً منذ أيام بطرس الأكبر، ولكن دولاً أوروبية أخرى كانت تنهش أراضي تدعي الصين السيادة عليها ولو أنها لم تحكمها بصورة مباشرة، فقد أخذ البريطانيون بورما، كما أخذ الفرنسيون جزءً كبيراً من الهند الصينية.

وقبل نهاية القرن كان الأوروبيون يعاودون الاستيلاء على الأراضي في الصين نفسها، وربما دفعهم ذلك إلى استيلاء اليابان على فورموزا (تايوان) وخوفهم من أن يسبقهم منافسوهم في هذا السباق إذا ما انهارت الصين انهياراً كاملاً.

فثبت الروس أقدامهم في بورت آثر، بينما أخذت إنكلترا وفرنسا وألمانيا مرافئ جديدة بشكل عقود إيجار طويلة الأمد، وحتى البرتغاليون، الذين كانوا في ماكاو منذ زمن أطول من أي دولة أوروبية في الصين، حولوا عقد إيجارهم القديم إلى ملكية مباشرة على زعمهم وفي خلفية هذه الصورة كانت هناك سلسلة متواصلة من التنازلات والقروض والتدخلات في الإدارة الصينية جعلت كلها الصين تبدو في الواقع بلداً تحت السيطرة الأجنبية، ولو أنها ظلت مستقلة من الناحية القانونية.

في عام 1900 كان الأوروبيون يتوقعون للصين أن تتمزق أو تنهار مثل الإمبراطورية العثمانية، ولم تبد في ذلك الحين عملاقاً يستيقظ بل خاضعة للقتل بطريقة الألف جرح، وهي طريقة مشهورة للتعذيب في الصين، إذ راحت القوى الضاربة الآتية من الغرب تنهش جسدها القطعة تلو الأخرى.

إلا أن بعض الصينيين كانوا مزمعين على عدم السماح لهذا الأمر بالحدوث ومنذ سبعينيات القرن التاسع عشر، تأسست جمعية التقوية الذاتية للنظر في الأفكار والاختراعات الغربية التي قد تكون فيها فائدة للبلاد وراح أفرادها يلفتون الانتباه إلى جهود بطرس الأكبر وإلى الجهود المعاصرة في تحديث مجتمع كونفوشي آخر، هو مجتمع اليابان. وأرسل الطلاب للمرة الأولى إلى الخارج بصورة رسمية للدراسة في أوروبا والولايات المتحدة، ولكن حتى أولئك الساعون للإصلاح كان من الصعب عليهم أن يتخيلوا جذوره في شيء غير التقاليد الكونفوشية.

الإصلاح والثورة

لقد ساءت الأمور عندما أصبح موضوع الإصلاح متداخلاً في سياسات البلاط، كان الإمبراطور قد ارتقى العرش طفلاً في عام 1875، وسرعان ما صار على خلاف مع الإمبراطورة الأرملة عند بداية حكمه الفعلي في عام 1889. وفي عام 1898 بدا أخيراً أن حزب الإصلاح قد بدأ يحرز بعض التقدم، وأصدر سيل من المراسيم والقوانين الإصلاحية فيما عرف بالمئة يوم من الإصلاح، ولكن الإمبراطورة حشدت دعم مسؤولي المنشو وجنودهم الذين باتت مناصبهم وامتيازاتهم في خطر، فقبضت على الإمبراطور وحبسته وأطاحت بالمصلحين.

وفي نفس الوقت تقريباً ظهرت في بعض المقاطعات علامات التأييد الشعبي للأساليب القديمة، بشكل اضطرابات أحدثتها وحدات ميليشيا خاضعة لنفوذ جمعية سرية واسعة تسمى جمعية القبضات المتناغمة، وكان أفرادها يسمون باختصار الملاكمين. وكان هؤلاء معادين للأجانب عداءً شديداً وعنيفاً، وراحوا يهاجمون الصينيين الذين اعتنقوا الديانة المسيحية وسرعان مابدؤوا يهاجمون المبشرين الأجانب أيضاً.

كان الملاكمون يحوزون سراً على تأييد مسؤولي المنشو والبلاط، الذين كانوا يأملون باستخدامهم ضد الأجانب، وعندما علت احتجاجات الدبلوماسيين ومطالبتهم بقمع الحكومة للملاكمين اندلعت ثورة شاملة حرضتها الإمبراطورة وعملاؤها. فاستولت القوات الأوروبية على حصون صينية من أجل أن تضمن الطريق إلى بكين، حيث كانت توجد جالية أجنبية كبيرة لابد من حمايتها.

وأعلنت الإمبراطورة الحرب على جميع القوى الأجنبية، فقتل الوزير الألماني في بكين ثم حوصرت المفوضيات فيها لأسابيع عديدة، وقتل في أماكن أخرى أكثر من مئتي شخص أجنبي أكثرهم من المبشرين.

ولكن العقاب كان سريعاً ومدمراً، فقد أرسلت بعثة دولية قاتلت حتى وصلت إلى بكين وفكت الحصار عن المفوضيات، واحتل الروس جنوب منشوريا وهرب أفراد البلاط إلى العاصمة، ولكنهم اضطروا بعد أشهر قليلة إلى القبول بشروط الأوروبيين، وهي:

معاقبة الموظفين المسؤولين عن هذه الأحداث، ودفع تعويض هائل، وتدمير الحصون تدميراً كاملاً، والقبول بوضع حاميات أجنبية على السكك الحديدية المؤدية إلى بكين، وتوسيع حي المفوضيات وتحصينه.

وهكذا فشلت انتفاضة الملاكمين، كما أنها ألحقت المزيد من الضرر بنظام المنشو المتقلقل أصلاً وأصبحت النظرة الداخلية الآن أكثر تزعزعاً من أي وقت مضى، وبدأ بعض الصينيين يفكرون بالثورة.






* أي الفرنج أو الإفرنج

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://resalahmasriyah.mam9.com
Eng. Ahmedzoubaa
Admin
Eng. Ahmedzoubaa


عدد المساهمات : 1216
تاريخ التسجيل : 28/08/2010
العمر : 50

الفصل الثاني عشر - النظام العالمي الأوروبي  Empty
مُساهمةموضوع: رد: الفصل الثاني عشر - النظام العالمي الأوروبي    الفصل الثاني عشر - النظام العالمي الأوروبي  Emptyالخميس 16 يونيو 2011 - 5:43

الحكم البريطاني في الهند

ازدادت في ذلك الحين المعارضة للحكم الاستعماري في شبه القارة الهندية أيضاً، ولو أن السلطة الاستعمارية فيها لم تعد بيد المغول من أهل البلاد بل صارت في أيد أوروبية. كانت الهند قد أصبحت ذات أهمية عظيمة لدى البريطانيين، والحقيقة أن تاريخهم الاستعماري لامعنى له بدونها، وحتى شكل هذا التاريخ حددته الهند، لأن أجزاء كثيرة من الإمبراطورية إنما ضمت إليها لأهميتها في الدفاع عن شبه القارة أو عن الطريق البحرية المؤدية إليها من إنكلترا.

ومنذ عام 1800 كان عدد السكان الخاضعين للحكم البريطاني في الهند أكبر منه في أي من المستعمرات الأخرى، بل إنهم كانوا في عام 1900 أكثر من جميع سكان الإمبراطورية معاً. وبمرور الزمن هاجرت أعداد كبيرة من الهنود إلى أنحاء أخرى من الإمبراطورية، فظهرت الجاليات الهندية حتى في فيجي وشرق أفريقيا وجزر الهند الغربية.

وكانت التجارة مع الهند هامة دائماً، لأن شبه القارة كانت تستهلك كميات كبيرة من المصنوعات البريطانية.

وقد ساهم الجنود من أبناء الهند في الدفاع عن أجزاء أخرى كثيرة من الإمبراطورية، وحاربوا في أزمنة مختلفة من أجل بريطانيا في جميع القارات ماعدا الأمريكتين، وأخيراً كان التأثير المتبادل هاماً ومستمراً بين ثقافتي شبه القارة وبريطانيا، ومازالت نتائج هذا التأثير جلية حتى اليوم.

لقد صار بعض الناس يطلقون على الحكم البريطاني اسم الراج the Raj لأنهم اعتبروه خلفاً لحكم المغول. ولم تكن هذه النتيجة لتخطر بالبال عندما كان هذا الحكم في طور التشكل، وقد ظلت شركة الهند الشرقية تحكم الهند البريطانية بالاسم في عام 1800، ولكن حاكمها العام أصبح منذ عام 1784 يعين من قبل الحكومة البريطانية.

كانت هذه الشركة قد أنشأت بهدف المتاجرة، وقد ظل عملاؤها زمناً طويلاُ يرون الهند من هذا المنظور، أي أنهم لم يطلبوا من الحكومة أكثر من أن تضمن لهم الاستمرار بأعمالهم. ولكن الشركة كانت منذ القرن الثامن عشر قد حصلت من حاكم البنغال المحلي على حقوق فرض الضرائب في أراضيه، وقد ورطها هذا الأمر في سياسات الهند وإنكلترا، وراحت حصة الحكومة البريطانية في إدارة الهند تنمو باطراد.

في هذه الأثناء كانت امتيازات الشركة تتراجع باطراد أيضاً، ففقدت احتكارها للتجارة في الهند في عام 1813، وفي الصين أيضاً بعد عشرين عاماً، وهكذا صارت تعتمد على الضرائب في مدخولها وتسلك شيئاً فشيئاً سلوك أي حكومة استعمارية عادية.

كان هذا النظام يسمى الحكم الثنائي وقد استمر الاسم حتى عام 1857، وكانت مشاركة الحكومة البريطانية فيه تزداد باستمرار مع مرور الزمن، في هذه الأثناء كان المزيد من الدول الهندية تضم إلى الإمبراطورية أو تخضع للسيطرة البريطانية عن طريق المعاهدات. وكان الإمبراطور المغولي عاجز عن مقاومة هذا التيار، مع أنه ظل الحاكم الاسمي لجزء كبير من شبه القارة.

ولم تعد اللغة الفارسية لغة القانون والإدارة بل حلت محلها اللغة الإنكليزية، وسمح للمبشرين بالعمل في الهند بعد عام 1813، فبدؤوا يجتذبون المزيد من الهنود إلى اعتناق المسيحية، وقد كان هناك دوماً بعض المسيحيين الهنود في المستوطنات البرتغالية والفرنسية. وأسست المعاهد والمدارس، كما بني أول خط حديدي في الهند في عام 1853.

وكان الحكام البريطانيون يشجعون هذه التغيرات تشجيعاً كبيراً، ويعتبرونها إنجازات متنورة، مثلما أدخلوا الشرائع القانونية الجديدة التي اعتبروها بديلاً أفضل من التقاليد الهندوسية والإسلامية، وقد ازداد عدد السكان فبلغ 200 مليون نسمة تقريباً في عام 1850 وكان حوالي 70% منهم هندوساً و 20% مسلمين.

التمرد ونتائجه

راح المزيد من الرجال الإنكليز والنساء الإنكليزيات أيضاً بعد افتتاح خطوط السفن البخاري إلى أوروبا، يفدون إلى الهند سعياً وراء الأعمال، ولكنهم ظلوا نقطاً صغيرة في ذلك المحيط المؤلف من جماهير الهنود الهائلة.

أما الهنود فقد ظل سوادهم بمنأى في حياتهم اليومية عن تأثير الحكم البريطاني، وكانوا يعيشون في قراهم حيث كان تقاليدهم هي التي تحدد نمط تلك الحياة، وكان يبدو أن الحكم سوف يظل دوماً على حاله، أي حكماً استبدادياً متنوراً، ولم يكن يخطر ببال أحد أن الهنود يقد يحكمون أنفسهم في يوم من الأيام.

ثم حدثت فجأة في عام 1857 صدمة رهيبة زعزعت ثقة البريطانيين هذه، فقد اندلعت سلسلة من الانتفاضات بعد تمرد قام جنود محليون في البنغال اعتقدوا أن النوع الجديد من الخراطيش الذي قدم لهم كان مزيتاً بدهن حيواني تعتبره ديانتهم نجساً وتحرم عليه تداوله.

ثم تبعتها ثورات أخرى، وسرعان ما صار الحكم في شمال الهند في خطر، واجتذب المتمردون دعم هنود آخرين من مسلمين وهندوس على السواء، من الذين كانوا يخشون التحديث الذي جلبه البريطانيون وخطره على عاداتهم وتقاليدهم. كما انتهز بعض الحكام المحليين الهندوس والمسلمين هذه الفرصة من أجل محاولة استرداد استقلالهم، ولكن أكثر الهنود في القسم الأكبر من البلاد لم يشاركوا في هذه الحركة التي سميت تمرد الهند.

ورغم أن البريطانيين كانوا قلائل فقد ردوا على هذا التمرد بلا رحمة وبمساعدة الجنود الموالين لهم، ولقد زال الخطر خلال أشهر قليلة ومالبثت أن جاءت بعد ذلك العقوبات العنيفة، فخلع الإمبراطور المغولي الذي نادى به المتمردون قائداً لهم، وانتهى حكم شركة الهند الشرقية، وأصبح الحاكم العام نائباً للملك يرفع التقارير مباشرة إلى الحكومة في لندن. وسوف يظل الحكم البريطاني في الهند منذ ذلك الحين حتى نهايته بعد تسعين عاماً، وهو حكم التاج نفسه بصورة مباشرة أو غير مباشرة.

لقد سبب هذا التمرد تطورات أخرى ربما ماكانت لتحدث من تلقاء نفسها، فرغم أن المتمردين لم يحرزوا أياً من أهدافهم المحافظة والرجعية، فإن تمردهم كان حاسماً من ناحية أنه سبب لدى البريطانيين خاصة المقيمين منهم في الهند صدمة لن ينسوها أبداً. ومنذ ذلك الوقت صار البريطانيون والهنود يعيشون حياتهم بشكل منفصل ولايشتركون إلا في شؤون العمل.

وصار البريطانيون يشعرون أن الهند بلد غريبة لايمكن فهمها، وأن شعبها ذو عقلية مثل عقلية الأطفال لايمكن الوثوق بها بل لابد من ضبطهم ولو بالقوة إذا اقتضى الأمر.

إلا أن هذا الأمر لايجوز أن ينسينا جود المئات من الإنكليز في الهند، ووجود الكثيرين منهم في حكومتها، وأنهم كانوا يدرسون لغاتها وثقافتها وحضارتها بشغف كبير، فالحقيقة أن العلماء البريطانيين هم الذين استهلوا الدراسة الجدية للهند الكلاسيكية.

كما أن التأثير المتبادل بين الهنود والبريطانيين سوف يستمر سواء شاء الطرفان أم أبيا، وكان لابد للعلاقات التجارية مع بريطانيا وبقية الإمبراطورية من أن تغير الحياة الاقتصادية في الهند رويداً رويداً. وإن الأفكار والمبادئ التي كانت تعلم في المدارس والمعاهد الهندية تمارس من قبل الإدارة قد ساهمت في تشكيل أفكار الكثيرين من شباب الهند حول المستقبل الذي يجب أن يكون لبلادهم، وكثيراً ماكانوا يتصورون هذا المستقبل بحسب المبادئ الأوروبية، بمؤسساتها السياسية الديمقراطية والتمثيلية، وكدولة مبنية على مفهوم القومية، وهو مفهوم غربي.

من الناحية الأخرى كان دور بريطانيا كدولة عظمى يتشكل بفعل القوة التي تقدمها لها الهند وبالضرورات الجديدة التي تفرضها، وقد قال أحد نواب الملك:" طالما أننا نحكم الهند فسوف نظل أكبر قوة في العالم، أما إذا خسرناها فسوف نهبط فوراً إلى قوة من الدرجة الثالثة".

ومن أجل الحفاظ على الهند آمنة سوف يتورط البريطانيون في اقتتال متواصل مع قبائل الحدود الشمالية الغربية، وفي فتح بلوشستان وكشمير، وفي صراعات دبلوماسية مع روسيا حول مسألة النفوذ في أفغانستان وهي مسألة كادت في إحدى مراحلها أن تسبب اندلاع حرب.

وفي ثمانينيات القرن التاسع عشر ضمت بورما من أجل حماية الهند من تقدم فرنسي محتمل من الهند الصينية، وبعد سنوات قليلة، أخذت دول ملقا للغرض نفسه، كما أرسلت حملة إلى لاسا في التبت في عام 1907 لضمان سلامتها من النفوذ الأجنبي.

وقد أثرت الهند بالطبع في تفكير البريطانيين الاستراتيجي نحو أفريقيا، إذ أنها واقعة على طريق البواخر عبر قناة السويس ورأس الرجاء الصالح.

كان حكم الهند يعني حكم 300 مليون نسمة في شبه القارة كلها ماعدا بعض الجيوب البرتغالية والفرنسية الصغيرة، وفي عام 1892 لم يكن هناك إلا 918 موظفاً أبيض للقيام بهذا العمل، وكان هناك في العادة جندي بريطاني واحد لكل 400 هندي. من الواضح إذاً أن حكم بريطانيا للهند لم يكن يعتمد على العدد، بل على أساسين آخرين: أولهما مشاركة الهنود ومساعدتهم ورضاهم من الناحيتين المدنية والعسكرية، وثانيهما عدم التدخل الزائد.

إذ أن البريطانيين صاروا بعد التمرد المذكور يخشون احتلال الأمن العام ويحرصون على ألا يتدخلوا كثيراً في تقاليد الهنود كيي لايعاودهم, لقد منعوا قتل الطفلات الصغيرات اللواتي كن يقتلن من قبل آبائهن من أجل التخلص من الحاجة إلى دفع البائنة (الدوطة) في المستقبل، ولكنهم لم يتدخلوا لمنع تزويج الأطفال، وقد نظموا حقوق الأمراء الهنود ودعموا حكمهم.

إلا أن العواقب الاقتصادية والثقافية للسلطة البريطانية كانت تغير الهند باستمرار بطرق سوف تجعل الحفاظ على الحكم البريطاني فيها أمراً صعباً في النهاية، قد قام الصناعيون والنقابيون العماليون البريطانيون من على بعد آلاف الأميال باستخدام البرلمان لإعاقة رجال الأعمال الهنود المتلهفين للاستفادة من أطول فترة حكم مستقر عرفتها الهند، وأزعج هذا الأمر التجار والمصنعين في الهند.

وكان الشباب الهنود من النخبة الهندوسية يدرسون في الجامعات البريطانية أو يدرسون المحاماة حسب المناهج الإنكليزية، وعندما يعودون إلى بلادهم كان يؤرقهم أن ينظر إليهم الإنكليز نفس النظرة المتعالية التي ينظرون بها إلى الهنود الآخرين، وكانوا يتساءلون لماذا لاتطبق مبادئ تساوي الفرص والديمقراطية في الهند أيضاً، وكان هذا الحقيقة دليلاً على نفوذ الحضارة البريطانية.

وهكذا راحت القومية الهندية تتبلور وتأخذ أشكالاً سياسية بتأثير هذه العوامل وغيرها، وكانت بعض القرى قد شجعت على هذا التطور بتأييدها للمزيد من الحكم الذاتي المحلي، ولكن هذا الوعي القومي حالت دونه الانقسامات بين الهندوس والمسلمين، فكان هذا من الأسباب التي أبقت قبضة الحكم البريطاني قوية في عام 1914؛ إلا أن القوى العاملة على تقويض ذلك الحكم مابرحت تتراكم.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://resalahmasriyah.mam9.com
Eng. Ahmedzoubaa
Admin
Eng. Ahmedzoubaa


عدد المساهمات : 1216
تاريخ التسجيل : 28/08/2010
العمر : 50

الفصل الثاني عشر - النظام العالمي الأوروبي  Empty
مُساهمةموضوع: رد: الفصل الثاني عشر - النظام العالمي الأوروبي    الفصل الثاني عشر - النظام العالمي الأوروبي  Emptyالخميس 16 يونيو 2011 - 5:44

قوة آسيوية جديدة

كان اليابانيون في القرن التاسع عشر يراقبون الأحداث في الصين والهند باهتمام بالغ، وكانت اليابان في عام 1800 مجهولة لدى الأوروبيين ماعدا العدد القليل من الهولنديين، ولكن العلامات كانت تدل على أن الأمور لايمكن أن تستمر طويلاً على هذا الحال. لقد كان الأوروبيون أقوى بكثير مما كانوا عليه قبل مائتي عام، بينما كان اليابانيون أضعف بكثير، وسوف يصعب عليهم صد الأجانب إذا أراد هؤلاء حقاً اختراق عزلة اليابان، وإذا تم لهم ذلك فليتأمل اليابانيون ما حل بالصين والهند.

وقد سبب السلام الطويل ونمو المصالح الاقتصادية الجديدة في اليابان ضغوطاً اجتماعية كبيرة، وكانت قوتها العسكرية عتيقة بالية، لذلك كانت ستواجه الضغوط الأوروبية والأمريكية المحتملة من موقع ضعف. وكان بعض اليابانيون يعلمون ذلك وقد بدؤوا بالالتفاف حول القوانين التي كانت تمنع دخول الأفكار الأجنبية عن طريق استيراد الكتب المتعلقة بما كان يسمى العلوم الهولندية. وحتى نظام الشوجونية كان قد سمح بترجمة بعض الكتب الأوروبية التي تعالج مواضيع تقنية.

لقد كان اليابانيون شعباً حاذقاً أبدى قدرة كبيرة على النسخ والاستعارة، وكان هذا الموقف مختلفاً كل الاختلاف عن الموقف المتعالي الذي واجه الصينيون به التأثيرات الغربية، فقد استطاعت مثلاً مجموعة من الأطباء اليابانيين في عام 1771 أن تقوم بأول تشريح لجسم الإنسان على جثة مجرم، من دون أن يكون بين أيديها إلا صور من كتاب هولندي، وكانت قدرة اليابانيين على التعلم وعلى تبني الأساليب الجديدة الفعالية ميزة كبيرة في مواجهة التحدث الأجنبي، ولكنهم لم يكونوا متفقين على الطريق الذي ينبغي عليهم سلوكه، فكان بعضهم يتحدث عن طرد البرابرة، وبعضها الآخر عن فتح البلاد وكان لكل من هذين الطريقين مخاطره.

إن المعاملة الفظة التي لقيتها الصين على يد الدول الأوروبية وعلى رأسها بريطانيا، والتي أكرهت هذه الإمبراطورية ذات الماضي العظيم على القبول بمعاهدات مذلة، كانت في النهاية ذات تأثير حاسم.

في عام 1842 سمحت اليابان للسفن الأجنبية بالتزود بالمؤن حين الحاجة، ولكن لم يسمح بعد للأفراد بدخول البلاد، وبعد ذلك استلم رئيس الولايات المتحدة في عام 1851 مسألة معاملة البحارة الأمريكان الذين تتعرض سفنهم للغرق على سواحل اليابان، ومسألة إيواء صيادي الحيتان والسفن الأمريكية العاملة في تجارة الشرق الأقصى وتزويدها بالمؤن، فتقرر إرسال أسطول بحري إلى اليابان لضمان فتح مرافئها للأجانب، وأبحر القبطان بيري في عام 1853 ضمن خليج ييدو، وكانت ييدو تعتمد على المؤن الآتية من البحر.

أما اليابانيون فقد أذهلتهم الأسلحة النارية المتفوقة لدى الأمريكان وسفنهم البخارية، وقبلوا بوجود قنصل أمريكي وفتحوا مرفأين من مرافئهم للتجارة مع أمريكا، ثم جرت معاهدات مع قوى أوروبية سمحت لغيرهم من التجار الأجانب بدخول اليابان ووافقت على إقامة البعثات الدبلوماسية.

إصلاح الميجي

لقد بدا لليابانيين أن بلدهم قد تصير بيد الأجانب مثل الصين إذا هم لم يهتموا للأمر، وكان من الواضح أن نظام التوكوغاوا غير قادر على معالجة الأزمة، وراح زعماء العشيرتين الكبريين يتعلمون الأساليب العسكرية الأوروبية ويرسلون البعثات إلى الخارج للتعلم من البرابرة. وقد أذهلهم بيري وربما أذهلهم أيضاً القطار البخاري الصغير الذي جلبه معه وعرضه متباهياً على سكة بنيت خصيصاً له في الحفل الكبير الذي أقيم بمناسبة توقيع المعاهدة الأولى، كما أذهلتهم الكميات العجيبة التي استهلكت فيه من الويسكي والشمبانيا.

وبعد وصوله بزمن قصير نشأت في بعض أراضي العشائر أولى المؤسسات الصناعية على الطريقة الغربية، ومواقع بناء السفن ومعامل الأسلحة والقطن، ثم كانت الخطوة الثانية هي تنظيم المعارضة العسكرية للتوكوغاوا.

لقد لاح في البداية أن البلاد قد تنهار من جديد في حال من الانقسام والفوضى، ولكن النبلاء المعارضين للشوغونية التجأوا إلى قوة مركزية جديدة، بل هي في الحقيقة قوة قديمة أعيد إحياؤها، فقاموا بانقلاب في كيوتو في الثالث من كانون الثاني يناير 1868 استولوا فيه على البلاط الإمبراطوري.

ثم ألغي منصب الشوغون الوراثي وأعيد الإمبراطور من كواليس الحكم إلى مركز الساحة، وثبتت مسؤوليته المباشرة في حكم البلاد. وكان رمز هذا التغير هو نقل البلاط إلى ييدو، فكانت تلك بداية حركة الإصلاح على عهد ميجي، والتي كانت عبارة عن ثورة حقيقية، وهي التي استهلت عملية التحديث المدروسة في اليابان.

وراح زعماء اليابان الجدد يسعون لدفع المبادرات الأولى للعشائر نحو الامام، وكان هدفهم أن يتعملوا ما أمكنهم من الدول الغربية، وأن يستخدموا ذلك العلم في تحديث بلادهم من دون أن يتغربوا أو يفقدوا تراثهم، وقد نجحوا في هذا الأمر نجاحاً كبيراً.

وبعد سنوات قليلة في كانون الثاني (يناير) من عام 1860،قاموا بإنجاز يدل أبلغ دلالة على ما يستطيعون الإتيان به بمواردهم المحلية البسيطة، فقد أبحرت السفينة كاترين – مارو، وهي سفينة شراعية ذات محرك بخاري لاتزيد قوته عن المائة حصان ولايمكن استخدامها إلا للمناورة في المرفأ، من ييدو إلى سان فرانسيسكو حيث رست بعد خمسة أسابيع فقط، وقد أبحر بها طاقمها بأشرعتها عبر المحيط الهادي، فكان بذلك أول طاقم ياباني يقطع هذه المسافة، وقد تم له ذلك بعد سبع سنوات فقط من إدخال بيري للسفن البخارية إلى خليج ييدو.

وبعد ذلك بدأ اليابانيون يذهبون لتعلم الملاحة للمرة الأولى في هولندا، وقد كتب أحد أفراد الطاقم الشباب فيما بعد مقارنة رائعة وبليغة يقول فيها حتى بطرس الأكبر قيصر روسيا الذي ذهب إلى هولندا لدراسة الملاحة ماكان باستطاعته رغم كل ما قام به أن يأتي بمثل هذا الإنجاز الذي أتى به اليابانيون".

التحديث وحدوده

لقد واجه اليابانيون مهمة التحديث بشعور عال من الكبرياء الوطنية، وترافق هذا الشعور بحرصهم الشديد على النجاة من مصير الصينيين والهنود، وهذا ما دعم إرادتهم في التعلم وفي استعارة المعارف والتقنيات، وسوف تغير هذه الأمور اليابان بصورة سريعة.

كان إلغاء النظام شبه الإقطاعي القديم المتمثل بحكم العشائر باسم الإمبراطور هو الخطوة الأولى نحو خلق دولة قومية، وقد لعبت المنافسات بين العشائر دوراً كبيراً في القضاء على سلطة التوكوغاوا، ثم قدمت العشائر الكبرى المثال والقدوة بأن سلمت أراضيها للإمبراطور "لكي يسود حكم واحد متسق في كافة أنحاء الإمبراطورية" كما قالت.

وتم تبني الكثير من مؤسسات الحكم الأوروبية، فقسمت البلاد إدارياً إلى مقاطعات، وفي عام 1889 تم تأسيس برلمان ذي مجلسين تشريعين، وكانت اليابان قد تبنت نظام التجنيد العسكري لكي يكون لديها جيش على النمط الأوروبي، كما أسست أول نظام بريد فيها وأول خط حديدي وأول صحيفة يومية، وتبنت أيضاً التقويم الأوروبي.

ولكن أشياء كثيرة من الماضي ظلت مستمرة، خاصة في العبادات الوطنية وفي التبجيل الذي كانوا يؤدونه للسلطة الإمبراطورية، وفي عام 1980 وضع بيان في مجال التعليم ظل يقرأ على أجيال طلاب المدارس في اليابان في أيام الاحتفالات طوال الخمسين سنة القادمة، وكان يحثهم على الحفاظ على القيم التقليدية، من احترام للوالدين وطاعة وتضحية بالنفس إذا الأمر من أجل قضية الأمة.

كما ظلت تقاليد الساموراي حية أيضاً، فقد ظل بعضهم يناصرون سادتهم المستائين من الثورة خلال السنوات العشر التالية لعملية الإصلاح، إلى أن هزمهم الجيش المجند الجديد، فصار أكثرهم عندئذٍ راغبين بالالتحاق بالخدمة المدنية للنظام الجديد أو بجيشه أو بحريته، أما سادتهم فقد عوض لها عن فقدان أراضيهم بمداخيل ضمنتها الحكومة، وظلوا يتمتعون بمقدار كبير من النفوذ، وسرعان ماصار بعضهم أعضاء في مجلس النبلاء الجديد. وهكذا ظلت أشياء كثيرة في اليابان على حالها رغم تحديث البلاد السريع الذي قد يلفت أنظار المراقب الخارجي.

إلا أن بعض التغيرات كانت واضحة جداً، فقد بدأ استخدام الآلات التي تعمل بالطاقة في صناعة غزل الحرير في سبعينيات القرن التاسع عشر، وسرعان ما صار واسع الانتشار، ولو أن أكثر من نصف الحرير المغزول في اليابان ظل يصنع باليد بعد عشرين سنة.

وفي أوائل تسعينيات القرن صارت لليابان صناعة قطنية جديدة ولو أن عدد المغازل فيها كان يعادل واحداً بالمئة من عددها في بريطانيا ولكن النمو الصناعي السريع لم يبدأ إلا في النصف الثاني من التسعينيات، فارتفع الإنتاج السنوي للفحم فيها من 5 ملايين طن في عام 1895 إلى أربعة أمثاله تقريباً في عام 1914، كما ارتفع إنتاج الحرير الخام في المرحلة نفسها بمقدار ثلاثة أمثال بينما ارتفع إنتاج القطن المغزول بمقدار ستة أمثال، وأضحت اليابان في عام 1914 أكثر الدول صناعية في آسيا.

لقد كان دور الزراعة في هذا الاندفاع الاقتصادي الكبير أقل وضوحاً من دور الصناعة ولكنه كان في الحقيقة أكثر منه أهمية، فقد ارتفع الإنتاج الزراعي للفرد الواحد أكثر بكثير من مثلين بين عامي 1868 و1914. ولكن هذا الارتفاع لم يؤثر كثيراً في حياة الغالبية العظمى من اليابانيين الذين ظلوا فلاحين.

وكان على الزراعة أن تزمن الضرائب لتمويل الاستثمار الرأسمالي اللازم للصناعة والخدمات والإدارة الجديدة والتعليم، وظل الفلاحون فقراء يرزحون تحت عبئها الثقيل، ولم يطرأ تغير يذكر على أساليب الحياة في القرى، وبقيت النساء مسحوقات ومضطهدات ومقيدات بالتقاليد القديمة البالية؛ إلا أن اليابان كانت قد لحقت بالعالم الحديث.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://resalahmasriyah.mam9.com
Eng. Ahmedzoubaa
Admin
Eng. Ahmedzoubaa


عدد المساهمات : 1216
تاريخ التسجيل : 28/08/2010
العمر : 50

الفصل الثاني عشر - النظام العالمي الأوروبي  Empty
مُساهمةموضوع: رد: الفصل الثاني عشر - النظام العالمي الأوروبي    الفصل الثاني عشر - النظام العالمي الأوروبي  Emptyالخميس 16 يونيو 2011 - 5:44

السماء تتلبد بالغيوم

إنها لمفارقة غريبة أن اقتراب سلطة الأوروبيين من ذروتها في الأنحاء الأخرى من العالم قد ترافق بازدياد علامات التقلقل وعدم الاستقرار في أوروبا نفسها، حيث ظهرت علامات النظام الدولي الجديد بوضوح في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، مثلما ظهرت في أنحاء أخرى.

وإن أفضل نقطة انطلاق هي عام 1848، لابسبب أهميته كمرحلة من مراحل الثورة الاجتماعية، بل لأنه معلم هام في قصة القومية الأوروبية يكشف عن مدى قوتها، كما أنه يفصل بين مرحلة أولى من السلام الدولي الطويل ومرحلة ثانية من الحرب، ولو كان من الصعب على الناس أن يروا ذلك في حيته.

لقد نشبت خلال ربع القرن التالي حرب بين بريطانيا وفرنسا وتركيا وسردينيا من جانب، وروسيا من الجانب الآخر حرب القرم 1854-1856 ثم بين فرنسا المتحالفة مع سردينيا ضد النمسا 1859، ثم ثلاث حروب أخرى خاضتها بروسيا ضد الدانمرك 1864، والنمسا 1866، وانضمت إليها إيطاليا إلى جانب بروسيا وفرنسا 1870.

وكانت أولى هذه الحروب أي حرب القرم تدور في الحقيقة حول مسألة قديمة، هي هل يجوز السماح لروسيا بأن تهيمن على تركيا وربما بأن تطيح بها ، أما الحروب الأخرى فكانت كلها تدور حول بناء دول قومية.

أمم جديدة

لقد هزمت النمسا في ألمانيا، حيث اضطر الهابسبرغ للاعتراف بسيادة بروسيا، كما هزمت في إيطاليا ولم تبق لها فيها أراض كثيرة بعد عام 1866، لذلك وجدت نفسها مضطرة لتقديم التنازلات لقوميات أخرى ضمن حدودها، إذ لم تعد الملكية النمساوية بقادرة على مقاومة مطالبها.

وهكذا تم ترتيب حل وسط في عام 1867 مع أحد شعوب الإمبراطورية، وهو الشعب المجري، فمنحوا قدراً كبيرا من الاستقلال فيما سمي منذ ذلك الحين الملكية الثنائية، لأنها كانت في الحقيقة عبارة عن وحدتين مستقلتين ومنضمتين تحت حاكم واحد في الدولة النمساوية الهنغارية.

وأصبح فرانتز جوزيف إمبراطوراً في إحدى شطري بلاده وملكاً في الشطر الآخر، أما بقية الشعوب الإمبراطورية فقد ظل أملها خائباً، والحقيقة أن الملكية الثنائية كانت بمثابة رشوة لهنغاريا سمحت للمجريين الذين يحكمونها بالانضمام إلى النمساويين في قمع الصرب والسلوفينيين والرومانيين والسلوفاك وغيرهم.

كما نشأت خلال تلك السنوات دول قومية أخرى، وكانت من النتائج المتأخرة لحرب القرم نشوء دولة قومية مستقلة هي دولة رومانيا، ولو أن هذا الاسم لم يستخدم حتى ستينيات القرن التاسع عشر، ثم أن توحيد كل من إيطاليا وألمانيا والتنازلات التي قدمت للمجريين قد زادت من اندفاع الشعوب الأخرى في وسط أوروبا وفي البلقان خاصة التي كانت تحت حكم الأتراك، في مطالبتها باستقلالها السياسي هي الأخرى.

وهكذا كانت نتائج هذه السنوات معقدة جداً ولكنها على درجة كبيرة من الأهمية، وإذا نظرت إلى الخارطة قبلها وبعدها رأيت مدى تأثيرها الواسع. إن أوسع رجال الدولة أثراً في إحداث هذه التبدلات هما الوزير البروسي بسمارك والإيطالي كافور، وقد غيرا خريطة الدبلوماسية الأوروبية وظروفها حسب الصورة التي كان الناس يتمنونها في عام 1848، ولكن لمصلحة النزعة المحافظة ومن أجل قمع النزعات القومية الثورية التي كانا يخشيانها.

الفصل الثاني عشر - النظام العالمي الأوروبي  Besmark1

بسمارك

وهكذا باتت أوروبا في عام 1871 مكونة بشكل أساسي من دول قومية، إلا أن هذه البنية كانت تعاني من عيبين اثنين: أولهما وجود أماكن مازالت تخبئ المتاعب للمستقبل، ومنها إيرلندا، إذ يبدو أن بريطانيا قد شارفت على منحها حكماً ذاتياً تحت رئاسة التاج في أواخر القرن التاسع عشر، ولكن السياسات الحزبية أحبطت تلك المساعي. وظلت النرويج والسويد في دولة واحدة إلى أن انفصلتا بصورة سلمية في عام 1905.

أما روسيا فقد ظلت مثل بروسيا والنمسا تحكم جزءً كبيراً من بولندا، وكانت فيها شعوب مستاءة هي شعوب البلطيق والشعب الفنلندي، وفي الشطر الهنغاري من الملكية الثنائية شعر كل من الكروات والرومانيين والسلوفاك والسلوفينيين والصرب بالقمع، والأهم من هذا كله أن الأتراك ظلوا يحكمون البلغار والمقدونيين والألبان والبوسنيين حتى عام 1878، عندما انتقل الحكم الحقيقي للبوسنة على يد النمساويين، مع أن السلطان العثماني احتفظ بسلطته الاسمية عليها والحقيقة أن البلقان كانت كابوساً مرعباً من وجهة نظر القوميين بالنظر إلى التداخل العجيب بين شعوبها ولغاتها ودياناتها.

في تلك الأثناء كان توازن القوى في أوروبا قد تغير تماماً، فقد انتهى التحالف المقدس القديم بين الدول المحافظة في القرم، وظهرت إمبراطورية ألمانيا جديدة تأسست رسمياً في عام 1871 لتحل محل فرنسا كقوة مسيطرة في أوروبا، وكان هذا هو الجانب السياسي لتغير هام في السكان وفي الاتجاهات الاقتصادية، وسوف تظل الهيمنة الألمانية مشكلة أساسية تواجه رجال الدول الأوروبية حتى عام 1945.

السيطرة الألمانية

مع هذا تمكنت القوى العظمى من التعايش جنباً إلى جنب بسلام طوال أكثر من أربعين عاماً بعد 1871 وكان هذا إنجازاً عظيماً بالنظر إلى الأخطار الكثيرة والمتزايدة الكامنة تحت سطح الحياة الدولية خلال هذه الفترة كانت ألمانيا قد أكرهت فرنسا على عقد الصلح بشروط مهينة في عام 1871، وعلى التخلي عن اثنين من مقاطعاتها، أي الإلزاس واللورين، وعلى دفع تعويض هائل، ومنذ تلك اللحظة بات من الواضح أن ألمانيا الجديدة قد حلت محل فرنسا في سيطرتها الطويلة في أوروبا.

لقد كان عدد سكانها في ازدياد، وكانت تمر بطور من النمو السريع، وكان اقتصادها يزداد قوة على قوة، بل إنه كان ينمو بسرعة تضاهي بريطانيا لهذا أصبحت ألمانيا في عام 1900 أكبر قوة عسكرية في قارة أوروبا، إلا أن فرنسا لم ترض قط بفقدان مقاطعتيها.

كانت إيطاليا دولة أحدث بقليل من ألمانيا، وكانت قد أخذت مدينة روما من البابا لتمنح نفسها في عام 1870 العاصمة التاريخية التي طالما تاق إليها الإيطاليون.

إن الدول الحديثة كثيراً ما تكون حساسة وصعبة في شؤونها الخارجية، ويكون حكامها واعين جداً للانقسامات والضعف في الداخل وللرغبة بالتغلب عليها عن طريق اتباع سياسات صاخبة في الخارج من أجل اجتذاب المشاعر الوطنية واسترضائها.فراح زعماء إيطاليا يقومون بالمغامرات الاستعمارية، التي بلغت ذروتها في الحرب مع تركيا في عام 1911 من أجل الاستيلاء على أجزاء من شمال أفريقيا، بينما ظل غيرهم من الإيطاليين يذكرون مواطنيهم بالجاليات الإيطالية التي تعيش تحت حكم النمسا، والتي كانوا يقولون أنها غير معتقة وإن أراضيها يجب أن تحرر وكان هذا سبباً آخر من أسباب الاضطراب.

أما المانيا فلم يبد أنها قد تكون مصدراً لأخطار جديدة، ولم يكن فيها أحد ذو شأن يريد أن يوحد الألمان جميعاً تحت حكم واحد، وقد بقيت شؤونها الخارجية طوال عشرين عاماً تقريباً بيد رجل واحد عالي الذكاء وذي مزاج حاد وعنيد هو النبيل البروسي الكونت أوتو فون بسمارك، الذي كان هدفه الأساسي هو أن تستمر الحياة في ألمانيا في ستينيات القرن التاسع عشر، وعندما اكتملت تلك الحروب بنجاح صار يخشى الاضطراب الاجتماعي بل حتى الثورة في الداخل إذا ما حدثت حرب أخرى، فبذل أقصى جهده لتجنب ذلك.

وكانت إدارته لشؤون أقوى الدول الأوروبية عاملاً حاسماً في الحفاظ على السلام، إلا أن ألمانيا كانت تتغير رغماً عن إرادة بسمارك، وقد أدى نمو عدد سكانها وقوتها الصناعية إلى نشوء أفكار ومواقف ومطالب جديدة، وصارت هذه القوى تلعب دوراً متزايداً في تشكيل السياسة الخارجية لألمانيا بعد أن صرف بسمارك من الخدمة في عام 1890.

وكان بعض الألمان ذوي النفوذ يسعون لكي تحظى بلادهم باحترام ومكانة أكبر على المستوى الدولي، وكانوا يسمون ذلك مكاناً تحت الشمس، كما أنهم في الوقت نفسه صاروا يشعرون بمزيد من الغيرة والخوف على الدول الأخرى.

منذ أيام بسمارك كان قد ظهر احتمال انهيار التوازن الأوروبي على مستوى الدبلوماسية، فكانت الأقليات القومية مثلاً تزداد صخباً في الإمبراطورية العثمانية وفي إمبراطورية الهابسبرغ. والأهم من هذا أن الحكام والشعب معاً فقد فقدوا بالتدريج الشعور بأن السلام أنسب لهم من الحرب من أجل الوصول إلى الأهداف التي يسعون إليها، بل كان يبدو أحياناً أن الناس يرحبون بالحرب، إذ كانت ذكريات آخر الحروب الأوروبية قد بهتت في أذهانهم.

كان بسمارك قد حاول أن يضمن سلام وأمن ألمانيا عن طريق عقد التحالفات مع روسيا والدولة النمساوية الهنغارية وإيطاليا. فمنع فرنسا بذلك من محاولة الانتقام بعد عام 1871، إذ لم يعد باستطاعتها أن تجد حليفاً يساعدها ولا كان بإمكانها أن تهزم ألمانيا بمفردها.

وقد عمل بسمارك بكد ونشاط لكي يضمن الصداقات مع حلفائه، ويضمن أيضاً أن تبقى بريطانيا ملتزمة بانعزالها عن الشؤون الأوروبية التي لاتخصها مباشرة، ولكن التنافس القديم بين روسيا وإمبراطورية الهابسبرغ في جنوب شرقي أوروبا ظل خطراً مستمراً على سياسته. ويعود هذا التنافس إلى مسألة القرن الثامن عشر، التي طرحت منذ بداية التراجع الطويل للإمبراطورية العثمانية ألا وهي: من الذي سوف يحل محلها؟ إذ لم يكن النمساويون يرغبون بأن يحل الروس محلها، لأنهم عندئذٍ سوف يسدون أمامهم الطريق نحو الجنوب على طول نهر الدانوب. كما لم يكن الروس يرغبون بأن يحل محلها، لأنهم عندئذٍ سوف يسدون أمامهم طريق الاستيلاء على مدخل البحر الأسود.

وعندما حارب الروس الأتراك بين عامي 1876-1878 بدا أن النمساويين والبريطانيين قد ينضمون لمساعدة الإمبراطورية العثمانية مثلما فعلوا في عام 1856، ولكن بسمارك نجح في تجنب الخطر في مؤتمر كبير عقد في برلين استطاع فيه أن يكافئ الجميع أو يسكتهم، فأعاد بذلك العلاقات الروسية النمساوية إلى مسار سلس؛ حتى السنوات الأولى من القرن العشرين.

كان بسمارك قد شعر أنه إذا وصلت الأمور إلى مواجهة صريحة بين ملكية هايسبورغ وروسيا فسوف يتوجب عليه أن يقف إلى جانب الأولى، وقد أدى هذا بخلفائه إلى إهمال تحالفهم مع روسيا. وفي عام 1892 عقدت روسيا تحالفاً مع فرنسا، وكان أمراً طبيعياً أن يتحالف هذان المنافسان الاستعماريان لبريطانيا، وقد سبب تحالفهما ضغطاً عليهما بالفعل. كما أنه أخرج فرنسا من عزلتها، وقد تقدر ذات يوم على مواجهة ألمانيا. وهكذا بدأت أوروبا بالانقسام إلى معسكرين من دون أن يلاحظ أحد هذا الأمر.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://resalahmasriyah.mam9.com
Eng. Ahmedzoubaa
Admin
Eng. Ahmedzoubaa


عدد المساهمات : 1216
تاريخ التسجيل : 28/08/2010
العمر : 50

الفصل الثاني عشر - النظام العالمي الأوروبي  Empty
مُساهمةموضوع: رد: الفصل الثاني عشر - النظام العالمي الأوروبي    الفصل الثاني عشر - النظام العالمي الأوروبي  Emptyالخميس 16 يونيو 2011 - 5:45

روسيا القيصرية

كانت روسيا مصدراً واضحاً للقلق وعدم الاستقرار، لم يكن ثمة شك في أنها كانت تعد بين القوى العظمى في عام 1900، ولكن من الصعب أن نقول أكثر من هذا. كانت طاقتها البشرية الواسعة ومواردها الطبيعية الهائلة توحي بأن من المحتم أن تهيمن على شؤون أوروبا الشرقية، بل ربما على شؤون قسم كبير من آسيا أيضاً.

ولكنك كنت ترى فيها أيضاً نقاط ضعف عديدة وواضحة، فقد كانت متأخرة عن أوروبا الغربية من نواح عديدة، وكانت نسبياً أضعف مما كانت عليه في عام 1800، عندما كانت تشبه أوروبا من ناحية أنها غير صناعية أو أكثر سكانها من أهل الريف والمدن الصغيرة، رغم أنها كانت عندئذٍ فريدة من حيث حجمها وتاريخها وموقعها الجغرافي، بيد أن الأمور قد تغيرت بعد مئة عام.

كانت الطريق نحو تحديث المجتمع الروسي مزروعة بالعقبات، فقد كان هناك أولاً تقليد الحكم الأوتوقراطي، إذ لم تضبط سلطة القيصر مثلما ضبط الحكم المطلق من قبل المصالح الراسخة التي فرضت نفسها في البلاد الأخرى. فإذا كان للإصلاح أن يصل إلى روسيا فعليه أن يأتي من فوق، إذ لم يكن ثمة طرق يأتي فيها من خلال مطالب الشعب، ولهذا تأخر الإصلاح فيها كثيراً.

وربما كان القيصر اسكندر الأول يرجو إدخال إصلاحات مثلما ظن البعض، ولكنه في النهاية خيب آمال الذين تطلعوا إليه في ذلك، أما خليفته نيقولا الأول فكان رجلاً بارداً ومتوحشاً ومشبعاً بنظرة عسكرية ضيقة، ولم يفكر في السماح بأية درجة من التحرر قط، لذلك صارت الأوتوقراطية الروسية خلال النصف الأول من القرن التاسع عشر أكثر جموداً من ذي قبل، وصارت البلاد أكثر عزلة عما يجري خارجها من أي وقت مضى.

وأدى هذا إلى العجز عن حل مشاكل روسيا وبالتالي إلى إضعافها وإعاقة النمو الاقتصادي فيها، لقد كانت لدى روسيا في القرن الثامن عشر صناعات هامة في مجال استخراج المعادن وتصنيعها، ولكن الدول الأخرى سرعان ما سبقتها في هذا المجال بمرور القرن التاسع عشر.

كما أن الزراعة فيها عجزت عن تحقيق الارتفاعات في الإنتاج التي كنت تراها في الدول الأخرى، بينما كان عدد سكانها يتابع نموه، فازداد حال أكثر الروس سوءاً على سوء، ويبدو أن ارتفاع انتاج الحبوب خلال القرن التاسع عشر، لم يقدر قط على اللحاق بارتفاع عدد السكان، وكان من الأسباب الهامة لذلك استمرار مؤسسة عتيقة بالية في روسيا هي عبودية الأرض.

فبينما كانت عبودية الأرض تنحسر وتختفي في البلدان الأخرى، كانت في روسيا تزداد انتشاراً وقسوة، وشاع تمرد العبيد وهجماتهم على المشرفين عليهم، بل إن إحدى تلك الهجمات كادت أن تؤدي إلى ثورة واسعة النطاق. وفوق هذا حرمت العبودية الفلاح من حوافز تحسين الزراعة، ومنعت الحركة الحرة للقوى العاملة المطلوبة في المصانع الجديدة. كما أن الفقر قد حد من حاجة الفلاح للبضائع المصنعة.

ولكن من ناحية أخرى يجب أن نعترف بأن هذه العبودية كانت متأصلة في المجتمع الروسي تأصلاً عميقاً إلى حد أن إلغاءها المفاجئ قد يسبب انهيار الحكومة نفسها، لأن الأوتوقراطية كانت تعتمد على أصحاب الأراضي والعزب للقيام بالأعباء التي كانت تقوم بها الحكومة المحلية في البلاد الأخرى.

لقد دفعت الهزيمة في حرب القرم الحكومة إلى الإصلاح، ومات نيقولا الأول في آخر سنوات الحرب، وكان الإجراء الحاسم والأساسي لجميع الإجراءات الأخرى هو تحرير عبيد الأرض في عام 1861 أي قبل أربع سنوات من إلغاء الرق في الولايات المتحدة، ويعود الفضل في هذا الإنجاز العظيم إلى النظام نفسه، وقد حصل بعد قدر كبير من التفكير.

كان جوهر الإصلاح هو أن أولئك العبيد لم يعودوا ملكاً خاصاً لأصحاب العزب بل أصبحوا أفراداً أحراراً قانونياً، ولم يعن هذا عملياً الحرية الكاملة لهم، لأن ترتيبات عديدة جعلت من الصعب على الفلاحين أن يأخذوا إذناً بمغادرة قراهم الأصلية، وقد أبطأت هذه القيود عملية التغيير، ولكنها في النهاية مهدت الطريق لتحديث الزراعة والصناعة في روسيا.

لقد تمت هذه الإصلاحات على عهد الاسكندر الثاني، الذي يعرف بالقيصر المحرر لأنه قضى على عبودية الأرض، وقد أتى حكمه بإصلاحات أخرى أيضاً، إلا أنها لم تمس قط المبدأ المركزي للأوتوقراطية، إذ أنها قد منحت كلها من القيصر نفسه مثل عطايا، ولم يعترف بها كحقوق للشعب الروسي بل كان بإمكانه أن يسحبها. وكان هذا من الأسباب التي جعلت بعض أعداء النظام يرفضون القبول به وبإصلاحاته، واستمر هؤلاء في مؤامراتهم وصراعهم للإحاطة بالدولة، وكثيراً ماكانوا يغتالون المسؤولين، وقد اغتالوا قيصراً ذات مرة.

وشدد هذا بالطبع مخاوف المحافظين الذين كانوا يعتبرون أنه لايجوز تقديم أية تنازلات، وأن التنازلات التي قدمت لابد م سحبها.

لقد ظل معظم الفلاحين يعيشون في ضيق شديد، وكانوا يعانون من أعباء الضرائب الفادحة التي كانت تمول بناء السكك الحديدية وغيرها من أشكال الاستثمار، كما أن اتسع التطور الاقتصادي أدى إلى نشوء أعداد متزايدة من رجال الأعمال والمزارعين ذوي الأفكار التحررية الذين كانوا في حال من الغضب والسخط، فليس من الغريب إذاً أن تندلع الثورة على عهد نيقولا الثاني، وهو آخر القياصرة وأقلهم خيالاً وسعة أفق من نواح عديدة.

لقد عانت روسيا في عام 1904 من هزائم فادحة في حربها مع اليابان، ثم اندلعت الثورة من جديد في العام التالي، وبدأ النظام يترنح، فقدم المزيد من التنازلات، وتأسس نوع من البرلمان أو المجلس الاستشاري يدعى الدوما، ولم يكن ذا شأن كبير ولكنه كان دليلاً على أن عملية تدريب الروس البطيئة على الحكم الذاتي سوف تبدأ أخيراً. والمؤسف أن مجلس الدوما لم يعس إلا سنوات قليلة إلى أن تورطت البلاد في حرب أخرى فأدت إلى الحد من سلطاته.

ولكن مكانة روسيا كقوة عظمى بدت راسخة من جديد في عام 1914، إذ أضحت على طريق التحول إلى قوة صناعية، ومع أنها كانت متأخرة في هذا المجال عن ألمانيا وإنكلترا فإن إنتاجها كان ينمو بسرعة أكبر منهما، وبات من الواضح أن بانتظارها مستقبلاً صناعياً عظيماً.

وبدأت المشكلة الزراعية تستقيم أخيراً، وقد سرعت التشريعات الجديدة نشوء طبقة جديدة من المزارعين الفلاحين الأغنياء الذين يسمون الكولاك، وهم أشبه بمزارعي اليومن في إنكلترا المهتمين بالفعالية وبتحقيق الأرباح؛ فبدأت جهود هؤلاء أخيراً برفع الإنتاجية.

ومع ازدياد ثقة روسيا بنفسها بات حكامها واثقين بقدرتها على الدفاع عن مصالحها، وبأن جيشها يمتلك الوسائل اللازمة لذلك، بفضل شبكة السكك الحديدية والقاعدة الصناعية اللتين مابرحتا تنموان وتتسعان. ولكن مع أنها كانت بالاسم بلداً أوروبية، فقد كانت من ناحية أخرى تجد فيها أحياناً فقر رهيب مثل الذي تجده في آسيا.

وظلت الكنيسة تتدخل في شؤون الحكم والمجتمع مع أن هذه الأمور كانت قد زالت منذ حوالي قرن كامل في أكثر أنحاء أوروبا، وكان فيها عدد قليل من الجامعات والمدارس الجيدة وبعض العلماء والأدباء المتميزين، ولكن السواد الأعظم من شعبها كان من الفلاحين الأميين، والأنكى من ذلك أن الحكم ظل مرتكزاً في النهاية على سلطة الأوتوقراط التي تعتبر مستمدة من الله نفسه، ونتيجة لهذه الأشياء كلها كانت روسيا البلد الوحيدة التي توجد فيها حركة ثورية خطيرة ومتلهفة للإطاحة بالنظام عن طريق القوة.

كان خلفاء بسمارك في قيادة شؤون ألمانيا أقل كفاءة وحكمة منه، كما كانت لديهم أوضاع سياسية داخلية أكثر تعقيداً، وكانت هناك مصالح جديدة تصرخ مطالبة بالاهتمام، وكان بعضها يقتضي تغييرات في السياسة الخارجية. لقد سعوا أحياناً لدعم وتأييد الإمبراطور الألماني فيلهلم الثاني، وهو شاب سريع الانفعال والتهيج، وكان عاملاً حاسماً لأن سلطاته كانت واسعة، وسوف تصبح ألمانيا على عهده عنصراً لايمكن التنبؤ به في الكيمياء الدبلوماسية خلال القرن التالي، بل حتى في تسعينيات القرن التاسع عشر.

لقد حققت الدبلوماسية الأوروبية إنجازاً آخر قبل أن ينهار ذلك السلام الطويل، وهذا الإنجاز هو تسوية مجموعة كبيرة من مسائل المستعمرات من دون حرب، فالحقيقة أن الحرب عندما نشبت في النهاية كانت حول مواضيع أوروبية وليس حول الإمبراطوريات الأوروبية في الخارج كما كان متوقعاً، ولو لاح في بعض الأحيان أن بريطانيا قد تدخل حرباً ضد روسيا أو فرنسا.

وكان جوهر هذا الإنجاز هو اقتسام أفريقيا كلها تقريباً، بصورة سلمية بين الأوروبيين بحلول نهاية القرن، خصوصاً بعد عام 1881 وقد تم هذا الأمر من خلال سلسلة طويلة من الاتفاقيات بين القوى منفردة، وهكذا نالت بريطانيا بحلول عام 1914 حماية على مصر، وصارت ليبيا العثمانية بيد الإيطاليين، وسيطر الفرنسيون على الجزائر، كما تشاركوا مع الإسبان في السيطرة الفعلية على المغرب، بينما كان الساحل الغربي لأفريقيا مقسماً بين القوى الأوروبية ماعدا دولة ليبيريا الصغيرة والمتخلفة.

وكانت الصحراء الكبرى وحوض السنغال وجزء كبير من الكونغو للفرنسيين والبقية للبلجيكيين، أما أراضي البريطانيين فكانت تمتد من رأس الرجاء الصلاح إلى حدود الكونغو، ولكن كان يفصلها عن الساحل وجود الألمان في طنجنيقة والبرتغاليين في موزمبيق. إلا أن أراضي بريطانيا كانت تمتد من كينيا نحو الداخل حتى حدود السودان، وهكذا بقيت إثيوبيا وليبيريا هما الدولتان الوحيدتان المستقلتان في أفريقيا.

وحصلت في بقاع أخرى من العالم تسويات كبيرة أيضاً، فقد تم اقتسام المحيط الهادي، ووسع كل من البريطانيين والفرنسيين والروس أراضيهم في آسيا، وفي نهاية القرن صرت تسمع عن الاقتسام السلمي للصين نفسها، ولم يعد ثمة شك في أن الأوروبيين مازالوا يحددون تنظيم العالم خارج الأمريكتين.

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://resalahmasriyah.mam9.com
 
الفصل الثاني عشر - النظام العالمي الأوروبي
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1
 مواضيع مماثلة
-
» النظام العالمي الجديد
» الفصل العاشر -التاريخ العالمي في طور التشكل
» الفصل الثاني - الدولة الأموية
» الفصل الثاني - أولى الحضارات
» استعباط النظام

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
رسالة مصرية ثقافية :: قسم العلوم التربوية والأدبية :: التاريخ العربي :: كتاب تاريخ العالم-
انتقل الى: