رسالة مصرية ثقافية
مرحبا بك أخي الزائر نشكر زيارتك ونتمني انضمامك للمنتدي
زيارتك تسر إدارة المنتدي ومشاركتكك تسعدنا وتساهم معنا بارتفاع الثقافة العامة
بعض المنتديات الفرعية والموضوعات
لا يمكنك الإطلاع عليها إلا بعد التسجيل كعضو في المنتدي
رسالة مصرية ثقافية
مرحبا بك أخي الزائر نشكر زيارتك ونتمني انضمامك للمنتدي
زيارتك تسر إدارة المنتدي ومشاركتكك تسعدنا وتساهم معنا بارتفاع الثقافة العامة
بعض المنتديات الفرعية والموضوعات
لا يمكنك الإطلاع عليها إلا بعد التسجيل كعضو في المنتدي
رسالة مصرية ثقافية
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

رسالة مصرية ثقافية

ثقافية - علمية - دينية - تربوية
 
الرئيسيةرسالة مصريةأحدث الصورالتسجيلدخول

 

 الفصل السابع - صنع أوروبا

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
Eng. Ahmedzoubaa
Admin
Eng. Ahmedzoubaa


عدد المساهمات : 1216
تاريخ التسجيل : 28/08/2010
العمر : 50

الفصل السابع - صنع أوروبا  Empty
مُساهمةموضوع: الفصل السابع - صنع أوروبا    الفصل السابع - صنع أوروبا  Emptyالأربعاء 15 يونيو 2011 - 0:07

مسيحية القرون الوسطى: الغرب

إن القرون الممتدة من نهاية العصور الكلاسيكية القديمة حتى حوالي عام 1000 م تبدو اليوم أنها كانت العصر الذي تم فيه وضع أسس أوروبا، وتجد فيها معالم هامة على هذا الطريق الذي رسمت ملامح المستقبل الآتي، ولو أن التغير فيها كان بطيئاً ومقلقلاً. ثم تلمس ابتداء من القرن الحادي عشر تبدلاً محسوساً في السرعة، إذ صارت التطورات الجديدة أكثر بروزاً وبدا من الواضح أنها تمهد الطريق لشيء جديد تماماً. لقد كانت تلك بداية عصر من المغامرة والثورة في أوروبا، وسوف يستمر إلى أن يندمج تاريخها بأول عصور التاريخ العالمي، ولهذا السبب كانت فكرة أوروبا موجودة في عام 1500م، بينما لم تكن موجودة قبل ذلك بألف عام. فبحلول ذلك العصر كانت هناك مدن موزعة في أنحاء القارة الأوروبية سوف تصبح التجمعات المدنية الكبرى للسكان في أيامنا، وكان الناس في أوروبا الغربية يحصلون معيشتهم من موارد غير الزراعة، ويمكنك رؤية أنماط معقدة من التجارة يمتد بعضها لمسافات بعيدة ويتم الكثير منها عن طريق البحر، وكانت المهارات التقنية تسبب تغيراً أسرع في أي مكان آخر في العالم. وكان أكثر الأوروبيين يعلمون أن العالم الخارجي مختلف جداً عن العالم الذي يعيشون فيه، مهما سموا ذلك العالم الخارجي وكيفما تخيلوه. لقد كان ذلك العالم عالماً غير مسيحي، أي أن أوروبا كانت متميزة لأنها مسيحية، وكانت في نهاية القرن الخامس عشر تحتضن حضارة مسيحية، وإذا ما فكر الناس وقتها بحضارتها ككيان واحد فإنهم إنما كانوا يعتبرونها العالم المسيحي، وهنا تبدأ قصتنا.



أصول الغرب المسيحي

عندما انهار جهاز الحكم في الغرب، حل محله عدد من الممالك البربرية أسستها كلها الشعوب الجرمانية التي كانت تتدفق إلى الإمبراطورية الغربية ابتداءً من القرن الثالث فما بعد، وكانت في الحقيقة عبارة عن تنظيمات قبلية يسود فيها بعض الرجال الأقوياء. وقد ترومن البرابرة بعض الشيء وتنصروا رويداً رويداً، ولكنهم ظلوا قروناً طويلة في حالة من التخلف، فحتى أكبر ملوك أوروبا لم يكونوا أكثر من قادة عسكريين برابرة يتعلق الناس بهم بحثاً عن حمايتهم وخوفاً مما هو أسوأ. فلقد وضعت أسس هذه الحضارة الجديدة إذاً في بيئة من البربرية والتخلف.

ولم يكن هناك في أوروبا الغربية مدينة ولا حتى روما ذات الماضي العظيم تقارب في الفخامة والبهاء مدن القسطنطينية أو قرطبة أو بغداد أو تشانغ آن، ولا كانت عمارة أوروبا تقارن بعمارة الماضي الهلنستي أو بيزنطة أو إمبراطوريات آسيا، وعندما نشأت العمارة فيها فإنها استعارت أساليب تلك الحضارات. كما أن أوروبا الغربية لم تكن قادرة على إنتاج أي علم أو مدرسة تقارن بما كان في إسبانيا العربية أو آسيا، بل كانت بلاداً نائية متخلفة، وبات سكانها معتادين على الحرمان لا على الوفرة، وكانوا يلتمون معاً تحت حكم محاربيهم لأنهم يحتاجونهم لحمايتهم.

ومن الواضح أن التراث الروماني لم يختف بين ليلة وضحاها، فقد كانت الممالك البربرية تستخدم الكتبة والموظفين عندما تريد حفظ السجلات، وكانت تتعلم أساليب الرومان وتمنح الألقاب الرومانية لزعمائها، كما أنها كانت مضطرة للتعامل مع وجهاء وإداريي الأيام الإمبراطورية السابقة. وقد استمر بعض الماضي الروماني إلى الغرب من الراين والقسم الأعلى من الدانوب، ولو أن من الصعب معرفة مداه، واللغة هي إحدى الدلائل على ذلك، إذ مازالت اللغات اللاتينية التي تسمى أيضاً رومانسية متداولة في إيطاليا وفرنسا وإسبانيا وأماكن غيرها، لأن أعداد البرابرة الوافدين لم تكن كبيرة إلى حد يجرف الأشكال المنتشرة من اللاتينية فيها. وسرعان ما بدأ الكثيرون من أبرز رجال البرابرة يتحدثون اللاتينية، ويكتبون بها أيضاً إذا كانوا يعرفون الكتابة، أما في الجزر البريطانية فقد اختفت تلك اللغة وحلت اللغات الجرمانية للغزاة محل لغة الرومان البريطانيين، كما أن اللاتينية لم تثبت قدميها وراء حدود الإمبراطورية قط.

وكانت أهم مؤسسة خلفتها الإمبراطورية على الإطلاق هي الكنيسة، كان أساقفة الكنيسة في كافة أنحاء أوروبا الغربية شخصيات رئيسية في الشؤون المحلية، وراحوا يضطلعون بالمهام التي كانت تقوم بها الإدارة الإمبراطورية في السابق، وكانوا أحياناً أبناء أسر هامة ذات ثروة وارتباطات قوية تدعم مكانتهم ونفوذهم. وراحت الكنيسة تكتسب بالتدريج مكانة روما السابقة، أي أنها صارت تمثل الحضارة نفسها، والحقيقة أن الخط الفاصل بين المسيحية والوثنية كان هو نفسه الخط الفاصل بين الحضارة الرومانية والبربرية.



البابوية

كان أحد الأساقفة يحظى بمرتبة خاصة من الأهمية، ألا وهو بابا روما، وكانت هناك أسباب عديدة جعلت مكانته ونفوذه ينموان مع مرور القرون، وأهمها بلا جدال هو انفصال الغرب المتزايد عن الشرق. كان القديسان بطرس وبولس قد استشهدا في روما، وكانت فيها منذ عهد بعيد جالية مسيحية كبيرة، لذلك كانت هي الأسقفية الأهم في الغرب، فكان من الطبيعي أن تستلم قيادة الكنيسة فيه. وعندما اكتسح العرب في زمن لاحق شمال أفريقيا وزالت منه الجاليات المسيحية القديمة ازدادت زعامة روما ثباتاً وترسخاً. ثم كانت هناك أيضاً تجارة الحج المجزية التي تفد إليها، وكان الناس يعتقدون أن عظام القديس بطرس مدفونة فيها. وقد ساهم في تدعيم مكانتها عندما انهارت الحكومة إثر غزوات البرابرة لإيطاليا أنها كانت منذ زمن بعيد عاصمة الإمبراطورية، وأن البابا كان يألف التعامل مع السلطات الإمبراطورية العليا، ومع انهيار الإدارة الإمبراطورية كان رجال البابا في أماكن كثيرة مضطرين لاستلام زمام الحكم المحلي. وقد ذهب أحد الباباوات لرؤية أتيلا زعيم قبائل الهون، وقال الناس إن تدخله الشخصي هو الذي صد أولئك البرابرة، وهكذا كانت أهمية البابوية تعلو باستمرار من نواح عديدة.

إن جزءاً كبيراً من تاريخ الكنيسة هو بالضرورة تاريخ البابوية، وهي أفضل مؤسسات المسيحية توثيقاً، لقد اقتضى تقسيم الإمبراطورية القديمة أن تصبح روما هي البطلة الحامية للإيمان في الغرب، وكان ادعاؤها بالسيادة يرتكز على كونها القيمة على رفات القديس بطرس، فكانت هي الأسقفية الرسولية الوحيدة في الغرب بلا منازع. وبعد عهد البابا غريغوريوس الكبير 590-604م وهو مؤسس السيادة البابوية في الكنيسة الغربية، لم يعد بالإمكان الحفاظ على فكرة كنيسة مسيحية واحدة في إمبراطورية واحدة، ولو ظل ثمة ممثل لإمبراطور بيزنطة في مدينة رافينا بإيطاليا. وإن آخر زيارة قام بها إمبراطور بيزنطي إلى روما كانت في عام 663 م وآخر زيارة قام بها بابا إلى القسطنطينية كانت في عام 710م.

لقد ساهمت الدبلوماسية البابوية بالتدريج في نشوء نمط من الممالك المسيحية في أوروبا البربرية، وواجهتها صعوبات جمة في مسعاها هذا، لأن الكثير من الشعوب الجرمانية كانت وثنية، بل إن بعضها كانت تعتنق مذهباً مسيحياً هرطقياً هو المذهب الآريوسي الذي ينكر ألوهية المسيح، ولم يكن بالإمكان أن تقتلع بين ليلة وضحاها التربة التي نشأت فيها هذه المعتقدات وترعرعت. لذلك كانت المسيحية في العادة تتصرف بحذر كبير، فتنصر المقامات الوثنية القديمة مثلاً عن طريق ربطها بشهيد أو ناسك مسيحي، وتتبنى أيام الأعياد الوثنية وتحولها إلى أعياد مسيحية، وهكذا دخل الكثير من السحر والخرافة إلى المسيحية وبقي فيها لزمن طويل. أما في المسائل الجوهرية، مثل إدانة الثأر بالدم أو تأييد مبدأ الزواج المسيحي الأحادي، فقد وقفت الكنيسة موقفاً حازماً، وعلى هذه الصورة تشكلت رويداً رويداً الشعوب التي سوف ينشأ منها الأوروبيون الأوائل.

إن الجزء الوحيد من أوروبا الغربية الذي انقرضت فيها المسيحية هو مقاطعة بريطانيا الرومانية، بينما استمرت هذه الديانة في إيرلندا وعلى حواف اسكتلندا، حيث دفعتها غزوات البرابرة. ومن هذا المحيط عادت الحملات التبشيرية في القرن السادس إلى البلد الذي سوف يسمى إنكلترا خاصة بقيادة القديس كولومبان الذي أسس ديراً في أيونا في عام 563م. ولكن إنكلترا سوف تكون أيضاً هدف أولى البعثات التبشيرية الكبرى التي أرسلتها روما، فقد أعاد المبشرون الرومان الذين كانوا يعملون في كنتربري تأسيس المسيحية في إنكلترا في القرن السابع بمساعدة الكنيسة السلتية مع أنهم كانوا يتنافسون معها وتم لهم ذلك عن طريق تنصير ملوك الممالك الصغيرة التي أنشأتها شعوب السكسون والجوت والإنكليز التي كانت زوارقها تفد إلى الجزيرة منذ أن غادرتها الفيالق الرومانية في عام 407م.


عدل سابقا من قبل Admin-ahmed في الأربعاء 15 يونيو 2011 - 0:16 عدل 1 مرات
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://resalahmasriyah.mam9.com
Eng. Ahmedzoubaa
Admin
Eng. Ahmedzoubaa


عدد المساهمات : 1216
تاريخ التسجيل : 28/08/2010
العمر : 50

الفصل السابع - صنع أوروبا  Empty
مُساهمةموضوع: رد: الفصل السابع - صنع أوروبا    الفصل السابع - صنع أوروبا  Emptyالأربعاء 15 يونيو 2011 - 0:08

حركة الرهبنة

لم تكن البابوية المؤسسة الوحيدة التي لعبت دوراً حاسماً في جعل أوروبا الغربية مسيحية، بل قامت بجانبها مؤسسة أخرى هي الرهبنة، وقد ظهرت الرهبنة أول ما ظهرت في مصر والشرق الأدنى، ولكنها اتخذت في الغرب شكلاً جديداً في القرن السادس، خاصة بفضل عمل رجل بارز من رجالها هو القديس بنديكتس. أسس بنديكتس جماعة رهبانية في جبل كاسينو بجنوب إيطاليا في عام 529 م، فكتب له من خلالها تأثير هائل على طبيعة هذه الحركة في كافة أنحاء الكنيسة الغربية، ووضع لرهبانه مجموعة من القواعد الثابتة كانت هي البذرة التي نشأت منها حركة من الإصلاح الشامل. وكانت تلك القواعد توصي الرهبان بالعمل والدراسة فضلاً عن تأدية واجباتهم الدينية، وقد حلت رهبانيته محل رهبانية القديس كولومبان الايرلندية بعد أن كانت منافسة جدية لها. وكان الرهبان البنديكتيون يتبعون قواعد القديس بنديكتس بحذافيرها، ومن بعدهم نشأت رهبانيات جديدة اتخذت قواعده نموذجاً لها، فظهرت في كافة أنحاء أوروبا جماعات كان الرجال فيها يعملون ويصلون معاً مبشرين الناس المقيمين من حولهم وداعين إياهم لاعتناق المسيحية. وكانت تلك الجماعات مراكز للتعليم والفن وحتى إدارة المزارع، ومن تلك الأديرة صار المزيد والمزيد من الرهبان يخرجون ليصبحوا مستشارين لدى الملوك والأساقفة ويضعوا هيكلاً لرجال الدين العاديين، وقد أصبح أحد الرهبان البابا غريغوريوس الكبير.

وكانت هناك أيضاً جماعات رهبنة نسائية، وليست المسيحية بالطبع الديانة العالمية الوحيدة التي أعطت دوراً للنساء، بل وجدت في بلاد أخرى نساء قديسات وكاهنات ومن يمكننا أن نسميهن راهبات، إلا أن رهبنات النساء في المسيحية مبنية على نمط رهبنة الرجال، كانت جديدة تماماً من حيث حجمها والفرص التي أمنتها للنساء، وقد وجدت مئات الألوف منهن مكاناً لهن في تلك الجماعات الدينية المسيحية مع مرور القرون. لقد اتهمت المسيحية بأنها تركت النساء في مرتبة متدنية جداً، أما فيما قدمته للراهبات فليس عليها من مأخذ، إذ لم تكن هناك في الحقيقة مهن محترمة متاحة للنساء في أي مجتمع قبل الحقبة المسيحية، والمسيحية هي التي مهدت الطريق إلى مستقبل سوف تقوم فيه النساء بالتمريض والدراسة وإدارة الأملاك وتكريس أنفسهن للتأمل والصلاة، التي كن يعتبرنها أسمى واجباتهن. ولم يعط أي مجتمع آخر مثل هذه الفرص لنسائه، ولو أنهن كن يشترينها بنذور الطاعة والعفة وقبول الحياة المعزولة عن العالم.



بنية أوروبية جديدة

إذا نظرت إلى خريطة أوروبا في عام 1000 م أمكنك أن تميز فيها عالماً مسيحياً غربياً مؤلفاً من نصف شبه جزيرة إيبريا تقريباً ومن فرنسا الحالية وألمانيا إلى الغرب من نهر الألب ومن بوهيميا والنمسا وبر إيطاليا وإنكلترا. وعلى حواف هذا العالم كانت تقع ايرلندا واسكتلندا المسيحيتان، كما كانت الممالك الاسكندينافية في طور الدخول ضمن نطاقه. أما خارج هذه المنطقة فكان العرب قد رسخوا أقدامهم في جزء كبير من إسبانيا فضلاً عن صقيلة وكورسيكة وسردينية وجزر البليار. وإلى الشرق كانت تقبع المسيحية السلافية والبيزنطية، وهما عالمان ثقافيان مختلفان جداً عن الغرب، ولو أنهما كانا بمثابة درع مسيحي يحميه من هجمات البدو الشرقيين والإسلام. وكانت أوروبا الغربية معزولة عن البحار تقريباً؛ فصحيح أن سواحل الأطلسي مفتوحة على مصراعيها إلا أنه لم يكن فيه ثمة مكان يمكن الذهاب إليه بعد أن استقر النرويجيون في إيسلندا؛ وأما غرب المتوسط وهو الطريق المؤدية إلى الحضارات الأخرى وتجارتها فقد كانت بحيرة عربية.

وإذا أمعنت النظر أكثر تبدو لك بصورة واضحة بعض التبدلات الهامة والكبرى التي جرت بعد عصور الظلام التالية لانهيار الإمبراطورية الرومانية الغربية. لقد تحركت ثقافة أوروبا وروحها مبتعدة عن البحر المتوسط الذي كان محور الحضارة الكلاسيكية، وإذا كان للحياة في هذه القارة مركز فإنه قد انتقل إلى وادي الراين وروافده، حيث كانت ثروتها القليلة أكثر وفرة. والتغير الثاني هو التقدم التدريجي للديانة المسيحية وامتداد عملية الاستيطان نحو الشرق، ففي عام 1000 م كانت طلائع الحضارة المسيحية قد قطعت مسافة بعيدة وراء الحدود الرومانية القديمة. أما التغير الثالث فهو هدأة ضغط البرابرة بعد ثلاثة أو أربعة قرون من الخطر، صحيح أن العالم المسيحي قد تعرض لخطر المغول بعد ذلك بقرنين، ولكنه لم يعد في الحقيقة فريسة للغزاة الغرباء، ولا عالماً سلبياً تحدد شكله القوى الخارجية، ولو كان من الصعب على الناس أن يشعروا بهذا التغير. كانت الضغوط على أوروبا قد ارتخت إذاً، كما ظهرت فيها بعض ملامح عالم جديد على وشك التوسع. وفي مركز العالم المسيحي الغربي كانت فرنسا وألمانيا في طور التشكل، بينما ظهرت في الجنوب بدايات ثقافة ساحلية متوسطية غربية جديدة ضمت في البداية كتلونيا واللانغدوك وبروفانس، ومع مرور الزمن وتعافي إيطاليا من عصر البربرية كانت هذه الثقافة قد امتدت أكثر نحو الشرق والجنوب. ثم كانت هناك منطقة ثالثة متميزة ومؤلفة من محيط متنوع في الغرب والشمال الغربي والشمال، حيث كانت توجد دول مسيحية في إسبانيا، وفي إنكلترا وجاراتها السلتيات المستقلات وشبه البربريات أي ايرلندا وويلز واسكتلندا، وأخيراً الدول الاسكندينافية. وكانت ثمة أماكن واقعة بين تلك المناطق الكبرى الثلاث يمكنك أن تصنفها مع الواحدة أو الأخرى منها أكيتانيا وغسكونيا وأحياناً برغنديا إلا أن الفروق بين المناطق تبقى حقيقية ومفيدة لفهم الصورة العامة. وكانت تلك المناطق تتميز بعضها عن بعض بتجاربها التاريخية فضلاً عن اختلاف مناخاتها وعروقها البشرية، ولو أن أهلها كانوا يجهلون هذه الأمور كلها.



الإفرنج

لقد ساهمت الشعوب أيضاً في بلوغ هذا الحد من التمايز ضمن أوروبا بالإضافة إلى العوامل الجغرافية، ففي القرن الرابع كان قد استقر ضمن الحدود الرومانية شعب جرماني هو شعب الإفرنج كحلفاء للإمبراطورية. وكانوا يعيشون بين نهري إسكو والموز، أي في أراضي بلجيكا الحالية، بينما بقي فرع آخر من العرق نفسه إلى الشرق من نهر الراين. وكانت منهم مجموعة ترتبط فيما بينها بروابط القربى عرفت بالميروفيين أو الميروفنجيين، وفي عهدهم انقلب الإفرنج في القرن الخامس على مضيفيهم أي حكام غاليا الرومان، ففتحوا جزءاً كبيراً من البلاد إلى الغرب وحتى نهر اللوار جنوباً.

لقد حاز أحد الميروفيين وهو كلوفيس على القبول كحاكم للإفرنج الغربيين والشرقيين معاً، وتزوج أميرة برغندية كاثوليكة، في عام 496 م حسب التقاليد ثم اعتنق المسيحية إثر معركة تذكرنا بتنصر قسطنطين، فنال بذلك دعم الكنيسة الغالية والبابا، وهذا ما مكنه من فرض سيادته في كافة أنحاء غاليا على الفيزيغوط والبرغنديين. ونقل عاصمته إلى مدينة صغيرة تقع على جزيرة ضمن نهر السين كان الرومان يسمونها لوتيسيا، وكان سكانها مسيحيين وكان فيها أساقفة منذ عام 250 م على الأقل وكانوا يعرفون بالـ Parisii ، وهي اليوم باريس. وفيها دفن كلوفيس في النهاية على الطريقة المسيحية فكان أول ملك إفرنجي يدفن بهذه الصورة، وعندما مات تقسمت أراضيه على طريقة الإفرنج المعتادة.

لقد أعيد ضم أجزاء هذه التركة كما أضاف إليها أحفاد كلوفيس أراضي الأوستروغوط الواقعة إلى الشمال من جبال الألب، ولكنها عادت فتقسمت من جديد. إلا أن سيادة الإفرنج استمرت بصورة واضحة على قسم كبير من شمال غربي أوروبا. وكان هذا الشعب البربري حليفاً جديداً وهاماً للكنيسة، وقد نشأت منه قوة جديدة، فكانت هذه بداية نظام إفرنجي جديد في الغرب سوف يؤدي بدوره في النهاية إلى أوروبا جديدة، وسوف تشكل أراضي الإفرنج في العصور الوسطى قلب العالم الغربي. إلا أنها لم تكن بلاداً غنية ولا متطورة من الناحية الثقافية، فقد كانت مدنها أقل عدداً مما هي الحال في الجنوب، وكانت الحياة فيها تعتمد على الزراعة، وكان حكامها عبارة عن مقاتلين برعوا في فن الحرب فاكتسبوا أراضي واسعة. ولكن الإفرنج بعد أن وضعوا هذا الأساس بدؤوا باستيطان ألمانيا، كما صاروا حماة للكنيسة، وتبلورت على أيديهم ملكية مسيحية ذات تقاليد متميزة ورّثوها فيما بعد للمستقبل.

الفصل السابع - صنع أوروبا  Chp7-1

تطور نمو دولة الفرنجة

لقد استمرت سلالة الميروفيين بعد كلوفيس، ولكن تعاقب على عرشها عدد من الملوك كانوا قد خسروا ثرواتهم فصاروا ضعفاء، واضطروا لإعطاء المزيد من الاستقلال للأرستقراطيين الإفرنج. وكان بين هؤلاء الأرستقراطيين أسرة من أوسترازيا، أي أراضي الإفرنج الواقعة إلى الشرق من الراين، مازالت تنمو ويشتد عودها حتى طغت على السلالة الميروفيية. ومنها جاء القائد شارل مارتل، الذي صد تقدم العرب عند تور في عام 732 م كما دعم وساند المبشر القديس بونيفاتيوس الذي نصّر ألمانيا. وكان لعمليه هذين أثر هام في تاريخ أوروبا، وقد ثبتا التحالف مع الكنيسة، وعندما اختار نبلاء الإفرنج الابن الثاني لمارتل ، أي بيبان القصير ملكاً عليهم جاء البابا إلى فرنسا ومسحه بالزيت مثلما كان صموئيل قد مسح شاول وداود، ومنحه لقب نبيل روماني. وكانت البابوية بحاجة لصديقها القوي هذا لأن اللمبرديين كانوا يرهبون روما، وما كانت الإمبراطورية الشرقية لتقدم لها أي مساعدة، كما أنها كانت حينئذٍ أقرب إلى الهرطقة في نظر الكاثوليك. وقد هزم بيبان اللمبرديين وأسس في عام 756م الدول البابوية عندما فتح مدينة رافينا للقديس بطرس، فكان هذا معلماً آخراً في تاريخ أوروبا، وبداية أحد عشر قرناً من السلطة الدنيوية للبابوية ، كان البابا خلالها يحكم أراضيه مثل أي ملك آخر. وأدى هذا أيضاً إلى إصلاح الكنيسة الإفرنجية وإلى مزيد من الاستيطان والتنصير في ألمانيا من خلال الحروب التي شنت ضد السكسون الوثنيين، وإلى دفع العرب إلى الطرف الآخر من جبال البيرينيه*، وهكذا كان هذا المحور الروماني الإفرنجي ذا منفعة كبيرة للكاثوليكية.





* البرانس

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://resalahmasriyah.mam9.com
Eng. Ahmedzoubaa
Admin
Eng. Ahmedzoubaa


عدد المساهمات : 1216
تاريخ التسجيل : 28/08/2010
العمر : 50

الفصل السابع - صنع أوروبا  Empty
مُساهمةموضوع: رد: الفصل السابع - صنع أوروبا    الفصل السابع - صنع أوروبا  Emptyالأربعاء 15 يونيو 2011 - 0:08

شارلمان

لقد تقسمت أراضي بيبان مرة ثانية عند موته، إلا أن التركة الإفرنجية بأكملها توحدت من جديد في عام 771م في ابنه الأكبر شارلمان، وهو أعظم رجال هذه السلالة التي صارت تعرف بسلالة الكاروليين، أو الكارولنجيين وسرعان ما أضحى شارلمان أسطورة. من الواضح أنه كان يجمع صفتي المحارب والملك جرياً على عادات الإفرنج، فكان يهوى الفتوحات وكانت الحرب نشاطه الأساسي، ولكن الشيء الجديد هو الجدية البالغة بل القداسة التي أظهرها في أداء دوره كملك مسيحي، فقد سعى لتعظيم بلاطه والسمو بمكانته بأن أغناه بالعلوم المسيحية، وبرعايته الكبيرة للمعرفة والفنون. وفي مجال الفتوحات تأمن له ضم أراضي كثيرة، وكان لهذا الأمر نواحي دينية أيضاً، لقد أطاح شارلمان باللمبرديين بعد أن أخضعوا إيطاليا وأرهبوا البابوات، واستولى على عرشهم وعلى أراضيهم في شبه الجزيرة، وظل يخوض الحملات في الشرق ثلاثين سنة تم له فيها تنصير شعب السكسون الوثني بالقوة، كما أن محاربة الأفار والوند والسلاف قد مكنته من ضم كرينثيا وبوهيميا وفتحت له طريقاً هاماً على طول نهر الدانوب إلى بيزنطة. وقد وضع حدوداً دفاعية عبر نهر الألب من أجل السيطرة على الدانمركيين، وفي بداية القرن التاسع اقتحم إسبانيا ووضع فيها حدوداً مماثلة عبر جبال البيرينه تمتد جنوباً حتى نهر الإبرو وساحل كتلونيا، وقد تجمعت لديه بذلك أراضٍ كثيرة.

في يوم عيد الميلاد من عام 800 م قام البابا بتتويج شارلمان ونودي به إمبراطوراً، ومازال المؤرخون منذ ذلك الحين يتجادلون حول معنى هذا التتويج. لقد كان هناك إمبراطور يعترف به الجميع ويعيش في القسطنطينية، فهل صار يوجد إمبراطوران اثنان في عالم مسيحي مقسم مثلما كان الحال في أواخر الأزمنة الرومانية؟ كان من الواضح أن لقب الإمبراطور هو ادعاء بالسلطة على شعوب كثيرة، وأن شارلمان باتخاذه هذا اللقب كان يريد أن يقول إنه ليس ملكاً على الإفرنج وحدهم. وربما كانت إيطاليا في البداية هي البلد الأهم بنظره، لأنها تمكنه من الارتباط بماضيها الإمبراطوري فيكون هذا عاملاً موطداً لسلطته لا يتيحه أي بلد آخر. وكان ثمة عامل آخر أيضاً، هو عرفان البابا بجميل شارلمان أو حاجته لدعمه، لأن جنوده كان قد أعادوا للتو البابا ليون الثالث إلى عاصمته، ولكن روي أيضاً عن شارلمان قوله إنه لو علم بما كان البابا ينوي أن يفعله لما دخل كنيسة القديس بطرس، فربما كان يكره عجرفة البابا وادعاءه السلطة.

مهما كان دوافع شارلمان فإن ختمه سرعان ما حمل كتابة تقول إحياء الإمبراطورية الرومانية، وكان هذا ارتباطاً مقصوداً وصريحاً بالماضي العظيم، وقد اعترفت القسطنطينية لاحقاً بصلاحية لقبه هذا في الغرب، ولكن علاقاته ببيزنطة لم تكن سهلة قط، وليس هذا بالأمر الغريب. وكانت اتصالاته بالخلافة العباسية رسمية ولكنها ودية، ولا ننس أن العرب كانوا يهددون بيزنطة، أما أمويو الأندلس فكانت علاقتهم بهم دون هذا لأنهم كانوا قريبين منه بحيث يشكلون خطراً عليه.

كانت حماية الدين من الكفار واجباً من واجبات الملوك المسيحيين، ولكن هذا لا يعني استقلال الكنيسة، بل لقد أخضعها شارلمان بحزم لسلطته، واستخدمها أداة للحكم من خلال أساقفتها. فكان يرأس المجامع الإفرنجية ويفصل في أمور العقيدة بسلطان مثلما كان يفعل يوستينيانس من قبله، ويبدو أنه كان يأمل بإصلاح الكنيستين الإفرنجية والرومانية وبفرض رهبنة القديس بنديكتس عليهما. والحقيقة أن أعمال شارلمان كانت بداية فكرة هامة، هي مسؤولية الملك عن رعاة الحياة الدينية في أراضيه فضلاً عن دوره في حماية الكنيسة.

ربما كان بلاط شارلمان في آخن (اكس لاشابل) بدائياً بالقياس إلى بلاط بيزنطة، أو حتى بالقياس إلى بلاط بعض الممالك البربرية الباكرة، ولكن الفن البيزنطي بدأ يخصب تقاليد أوروبا الشمالية عندما جلب رجاله المواد والأفكار من رافينا لتجميل مدينة آخن، كما أن النماذج الكلاسيكية قد أثرت أيضاً في فناني شارلمان. إلا أن أبرز الأشياء التي زها بها بلاطه إنما هي كونه مركزاً للفكر من خلال علمائه الكبار، وكان الكتبة ينسخون النصوص بخط جديد يسمى الخط الكارولي الصغير، وسوف يصبح هذا أداة من الأدوات العظيمة لنشر الثقافة في الغرب. وكان شارلمان يأمل باستخدامه في صنع نسخ أصلية صحيحة من قواعد القديس بنديكتس لكي يقدمها لكل دير في مملكته، ولكن الأهمية الكبرى لهذا الخط إنما تكمن في صنع نسخ من الكتاب المقدس. وكان الكتاب المقدس هو الكتاب الأساسي في مكتبات الأديرة التي صارت تجمع الآن في كافة الأراضي الإفرنجية، ولم يقتصر هذا الأمر على المغزى الديني، لأن تاريخ اليهود في العهد القديم حافل بالصور المثالية للملوك المحاربين الأتقياء والممسوحين بالزيت، وكان هؤلاء نماذج من المفيد أن يروج لها. وقد استمر نسخ النصوص وانتشارها قرناً كاملاً بعد أن أعطي دفعته الأولى في آخن، فكان هذا جوهر ما يسمى النهضة الكارولية. ولم تكن كلمة نهضة تحمل أياً من معانيها الدنيوية التي اكتسبتها في أزمنة لاحقة، بل كانت نهضة مسيحية جداً، وكان الغرض منها تدريب رجال الدين من أجل إحياء الكنيسة الإفرنجية وتنشيطها والاستمرار بدفع الإيمان شرقاً عن طريق البعثات التبشيرية. كان هناك عدد من الرجال الإيرلنديين والأنكلوسكسون في مدرسة القصر بآخن، ومنهم العالم المرموق ألكوين من مدينة يورك، التي كانت مركزاً كبيراً للمعارف الإنكليزية، وكان أشهر تلاميذ ألكوين هو شارلمان نفسه، ولكن كان لديه أيضاً عدد من التلامذة الآخرين، كما كان يدير مكتبة القصر. وقد أصبح رئيساً للدير في مدينة تور وكانت له فيها مدرسة يشرح فيها الكتاب الكلاسيكيين لرجال سوف يحكمون الكنيسة الإفرنجية في الجيل التالي.

إن ألكوين هذا دليل لافت على انتقال مركز الثقل الثقافي في أوروبا نحو الشمال وابتعاده عن العالم الكلاسيكي. وكان هناك عدداً من الإفرنج فيزيغوط ولمبرديون وإيطاليون ساهموا جميعاً في حركة التعليم والنسخ وتأسيس الأديرة الجديدة التي امتدت إلى شرق فرانسيا وغربها. وكان من هؤلاء العالم أينهارد، الذي كتب سيرة عن شارلمان نقرأ فيها أنه كان يميل إلى الثرثرة في بعض الأحيان، وأنه كان شغوفاً بالصيد ويحب السباحة والاستحمام في ينابيع المياه الحارة، وهذا سبب اختياره لآخن كمكان إقامة له، ويظهر شارلمان أيضاً في كتاب أينهارد بصورة رجل فكر يتحدث اللاتينية فضلاً عن الإفرنجية ويفهم اليونانية. ويدعم مصداقية الرواية أن كاتبها يتحدث عن محاولات شارلمان للكتابة وكيف كان يحتفظ بالدفاتر تحت وسادته لكي يكتب وهو في السرير، ثم يضيف أينهارد " ولكن رغم أنه حاول بمجهود كبير فإنه قد ابتدأ في عمر متأخر".

الفصل السابع - صنع أوروبا  Chp7-2

إمبراطورية شارلمان

ترتسم لك عن شارلمان صورة حية لرجل وقور وجليل، يسعى لكي يتحول من زعيم عسكري إلى حاكم إمبراطورية مسيحية كبيرة، وقد أصاب في مسعاه هذا نجاحاً كبيراً. ومن الواضح أن حضرته كانت مهيبة، إذ يبدو أنه كان أطول قامة بكثير من الرجال الذين من حوله، وكان الناس يرون فيه روح ملك بهيج وعادل وكريم فضلاً عن صورة البطل التي سيتغنى بها الشعراء والمنشدون طوال قرون عديدة. والحقيقة أن شارلمان قد أضفى على الملكية الجرمانية أبهة جديدة، عندما ابتدأ حكمه كان بلاطه متنقلاً بعد، فكان يمضى عامه في الترحال بين أراضيه المختلفة، ولكنه عندما مات خلف قصراً وخزينة مال في الموقع الذي دفن فيه. وقد تمكن من إصلاح الأوزان والمقاييس، وأعطى أوروبا تقسيم الجنيه الفضي إلى 240 بنس –ديناراً- وهو تقسيم سوف يستمر في الجزر البريطانية طوال أحد عشر قرناً. ولكن سلطته كانت في الوقت نفسه سلطة شخصية جداً، وكانت ترتكز في المحصلة على أراضيه ومنتجاتها الزراعية، وعلى الرجالات الكبار الذين أبقاهم قريبين منه لكي يستطيع مراقبتهم، وكان أتباعه هؤلاء مرتبطين به بأقسام مقدسة، ولكنهم بدؤوا يسببون له المتاعب مع تقدمه بالسن.



بدايات فرنسا وألمانيا

لم يتمتع خلفاء شارلمان بسلطته ولا بخبرته، وسرعان ما تقسمت أراضيه بعد موته وراح الرجال يلتمون حول بعض الأفراد مشكلين مجموعة من الولاءات المحلية، وفي النهاية تقاسم ثلاثة من أحفاده تركة الإفرنج في معاهدة فيردان في عام 843 م، وهي تسوية هامة جداً في تحديد خريطة أوروبا المستقبلية. لقد رسمت معاهدة فيردان مملكة في الوسط مؤلفة من أراضي الإفرنج التي مركزها الضفة الغربية لوادي الراين وتضم مدينة آخن فأعطتها إلى لوثير وهو الإمبراطور الحاكم ولهذا سميت لوثارينجيا فضلاً عن مملكة إيطاليا. وإلى الشرق منها أعطيت الأراضي ذات اللغة التوتونية الواقعة بين الراين والحدود الألمانية إلى لويس الألماني، وأخيراً أعطي الغرب شريط من الأرض يسمى غسكونيا وسبتمانيا وأكيتانيا إلى أخ غير شقيق لهذين الرجلين هو شارل الأصلع. وكان هذا التقسيم في الحقيقة أول مرة تتميز فيها فرنسا عن ألمانيا، أما لوثارينجيا فلم تكن تتمتع بوحدة لغوية وإثنية وجغرافية واقتصادية هامة قياساً إلى المملكتين الأخريين، لأنها إنما اصطنعت بسبب الحاجة لإرضاء الأبناء الثلاثة. وسوف يكون قسم كبير من تاريخ فرنسا وألمانيا عبارة عن محاولات لاقتسام هذه الأراضي فيما بينهما.

لقد ضعف الملوك الكارولييون بمرور الزمن، فلم يستمروا في فرانسيا الغربية إلا قرناً واحداً بعد شارل الأصلع، وفي نهاية حكمه كانت كل من بريتانيا وفلاندر وأكيتانيا مستقلة من الناحية الفعلية. لذلك استهلت الملكية الإفرنجية الغربية القرن العاشر وقد نال منها الضعف والوهن، وعجز شارل الثالث عن طرد النورمان، فتنازل لقائدهم رولو في عام 911 عن أراضٍ واقعة في نورمنديا الحالية. وتعمد رولو في العام التالي وراح يبني الدوقية التي أدى فيها الولاء للكاروليين، وظل مواطنوه الاسكندينافيين يفدون ويستقرون هناك حتى نهاية القرن العاشر، ولكنهم سرعان ما تفرنسوا من ناحيتي اللغة والقانون. وفي هذه الأثناء أدت الفوضى حول موضوع الخلافة في فرانسيا الغربية إلى بزوغ كونت من باريس راح يبني سلطة أسرته باطراد حول أراضيهم الواقعة في المنطقة المسماة جزيرة فرنسا-ايل دو فرانس- وسوف تكون هذه نواة فرنسا القادمة. وعندما مات آخر الحكام الكاروليين للإفرنج الغربيين في عام 987 انتخب هوغ كابه ابن كونت باريس ملكاً، وسوف تحكم عائلة طوال أربعمائة عام، وعدا عن هذا كان الإفرنجيون الغربيون عندئذٍ مقسمين إلى حوالي اثنتي عشر وحدة يحكمها زعماء على درجات متباينة من المكانة والاستقلال.




الإمبراطورية الرومانية المقدسة






800م

تتويج شارلمان

840-843 م

تقسيم الإمبراطورية الكارولية عند موت لويس الورع. لوثير الأول يتخذ لقب إمبراطور ( مع إيطاليا ولوثارينجيا)

955 م

معركة لشفلد: أوتو الكبير يقضي بهذا النصر أخيراً على خطر المجر

966-972 م

ثالث حملات أوتو الأول إلى إيطاليا: خلع أحد البابوات وإعادة آخر وترشيح ثالث

998 م

أوتو الثالث يخلع البابا

1046 م

هنري الثالث يخلع ثلاث بابوات متنافسين ويعيد تثبيت حقه بترشيح البابا

1075-1122 م

الصراع على تنصيب الأساقفة الذي انتهى بصورة رسمية في اتفاق ورمز

1125 م

تأسيس مبدأ الانتخاب كطريقة لاختيار الأباطرة مع ارتقاء لوثير الثاني العرش

1138 م

سلالة هوهنشتاوفن الإمبراطورية تبدأ بكنراد الثالث، يتلوها صراع طويل مع البابوية

1152-1190 م

فريدريك الأول (بربروس) يبدأ باستخدام لقب الإمبراطورية الرومانية المقدسة

1183 م

صلح كونستانس (بين الإمبراطور والبابا والمدن اللمبردية) يمهد الطريق لافتراق ألمانيا وإيطاليا تحت السيادة الاسمية للإمبراطور

1245 م

البابا إنوسنتس الرابع يخلع فريدريك الثاني في مجمع ليون

1268 م

اغتيال آخر أمراء هوهنتشتاوفن

1356 م

شارل الرابع يضع دستور الإمبراطورية الرومانية المقدسة حتى 1806م.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://resalahmasriyah.mam9.com
Eng. Ahmedzoubaa
Admin
Eng. Ahmedzoubaa


عدد المساهمات : 1216
تاريخ التسجيل : 28/08/2010
العمر : 50

الفصل السابع - صنع أوروبا  Empty
مُساهمةموضوع: رد: الفصل السابع - صنع أوروبا    الفصل السابع - صنع أوروبا  Emptyالأربعاء 15 يونيو 2011 - 0:09

الأباطرة الألمان

أما على الطرف الآخر من الراين فقد تفككت البلاد بعد موت آخر ملك كارولي في عام 911م بصورة صاغت نمط السياسة في ألمانيا طوال ألف عام بعدها، وصار الزعماء المحليون يبدون المزيد من السلطة، وكانت الولاءات القبلية أقوى منها في الغرب، فنتجت عن هذا ست دوقيات قوية. واختار الدوقات حاك إحداها وهو كنراد الفرنكوني ملكاً عليهم لأنهم كانوا يريدون زعيماً قوياً يواجه خطر المجر، وقد مسحه الأساقفة عند تتويجه فكان بذلك أول حاكم للإفرنج الشرقيين يتوج بهذه الطريقة. ولكن كنراد لم ينجح في معالجة أمر المجر، كما أنه حاول بدعم من الكنيسة أن يعلي من شأن أسرته ومنصبه، فقام الدوقات عندئذٍ بلم شعوبهم من حولهم من أجل حماية استقلالهم، وكانت أهم تلك الشعوب أربعة هم السكسونيون والبافاريون والسوابيون والفرنكونيون، وهو الاسم الذي صار يطلق على الإفرنج الشرقيين، ثم لجأ كنراد إلى تعيين أحد الثوار خليفة له ووافق عليه الدوقات، وفي عام 919 م أصبح هنري وهو دوقاً سكسونياً ملكاً، وعرف بلقب هنري الصياد وقد حكم هو وأحفاده أي الأباطرة السكسونيين أو الأوتونيين الإفرنج الشرقيين حتى عام 1024م.

لقد تجنب هنري الصياد التتويج الكنسي، وكانت لديه أملاك عائلية كبيرة، وكان يحوز على ولاءات قبائل السكسون، وقد تمكن من ردع الزعماء الكبار بفضل كفاءته العسكرية العالية. ثم أنه استولى على لوثارينجيا من الإفرنج الغربيين، ووضع الحدود الدفاعية الجديدة على نهر الألب بعد حملاته الناجحة ضد الوند، وجعل من الدنمرك مملكة تابعة له وبدأ بتنصيرها، كما هزم المجريين، وبذلك توفرت لابنه أوتو تركة غنية عرف كيف يستفيد منها.

وتابع أوتو الأول عمل أبيه في تأديب الدوقات، وفي عام 955م ألحق بالمجريين هزيمة كسرت شوكتهم إلى الأبد، كما أنه أعاد استيطان النمسا أي حدود شارلمان الشرقية، ورغم أنه واجه بعض المعارضة فقد جعل من الكنيسة أداة موالية له، فكان رجال الكنيسة في ألمانيا يتطلعون إلى الملكية لكي تؤمن لهم الحماية من اعتداءات العلمانيين، ويقال أن أوتو قد أنهى مرحلة الفوضى في أوروبا الوسطى، وعلى عهده بدأ الشعور بما يمكن أن يسمى ألمانيا الواعية لذاتها.

لقد توج أوتو في آخن في عام 936 وقبل المسح بالزيت الذي تجنبه أبوه، وخدمه الدوقات الألمان كأتباع له على الطريقة الكارولية القديمة أثناء وليمة تتويجه. وبعد خمس عشرة سنة غزا إيطاليا واتخذ عرشها، وقد بقي البابا عشر سنوات رافضاً أن يتوجه إمبراطوراً إلى أن قبل أخيراً فتم التتويج عام 962م، فتوحد بذلك عرشا ألمانيا وإيطاليا من جديد، وكانت هذه بداية ما سيعرف بالإمبراطورية الرومانية المقدسة، التي سوف تستمر ألف عام تقريباً، وهي لم تكن واسعة مثل إمبراطورية شارلمان ولم يسيطر أوتو على الكنيسة مثله، إلا أنها كانت على كل حال إنجازاً كبيراً. ومن بعده ظل خلفاؤه يمارسون ما ابتدأه من سلطة إلى الجنوب من جبال الألب، فقد نصب حفيده أوتو الثالث أحد أبناء عمومته بابا فكان هذا أول ألماني يرتقي كرسي القديس بطرس كما أنه عين بعد ذلك أول بابا فرنسي. ويبدو أن روما قد أسرت قلبه واستحوذت عليه فاستقر فيها، وقد سمى نفسه أوغسطس مثل سلفيه المباشرين، كما صارت أختامه تحمل من جديد شعار إحياء الإمبراطورية الرومانية، وهي تعني عنده الإمبراطورية المسيحية. وكانت أمه أميرة بيزنطية لذلك اعتبر نفسه قسطنطين جديد، وكان يحلم بأوروبا منظمة بصورة تسلسل هرمي من الملوك تحت السيادة العليا للإمبراطور، وهو مفهوم شرقي، وبعد موته عام 1002 أخذ جثمانه إلى آخن كما أمر ليدفن إلى جانب شارلمان.

ولم يخلف أوتو وريثاً له، أما خليفته المنتخب هنري الثاني فقد كان جوهره حاكماً ألمانياً لا إمبراطوراً على الغرب، وتقول الكتابة المحفورة على ختمه إحياء مملكة الإفرنج وكان اهتمامه منصباً على إحلال السلام في شرق ألمانيا وتنصيرها. صحيح أنه قام بثلاث حملات إلى إيطاليا إلا أن سلطته فيها كانت تعتمد على تأليب الأحزاب بعضها ضد بعض، ومعه بدأ الأسلوب البيزنطي للإمبراطورية الأوتونية بالأفول. ورغم أن فكرة الإمبراطورية الغربية طلت لها جاذبيتها وسحرها لدى الملوك في بداية القرن الحادي عشر، فإن تركة الكاروليين كانت في الحقيقة قد تفككت إلى أجزاء صغيرة منذ زمن طويل، فكانت ألمانيا حقيقة واقعة، ولو أنها غير متماسكة بعد وغير موجودة في أذهان الناس. كما كان الخط الأساسي لمستقبل فرنسا قد وضع أيضاً، ولو لم يكن بإمكان الناس أن يروه، ورغم أن سيادة الكابيتيين على أجزاء فرانسيا الغربية ظلت ضعيفة، فقد كانت بحوزتهم أراضٍ ملكية ذات موقع مركزي وتضم باريس نفسها، فضلاً عن أنهم كانوا يتمتعون بصداقة الكنيسة.



أوروبا الجنوبية

أما الجزء الآخر الكبير من تركة الكاروليين فهو إيطاليا، كانت إيطاليا منذ القرن السابع تتطور مبتعدة عن أوروبا الشمالية لكي تعود وتبزغ كجزء من أوروبا المتوسطية. وكثيراً ما ظل البابوات في خطر حتى بعد أن أطاح شارلمان باللمبرديين، إذ كان عليهم أن يواجهوا سلطة الزعماء الإيطاليين المتزايدة فضلاً عن أرستقراطيتهم الرومانية. وكانت الكنيسة الغربية حينئذٍ في أدنى حالاتها، وكان يعوزها التماسك والوحدة، وتبين معاملة الأوتونيين للبابوية مدى ضعف سلطتها، وقد أدى هذا الوضع إلى انتشار التمزق والفوضى في أراضي إيطاليا، فكان الشمال عبارة عن دويلات إقطاعية متناثرة، وكانت البندقية في ذلك الحين جمهورية مستقلة ناجحة تندفع إلى الأمام في بحر الأدرياتيك، وكان حاكمها قد اتخذ لتوه لقب الدوق، وربما كانت أقرب إلى أن تكون قوة شرقية أدرياتيكية منها قوة متوسطية. وكان هناك دول مدن جمهورية في الجنوب في غايتا وأمالفي ونابولي، وعبر منتصف شبه الجزيرة كانت تمتد الدول البابوية، وعليها كلها كان يخيم شبح الغارات الإسلامية حتى بيزا شمالاً، بينما ظهرت إمارات إسلامية في ترانتو وباري في القرن التاسع. ولن تدوم هذه الإمارات طويلاً، ولكن العرب أتموا فتح صقلية في عام 902م، وسوف يحكموها قرناً ونصف القرن ويتركون فيها آثاراً عميقة.

لقد صاغ العرب أيضاً مصير سواحل أوروبا المتوسطية الغربية الأخرى، ففضلاً عن استيطانهم إسبانيا كانت لهم قواعد ثابتة إلى حد ما في منطقة بروفانس إحداها في سان تروبيه، لذلك كانت علاقات سكان سواحل أوروبا المتوسطية بالعرب معقدة، وكان العرب بالنسبة لهم قطاع طرق وتجاراً في الوقت نفسه. وفي جنوب فرنسا وكتلونيا كان الفتح الإفرنجي قد حل محل الفتح القوطي، ولكن ظلت فيها آثار مادية تذكر بالماضي الروماني، كما كانت الزراعة المتوسطية واسعة الانتشار، ومن الملامح الأخرى المميزة لهذه المنطقة ظهور عائلات من اللغات اللاتينية الرومانسية في الجنوب، كانت اللغتان الكتلانية والبروفنسالية أطولها عمراً.



النورمان (أهل الشمال)

لطالما لعب النورمان الوثنيون دوراً أساسياً في تشكيل تاريخ الجزر البريطانية والحواف الشمالية للمسيحية. وقد بدأ هؤلاء الاسكندينافيون بالتحرك منذ القرن الثامن، وكان السبب الأرجح هو زيادة عدد السكان. وكانوا مجهزين بقوارب طويلة ذات مجاديف وأشرعة قادرة على احتواء عائلات كبيرة مع أغراضها وحيواناتها لستة أو سبعة أيام في البحر، وبها اندفعوا ليزرعوا حضارة جديدة سوف تمتد من غرينلند حتى كييف. فالنرويجيون كانوا يميلون للاستيطان، والسويديون الذين اقتحموا روسيا وعرفوا في سجلاتها باسم الفاريغ كانوا أكثر انشغالاً بالتجارة، بينما قام الدنمركيون بالقسم الأكبر من أعمال السلب والنهب والقرصنة. ولكن الحقيقة أن الشعوب الاسكندينافية المهاجرة قد ساهمت كلها في هذه الأنشطة بدرجات مختلفة، ويسمى الذين شاركوا فيها عادة الفايكنغ بلا تمييز بينهم، وهي كلمة تعني طواف البحر أو القرصان.

كان الاستيطان أبهر إنجازات أهل الشمال، فقد حلوا بشكل كامل محل شعب البكت في أرخبيلي الأوركناي والشتلند، ومنها مدوا حكمهم إلى أرخبيل الفارو، الذي لم يسكنه قبل ذلك إلا عدد قليل من الرهبان الايرلنديين مع خرافهم، وجزيرة مان أيضاً. وكانت هذه المستوطنات أطول عمراً وأعمق من مستوطناتهم في بر اسكتلندا وايرلندا، حيث بدأت في القرن التاسع، ولكن اللغة الايرلندية تشهد على أهميتها لأنها أخذت عنها كلمات نورمانية في مجال التجارة، كما أن الفايكنغ أسسوا مدينة دبلن كمحطة تجارية. إلا أن أنجح مستوطناتهم على الإطلاق إنما كانت جزيرة أيسلندا، وكان الرهبان الايرلنديون المقيمون فيها يتوقعون هم أيضاً قدوم النورمان، ولكنهم لم يفدوا بأعداد كبيرة حتى نهاية القرن التاسع، وربما بلغ عددهم فيها حوالي 100.000 كانوا يعيشون على الزراعة وصيد السمك من أجل تأمين طعامهن وصنع السمك المملح الذي كانوا يتاجرون به. وفي تلك السنة تأسست الدولة الأيسلندية، واجتمع مجلس althing للمرة الأولى، وهو مجلس مكون من وجهاء الجماعة، وليس بأول برلمان أوروبي كما رآه البعض لاحقاً.

وبعد أيسلندا نشأت مستوطنات أخرى في غرينلاند في القرن العاشر، وقد بقي النورمان فيها خمسمائة سنة قبل أن يزولوا، أما عن استكشافهم واستيطانهم إلى الغرب منها فلا نعرف الشيء الكثير، وتخبرنا قصائد الساغة، وهي قصائد بطولية تدور حول أيسلندا في العصور الوسطى، عن استكشاف بلاد فنلند، حيث وجد النورمان الكرمة البرية تنمو، وعن ولادة طفل هناك عادت أمه بعد ذلك إلى أيسلندا وسافرت من جديد حتى روما في رحلة حج قبل أن تستقر في معتزل مقدس ببلدها الأصلي. وقد وجدت في نيوفوندلند مستوطنة يرجح أن تكون نورمانية، ولكن لا يمكننا في الوقت الحالي أن نذهب إلى أبعد من هذا.

إلا أن نشاطات الفايكنغ الاستيطانية والتجارية هذه قد غابت عن أنظار الناس في أوروبا الغربية منذ البداية، وطغى عليها التأثير الفظيع لعمليات السلب والنهب التي اشتهروا بها، وكانت لديهم أيضاً بعض العادات المتوحشة، مثل التعذيب عن طريق تمديد الأطراف، ولكن الحقيقة أن هذه كانت حال أكثر البرابرة. وكان رجال الكنيسة أكثر من روعتهم هذه الغارات الوثنية، لأن كنائسهم وأديرتهم كانت غنية بالمعادن الثمينة والمؤن الغذائية، فكانت على الدوام هدفاً شهياً للفايكنغ. ولم يكن هؤلاء أول من أحرق الأديرة في ايرلندا، ولكن لاريب أن تأثيرهم على المسيحية الشمالية والغربية كان تأثيراً مروعاً. فقد هاجموا إنكلترا للمرة الأولى في عام 793 م، وايرلندا بعدها بسنتين، وفي النصف الأول من القرن التاسع بدأ الدنمركيون بمضايقة جزر فريزيا عاماً بعد عام، وراحوا ينهبون المدن نفسها المرة تلو الأخرى. ثم هاجموا ساحل فرنسا، وفي عام 842 نهبوا مدينة نانت وقاموا فيها بمذبحة كبيرة. وقد كتب مؤرخ إفرنجي ممتفجعاً: "إن مد الفايكنغ الذي لا ينتهي ما برح يتنامي". كما هوجمت مدن واقعة في داخل البلاد، مثل باريس وليموج وأورليان وتور وأنغوليم، وسرعان ما عانت منهم إسبانيا والعرب أيضاً، لأنهم اكتسحوا اشبيليا في عام 844م، بل أنهم أغاروا في عام 859م على مدينة نيم ونهبوا مدينة بيزا.

لقد سببت هذه الهجمات الرهيبة تغيرات كبيرة في الشعوب التي حلت بها، خاصة بين الإفرنج الغربيين، لأن الغارات على السواحل كانت مباغتة لا يمكن التنبؤ بها ولا مقاومتها بصورة فعالة، وقد ألقت عمليات التخريب مسؤوليات جديدة على عاتق الزعماء المحليين، فراحت السلطة المركزية والملكية تنهار وصار الناس يتطلعون إلى سادتهم المحليين من أجل حمايتهم. ولكن الحقيقة أن محاولات الحكام لمواجهة أخطار الفايكنغ لم تكن فاشلة على الدوام، بل كان بالإمكان هزمهم وقد هزموا فعلاً إذا ما استدرجوا للاشتباك في معارك واسعة، وكان الدفاع عن المراكز الأساسية في الغرب المسيحي ناجحاً بصورة عامة، ولو أن الحكام كثيراً ما اضطروا لدفع ما سماه الإنكليز ضريبة التاج الدنمركي وهي عبارة عن جزية كانوا يؤدوها للفايكنغ من أجل أن يدرؤوا شرهم.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://resalahmasriyah.mam9.com
Eng. Ahmedzoubaa
Admin
Eng. Ahmedzoubaa


عدد المساهمات : 1216
تاريخ التسجيل : 28/08/2010
العمر : 50

الفصل السابع - صنع أوروبا  Empty
مُساهمةموضوع: رد: الفصل السابع - صنع أوروبا    الفصل السابع - صنع أوروبا  Emptyالأربعاء 15 يونيو 2011 - 0:10

انكلترا

وسرعان ما أصبحت انكلترا أيضاً هدفاً أساسياً لغزوات الفايكنغ الدنمركية، كانت ممالك إنكلترا الوثنية قد تنصرت بشكل واسع بحلول القرن التاسع، وكانت البعثة التبشيرية الرومانية التي تأسست في كنتربري في عام 597م قد نافست الكنيسة السلتية الأقدم حتى عام 664م، وكان ذلك العام حاسماً إذ عقد فيه مجمع كنسي في وتبي وأعلن فيه ملك من نورثمبريا عن اتخاذ تاريخ الفصح التي حددته روما، فكان هذا خياراً رمزياً حدد أن مستقبل إنكلترا سوف يرتبط بالتقاليد الرومانية وليس بالتقاليد السلتية. وكانت بعض الممالك الإنكليزية تقوى بين حين وآخر فتصير لها بعض السطوة على الأخريات، ولكن أياً منها لم تكن قادرة على مواجهة موجة الهجمات الدنمركية المتصاعدة منذ عام 851 م وقد أدت هذه الغزوات إلى احتلال ثلثي البلاد وتأسيس مناطق واسعة من المستوطنات، وصار شعب الأنكلوسكسون في خطر الارتداد إلى الوثنية والاندماج في عالم الثقافة الاسكندينافية، إلا أنه قد أنقذ من هذا المصير على يد ألفريد الكبير ملك وسكس.

إن الملك ألفريد هو أول رجل إنكليزي يجب أن يظهر اسمه في هذا الكتاب، وهو أيضاً أول بطل قومي إنكليزي. عندما كان طفلاً في الرابعة أخذه أبوه إلى روما ومنحه البابا ألقاباً فخرية، وكانت ملكية وسكس مرتبطة بالمسيحية ارتباطاً وثيقاً لا تفصم عراه. وكان ألفريد يعتبر نفسه حامي المسيحية من الوثنية وحامي إنكلترا من الغزاة الأجانب في الوقت نفسه، وفي عام 871 م ألحق أول هزيمة حاسمة بجيش دنمركي في إنكلترا، واللافت أن الملك الدنمركي قَبِلَ بالانسحاب بعد سنوات قليلة من وسكس وباعتناق المسيحية أيضاً، فكانت هذه علامة على أن الدنمركيين سوف يبقون في إنكلترا، ولكن أيضاً على أن بالإمكان تفريق بعضهم عن بعض. وسرعان ما أصبح ألفريد زعيم الملوك الإنكليز الباقين جميعاً، ولم يبق في النهاية من ملك سواه، وقد استعاد لندن، وعندما مات في عام 899 م كانت أسوأ مراحل الغارات الدنمركية قد ولت، وسوف يحكم أحفاده البلاد موحدة، وقد قبل بحكمهم الجميع حتى المستوطنين في أراضي القانون الدنمركي، وهي الأرض التي حددها ألفريد والتي مازالت تتميز حتى يومنا هذا بأسماء اسكندنافية للأماكن وأساليب اسكندنافية في الكلام.

لقد أسس ألفريد سلسلة من القلاع كجزء من نظام جديد للدفاع عن البلاد عن طريق تجنيد السكان المحليين، ومكنت هذه القلاع من زيادة تقليص أراضي القانون الدنمركي، كما وضعت جزءاً كبيراً من نمط الحياة القادمة في إنكلترا، وبنيت من حولها مدن مازالت مواقعها مسكونة حتى اليوم. وأخيراً فإن ألفريد قد أقدم بموارده الضئيلة على عملية إحياء شعبه ثقافياً وفكرياً، فراح عملاء بلاطه ينسخون الأعمال ويترجمونها كما في بلاط شارلمان، وأتاح هذا لنبلاء الأنكلوسكسون ورجال دينهم أن يقرؤوا الكتاب المقدس بالأخص وغيره من الكتب بلغتهم. وكانت هذه التجديدات علامة على بداية عصر عظيم في إنكلترا، فقد حدثت نهضة في حركة الرهبنة بعثت الحياة في الكنيسة، وظهرت بنية حكومية محلية مكونة من مقاطعات استمرت بعض حدودها حتى عام 1974م ، كما أمكن ضبط الدنمركيين في مملكة متحدة خلال نصف قرن من الاضطرابات. ولم تهن الملكية الأنكلوسكسونية إلا عندما ضاعت الكفاءة من سلالة ألفريد، فقام الفايكنغ عندئذٍ بهجوم جديد ودفعت مبالغ طائلة من المال جزية للتاج الدنمركي. وأطاح أحد الملوك الدنمركيين (وهو مسيحي هذه المرة) بالملك الإنكليزي، ثم مات مخلفاً ابناً صغير السن لحكم الأراضي التي فتحها، وكان هذا هو الملك الشهير كنوت، الذي أصبحت إنكلترا على عهده لبرهة قصيرة جداً جزءاً من إمبراطورية دنمركية كبيرة (1006-1035)م ، ثم حل بإنكلترا غزو نرويجي كبير وأخير في عام 1066، ولكنه تحطم في معركة ستامفرد بريدج.

لقد خلفت الحضارة الاسكندنافية تراثاً هاماً في أوروبا، مثل دوقية نورمنديا وأدب الساغة، ولكنها لم تكن في المحصلة إلا مرحلة من مراحل تاريخها، واندمج النورمان رويداً رويداً بسكان الأراضي التي استوطنوها. وعلى عهد كنوت كان الدنمركيون المقيمون في أراضي القانون الدنمركي أنفسهم يتحدثون باللغة الإنكليزية ويقبلون القانون الإنكليزي قانوناً لهم. أما أحفاد زعيم النورمان رولو وأتباعه الذين تقدموا من نورمنديا لفتح إنكلترا في القرن الحادي عشر فكانوا قد أصبحوا فرنسيين، وإن أغنية الحرب التي كانوا يرددونها في معركة هيستنغز كانت تتغنى بالبطل الإفرنجي شارلمان، بينما كان سكان بلاد القانون الدنمركي المغزيين قد أصبحوا إنكليزاً. وبالمثل فقد الفايكنغ تميزهم العرقي في كييف روس في موسكوفيا وأسس النورمانديون أسرة ملكية وطبقة أرستقراطية جديدتين في إنكلترا في عام 1066، ولكن خلال قرون قليلة كانت السلالة وأرستقراطيتها قد أصبحتا كلتاهما إنكليزيتين أيضاً.



اشتداد كنيسة العصور الوسطى وتصلبها

كثيراً ما شعر قادة الكنيسة في القرون الممتدة من نهاية العالم القديم حتى القرن الحادي عشر أو الثاني عشر العزلة والخطر. وكانت خلافات الكاثوليكية مع الأرثوذوكسية الشرقية في ازدياد متواصل، حتى انتهى الأمر إلى القطيعة الكاملة تقريباً، لذلك كان من الطبيعي أن تتصف الكاثوليكية بالتصلب والعدوانية، إذ إنها لم تكن تشعر بالأمان. صحيح أن شارل مارتل قد صد الإسلام في الغرب، إلا أن العرب ظلوا يشكلون خطراً كبيراً، أما الفايكنغ فلم يكونوا إلا همجاً وثنيين. وفي الداخل أيضاً شعر رجال الكنيسة أنهم محاصرون ومطوقون، لأنهم كانوا يعيشون في وسط شعوب مازالت شبه وثنية، فكان عليهم التعايش مع ثقافاتها وترويضها قدر المستطاع مع تقبل بعض عاداتها وتقاليدها المحلية ولكن بحذر شديد. كل هذا كان على الكنيسة أن تقوم به من خلال رجال دين أكثرهم غير معلمين وبلا انضباط كبير ولا روحانية حقيقية، وكان الملوك والزعماء يجوسون من حولهم مقدمين لهم العون أحياناً وطامعين في عونهم أحياناً أخرى، فكانوا بذلك مصدر قوة لهم وفي الوقت نفسه خطراً حقيقياً على استقلال الكنيسة عن المجتمع الذي يجب عليها أن تسعى لخلاصه.

كانت الكنيسة معتادة على البحث الدائم عمن يحميها، فعندما سقطت رافينا بيد اللمبرديين انطلق البابا اسطفانس إلى بلاط بيبان وليس إلى بلاط بيزنطة، لا لرغبة منه في قطع علاقاته بالإمبراطورية الشرقية، ولكن لأن جيوش الإفرنج كانت قادرة على تأمين حماية لا يمكن للشرق أن يقدمها. ثم أن البابوية كانت معرضة أيضاً لخطر العرب الذين راحوا يهددون إيطاليا منذ بداية القرن الثامن، ناهيك عن الزعماء الإيطاليين الذي اشتدوا وصاروا صعاب المراس مع أفول هيمنة اللمبرديين. وقد مرت أيام عصيبة جداً خلال القرنين ونصف القرن التي تلت تتويج بيبان، فلم تكن بيد روما إلا أوراق قليلة وبدا أنها إنما بدلت سيداً بآخر، وظل الباباوات زمناً طويلاً عاجزين عن الحكم الحقيقي حتى ضمن أراضيهم، إذ لم تكن لديهم قوات مسلحة كافية ولا إدارة مدنية، ولما كانوا أصحاب أراض فقد كانوا معرضين للسلب والنهب والابتزاز، كما أن بعض الأباطرة كانوا يتولون بأنفسهم تنصيبهم وإقالتهم.



مصادر السلطة الكنسية

إلا أن للمعادلة طرفاً آخر، لأن الكنيسة كانت تملك أيضاً عدداً من نقاط القوة، كان بيبان قد منحها أراضي سوف تشكل نواة دولة بابوية قوية، وربما كان تتويج البابا للأباطرة يحمل في طياته ادعاءات خفية بأنه هو الذي يعين الإمبراطور الحق، بل رأى البعض أيضاً أن منح البابا التاج للإمبراطور ومهره بخاتم اعتراف الله كان مشروطاً وقابلاً للرد. فصحيح أن تتويج البابا لشارلمان كان بدافع الحاجة الملحة مثل تتويج بيبان، ولكنه كان يحتوي في الوقت نفسه على بذرة كامنة وقوية من السلطة.

أما على المستوى العملي فقد كانت البابوية بحاجة ماسة لسلطة الملوك الأقوياء من أجل ضبط الكنائس المحلية ودعم الحملات التبشيرية. ومن هذا التحالف بين البابوية والملكية الإفرنجية في القرن الثامن نشأت بالتدريج فكرة أن البابا هو الذي يحدد سياسة الكنيسة، وأنه لايجوز لأساقفة الكنائس المحلية أن يحرفوها. وقد استخدم بيبان سلطته كملك من أجل إصلاح كنيسة بلاده ودفعها بحيث تتوافق مع كنيسة روما وتزداد ابتعاداً عن التأثيرات السلتية، فكانت جهوده هذه هي الخطوة الأولى في عملية توحيد المعايير الكنسية.

وكانت سلطة البابا في مد وجزر دائمين على مر القرون، لقد ظهرت في القرن الثامن عملية تزوير شهيرة هي هبة قسطنطين، التي ادعت أن الإمبراطور قسطنطين الكبير قد منح أسقف روما السلطة التي كانت للإمبراطورية في إيطاليا، وبعد مائة عام كان أحد الباباوات يخاطب الملوك والأباطرة وكأنه سيد العالم، مذكراً إياهم أن بيده أن يعينهم ويخلعهم. والأنكى من هذا أنه استخدم مبدأ سيادة البابا ضد إمبراطور الشرق أيضاً، وفي دعم بطريرك القسطنطينية. وكانت تلك قمة في الإدعاء لايمكن الحفاظ عليها من الناحية العملية وعندما انهارت سلطة البابا في القرن العاشر أصبح الكرسي البابوي فريسة للأحزاب الإيطالية المتنازعة. أما المهام اليومية في حماية المصالح المسيحية في الأيام الصعبة فقد تركت بأيدي أساقفة الكنائس المحلية، وكان هؤلاء مضطرين لمحاباة القوى السائدة والبحث عن حماية الملوك والأمراء وعونهم، لذلك صاروا خاضعين للملوك ولحكامهم الدنيويين، مثلما كان كاهن الأبرشية خاضعاً لسيده المحلي، وكانت تلك تبعية مذلة ومهينة.



الإصلاح الكلوني

بدأت في القرن العاشر حركة إصلاح كبيرة وخلاقة، كان جوهرها إحياء المثل النموذجية للرهبنة، فقام عدد قليل من النبلاء بتأسيس أديرة جديدة الهدف منها إعادة الرهبنة المتدهورة إلى أصولها ومراعاة أصول القانون البنديكتي. وكانت أكثر تلك الأديرة في أراضي الكاروليين المركزية السابقة، وهي المنطقة التي امتد منها إشعاع الإصلاح، وكان أشهرها دير كلوني في منطقة برغنديا. لقد تأسس هذا الدير في عام 910م، وظل حافزاً نشيطاً لإصلاح الكنيسة طوال قرنين ونصف القرن تقريباً، وكان رهبانه يتبعون نسخة معدلة من القانون البنديكتي، وقد أتوا بشيء جديد كل الجدة، لأن الأديرة البنديكتية السابقة كانت مجتمعات مستقلة بينما صارت الأديرة الكلونية الجديدة خاضعة لرئيس دير كلوني نفسه. وأصبح هذا في النهاية القائد العام لجيش مكون من آلاف الرهبان الذي لا يدخلون أديرتهم إلا بعد خضوعهم لفترة من التدريب في الدير الأم. وقد بلغ دير كلوني ذروة سلطته في منتصف القرن الثاني عشر، عندما كان هناك أكثر من ثلاثمائة دير بعضها في بلاد بعيدة مثل فلسطين، تتطلع كلها إليه للإرشاد والتوجيه، وكان يضم أكبر كنيسة في المسيحية الغربية بعد كنيسة القديس بطرس في روما.



المعرفة والثقافة

إن الحديث عن المؤسسات والبنى والقانون أسهل من الحديث عن النواحي الأخرى للحياة الدينية في بداية العصور الوسطى، لأن التاريخ الديني يفقد في العادة جزءاً من بعده الروحي في السجلات الإدارية. كان الدين في العصور الوسطى يتمتع بمكانة فريدة لا ينازعها عليه منازع، ويتخلل نسيج المجتمع برمته، وكانت الكنيسة تتفرد بالثقافة أيضاً. صحيح أن التراث الكلاسيكي قد تخرب بصورة فظيعة وتقلص بسبب غزوات البرابرة من جهة وتصلب المسيحية الباكرة وتعلقها بالأمور الخارجة عن هذا العالم من جهة أخرى، إلا أن ما بقي منه إنما حفظه رجال الكنيسة. فبحلول القرن العاشر كانت جهود الرهبان البنديكتيين والنساخ الذين يعملون في مدارس القصور قد ضمنت أن يصل الكتاب المقدس والتصانيف اللاتينية لمعارف الإغريق إلى معاصريهم. وكانت نسخهم من أعمال بلينس وبيثيس مثل خيط رفيع يربط أوروبا في بداية العصور الوسطى بأرسطو وإقليدس. إلا أن معرفة الكتابة كانت مقتصرة على رجال الدين، وحتى الملوك ظلوا في العادة أميين حتى وقت متقدم من العصور الوسطى، وكان رجال الدين يسيطرون على جميع منافذ المعرفة المتاحة، ولم تكن هناك جامعات بعد، بل كانت توجد بعض المدارس التابعة للبلاط أو للكنيسة، وهي التي تتيح للمرء علماً أوسع مما قد يقدمه بعض رجال الدين بصورة فردية وفي حالات نادرة. وكان تأثير هذا كله على الفنون والنشاط الفكري تأثيراً عميقاً، لأن الثقافة العالية لم ترتبط بالدين فحسب بل إنها لم تكن تتشكل إلا ضمن بيئة دينية محضة، ولم يكن في بداية العصور الوسطى ثمة مكان يمكن للفن أن يتطور فيه من أجل ذاته. لعب كل من التاريخ والفلسفة واللاهوت والتنوير دوره في دعم تلك الثقافة الدينية وتغذيتها، وكان التراث الذي نقلته هو التراث الكلاسيكي مع تأثيراته اليهودية، ولو أنه كان أضيق من التراث الكلاسيكي القديم.

إن أعمال الكنيسة الأهم من الناحية اللاهوتية بل أهمها على الإطلاق والتي تمس جماهير المؤمنين الواسعة، إنما هي مهامها اليومية من وعظ وتعليم وتزويج وتعميد وغفران خطايا وصلاة، أي كل الحياة الدينية لرجال الدين والعلمانيين، ومحورها هو منح الأسرار المقدسة الأساسية. وقد ظلت الكنيسة قروناً طويلة تمارس سلطاتها هذه، واستخدمتها لترويض عالمها البربري وتعليمه الحضارة فنجحت في ذلك نجاحاً هائلاً، ولو أن معلوماتنا المباشرة عن طريقة أدائها لها هي في الحقيقة قليلة جداً.



تدبير المعيشة

إن ما نعرفه عن الأمور الاجتماعية والاقتصادية في الكنيسة أكبر من ذلك بكثير، والحقيقة أن هاتين الناحيتين كان لهما وزن هائل. كانت الكنيسة تمتلك مساحات شاسعة من الأراضي، فكانت تسيطر بالتالي على جزء كبير من ثروة المجتمع. وكانت أراضيها تلك تؤمن لها المصدر الأساسي للدخل، وقد يملك دير واحد أو مجموعة من الكهنة أراضي واسعة جداً. وقد خلّف لنا هذا وثائق يمكننا جمع المعلومات منها من أجل تشكيل صورة عن اقتصاد ذلك العصر، الذي كان في الحقيقة اقتصاداً بدائياً جداً. عند نهاية العصور القديمة كانت الحياة الاقتصادية في أوروبا الغربية قد تراجعت في كل مكان، بل انهارت بالكامل في بعض الحالات، ولو أن هذا التراجع لم يؤثر في الجميع بصورة متساوية. وإن أكثر القطاعات الاقتصادية تطوراً هي التي انهارت بصورة أكبر. فقد حلت المقايضة محل التعامل بالنقد، وعندما عادة الفضة إلى الرواج من جديد كانت كمية النقود المتداولة قليلة خاصة من الفئات الصغيرة. وكذلك اختفت التوابل من الطعام اليومي، وأصبح النبيذ سلعة كمالية غالية الثمن، وصار أكثر الناس يأكلون الخبز والعصيدة وهي طعام يصنع من الحبوب المسلوقة، ويشربون الجعة والماء. وصار الكتبة يستخدمون الرق الذي يمكن الحصول عليه محلياً بدلاً من ورق البردي الذي بات صعب المنال، وكانت هذه ميزة في الحقيقة لأن الكتابة بالخط الصغير ممكنة على الرق، بينما لايمكن الكتابة على ورق البردي إلا بضربات كبيرة تجعل استخدامه باهظ الثمن، وقد خرب الركود الاقتصادي المدن وتفكك عالم التجارة. صحيح أن الاتصال ببيزنطة والبلاد الأبعد في آسيا بقي قائماً، ولكن التجارة في غربي المتوسط تقلصت خلال القرن السابع والثامن مع استيلاء العرب على ساحل شمال أفريقيا، ثم أعيد إحياؤها قليلاً بفضل العرب أيضاً، ومن علامات ذلك التجارة النشيطة بالعبيد الذين كان أكثرهم من الشعوب السلافية، ومن هنا أتت تسمية العبيد باللغة الإنكليزية slave وفي الشمال أيضاً كان يجري بعض التبادل مع الاسكندينافيين الذين برعوا بالتجارة، إلا أن أكثر الأوروبيين إنما كانوا يحصلون معيشتهم من الزراعة.

كان الكفاف غاية طموح الأوروبيين، وكانت الطرق الوحيدة المتاحة لتحسين مردود الزراعة هي إما استخدام روث الحيوانات أو زراعة مساحات أكبر من الأرض. ولكنه كان على أي حال مردوداً زهيداً بالقياس إلى معاييرنا الحديثة، ولم يتغير هذا الوضع إلا بعد قرون طويلة من المجهود الزراعي الشاق. وكان الناس يعانون من نقص النمو ومن داء الإسقربوط*، وكانت حيواناتهم أيضاً ناقصة الغذاء والنمو، لأن البيئة نفسها كانت بيئة فقيرة. وكان الفلاحون الأوفر حظاً يحصلون على الدهن من الخنزير، أو من الزيت في المناطق الجنوبية، ولم يبدأ مردود التربة من الطاقة بالتحسن إلا في القرن العاشر مع بدء زراعة نباتات أغنى بالبروتين. ثم حصلت بعض التطورات التقنية، فازداد عدد الطواحين، وصار المحراث أثقل وزناً ومزوداً بعجلات وأقدر بالتالي على زراعة سهول الشمال، وهي سهول خصبة، ولكنها ذات تربة كثيفة ودبقة. ولما كانت المحاريث الجديدة بحاجة لأزواج عديدة من الثيران لجرها فقد أدى هذا إلى اعتماد طريقة الزراعة بالتناوب: كانت شرائط الأرض الصغيرة التي يزرعها الأفراد موزعة على حقلين أو ثلاثة هي ملك للجماعة المحلية، فصارت كل الشرائط الواقعة في حقل واحد تحرث أو تترك لترتاح في الوقت نفسه، من أجل الاستفادة القصوى من تلك المحاريث بثيرانها العديدة. وكان هذا الأسلوب أنجع من أية طريقة عرفتها أوروبا في الماضي، كما نتج عنه أيضاً توفر محاصيل أكثر تنوعاً، ومنها الشوفان الذي ازدادت كمياته، وهو طعام مناسب للأحصنة لذلك صار بالإمكان استخدامها بدلاً من الثيران، وسرعان ما أدى هذا إلى ابتكار عدة أفضل للحصان، وبالأخص إلى اختراع العمود الأفقي الذي تشد إليه العدة ويستخدم لجر المحراث، والحقيقة أن الزراعة كانت قد بدأت تتغير بصورة كبيرة بحلول عام 1000 للميلاد.

كان عدد سكان أوروبا الغربية في ذلك الزمن أقل منه في أيام الرومان على الأرجح، ولكن يكاد يكون من المستحيل أن تعطي أرقاماً ولو تقريبية ويبدو على كل حال أن نمو عدد السكان كان بطيئاً جداً حتى القرن الحادي عشر، وربما كان عدد سكان أوروبا الغربية يقترب عندئذٍ من الأربعين مليون أي أنه أقل من عدد سكان المملكة المتحدة وحدها اليوم. في ذلك العالم القليل السكان كانت ملكية الأرض هي العامل الأهم في تحديد المرتبة الاجتماعية، وقد صار محاربو المجتمعات البربرية بصورة تدريجية وبطيئة أصحاب أراضٍ أيضاً، وكان هذا تطوراً طبيعياً، فأصبحوا هم حكام البلاد إلى جانب وجهاء الكنيسة والملوك. وكانت ملكية الأرض تعين الكثير، إذ إنها تؤمن الإيرادات عن طريق تأجيرها وجبي الضرائب، فضلاً عن حق التشريع والقضاء وفرض عمل السخرة. لذلك كان أصحاب الأرض هم سادة المجتمع، وبالتدريج صارت الأهمية الأكبر لمكانتهم الوراثية، بينما ضعف التشديد على قوتهم القتالية ومهاراتهم العسكرية. وأحياناً كان الملك نفسه أو أمير كبير يمنح الأرض لبعضهم، ويتوقع منهم في هذه الحالة أن يردوا له الجميل عن طريق الخدمة، إن منح أراضي قابلة للاستثمار مقابل التزامات محددة كان في الحقيقة أمراً شائعاً جداً، وهذا المبدأ هو في جوهر ماسماه الناس في عصور لاحقة عندما نظروا إلى العصور الوسطى في أوروبا النظام الإقطاعيfeudalism أما أهل العصور الوسطى أنفسهم فلم يستخدموا هذه الكلمة قط إذ لم تكن قد اخترعت بعد.





* داء ينجم عن عوز غذائي ومن أعراضه تورم اللثة ونزفها

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://resalahmasriyah.mam9.com
Eng. Ahmedzoubaa
Admin
Eng. Ahmedzoubaa


عدد المساهمات : 1216
تاريخ التسجيل : 28/08/2010
العمر : 50

الفصل السابع - صنع أوروبا  Empty
مُساهمةموضوع: رد: الفصل السابع - صنع أوروبا    الفصل السابع - صنع أوروبا  Emptyالأربعاء 15 يونيو 2011 - 0:11

التبعيات الإقطاعية

كانت كل من التقاليد الرومانية والجرمانية تحبذ مبدأ التبعية، وفي المراحل الأخيرة من الإمبراطورية والأيام المضطربة في غاليا الميروفية صار من الشائع أن يلتزم الناس بسيد كبير لحمايتهم، وأن يؤدوا له بالمقابل أشكالاً خاصة من الولاء والخدمة، وقد اندمجت هذه العادة في تقاليد المجتمع الجرماني بسهولة كبيرة. وعلى عهد الكاروليين بدأت عادة أن يؤدي أتباع الملك الولاء له، أي أن يعترفوا له في احتفالات خاصة كثيراً ما تجري أمام الملأ بما يترتب عليهم من مسؤوليات تجاهه، فيصبح هو سيدهم ويصبحون هم رجاله. كما أن للأتباع بدورهم أتباع آخرون، بحيث يكون الرجل التابع لأحد السادة سيداً على رجل آخر، وعلى هذه الصورة كانت هناك سلسلة من الالتزامات والخدمات الشخصية تمتد نظرياً من الملك عبر كبار رجالاته وأتباعهم حتى أدنى الرجال الأحرار. وقد يؤدي هذا الترتيب بالطبع إلى متطلبات معقدة ومتضاربة، فحتى الملك نفسه قد يكون تابعاً لملك آخر في بعض أراضيه، وفي أسفل الهرم الاجتماعي كان العبيد، وربما كان عددهم أكبر في جنوب أوروبا منها في شمالها، ولكن أعدادهم كانت تميل للانخفاض في كل مكان، بينما كانت مرتبتهم ترتفع قليلاً إلى مرتبة العبد المرتبط بالأرض، وهو رجل غير حر يولد مرتبطاً بأرض العزبة التي يعمل فيها، ولكن له مع ذلك بعض الحقوق القليلة. كان قسم كبير من أرض أوروبا مقسماً إلى إقطاعيات إذاً، وهي كما قلنا أراض يستثمرها صاحبها مقابل التزامات نحو سيده. ولكن مع ذلك بقيت هناك دوماً مناطق هامة في جنوب أوروبا، لم تكن إقطاعية بهذا المعنى، وكان هناك أيضاً بعض أصحاب الأراضي الأحرار الذين تختلف أعدادهم من بلد إلى آخر، وهم غير مدينين بأي خدمة مقابل أرضهم بل يملكونها بصورة مباشرة. ومع هذا فإن تلك الالتزامات المعقودة بين الناس على أساس الأرض كانت هي التي تحدد نمط حضارة العصور الوسطى. وقد تكون الجمعيات أيضاً مثل الأفراد سيدة أو تابعة، إذ قد يؤدي المستأجر الولاء لرئيس دير رهبان أو رئيسة دير راهبات، مقابل العزبة التي يديرها في أراضيهم، وقد تشكل جماعة من كهنة الكاتدرائية أو من الرهبان وحدة تابعة للملك.وكان هناك مجال كبير للتعقيد والالتباس في هذا الترتيب، إلا أن الحقيقة الأساسية المتمثلة بتبادل الالتزامات بين السيد وتابعه كانت تتخلل بنية المجتمع برمتها، وهي من مفاتيح فهم مجتمع العصور الوسطى.

لقد كان هذا الترتيب حجة لابتزاز الفلاح من أجل إعالة المحارب وبناء قلعته، وعلى هذا الأساس قامت الأرستقراطيات الأوروبية ونمت، وظلت الناحية العسكرية هي الناحية الأهم والأعلى في هذا النظام فحتى عندما زالت الحاجة للخدمة الزراعية بقي السيد بحاجة للمحاربين العاملين لدى أتباعه، ثم صار بحاجة لأموالهم من أجل استئجار المحاربين. وكانت أكثر المهارات العسكرية أهمية هي قتال الفارس المدرع من على ظهر الخيل، وعندما استخدم الركاب في القرن السابع أو الثامن صار الخيال المدرع هو المهيمن في ساحة المعركة، وقد ظل كذلك إلى أن ظهرت فيما بعد أسلحة أقوى منه. ومن هذا التفوق التقني نشأت طبقة الفرسان، وهي مكونة من خيالة محترفين يعيلهم سيدهم إما بصورة مباشرة أو عن طريق منحهم عزبة لإطعامهم وإطعام خيولهم، فكان هذا مصدراً آخراً من مصادر الأرستقراطية المحاربة في العصور الوسطى، ومن مصادر القيم الأوروبية أيضاً لقرون طويلة قادمة؛ ولم يكن الانضمام إلى طبقة الفرسان بالأمر العسير.



ملوك العصور الوسطى

قد تكون سيطرة الملك على أتباعه أضعف من سيطرتهم على أتباعهم، ولا ريب أن ظل السيد المحلي سواء كان زعيماً علمانياً أو أسقفاً كان أوسع وأهم في حياة الرجل العادي من ظل ملك أو أمير بعيد قد لا يراه أبداً، وإنك ترى في القرنين العاشر والحادي عشر في كل البلاد ملوكاً خاضعين لنفوذ الزعماء الكبار. أما في إنكلترا الأنكلوسكسونية فلا يصح هذا الوصف إلا بأضعف درجاته، لأن تقاليدها الملكية كانت الأقوى بينها جميعاً. إلا أن الملوك كانوا على كل حال يتمتعون بنقاط من القوة لا تتاح لسواهم، فقد كان منصبهم فريداً وذا سلطة مقدسة وساحرة تثبتها الكنيسة إذ تمسحهم بزيتها المقدس. وكانوا يتميزون عن سواهم من الزعماء بالأبهة والمراسم التي تحيط بهم، والتي كانت أهميتها في حكومات العصور الوسطى مثل أهمية الوثائق الرسمية في أيامنا، فإذ كان بحوزة الملك فوق هذا كله أراض واسعة فإنه يكون قادراً على فرض إرادته أكثر من أي رجل آخر.

ولم يكن أحد غير الملوك وكبار الزعماء يتمتع بقدر كبير من الحرية في مجتمع العصور الوسطى الباكرة، لا بالمعنى القانوني للحرية فقط، ولكن بمعناها العام أيضاً، لأن حياة الناس اليومية كانت محدودة ومقيدة، ولم يعرفوا الأشياء الكثيرة التي اعتدنا عليها نحن اليوم. فلم يكن لدى الشخص العادي ما يفعله سوى أن يصلي ويقاتل ويصطاد ويزرع أو أن يدير عزبة يقوم فيها غيره بأعمال الزراعة بدلاً منه. ولم يكن أمام الناس من مهن فكرية يحترفونها عدا عن العمل في خدمة الكنيسة، وكان هامش التجديد في روتين الحياة اليومية هامشاً ضئيلاً، وكلما نزلت درجات السلم الاجتماعي كلما صارت الخيارات أضيق، كما أن خيارات المرأة كانت دوماً أضيق من خيارات الرجل. ولم يتغير الأمر إلا بصورة وئيدة ومتدرجة مع انتعاش التجارة وحياة المدن وتوسع الاقتصاد.



مفصل القرن الثاني عشر: حق التنصيب

من مفارقات التاريخ أن سيادة الكنيسة في العصور الوسطى كانت هي نفسها خطراً عليها، لأن تدخل رجال الكنيسة المتزايد في شؤون الدولة قد يحرفها عن هدفها الحقيقي، ألا وهو عبادة الله وخلاص البشر، ويجعل منها مجرد سلاح لدعم الحكام الدنيويين وتأييد سلطتهم. وكان هذا الخطر يكمن وراء الصراع الكبير الذي يعرف بالصراع على حق التنصيب، أي تنصيب الأساقفة أو منحهم السلطة في أبرشياتهم. وقد بلغ ذروته بشكل صدام بين البابوات والحكام الدنيويين، الذي ادعى كل منهم هذا الحق لنفسه. والحقيقة أن هذا الصراع لم يحسم بشكل كامل قط، بل كان شوطاً واحداً في حرب طويلة بين الدولة والكنيسة في تاريخ أوروبا الغربية تمتد حتى القرن العشرين، وقد استفادت أوروبا من هذا الصراع فائدة جليلة، لأنه جعل الناس يفكرون أنه ربما كان من الأفضل ألا تكون الكلمة الأخيرة لا للدولة ولا للكنيسة، وأن بعض الأمور ذات الأهمية العظيمة لايجوز أن تكون إلا بيد الأفراد الذين تمسهم، وعندما ثبتت هذه الفكرة جذورها كان المفهوم الأساسي لليبرالية قد رأى النور، ألا وهو حرية الفرد واستقلاله.

ولم تستمر المراحل الأساسية من صراع التنصيب هذا أكثر من نصف قرن تقريباً، ولم تؤد إلى نتيجة حاسمة. لقد كان من المستحيل على الناس في العصور الوسطى أن يميزوا بين الكنيسة والدولة تمييزاً واضحاً بالمعنى الحديث، كما أن الطرفين اتفقا على أمور عملية كثيرة، وكان الكثير من رجال الدين يشعرون نحو حكامهم الدنيويين بولاء أكبر من ولائهم لبابا روما. ثم أن الصراع كانت له نواح مادية، هي اقتسام السلطة والثروة ضمن الطبقات الحاكمة التي كان أفرادها أعضاء في كلتا الحكومتين الملكية والكنسية في ألمانيا وإيطاليا، أي في أراضي الإمبراطورية الرومانية المقدسة.

وقد جرت أشهر معارك الصراع على التنصيب مباشرة بعد انتخاب البابا غريغوريوس السابع في عام 1073 واسمه الأصلي هلدبراند. كان غريغوريوس على درجة عالية من الجرأة الشخصية والأخلاقية، ولو أنه ذو طبع منفر وبغيض. وقد كافح طوال حياته من أجل استقلال البابوية وسيادتها ضمن المسيحية الغربية، وعندما تحول الإصلاح إلى مجال السياسة والقانون بدلاً من مجال الأخلاق والسلوك كان ميالاً بحكم طبعه لتأجيج الصراع لا لتجنبه، وربما كان الصراع محتماً على كل حال.

كان الكثير من رجال الكنيسة منذ سنوات طويلة على ثقة بأن الكنيسة باتت بحاجة إلى إصلاح، فكانوا يعتقدون أن على رجال الدين أن يعيشوا حياة مختلفة عن حياة العلمانيين، وأن يشكلوا مجتمعاً متميزاً ضمن المسيحية. فهاجموا السيمونية أي شراء المناصب بالمال وزواج الكهنة، والتدخل في شؤونهم أيضاً. وربما كان من المحتم على الأباطرة أن يتورطوا في صراع مع البابوية عاجلاً أم آجلاً لأنه كان للإمبراطورية في إيطاليا حلفاء، وأتباع ومصالح لابد لها من حمايتها، ومنذ القرن العاشر كانت سيطرة الإمبراطور الفعلية والاسمية على البابوية قد تراجعت، وقد اتبعت طريقة جديدة في انتخاب البابوات لم تترك له إلا حق نقض نظري فحسب. كما أن علاقات العمل بين هاتين القوتين كانت قد تدهورت.

اعتلى غريغوريوس السابع كرسي البابوية من دون أن ينال موافقة الإمبراطور المعتادة، بل اكتفى بأن أخبره بذلك فحسب، وبعد سنتين أصدر مرسوماً يتعلق بتنصيب الأساقفة لم يصلنا نصه، ولكن من المعروف أنه منع فيه أي رجل علماني من تنصيب رجل دين في منصب أسقف أو أي منصب كنسي آخر، كما حرم من الكنيسة بعض أعضاء المجلس الكنسي الإمبراطوري بتهمة ارتكاب السيمونية في شراء مناصبهم. وفوق هذا كله قام باستدعاء الإمبراطور نفسه إلى روما لكي يمثل بين يديه.

ورد هنري على ذلك بأن جعل مجمعاً كنسياً ألمانياً يعلن خلع غريغوريوس فعاد هذا ورد عليه بأن حرمه من الكنيسة، وكان لهنري في ألمانيا أعداء أشداء قاموا الآن ضده بتأييد البابا، فاضطر للرضوخ في النهاية، وجاء إلى كنوسا بمهانة كبيرة ووقف ينتظر حافي القدمين تحت الثلج المنهمر إلى أن قبل غريغوريوس توبته؛ وكانت تلك واحدة من أكثر المواجهات حدة بين السلطتين الدنيوية والروحية. إلا أن غريغوريوس لم يكسب في حقيقة الأمر، لأن تشديده على أن للبابا الحق بأن يخلع الملوك إذا وجدهم غير جديرين أو غير أكفاء كان قلباً للمفاهيم لا يمكن أن يرضى به الرجال في عالم تسوده قدسية أيمان الولاء، ولا يمكن أن يرضى به أي ملك بالطبع. ولهذا استمر موضوع حق التنصيب خلال الخمسين سنة القادمة، بعد أن أوقع غريغوريوس بين رجال الدين والعلمانيين شقاقاً لا سابق له، وبلغ بادعاءات سلطة البابا ذروة لا سابق لها أيضاً، وسوف يعود بابوات آخرون للتشديد على ادعاءاتهم خلال القرنين التاليين، في الوقت نفسه، كانوا يبنون الجهاز الإداري للكنيسة، وهو عبارة عن طبقة إدارية مثل إدارات ملوك إنكلترا وفرنسا، ومن خلالها أحكموا قبضتهم على الكنيسة، بينما راحت سلطاتهم القضائية تمتد وتتسع وتسحب النزاعات القضائية من محاكم الكنائس المحلية إلى قضاة البابوية.



الملكية البابوية

لقد تحسن موقف الأمراء من روما مع تراجع الصراع على موضوع حق التنصيب، ولم يظهر تحد هام لسلطة الكنيسة بالرغم من نشوب نزاع مدو في إنكلترا حول الامتيازات التي يتمتع بها رجال الدين وحصانتهم من القوانين المرعية في البلاد، وهو نزاع أدى إلى مقتل رئيس أساقفة كنتربري ثم تطويبه قديساً، إلا أن بعض رجال الدين كانوا يكرهون التشديد على سلطة البابا كرهاً شديداً، ويعتقدون أن المجالس التي تضم الكنيسة كلها هي أولى منه بوضع قوانينها، وسوف يؤدي هذا إلى إثارة حركة قوية وهامة هي الحركة المجلسية، التي ظهرت في القرن الخامس عشر. بينما راح غيرهم يقولون إن سلطة البابا يمكن تجاوزها في أمور كثيرة إذا كان في الكتاب المقدس أو مرجع آخر أسباب تدعو إلى ذلك، من هذه الأفكار ومن أفكار غيرها سوف تنشأ في النهاية حركة الإصلاح وأشكال عديدة من الهرطقة أيضاً.

من هذه الحركات الجديدة ظهور نوع من التنظيمات الدينية التي تسمى الأخويات، وهي جمعيات لكل منها نظام خاص بها مثل الرهبنات، ولكن أفرادها يعيشون بين الناس لكي يعظوهم ويعلموهم بدلاً من العيش في دير، وكانوا يسمون الأخوة المستجدين لأنهم يعتمدون في معيشتهم على صدقات الناس. وكانت أهم تلك الأخويات هي أول اثنتين منها، أي أخوية الفرنسيسكان على اسم مؤسسها القديس الإيطالي فرنسيس وأخوية الدومينيكان على اسم القديس الإسباني دومينيك، لقد كرس الفرنسيسكان رسالتهم للفقراء، بل إن بعضهم قارب الدعوة إلى الثورة الاجتماعية. أما الدومينيكان فقد ركزوا على محاربة الهرطقة عن طريق المعرفة وكانوا علماء كباراً في الوعظ ومازالوا يسمون الأخوة الواعظين، وملاحقة الهرطقة من خلال جهاز جديد هو محاكم التفتيش. وكان للدومينيكان وجهان متباينان محيران لم يعرف الناس أيهما وجههم الحقيقي، الأول يمثله القديس الصقلي توما الأكويني الذي كان أعظم الفلاسفة المسيحيين في العصور الوسطى، وهو الذي صهر معارف عصره كلها ورتبها بهيئة نظام فكري مبني على مبادئ أرسطو، أما الوجه الآخر فهو الإسباني توركويمادا، وهو القاضي الذي اضطهد الهراطقة واليهود في إسبانيا في القرن الخامس عشر.

وفي الوقت نفسه تقريباً نشأت تحت جنح الكنيسة مؤسسة أخرى جديدة وهامة ألا وهو الجامعة، كانت أولاها جامعات بولونيا (مدينة في إيطاليا) وباريس وأكسفورد، وفي عام 1400م صار هناك أكثر من خمسين جامعة في أوروبا الغربية. لقد رفعت هذه المؤسسات مستوى التعليم العام بين رجال الدين بصورة سريعة، ومنها أتى رجال الإدارة أيضاً، ولهذا السبب كان الحكام أحياناً يمنحون الجامعات امتيازات ومنحاً خاصة. وحتى في زمن لاحق عندما صار العلمانيون أيضاً يطلبون العلم في الجامعات ظلت هذه خاضعة لسيطرة الكنيسة، واستمر الأمر على هذا الحال زمناً طويلاً، فكانت الكنيسة هي التي تحدد ما يدرس فيها. ولهذا كانت الجامعات قوة كبيرة أخرى ساهمت في تغلغل الدين ضمن مجتمع العصور الوسطى، وقد بقي الرجال المثقفون في أوروبا مئات السنين يفكرون بحسب المبادئ التي وضعتها الكنيسة، مثلما كان حال المثقفين في الصين مع الكونفوشية.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://resalahmasriyah.mam9.com
Eng. Ahmedzoubaa
Admin
Eng. Ahmedzoubaa


عدد المساهمات : 1216
تاريخ التسجيل : 28/08/2010
العمر : 50

الفصل السابع - صنع أوروبا  Empty
مُساهمةموضوع: رد: الفصل السابع - صنع أوروبا    الفصل السابع - صنع أوروبا  Emptyالأربعاء 15 يونيو 2011 - 0:12

أولى اندفاعات أوروبا فيما وراء البحار: الحروب الصليبية:

بادر الإفرنج بالاعتداء على الشرق الأدنى قبل زمن طويل من هجوم العثمانيين على أوروبا وتهديدهم لها. في القرن الحادي عشر استعاد النورمان صقلية وجنوب إيطاليا من العرب، وبعد ذلك بزمن قصير أي في عام 1095 أطلق البابا للمرة الأولى فكرة الحملات الكبرى التي تسمى الحملات الصليبية، وكان هدفه منها تحرير الأرض المقدسة أي فلسطين من سيطرة الإسلام. وقد حصلت في الحقيقة أربع حملات هامة، الحملة الأولى نجحت في الاستيلاء على القدس، ولم يتمكن العرب من استردادها إلا بعد حوالي سبعين سنة. وقد جرت في تلك الأثناء حملة صليبية ثانية 1147-1149 م اشترك فيها إمبراطور ألماني وملك فرنسي، فابتدأت بداية بشعة بتذبيح اليهود في بلاد الراين، ومالبثت أن انتهت بكارثة. أما الحملة الثالثة 1189-1192 م فقد سعت إلى استعادة القدس بعد أن استردها القائد المسلم الكبير صلاح الدين الأيوبي في عام 1187، ولكنها فشلت في ذلك بالرغم من انضمام ملك إنكلترا ريكاردوس قلب الأسد إلى الملك الفرنسي والإمبراطور الألماني الذي مات غرقاً بينما كان في طريقه إلى فلسطين. وغادرت أخيراً حملة رابعة لم يكن فيها ملوك في عام 1202 بتمويل من أهل البندقية، ولكنها تحولت من توها إلى العبث بسياسات بيزنطة الداخلية، وانتهت إلى نهب الصليبيين الفظيع لمدينة القسطنطينية في عام 1204، وتأسيسهم إمبراطورية لاتينية فيها استمرت لعقود قليلة قادمة. وكانت تلك عملية مشينة، لأن البيزنطيين مسيحيون وهدف الحركة صليبية إنما هو قبل كل شيء دعم الدين المسيحي، ثم حصلت من بعدها حملات أخرى عديدة، إلا أن عصر الحملات الكبرى كان قد ولى، ولم تعد بقادرة على أخذ فلسطين.

إن ما كشفت عنه الحملات الصليبية أهم بكثير مما حققته أو لم تحققه، فقد كانت تظاهراً جلياً لمزاج جديد ونظرة جديدة في المسيحية الغربية، كانت الحملات الصليبية تحظى بتأييد ودعم جماهير تتأجج في قلوبها حماسة دينية حقيقية، وقد شارك فيها الآلاف من الناس البسطاء، ثم هلكوا بصورة يرثى لها بسبب جهلهم وقلة استعدادهم لما كان ينتظرهم.

وكانت الحملات الصليبية جزءاً من حركة الإحياء الديني في القرن الحادي عشر، وهي تدل على افتراق المسيحيتين الشرقية والغربية وتباعدهما، ولم يكن الصراع مع الإسلام في الإمبراطورية الشرقية مقتصراً على موضوع الدين، بل كان أيضاً صراعاً على السلطة والسياسة والأراضي التي كانت في السابق لبيزنطة. لقد كانت الإمبراطورية والخلافة تعامل كل منهما الأخرى كقوة عظمى، مثلما كان الأمر بين روما وفارس، والحقيقة أن الخلافات الدينية بينهما كثيراً ما كانت أقل أهمية من الخلافات الأخرى.

ولم يكن الدافع الديني هو الدافع الوحيد في تجنيد الصليبيين، بل إن الكثيرين منهم كانت تحركهم أغراض دنيئة هي الحصول على السلب والغنائم، والأفضل منها الأرض. ومثلما انطلق فرسان النورمان إلى إنكلترا الأنكلوسكسونية وصقلية الإسلامية لكي يحصلوا على أملاك لهم، كان الكثير من الصليبيين يعتقدون أن الممالك اللاتينية الأربع التي تأسست بعد حملتهم والإمبراطورية اللاتينية التي نشأت عام 1204 م سوف تؤمن لهم المال والغنى طوال حياتهم. ومن هنا كانت الحملات الصليبية أول تظاهر لجشع الاستعمار الأوروبي ورغبته في التوسع خارج أراضيه، وكما هو الأمر في عصور لاحقة، امتزجت أهداف نبيلة وحقيرة في نفوس رجال حاولوا زرع مؤسسات غربية ودخيلة في بيئات بعيدة لاتمت لها بصلة. وكانوا يفعلون ذلك بضمير مرتاح لأنهم كانوا يعتبرون أعداءهم كفاراً استولوا على أقدس مقامات المسيحية. تقول قصيدة مشهورة من العصور الوسطى هي أغنية رولان: "المسيحيون على حق، والكفار على باطل" وإن هذه العبارة تلخص نمط تفكيرهم.


الحروب الصليبية
جرت العادة على إطلاق اسم الحملات الصليبية على سلسلة من الحملات التي قامت بها المسيحية الغربية نحو الأراضي المقدسة، وكان الهدف منها استعادة الأماكن المقدسة من حكامها المسلمين. وكانت السلطة البابوية تضمن لمن يشترك فيها أشكالاً معينة من الثواب الروحي والغفران، إلغاء أو تخفيف الزمن الذي يمضيه المرء في المطهر بعد الموت، وأن تكتب لهم الشهادة إذا ماتوا في الحملة. كانت الحملات الأربع الأولى هي الأهم، وهي تشكل ما يعتبر عادة حقبة الحملات الصليبية.
1095 م
البابا أوريانس الثاني ينادي بالحملة الصليبية الأولى في مجمع كليرمون
1099 م
الاستيلاء على القدس وتأسيس الممالك اللاتينية
1144 م
الأتراك السلاجقة يستولون على مدينة إديسا المسيحية (الرها – أورفه) التي ألهم سقوطها القديس برنار (برنردس) بالدعوة إلى حملة جديدة 1146م
1147-1149 م
الحملة الصليبية الثانية التي باءت بالفشل (ونتيجتها الوحيدة الهامة هي استيلاء أسطول إنكليزي على مدينة لشبونة وإعطاؤها لملك البرتغال
1187 م
صلاح الدين يستعيد القدس للإسلام
1189 م
إطلاق الحملة الصليبية الثالثة التي فشلت في استعادة القدس
1192 م
صلاح الدين يسمح للحجاج بدخول قبر المسيح
1202م
الحملة الصليبية الرابعة وهي آخر الحملات الكبيرة وقد بلغت ذروتها باستيلاء الصليبيين على القسطنيطينية ونهبها 1204 وتأسيس إمبراطورية لاتينية فيها
1212 م
مايسمى بحملة الأطفال
1216 م
الحملة الخامسة تستولي على دمياط في مصر وتخسرها من توها
1228-1229 م
الإمبراطور فريدريك الثاني المحروم من الكنيسة يقوم بحملة صليبية ويعيد الاستيلاء على القدس وتوج نفسه ملكاً
1239-1240 م
حملات صليبية قام بها ثيوبالد الشامباني وريتشارد الكورنوالي
1244 م
الإسلام يسترد القدس
1248-1254 م
لويس التاسع ملك فرنسا يقود حملة إلى مصر حيث يؤخذ سجيناً ثم يفتدى ويحج إلى القدس
1270م
الحملة الثانية للويس التاسع، وكانت ضد تونس حيث مات
1281 م
سقوط عكا بيد الإسلام، وهي آخر موطئ قدم للإفرنج في بلاد الشام
لقد حصلت حملات أخرى كثيرة سميت هي الأخرى صليبية، أحياناً بصورة رسمية، كان بعضها موجهاً ضد غير المسيحيين مثل مسلمي إسبانيا والشعوب السلافية وبعضها ضد الهراطقة مثل الألبيجيين، وبعضها ضد الملوك الذي أهانوا البابوية. كما حصلت بعدها حملات فاشلة إلى الشرق الأدنى في عام 1464 فشل البابا بيوس الثاني في الحصول على دعم لحملته، وكانت تلك آخر محاولة لإرسال حملات صليبية إلى الشرق الأدنى



ولكن الدول الصليبية سرعان ما تداعت عندما استعاد الإسلام عافيته، واشتدت العداوة بين المسلمين والمسيحيين، وقد تعلمت أوروبا أشياء كثيرة من الثقافة الإسلامية عن طريق إسبانيا وصقلية، وفقد تشربت علوم الإغريق من العلماء العرب العظام في قرطبة، كما أن الصليبيين جلبوا معهم عادات جديدة مثل استخدام الملابس الحريرية والعطور والأطعمة الجديدة وعادة الاستحمام المتكرر، وكان الأوروبيون بحاجة ماسة له، أما الإسلام فقد ازداد قسوة، وعندما استعاد حكمه في بلاد الشام عانى رعاياه المسيحيين الذي كانوا قد خانوا حكامهم المسلمين، وبدأت الجماعات المسيحية القديمة في المنطقة تنحسر، بل إن أكثرها اختفت تماماً.

لقد غيرت الحملات الصليبية نظرة المسيحيين أيضاً، لأن جهادهم وتصميمهم على الغزو باسم الصليب كان المهد الذي ولد فيه اندفاع الأوروبيين العنيد للاستيلاء على العالم في العصور اللاحقة. كان أولئك الأوروبيون واثقين في قلوبهم مثل الصليبيين بأن الحق إلى جانبهم، وبأن عليهم استخدام القوة لكي يسود هذا الحق. كما أن هذه الروح نفسها قد تبدت في إسبانيا أيضاً. كان كل من الجغرافية والمناخ وانقسام المسلمين قد ساعد المسيحية على البقاء والاستمرار في شبه الجزيرة بعد الفتح الإسلامي لها، وقد ظل الأمراء والزعماء المسيحيون متمسكين بمواقعهم في أستوريا ونافاز. ثم ساعدهم تأسيس شارلمان لحدوده الدفاعية في إسبانيا، وتوسعت تلك الحدود على عهد كونتات برشلونة الجدد، فراحوا عندئذٍ يقرضون من أراضي الإسلام في أسبانيا، وظهرت مملكة ليون في أستوريا واتخذت مكاناً لها إلى جانب مملكة نافاز. ولكن المسيحيين اختلفوا فيما بينهم في القرن العاشر، فعاد العرب وأحرزوا تقدماً عليهم، خاصة عند نهاية القرن عندما أخذ فاتح عربي كبير هو المنصور برشلونة وليون ثم مزار مدينة سانتياغو دي كومبوستيلا نفسه في عام 998م. إلا أن إسبانيا المسيحية ما لبثت بعد قرون قليلة أن لمت شملها بينما وقعت إسبانيا المسلمة فريسة لتفرقها وتفككها، لقد كانت المسيحية في هذا البلد بالذات هي بوتقة القومية، وكانت المواجهة بين الحضارتين هي الوقود الذي يزكي نارها؛ والحقيقة أن استعادة إسبانيا التي تمت خلال القرون القادمة إنما كانت بالنسبة للأسبان عصراً من الحملات الصليبية.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://resalahmasriyah.mam9.com
Eng. Ahmedzoubaa
Admin
Eng. Ahmedzoubaa


عدد المساهمات : 1216
تاريخ التسجيل : 28/08/2010
العمر : 50

الفصل السابع - صنع أوروبا  Empty
مُساهمةموضوع: رد: الفصل السابع - صنع أوروبا    الفصل السابع - صنع أوروبا  Emptyالأربعاء 15 يونيو 2011 - 0:13

شرق أوروبا

إن هذه الروح العدوانية المندفعة التي كانت تفعل فعلها في بلاد الشام وإسبانيا كانت منتشرة أيضاً على الحدود الشرقية لأوروبا، ولكن الفرق أنها كانت هنا موجهة ضد شعوب مسيحية ومترافقة بحركات هجرة كبيرة تدعمها وتساندها. وتعود هذه القصة إلى أيام فتوحات شارلمان، فقد أمضى هذا الإمبراطور الشطر الأكبر من سنوات حكمه في الحملات العسكرية، وإنما كانت مكانته العظيمة معتمدة على التوسع الدائم، وكانت الفتوحات ضرورية من أجل ملء خزانة ماله ومن أجل توزيع الأراضي على نبلاء الإفرنج استرضاء لهم. لقد أخضعت بعض حروب شارلمان لسيطرته عدداً من الشعوب المسيحية المجاورة له، ولكن بعضها الآخر كان موجهاً ضد شعوب وثنية في بلاد أبعد. فقد كان السكسون يعيشون بين نهري الألب والراين ويشكلون خطراً على سيطرة الإفرنج في بافاريا وفريزيا، لذلك تمت هزيمتهم ثم تنصيرهم، فوصل هذا بالحدود الشرقية لألمانيا حتى نهر الألب، ثم كان هناك شعب الأفار الوثني الذي يعيش في سهل هنغاريا، وكانوا غزاة أشد بأساً وخطراً من السكسون ولكن هؤلاء أيضاً قد تم تركيعهم.

وقد تحول اندفاع الإفرنج إلى الشرق بين عامي 1100-1400 م إلى حركة هجرة كبيرة، فراح الألمان يستوطنون البلاد ويبنون المدن على الحدود مع بروسيا وبولندا مبدلين بذلك الخريطة العرقية والاقتصادية والثقافية هناك. كما تغلغلوا في أراضي السلافيين بصورة مطردة فابتدؤوا بذلك صراعاً بين السلاف والتوتون في أوروبا الشرقية استمر حتى القرن العشرين، ولعله لم يحسم بعد، إذ كان أحدث معالم هذا الصراع هو طرد أعداد هائلة من الألمان من الأراضي البولندية عند نهاية الحرب العالمية الثانية (حوالي سبعة ملايين شخص بين عام 1944-1952 م)، فكان هذا انعكاساً لتيار العصور الوسطى، عندما كان الألمان هم الذي يتقدمون ويفرضون مشيئتهم. وكان فرسان التوتون قد لعبوا دوراً هاماً في تقدم الألمان هذا، وهم عبارة عن تنظيم ديني مكون من مقاتلين يرتبطون بنذور مقدسة ويؤدون واجبهم المسيحي من على ظهور الخيل بقتل الوثنيين الكفار في بروسيا والبلطيق والسلافيين المسيحيين.





صعود موسكوفيا

يعود تسلط الألمان الطويل هذا إلى ضعف الشعوب السلافية، وبعد أن تمزقت كييف روس، في القرن الحادي عشر، عاشت الدول التي حلت محلها أيضاً سلسلة من الأزمات العصبية. كان تراجع بيزنطة بالنسبة إلى الأمراء الروس خسارة لأكبر حلفائهم الأرثوذكس، فوجدوا أنفسهم مكرهين على مواجهة المغول بمفردهم، وبعد أن نهب هؤلاء مدينة كييف في عام 1240 م ظلت إمارة موسكوفيا الكبرى تدفع الجزية لهم ولخلفائهم التتار من القبيلة الذهبية طوال قرنين ونصف القرن، ولم تكن الأمور أرحم في الغرب؛ صحيح أن أمير موسكوفيا ألكسندر نفسكي قد تمكن في القرن الثالث عشر من صد فرسان التوتون بنجاح، إلا أن خطر الألمان قد ظل مصدراً للمرارة في قلوب الروس، وما كانوا كأرثوذكس ليقبلوا بكاثوليكية الألمان المتصلبة والتوسعية وتشديدهم على مبدأ سيادة البابا. لهذا ازداد انسحاب الحضارة الروسية مبتعدة عن الغرب، وانتقل مركز ثقلها إلى موسكو، التي كان أمراؤها أكثر طغياناً واستبداداً من أمراء الدول الروسية الأخرى، وربما كان هذا ما مكنهم من البقاء ومن مد سلطتهم على جيرانهم أيضاً. ومن التغيرات الأخرى التي جرت في الشرق ظهور دولة سلافية كاثوليكية جديدة هائلة المساحة ضمت بولندا وكييف، هي دوقية ليتوانيا ، ورغم أن الليتوانيين كاثوليك فقد حاربوا الألمان، وإن قواتهم هي التي ألحقت بفرسان التوتون هزيمتهم الساحقة في تاننبرغ في عام 1460م، وقد ضايق الليتوانيون موسكوفيا أيضاً، ولكنها نجحت في البقاء مستفيدة من الانقسامات السياسية بين جيرانها من تتار وكاثوليك معاً.

كان سقوط بيزنطة حدثاً هاماً في تاريخ روسيا، لأنه جعل من موسكو مركز المسيحية الأرثوذكسية بلا منازع، وراح رجال الكنيسة يقولون أن هذا الأمر كان مقدراً من الله وإن موسكو هي روما الثالثة. وكانت تلك لحظة تاريخية ملائمة لصعود موسكوفيا، لأن الصراعات الداخلية كانت تمزق جيرانها الليتوانيين والتتار، وعند هذا المنعطف التاريخي الهام ارتقى عرشها في عام 1462 أمير جديد هو إيفان الثالث. لقد طرد إيفان التجار الألمان الذين أغروا المدن الألمانية في البلطيق بالتدخل في شؤون موسكوفيا، كما أنه صد آخر هجمات التتار وضم نوفغورود، وهي دولة روسية ذات تقاليد أكثر جمهورية من موسكوفيا. ويعرف إيفان الثالث بجدارة بأنه أول ملك وطني في روسيا، والحقيقة أنه هو الذي أعطاها بعضاً من التماسك الذي كان ملوك فرنسا وإنكلترا قد حققوه لبلادهم. ولكن الملكية التي بناها كانت في الوقت نفسه مختلفة عن ملكيات الغرب، فقد اتخذ لنفسه لقب أوتوقراط بنعمة الله، وكان هذا اختياراً مقصوداً لذلك اللقب اليوناني القديم. وكان إيفان أول حاكم روسي يدعى قيصراً، وهذه علامة ثانية على تبنيه المقصود لتراث القياصرة، كما أنه تزوج ابنه أخ آخر الأباطرة اليونان، وهو الذي خلق الملكية الروسية التي استمرت حتى عام 1917، وقد استمر خلفاؤه باستخدام النسر البيزنطي ذي الرأسين الذي تبناه كجزء من شارته الإمبراطورية؛ ويحق له أن يخلد في التاريخ باسم إيفان الكبير.

كانت موسكوفيا تتمتع دوماً بميزة إستراتيجية هامة لأنها واقعة في مركز تتلاقى فيه شبكات أنهار روسيا وبالتالي اتصالاتها، وقد صارت منذ القرن الخامس عشر أكبر مركز للسكان في البلاد. وإلى الجنوب منها مباشرة تقع منطقة الأرض السوداء المشهورة بتربتها الزراعية الخصبة، كما أنها لم تعرف بين عامي 1389 و 1589م أي خلال أكثر من قرنين من الزمن إلا ستة حكام متتاليين، وقد أمنت فترات الحكم الطويلة هذه قدراً كبيراً من الاستقرار لحكومتها. وكانت هذه كلها مزايا كبيرة استغلها الحكام النشطاء والأكفاء الذي أتوا بعد إيفان، ولو أن بعضهم كانوا في الوقت نفسه مجانين، ومنهم إيفان الرهيب وهو ايفان الرابع الذي ارتقى العرش في عام 1533 م. في منتصف القرن السادس عشر كانت مساحة موسكوفيا قد توسعت من 400.000 كم مربع إلى حوالي ثلاثة ملايين، وفي عام 1600 كانت مساحة روسيا تساوي مساحة بقية أوروبا المسيحية كلها معاً. كما أن إيفان الرابع قد زاد من ترسيخ الملكية الروسية عن طريق فرض سيطرته على كافة أراضيه تقريباً ورغم أنها سوف تتداعى من جديد في الأزمنة المضطربة التي جاءت على عهد خلفائه فقد كانت دليلاً آخراً على النمط الخاص الذي جرى عليه أسلوب الحكم في موسكو.



صنع الأمم

يعتقد الكثيرون اليوم أن مبرر قيام دولة ما إنما هو وجود شعب يجمعه شعور مشترك بالانتماء إلى أمة واحدة، وهذه هي العقيدة التي نسميها القومية. وتدعي الكثير من الدول الحديثة أنها دول قومية.




حرب المئة عام
يطلق هذا الاسم عادة على مرحلة من الصراع المتقطع بين الإنكليز والفرنسيين سببه ادعاءات الإنكليز الحق بتاج فرنسا، فبعد أن أدى ملك إنكلترا إدوارد الثالث الولاء لملك فرنسا عن أراضيه في أكيتانيا، عاد فانقلب على سيده وأدى هذا إلى معارك صريحة
1339م
إدوارد الثالث يعلن نفسه ملكاً على فرنسا، مدعياً أنه ورث هذا الحق عن أمه
1340م
انتصارات الإنكليزفي سلويز معركة بحرية،1340وكريسي1346والاستيلاءعلى كاليه 1347
1355-1356م
الأمير الأسود يغير على فرنسا من الجنوب الغربي والفرنسيون يهزمون في بواتييه
1360م
معاهدة بريتيني تنهي المرحلة الأولى من الحرب، إدوارد يمنح دوقية أكيتانيا بعد أن توسعت وصارت ذات سيادة
1369م
الفرنسيون يعيدون إذكاء الصراع، هزيمة الأسطول الإنكليزي في لاروشيل 1372 وخسارة أكيتانيا ويتبع ذلك تراجع مستمر في وضع الإنكليز
1399م
خلع الملك ريتشارد الثاني الذي تزوج في عام 1396 من ابنة شارل السادس ملك فرنسا يجدد عداوة الفرنسيين
1405-1406م
الفرنسيون يرسون في ويلز ويهاجمون أراضي الإنكليز في غيين.
1407م
اندلاع الحرب الأهلية في فرنسا التي استغلها الإنكليز
1415م
هنري الخامس يعيد التأكيد على حق الإنكليز بعرش فرنسا التحالف مع برغنديا وهزيمة الفرنسيين في أجنكور ثم إعادة فتح نورمنديا 1417-1419م
1420م
معاهدة تروا تثبت فتح نورمنديا، زواج هنري الخامس من ابنة ملك فرنسا والاعتراف به ولياً على عرش فرنسا
1422م
موت ملك إنكلترا هنري الخامس وملك فرنسا شارل السادس ، هنري السادس يرتقي عرش إنكلترا ، الإنكليز يتابعون الحرب بنجاح
1429م
تدخل جان دارك الذي أنقذ أورليان، شارل السابع يتوج ملكاً في ريمس
1430م
هنري السادس يتوج ملكاً على فرنسا
1436م
خسارة باريس بعد انهيار التحالف الإنكليزي البرغندي
1444م
معاهدة تور إنكلترا تتنازل عن دوقية مين
1449م
الإنكليز يخلون بمعاهدة تور، فتنهار المقاومة الإنكليزية تحت الضغط الفرنسي المنظم
1453م
هزيمة الإنكليز في كاستيون تنهي جهودهم لاستعادة غسكونيا، فلايبقى لهم إلا كاليه وجزر القنال والمانش ويجرجر الصراع أذياله في حملات فاشلة قاموا بها في عام 1474و1492
1558م
الإنكليز يخسرون كاليه، ولكن ملوك إنكلترا احتفظوا بلقب ملك فرنسا حتى جورج الثالث بل ظلت شارة الملكية الفرنسية تظهر على شعار صحيفة التايمز حتى عام 1932




ولكن القليل منها على هذه الصورة فعلاً. والحقيقة أن هذه الفكرة لم تظهر حتى عهد قريب فقد وجدت الدول قبل أن يبدأ الناس بالتفكير بالقومية بزمن طويل، وكثيراً ما كان وجود الدولة هو أول ما يعطي الناس الشعور بأنهم ينتمون إلى أمة واحدة، أي أن الدول هي التي خلقت القوميات وليس العكس، ولو أن الناس يقولون اليوم إن القومية مبرر لقيام دولة، وتظهر هذه الحقيقة بجلاء كبير في أواخر العصور الوسطى، إذ ظهرت في تلك الحقبة بعض أهم الدول والقوميات في أوروبا الغربية، ففي عام 1500 كانت كل من إنكلترا واسكتلندا وفرنسا وإسبانيا والبرتغال قد اتخذت أشكالاً لا تختلف كثيراً عن أشكالها اليوم، وكان الكثيرون من سكانها يشعرون أيضاً بالشعور القومي.

ولكن هذا الأمر لا ينطبق على الجميع، إذ كان هناك أناس يشعرون بأنهم ألمان أو إيطاليون لأنهم يتحدثون اللغة نفسها، من دون أن يكونوا تحت حكم واحد على الإطلاق، فإيطاليا مثلاً لم تكن أكثر من تعبير جغرافي كما قال رجل دولة نمساوي، فحتى القرن التاسع عشر، وكان البابا يتمتع بمكانة خاصة جداً في أوروبا كرأس للكنيسة، ولكنه لم يكن بين الأمراء الإيطاليين إلا واحداً من حكام كثيرين. وكانت له سلطته الدنيوية على أراضيه المتميزة عن سلطته الروحية كقائد للكنيسة، وكانت دولته مستقلة من حيث المبدأ، مثل جمهورية البندقية أو دوقية بارما الصغيرة.

أما وضع ألمانيا فكان أكثر تعقيداً حتى من هذا، إذ كان القسم الأكبر منها ضمن الإمبراطورية الرومانية المقدسة، التي كان أمراؤها ومدنها وفرسانها الإمبراطوريون أتباعاً إقطاعيين للإمبراطور، إلا أن قسماً كبيراً من هذه الإمبراطورية لم يكن ألمانياً، وقد جرت محاولات متكررة لتحويل الإمبراطورية إلى بنية أكثر مركزية يكون فيها الإمبراطور أقرب إلى الملك منه إلى السيد الإقطاعي، ولكن تلك المحاولات باءت كلها بالفشل. لذلك بقي الألمان شعباً يتحدث أشكالاً مختلفة من اللغة الألمانية ولكنهم رعايا لكيانات كثيرة ومتباينة مثل رئيس أساقفة ماينز أو مدن رابطة الهانزا التجارية في الشمال أو أمير بافاريا، أو واحدة من مئات الوحدات المستقلة الأخرى التي كان بعضها في الحقيقة صغيراً جداً.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://resalahmasriyah.mam9.com
Eng. Ahmedzoubaa
Admin
Eng. Ahmedzoubaa


عدد المساهمات : 1216
تاريخ التسجيل : 28/08/2010
العمر : 50

الفصل السابع - صنع أوروبا  Empty
مُساهمةموضوع: رد: الفصل السابع - صنع أوروبا    الفصل السابع - صنع أوروبا  Emptyالأربعاء 15 يونيو 2011 - 0:14

إنكلترا وفرنسا

كانت ملكيتا إنكلترا وفرنسا هما أول ملكيتين قوميتين رئيسيتين، وكان الملك ألفرد بداية قصة إنكلترا، والملك هوغ كابيه بداية قصة الثانية، وسوف يحكم أحفاد هذا الأخير فرنسا طوال أربعمائة سنة.

بمرور القرون راح ملوك فرنسا يوسعون أراضيهم وسلطتهم رويداً رويداً حول النواة المكونة من أملاك أسرة كابيه، ولكن فرنسا بقيت لزمن طويل أكثر إقطاعية من إنكلترا، أي أن ملكيتها لم تبلغ من السلطة ما يضمن لها ولاء جميع رعاياها بصرف النظر عن عهودهم والتزاماتهم نحو السادة الآخرين.

ومع ذلك نجح الكابيتيون نجاحاً كبيراً، ففي عام 1300 كانوا قد أخذوا نورمنديا وغيرها من الإقطاعيات من ملوك إنكلترا، إذ كان هؤلاء يحتفظون بأراضٍ وإقطاعيات في فرنسا منذ فتح النورمان، إلا أن ملوك إنكلترا قد تشبثوا بادعاءاتهم، فكانت النتيجة سلسلة من المعارك بين إنكلترا وفرنسا امتدت من عام 1337 إلى عام 1453 وسميت حرب المائة عام وهي لم تكن في الحقيقة معارك متصلة ولكنها كانت هامة جداً في تقوية الملوك في كل من البلدين، وبالأخص ملوك فرنسا، وفي غرس الشعور بالوطنية أو على الأقل بالعداوة نحو الأجنبي في قلوب الفرنسيين والإنكليز على السواء.

لقد كانت إنكلترا هي الخاسرة على المدى البعيد، بالرغم من انتصاراتها الكبيرة في معركتي أجنكور وكريسي، وفي عام 1500 لم يعد لملوكها أراض تذكر على القارة الأوروبية، ولكن فرنسا هي التي عانت المعاناة الأكبر، لأن الحملات إنما خيضت على أرضها.

وفي النصف الثاني من القرن الخامس عشر، لم تعد الجيوش الإنكليزية تؤرق ملوك فرنسا، فانصرف هؤلاء أخيراً إلى ترتيب أمور بيتهم، وإن زوال غزوات الأجانب ودعمهم للمتمردين قد مكنهم من معالجة أمر النبلاء الأقوياء بحزم أكبر، وكان هذا هو الموضوع الأهم في قصة الملكية الفرنسية طوال القرنين القادمين.

لقد ظهرت في القرن الخامس عشر بطلة قومية فرنسية مشهورة هي جان دارك ربما لم يسمع بها على أيامها إلا القليلون من الفرنسيين، ولكنها سوف تصبح على المدى البعيد قديسة وتدخل عالم الأساطير.

وعلى هذه الصورة كانت العصور الوسطى المتأخرة تذكي الشعور بالهوية القومية، ففي القرن الرابع عشر أصبح القديس جورج هو القديس الحامي لإنكلترا، وصار الجنود الإنكليز يضعون صليبه الأحمر على شاراتهم العسكرية مع أنه في الحقيقة شخصية غامضة لانعرف الكثير عنه ولا عن أسطورة قتله للتنين، التي لايمكن أن يكون لها أساس واقعي على كل حال.

وفي نفس المرحلة تقريباً راح الناس يدونون تواريخ قومية لبلادهم ويكتشفون أبطالاً قوميين في أيامها الماضية. من أولئك الأبطال الملك آرثر، وإذا كان له وجود حقيقي فقد كان على الأرجح أرستقراطياً رومانياً من بريطانيا القرن الخامس، وإن الذي اخترعه هو رجل من ويلز في القرن الثاني عشر.

وبدأت بالشيوع أيضاً أساطير وقصص كتب بعضها باللغات الدارجة بين الناس وليس باللاتينية التي كانت اللغة التقليدية للعلم. فكان هذا الأدب المكتوب باللغات المحلية دليلاً على انقسام شعوب أوروبا إلى القبائل البربرية القديمة وتطورها المضطرد نحو القومية.

ثم جاء اختراع الكتابة فأعطاه زخماً عظيماً وبدأت تظهر مكتوبة بلغات قريبة من اللغات الحالية بحيث يمكن قراءتها من دون عناء.

إسبانيا

من أوائل الأعمال في الأدب الإسباني قصيدة طويلة عن بطل قومي يدعى السيد، والحقيقة أن قصة أمته، أي الأمة الإسبانية، قد أخذت منحى مختلفاً جداً عن بقية أمم أوروبا. ولم تتطور بنية الدولة في إسبانيا إلا ببطء شديد، فحتى في عام 1500 لم تكن بعد مملكة واحدة من الناحية القانونية، ولكنها تطورت بصورة سريعة وقوية على صعيد الشعور الشعبي، والسبب هو إسبانيا إنما صنعتها الحرب، أي حرب استعادتها للمسيحية.

وقد بقي ميزان القوى بين المسيحيين والمسلمين يتأرجح لردح من الزمن، ولكن التيار العام كان ضد العرب، لأنهم كانوا يواجهون في الوقت نفسه انقسامات داخلية، فيما بينهم في منتصف القرن الثاني عشر، كانت مدينة طليطلة، وهي مدينة عربية كبرى، قد صارت مسيحية من جديد، كما نشأت مملكة البرتغال المسيحية.

وفي منتصف القرن الثالث عشر سقطت اشبيلية بيد ملك قشتالة، بعد أن كانت مركزاً عظيماً للثقافة العربية، كما أخذت مملكة أراغون مدينة بلنسية العربية. وفي عام 1469 اقترن فرديناند ملك أراغون بإيزابيلا ملكة قشتالة، وعرفا في التاريخ الإسباني بالعاهلين الكاثوليكيين، وعلى عهدهما اكتملت استعادة إسبانيا وسقطت آخر معاقلها أي مدينة غرناطة الجميلة بيد الإسبان في عام 1492، وهكذا انتصر الصليب في إسبانيا.

وخلال سنوات قليلة تم طرد اليهود والموريسكو وهو الاسم الذي صار يطلق على العرب والبربر، فكان هذا دليلاً على ارتباط القومية الإسبانية بالديانة المسيحية وبالنقاوة الأيديولوجية بصورة أعمق وأوثق منها في أية أمة أخرى، وقد انتهى هذا الارتباط إلى نتائج مأساوية جمة.



الحرب والسلطة

لقد لعبت الحروب دوراً كبيراً وجلياً في صنع الأمم في أوروبا الغربية، فمنذ أيام ألفرد وما بعد صارت الأمم الأوروبية تبنى على يد أفراد أقوياء قادرين على شد أواصرها، وكثيراً ما كانوا يجمعون كلمتها وشملها في مواجهة الغازي الأجنبي.

قبل عصر البارود كانت الحرب تعتمد بصورة أساسية على الخيالة المدرعين وعلى بناء القلاع من أجل تمتين انتصاراتهم وترسيخها على المدى البعيد، ولذلك راح النبلاء والملوك يشيدون قلاعاً لأنفسهم، فتمكن بعضهم من أن يبلغ درجة عالية من الاستقلال.

إلا أن تغيرين هامين قد حصلا في القرن الرابع عشر، أولهما استخدام الإنكليز والويلزيين للقوس الطويلة في رمي السهام في معركة كريسي ثم في معركة أجنكور في القرن التالي، فقد بين أن هذا أن الخيالة المدرعين ليسوا قوة لا تقهر بل إن بالإمكان صدهم. ولكن هذه السهام لاتكون كافية لهذا الغرض إلا إذا أطلقت بصورة أسراب مركزة وكثيفة، فلابد من استئجار الرماة بأعداد كبيرة، وكان هذا أمراً مكلفاً، وكان الملوك أقدر عليه من الزعماء لأنهم أوفر منهم ثروة. فظهر عندئذٍ الجنود المحترفون الذين يقاتلون مقابل أجر يقبضونه جزاء لخدمتهم، ولهذا كان السبب كنت تراهم ينتقلون دوماً من سيد إلى آخر في أرجاء أوروبا.

أما التغير الثاني فقد أتى مع ظهور الأسلحة النارية الأولى، وكانت هذه في البداية أدوات فظة وضعيفة، ولكن سرعان ما صارت تصنع منها أشكال يمكن لطلقاتها أن تخترق الدروع وتدك الأسوار المنيعة، ومالبثت الأسلحة النارية الأوروبية أن أضحت الأفضل في العالم، كما كان صانعوها والمشتغلون بالتعدين يكثرون بأعداد تدل على نمو هام في المهارات والخبرات التقنية، أما الأرستقراطية كطبقة عسكرية مستقلة فكانت في أيامها الأخيرة، وإذا أتيح لبعض الزعماء أن يمارسوا شيئاً من السلطة بعد ذلك يكون إما من خلال الملك أو بتفويض منه.

وكانت عملية تمركز السلطة هذه عملية بطيئة وطويلة، ولكن الحقيقة أن ثورات النبلاء التي طالما أرقت الملوك وروضتهم في الماضي قد أصبحت نادرة، ويدين الإنكليز بالوثيقة الدستورية الهامة والمسماة الوثيقة العظمى Magna Carta إلى إحدى تلك الثورات إلا أن هذه القصة تمتد إلى أزمنة لاحقة.

في عام 1500 م كانت بعض البلدان قد سارت شوطاً أكبر من بعضها الآخر نحو خلق دولة حقيقية، وإذا كان الحكم المركزي هو المقياس، فربما كانت أكثر مملكة متقدمة في أوروبا في ذلك التاريخ هي إنكلترا.

لقد ظل بعض النبلاء حتى القرن الخامس عشر يعتبرون الحرب استثماراً طيباً لجمع الثروات عن طريق أسر السجناء ثم إعتاقهم مقابل فدية، كما ظلت مبادئ الفروسية تدفعهم أحياناً إلى الصراع دفاعاً عن مصالحهم رغم فداحة الثمن، إلا أن تلك الأيام كانت تولي بسرعة، وكانت الحرب تتحول إلى شأن قومي، أي أنها تستدعي بالضرورة موارد دولة كبيرة لتمويلها.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://resalahmasriyah.mam9.com
Eng. Ahmedzoubaa
Admin
Eng. Ahmedzoubaa


عدد المساهمات : 1216
تاريخ التسجيل : 28/08/2010
العمر : 50

الفصل السابع - صنع أوروبا  Empty
مُساهمةموضوع: رد: الفصل السابع - صنع أوروبا    الفصل السابع - صنع أوروبا  Emptyالأربعاء 15 يونيو 2011 - 0:14

مجتمع العصور الوسطى المتأخرة

راحت المدن في أوروبا تنمو نمواً حثيثاً بعد عام 1100، فكان هذا تطوراً هاماً وصورة من صور التسارع العام الذي طرأ على الحياة الاقتصادية فيها. وكان الملوك يحبون المدن في البداية لأنها تنشط التجارة، والتجارة يمكن فرض الضرائب عليها، وكثيراً ماكانوا يمنحونها براءات تضمن لها حقوقها ومزاياها الاقتصادية بالسيطرة على الأسواق مثلاً، وتجعل من الصعب على الأرستقراطية أن تتدخل في شؤونها.

لهذا كانت المدن عناصر خارجة عن النظام الإقطاعي المألوف، وكانت تتمتع بالحرية، وقد ظهرت فيها أشكال جديدة من التنظيم، وصنف جديد من الناس الذي لا يعتمدون في معيشتهم على الأرض رأساً بل على المهن الحرة والتجارة والصناعة.

وكانت المدينة تسمى borough وبالألمانية Burg وكان الفرنسيون يسمون سكانها*bourgeois أما زعماؤها فكانت تستمدهم من النقابات الخاصة بممارسي حرفة أو مهنة معينة.

وهكذا صارت المدن الأوروبية متميزة عن بقية المجتمع من نواح هامة، ولايبدو أن هذا قد حدث في مدن الحضارات الأخرى، وكانت تجتذب إليها الأشخاص الذين يكرهون العيش في الريف حيث كانت الكلمة الأخيرة دوماً بيد صاحب الأرض، ويقول المثل الألماني "إن هواء المدينة يجعل المرء حراً".

ولكن ليس هناك من صيغة عامة تصح على جميع أنحاء أوروبا في العصور الوسطى، لأنها كانت على درجة كبيرة من التنوع، ورغم أوجه الشبه فيما بينها، فإن الفروق بين مكان وآخر كانت كبيرة.

ورغم أن المجتمع قد بدأ يزداد تعقيداً في القرن الثاني عشر، ورغم ازدياد أعداد الناس الذين يحصلون معيشتهم من ممارسة مهن مثل المحاماة والتجارة والحياكة، فإن الاقتصاد بصورة عامة ظل في المحصلة معتمداً على الأرض، وظلت الزراعة تطغى على كل شيء آخر، فكانت المواد المتوفرة لصناعة تلك الأيام هي الصوف، والجلد والحبوب لحرفة التخمير، والخشب لحرفة البناء.

وكانت كل مدينة تعيش على المنتجات الزراعية لمحيطها القريب، حتى السياسة كانت في جوهرها نزاعاً حول ملكية الأرض وحق المشاركة في فائض إنتاجها. وكانت غلة الأرض هي التي تحدد نجاة المجتمع من المجاعة أو وقوعه في براثنها، إذ لم يكن بالإمكان جلب الغذاء من مناطق بعيدة في حال عوزه، ولن يصبح هذا الأمر ممكناً إلا بعد مرور زمن طويل.



الموت الأسود ومابعده

رأيت كيف كان الإنتاج الزراعي في شمال أوروبا يزداد بصورة وئيدة ولكنها مطردة، خاصة عن طريق قطع أشجار الغابات وتحويلها إلى أراضي زراعية، وكانت هذه التطورات قد سارت مسافة كبيرة بحلول عام 1100م.

وقد ظلت هناك مناطق شاسعة من الأراضي البور والغابات حتى بعد هذا التاريخ، وبقي نمو الزراعة يعتمد بصورة أساسية على توسيع أراضيها. ولكن هذا الوضع تغير في القرن الرابع عشر، فلم يعد ثمة الكثير من الأراضي الجديدة التي يمكن زراعتها بالأساليب المتاحة، وفي هذه المرحلة حلت بأوروبا موجة عاتية من الجائحات الرهيبة.

ويبدو أن الأمر ابتدأ بتفشي داء الطاعون الدملي في الصين في عام 1333م، ثم حملت الجرذان هذا المرض عبر الطرق التجارية إلى الشرق الأوسط وروسيا عن طريق القوافل أولاً ثم عن طريق السفن، لأن البراغيث التي يحتوي جسمها على جرثومة الطاعون تعيش على جلد الجرذان.

وفي عام 1348 ظهر الداء في أوروبا الغربية، وفي العام نفسه دخل إلى إنكلترا من خلال مرفأ بحري صغير في دورست، وقد نشر الطاعون نتائجه المروعة في كل مكان، بسبب الأعراض الفظيعة التي تتظاهر بها بعض أشكاله، وبسبب الأعداد الهائلة من الأرواح التي راح يحصدها بالجملة، وبقي هذا الطاعون في ذاكرة الأجيال باسم الموت الأسود.

لقد هلك ثلث عدد السكان في مدنية بريستل، وربما كانت هذه أيضاً نسبة الوفيات الإجمالية في إنكلترا، أما في القارة نفسها فكانت الأمور أبشع في بعض الأماكن لأن الموت الأسود عاد المرة تلو المرة، فكان الناجون من الطاعون يموتون بأمراض أخرى، وبعد كل هذا حلت بالناس المجاعة بسبب انهيار إنتاج الغذاء وتقلص التجارة.

وقد وصل الهلع بالناس إلى أن بعضهم كان يظن أن نظرة واحدة من شخص مريض تكفي لإهلاك من تصيبه، وجاءت آخر هجماته الشديدة في عام 1390م، وكان الموت الأسود عندئذٍ قد جلب الخراب والدمار إلى كافة أنحاء أوروبا، وبدل أوضاعها تبديلاً عظيماً.

لقد أدى هبوط عدد السكان إلى انهيار إنتاج الغذاء على نطاق القارة بأسرها بسبب النقص الكبير في الأيدي العاملة اللازمة لحراثة الحقول وزراعتها، وعلى إثر هذه الأزمة نشب الصراع الاجتماعي بصورة ثورات الفلاحين وانتفاضاتهم. واستفزتهم محاولات أصحاب الأراضي لجعلهم يقومون بنفس المقدار من العمل الذي كانوا يقومون به في السابق رغم تضاؤل أعدادهم.

إلا أن عبيد الأرض كانوا يعلمون تماماً أن نقص عدد الأيدي العاملة يمكنهم من طلب أجور أعلى تدفع لهم نقداً، وقد حاول أصحاب الأراضي فرض امتيازاتهم القانونية السابقة، ولكن الحقائق الاقتصادية راحت تكرههم على استئجار الأيدي العاملة بالمال بدلاً من تشغيلها كجزء من آجار الأرض. وكانت هذه واحدة من العلامات الأولى على بداية زوال نمط قديم من المجتمع، وحلول نمط جديد مبني على العمل مقابل أجر، وهكذا كان الموت الأسود عاملاً أساسياً في تسريع تغير هام وطويل الأمد.

وأدى هذا أيضاً إلى انتقال ملكية الأرض إلى أيد جديدة، لأن أصحاب الأرض عندما وجدوا أنفسهم عاجزين عن زراعة أراضيهم صار بعضهم يقسم أملاكه الكبيرة ويبيع المزارع للمستأجرين، وهكذا انخفض عدد الأراضي الكبيرة في إنكلترا مثلاً بينما ارتفع عدد الأراضي المتوسطة الحجم بعد وباء الطاعون.

كما حدث بعض التضخم لأن كمية المال المتداولة ظلت على حالها ولكنها توزعت على أعداد أقل من الناس، وكانت خسائر الأرواح من وباء الطاعون أشد في بعض الطبقات منها في بعضها الآخر، وكانت فادحة بصورة خاصة بين سكان المدن، ولهذا عانت الجامعات أيضاً، لأنها إنما كانت قائمة في المدن، والحقيقة أن بعض جامعات أوروبا قد أغلقت أبوابها ولن تفتحها بعد ذلك أبداً.



الابتكارات التقنية

ربما تحسن مردود الأرض بفضل التبدلات التي حصلت في ملكيتها، أي تقسيمها إلى وحدات أصغر وأحسن إنتاجاً، ولكنك لاتجد تقدماً في تقنية الزراعة مثل ما تم لها قبل عام 1100م. وكان التطور التقني أسرع قليلاً في بعض الحالات الأخرى، مثل تحسن مهارات الحرفيين وإتقانهم لاستخدام أدواتهم، ولكنه لم يتجاوز هذه الحدود الضيقة لكل مهنة.

والحقيقة أنه لم يحدث أي تطور سريع أو مفاجئ في أساليب المكننة أو فهمها، بل تراكمت المهارات والتقنيات بصورة بطيئة ومتدرجة. ويصح هذا بالأخص في مجال التعدين، إذ تعلم الأوروبيون أخيراً في القرن الثالث عشر تقنية سبك الحديد عن طريق صبه في قوالب وهو مصهور، فكانوا متأخرين عن الصينيين بأكثر من ألف سنة، وإن التقدم الذي أحرزوه لم يحدث على كل حال عن طريق اختراع أشياء جديدة مبتكرة بل عن طريق تبني أساليب كانت معروفة من قبل.

كانت مصادر الطاقة المتاحة لتحريك الآلات في عام 1500 وبعده بقرون عديدة أيضاً هي الريح والماء الجاري والعضلات، ولكن هذه المصادر صارت تستخدم الآن بصورة أكثر فاعلية بكثير مما كان عليه الحال في الماضي. فالطاحونة الهوائية قد سهلت كثيراً طحن الحبوب وغيره من الأعمال التي كانت تتم بواسطة اليد، خاصة في الأرياف. كما تيسر استخدام الطواحين المائية في الأشغال الصناعية، وسوف يظل الماء الجاري هو الطاقة الأساسية في تسيير الآلات في أوروبا والعالم كله لقرون عديدة بعد. وفي القرن الثالث عشر بدأت هذه الطاقة تستخدم لتحريك الأكيار التي تنفح الهواء في أفران الحدادين، وفي تغليظ القماش أي تنظيفه وتثخينه، وفي تشغيل المطارق وتقطيع الخشب في المناشر. ومع هذا ظلت أكثر الأعمال تعتمد على عضلات الحيوان والإنسان، ولم تحدث التغيرات إلا باكتشاف طرق أكثر فعالية في استخدام تلك الطاقة، مثل تحسين عدة الأحصنة والثيران، وإيجاد استخدامات جديدة للأدوات الحديدية، التي يحتاج العمل بها جهداً أقل من الأدوات الخشبية والعظمية.

إلا أن أكبر أشكال الصناعة وأعظمها أثراً في النفس إنما كانت حرفة البناء، التي بلغت درجة رفيعة في التخصص، صحيح أن معماريي العصور الوسطى لم يقوموا بأشغال عامة كبرى مثل التي قام بها الرومان، ولكنهم شيدوا سلسلة مذهلة من الأبنية كانت أجملها وأروعها هي الكاتدرائيات القوطية الكبرى. كانت هذه الكاتدرائيات تتطلب مهارات عالية في الهندسة وقطع الأحجار، وقد وسع هذا الأمر أعداد الحرفيين وزاد من أهميتهم، وصارت تنشأ مناطق تصنيع مختصة تتجمع فيها أعداد كبيرة من العمال الفرديين والورشات الصغيرة ولم تكن فيها معامل كبيرة، إنك تجد هذا النمط قائماً اليوم في بعض أنحاء آسيا.

وكان أبرز الحرفيين وأغناهم هم المختصون بصناعة الأقمشة، وقد ظهروا أولاً في إيطاليا، وبعد ذلك ظهرت المدن الغنية المختصة بهذه الصناعة في منطقة فلاندر التي تمتد في فرنسا وبلجيكا الحاليتين، وكان الصوف الإنكليزي بضاعة هامة تصدر إليها. وتشهد على غنى المختصين بصناعة القماش، كنائس الأبرشيات البديعة التي تراها في مناطق صناعة الصوف وحياكته في إنكلترا، حيث راح التجار يستثمرون أموالهم في تشييدها من أجل تمجيد الله وضمان الحياة الآخرة. وكانت العمارة والنحت المرافق لها من أعظم أشكال الفن في العصور الوسطى، ولكن ظهرت أشكال أخرى غيرها تدل هي أيضاً على تزايد الثروات المطرد. فقد أتقن فن تزويق المخطوطات وتخطيطها، وصارت صناعة المجوهرات فناً يقدره الناس تقديراً عظيماً وكانت لها دوماً سوقاً رائجة بين الأغنياء. كما ارتقى فن شغل الزجاج، وكانت أجمل أشكال الزجاج الملون توجد في الكنائس، بينما لم يستخدم لنوافذ البيوت في العادة لأنه كان باهظ الثمن. أما فن التصوير فقد ظل مقتصراً على المواضيع الدينية، ولكنه تحرر شيئاً فشيئاً من سلطان الكنيسة، ومن الفنون المتأخرة في صنع شعارات النبالة، وقد عمل به عدد كبير من الرسامين والنحاتين والخطاطين.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://resalahmasriyah.mam9.com
Eng. Ahmedzoubaa
Admin
Eng. Ahmedzoubaa


عدد المساهمات : 1216
تاريخ التسجيل : 28/08/2010
العمر : 50

الفصل السابع - صنع أوروبا  Empty
مُساهمةموضوع: رد: الفصل السابع - صنع أوروبا    الفصل السابع - صنع أوروبا  Emptyالأربعاء 15 يونيو 2011 - 0:15

الحياة اليومية

إلا أن نمو الثروة لا يعني أن حياة جماهير الأوروبيين قد أصبحت أريح بكثير أو أن تغذيتهم قد تحسنت، فقد كان طعامهم تفهاً لا تنويع فيه، مثل حال أكثر الناس في الشطر الأكبر من التاريخ، وكانوا يأكلون ما يتيسر الحصول عليه في أماكن عيشهم، وهو في العادة مكون من الحبوب، خاصة القمح والشعير، التي تسلق وتحضر بأشكال مختلفة من العصيدة أو الثريد، ولابأس بهذا الطعام من حيث أنه يملأ المعدة ويسد الرمق، إلا أن طعمه لم يكن بالمستساغ، ولم يكن بحوزتهم مواد لتحسين نكهته إلا بعض العسل أو خثارة الحليب أو الحليب الحامض. وقد يسهل ابتلاعه بما كانوا يشربون معه من أنواع الجعة التي تصنع من تخمير الحبوب، عدا عن الحليب والماء العادي.وكان بعض الأوروبيين القاطنين في مناطق معينة يستطيعون في حالات قليلة أكل السمك الطازج أو غيره من ثمار البحر، أو لحم الحيوانات التي يصطادوها. وكان الخضار وافرة في بعض المناطق، أما في شمال أوروبا فكان التنويع في الطعام مقتصراً على المكسرات وبعض أنواع التوت والفواكه البرية، وعلى شواطئ المتوسط كان النسا يزرعون الزيتون والعنب. وكان اللحم والزبدة والجبن أوفر في أوروبا منها في أماكن أخرى، ولكنها لم تكن متاحة عادة إلا للأغنياء، ولاريب أن هؤلاء كانوا أقوى بنية من الفقراء، ولكن حتى هم لم يكونوا يتمتعون بصحة جيدة . وكان أكثر الناس لايحصلون على القدر الكافي من الدهن والفيتامينات الضرورية لمقاومة الأمراض ومواجهة الحياة الشاقة التي يعيشونها. وكانوا يموتون في أعمار مبكرة ويقعون فريسة للأمراض بسهولة كبيرة، ويعانون من أمراض الجلد ونخر الأسنان بسبب الطعام الرديء أكثر بكثير مما هي عليه حال سكان العالم اليوم ماعدا أكثر بقاعه فقراً. وكانت النساء معرضات فوق هذا لأخطار إضافية لأن الحمل المتكرر والعمل الشاق في الحقول يضعفان أجسادهن، ولما كان الجهل بالأمور الطيبة تاماً فقد كانت علمية الولادة بحد ذاتها تشكل خطراً كبيراً.

ولم يعرف الناس شيئاً ذا بال عن أسباب انتشار الأمراض وطرق معالجتها، لذلك لم يكونوا يتخذون شيئاً من الاحتياطات التي نعتبرها اليوم بديهية. فلم تكن المجارير مثلاً في أي مدينة أوروبية في العصور الوسطى بجودة ما عرفته مدن رومانية كثيرة قبل ذلك بقرون عديدة، أو حتى مثل التي كانت في موهنجو دارو في حضارة الهند الباكرة، وكانت القمامة والقاذورات تترك لتتراكم في الطرقات، جالبة الذباب والروائح الكريهة والعدوى إلى أن ينزل المطر ويجرفها. ونادراً ما كان المصابون بالأمراض يبعدون عن الآخرين، ولو أن الموت الأسود قد أدى إلى محاولات الحجر الصحي على السفن القادمة من الشرق، ما أن الأمراض كانت تهاجم أحياناً الناس بشراسة عندما تنتقل من مكان لآخر، لأن المناعة ضدها كانت مقتصرة على مناطق محدودة.

لقد تحسنت فرص العيش حتى سن متقدمة في النهاية عن طريق اكتشاف طرق جديدة لزراعة كميات أبكر من الغذاء، أما الطب فما كانوا يلتفتون إليه إلا بعد الإصابة بالمرض، ولم يكن الطب في أوروبا على كل حال إلا مزيجاً من السحر والخرافة مع بعض الملاحظات العملية القليلة عن فوائد بعض الأعشاب والأدوية، ويبدو أن أكثر الممارسات السليمة التي عرفوها كانوا قد تعلموها من العرب. ولم يكن يخطر ببال أحد في ذلك الزمن أن وجود الطبيب إلى جانب المريض قد لايقل فائدة عن وجود الكاهن، وربما كان غياب الطبيب أرحم في الحقيقة بالنظر إلى قلة الدراية بالطب. إذ كان النجاح الأساسي في مجال الطب هو القضاء على داء البرص قضاء شبه مبرم، فقد بنيت مشافي للبرص خارج أسوار المدن كان المرضى التعساء يقضون حياتهم فيها بعيداً عن بقية البشر.



قلب حضارة

رغم أن هذا المجتمع كان قد سار خطوات كبيرة منذ نهاية العصور القديمة، فإنه يبقى بعيداً جداً عن مجتمعنا اليوم، وقد كانت بذور التغيير كامنة فيه بعد، ولم تصدر عنه إلا علامات ضعيفة ومتفرقة عن تطوره المقبل. وإن أكثر ما يميزه عن مجتمعنا إنما هو المكانة المحورية التي كان للدين فيه، فقد كانت أوروبا في نظر أكثر أهلها هي العالم المسيحي، وقد ازداد وعيها لهذا الأمر حدة بعد عام 1453م سقوط القسطنطينية، وكان الدين يرسم حياتها برمتها تقريباً، كما كانت الكنيسة عند أكثر الناس هي الوحيدة التي تسجل وتصدق كل اللحظات الكبرى في وجودهم من زواجهم، وولادة أطفالهم وتعميدهم وموتهم أيضاً.

وكان الكثيرون من الناس ينذرون حياتهم للكنيسة، وكانت نسبة الرجال والنساء الذين يدخلون في السلك الديني أكبر بكثير مما هي الحال عليه اليوم، وكان بعضهم يسعون للاعتزال في الأديرة بعيداً عن الحياة اليومية المنفرة، وحتى العالم العادي خارج الأديرة لم يكن في الحقيقة علمانياً مثل عالمنا. فقد كانت المعرفة وأعمال الخير والإدارة والعدالة وقطاعات واسعة من الحياة الاقتصادية واقعة كلها ضمن نطاق الدين وتحت سيطرته، وحتى عندما كان الناس يهاجمون رجال الكنيسة كانوا يفعلون ذلك باسم المعايير التي علمتهم إياها الكنيسة نفسها وبالاحتكام إلى معرفة إرادة الله حسبما أخذوها عنها. وهكذا كان الدين أعمق ينابيع حضارة أوروبا، وكان يشكل حياة الناس جميعاً ويحدد لهم الهدف والغاية من تلك الحياة.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://resalahmasriyah.mam9.com
 
الفصل السابع - صنع أوروبا
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1
 مواضيع مماثلة
-
» الفصل الحادي عشر - التسارع الكبير
» الفصل الثالث عشر - الشوط الطويل
» الفصل الثالث - أسس عالمنا
» الفصل الأول - قـبل التـاريخ
» الفصل الثامن - عصر الاكتشافات والمواجهة

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
رسالة مصرية ثقافية :: قسم العلوم التربوية والأدبية :: التاريخ العربي :: كتاب تاريخ العالم-
انتقل الى: