أبناء الناصر محمد وأحفاده ونهاية دولة المماليك البحرية
741-784هـ = 1340-1382م]
وفاة الناصر :
أراد الناصر في سنة 732هـ (1331م) أن ينظم وراثة العرش من بعده ، فعهد بالملك إلي ابنه الأمير ناصر الدين آنوك فوافقته الأمراء علي ذلك ، وركب آنوك بشعار السلطنة ووزعت الخلع علي الأمراء وكبار الموظفين ، ولكن الناصر عاد فعدل عن رأيه وأمر أن يلبس آنوك شعار الأمراء ولا يمنح ولاية العهد ، ومهما يكن من شيء فقد توفي آنوك قبل أبيه ببضعه أشهر في يوم الجمعة 17 ربيع الأول سنة 741هـ (1340م) وعمره ثماني عشرة سنة( )، ولعل السبب في عدول الناصر عن توليته العهد أنه لم يكن حينئذ قد تجاوز التاسعة عشرة من عمره .
وظل الحال علي ذلك دون أن يمنح الناصر ولاية العهد لولد من أولاده حتى يمرض سنة 741هـ (1340م) وأحس بدنوا أجله ، فرأي أنه ليس من الحكمة أن يترك هذه المملكة الواسعة من غير أن يعهد إلي أحد من بعده ، فجمع أمراء الدولة ، وأبلغهم أن رأيه قد استقر علي أن يعهد بالملك من بعده إلي ابنه سيف الدين أبي بكر ، وأوصاهم بتنفيذ ذلك بعد وفاته ، فامتثلوا أوامره وعاهدوه علي ذلك( ).
ولما سمع أهل مصر بسوء حالة الناصر الصحية أظهروا ألمهم الشديد ، وعبروا عن حزنهم بمظاهرات نادوا له فيها بطول العمر ودعوا له بكامل الشفاء لما كانوا يعتقدونه من أن وجوده علي عرش مصر يمنع عن أهلها البؤس والشقاء ، وقد كان ذلك مألوفاً عند موت خيار السلاطين والأمراء ، كما كانت تشترك فيه الطوائف المختلفة في معظم الأحيان.
وحسبنا دليلاً علي ثقة الناس في حكومته الوطيدة الأركان مخاوفهم مما قد يحل بهم من بعده ، أنهم أغلقوا حوانيتهم حين انتشر خير مرضه وخزنوا المواد الغذائية إلي وقت الحاجة، فكأنهم كانوا يعتبرون وفاته كارثة تحل بالبلاد وإيذاناً باضطراب أحوالها .
ولما اتصل بمسامع الناصر قلق شعبه عليه ، تأثر بالغاً ، وأمر عند ما شعر بشيء من النشاط والقوة بإقامة معالم الزينات في العاصمة ، لكي يفرج عن شعبه المخزون عليه ولكن دعاء الشعب لم يحل بين الناصر وبين القضاء المحتوم . وتوفي في 20 من ذي الحجة سنة 741هـ (1340م)( ). بعد أن أصبحت مصر في عهده إمبراطورية شاسعة الأرجاء ، وغدت القاهرة مركز التجارة والصناعة وكعبة العلم والفن ، وقبلة أنظار المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها .
وقد وصف المقريزي جنازة السلطان وصفاً مؤثراً فقال : إنها وقعت بالليل ، ولم يسر وراءها سوى عدد قليل من أمراء مصر ، وبذلك لم يشترك الشعب في توديع سلطانه الذي حياه بعطفه ومحبته ، كما لم تراع في تكفينه ومرارته التراب مراسم الاحترام والإجلال اللائقين بسلطان عظيم كالناصر ، تمتعت البلاد في عهده بكل أنواع الراحة والطمأنينة . ويظهر أن ذلك العمل كان بتدبير بعض أمراء مصر الذين نقموا الناصر شدته عليهم وقضاءه علي دسائسهم وقمعه لفتنتهم التي طالما هددت عروش سلاطين المماليك ومنهم علي الناصر نفسه . يقول المقريزي :
"فأقام في الملك من غير منازع له فيه إلي أن مات بقلعة الجبل في ليلية الخميس الحادي والعشرين من ذي الحجة سنة إحدي وأربعين وسبعمائة … ولما مات ترك ليلته ومن الغد حتى تم الأمر لابنه أبي بكر المنصوري في يوم الخميس المذكور ، ثم أخذ في جهازه فوضع في محفه بعد العشاء الآخرة بساعة وحمل علي بغلين وأنزل من القلعة إلي الإصطبل السلطاني وسار به الأمير ركن الدين بيبرس الأحمدي أمير جاندار والأمير نجم الدين أيوب والي القاهرة والأمير قطلوا بغا الذهبي وعلم دار خوطا جار الدوادار وعبروا به إلي القاهرة إلي باب النصر ، وقد غلقت الحوانيت كلها ومنع الناس من الوقوف والنظر إليه، وقدام المحفة شمعة واحدة في يد علدار ، فلما دخلوا به من باب النصر كان قدامه مسرجه في يد شاب وشمعه واحدة وعبروا به المدرسة المنصورية بين القصرين ليدفن عند أبيه الملك المنصور قلاوون ، وكان الأمير علم الدن سنجر الجاولي ناظر المارستان قد جلس ومعه القضاة الأربعة وشيخ الشيوخ ركن الدين سيخ خانقاه سرياقوس والشيخ ركن الدين عمر ابن الشيخ إبراهيم الجعبري ، فحطت المحفة وأخرج منها فوضع بجوار الفسقية التي بالقبة وأمر ابن أبي الظاهر بتغسيله ... ووضع في تابوت من خشب وصلي عليه قاضي عز الدين عبد العزيز محمد بن جماعة الشافعي بمن حضروا. وأنزل إلي قبر أبيه في سحلية من خشب قد ربطت بحبل ونزل معه إلي القبر الغاسل والأمير سنجر الجاولي ودفع إلي الغاسل ثلاثمائة درهم فباع ما نابه من الثياب بثلاثة عشر درهماً سوي القبع فإنه فقد ، وذكر الغاسل أنه كان محنكاً بخرقة معقدة بثلاث عقد ، فسبحان من لا يحول ولا يزول ، هذا ملك أعظم المعمور من الأرض مات غريباً وغسل طريحاً ودفن وحيداً ، إن في ذلك لعبرة لأولي الألباب"( ).
غير أن تلك المعاملة السيئة لجثمان سلطان من أعظم سلاطين المماليك لم تعقد لسان الشعراء من صفوف الشعب عن تأبينه والإشادة بذكره ، بدليل ما ورد في كتاب الإلمام الذي ألفه النويري الإسكندراني ما بين سنة 1365-1367م ، ونص عبارته كما يلي :
"نعود إلي ذكر محاسن السلطان الملك الناصر محمد ابن الملك المنصور قلاوون ، كان رحمه الله عادلاً في رعيته ، محسناً في قبضته ، أبطل المظالم ، وكيف أيدي كل ظالم ، وكان هيكلاً حسناً علي ظهر فرسه ، كبير الوجه أحمر اللون ذو لحية كبيرة قد خطه الشيب ، فقيل في المعني :
فقد الوجود بل الوجود لفقده
متحسراً أضحي شيبه الحائر
جج
يبكي عليك بأدمع كيواقت
حمر ولؤلؤ بعضها كجواهر
زار الثرى فأضا الثري من نوره
وأجابه أهلاً بنعم الزائر
فغدا به القبر الذي قد حله
روضاً يفوح كنشر مسك عاطر
وكأنه قد حل فيه روضه
ممطورة قد نمقت بأزاهر
سقياً لترب حل فيها جسمه
قد عطرت منه بجسم طاهر
كم حجة قد حجها مبرورة
كم وقعة شهدت له ببصائر
في شقحب حز الرؤوس بسيفه
قهراً ونصراً من عزيز ناصر
قد مده بالعز منه أولاً
فضلاً ونتم فضله في الآخر
بيت قلاوون وتجربة نظام الوراثة :
بلغت دولة المماليك البحرية أوج قوتها داخلياً وذورة عظمتها في المجال الدولي في عصر الناصر محمد بن قلاوون ، وكان لشخصية الناصر وأبيه قلاوون ولطول المدة التي حكمها فيها أثر قوى في تعلق أمراء المماليك بالأسرة ، ولهذا أجمعوا بعد وفاة الناصر علي إبقاء السلطنة في أبنائه ، فولي الحكم في الأربعين سنة التالية لوفاة الناصر (1340م-1282م) إثنا عشر سلطاناً من أولاده وأحفاده ، ثمانية منهم من أولاده حكموا نحو العشرين ، وأربعة من أحفاده حكموا في العشرين سنة الثانية .
وقد ولي هؤلاء الأبناء والأحفاد العرش أطفالاً صغاراً ، فلم يكن لهم من الأمر شيء ، بل كانت أمور الدولة كلها في أدي كبار الأمراء ، فشغلوا بالمؤامرات والمنافسات عن النظر في صالح البلاد والرعية فساءت الأحوال الاقتصادية وعمت الفوضي ، وزاد الطين بلة حدثان خطيران وقعاً في تلك الحقبة :
- أولهما انتشار الوباء الأسود (1348م-1249م) .
- وثانيهما غزوة القبارصة لمدينة الإسكندرية (1365م).
وعلي الرغم من ضعف أبناء الناصر وحفدته وصغر سنهم ، وعلي الرغم من كثرة المنازعات التي نشبت بين أمراء المماليك ، فإن أحداً منهم لم يجرؤ علي التقدم لتولية العرش ووضع حد لحكم أسرة بني قلاوون ، ويمكن تفسير هذه الظاهرة بأن أمراء المماليك قنعوا بما في أيديهم من سلطان فعلي وتركوا للسلاطين الصغار من بيت قلاوون المنصب والاسم ، أو أنهم عجزوا فعلاً علي أن ينقعوا الرأي العام المعاصر بالتخلي عن بيت قلاوون بعد أن بذل ما بذل من الجهود وأدي ما أداه من خدمات لمصر وللسلطنة المملوكية وخاصة في عهدي قلاوون وابنه الناصر محمد .
وهذه ظاهر لها أشباه في التاريخ ، وخير شبيه لها الخلافة العباسية في أخريات أيامها في بغداد ، فقد قنع المتسلطون عليها من بويهيين وسلاجقة بالسلطان الفعلي وأبقوا علي الخلفاء، وتركوا لهم من المنصب واللقب يستترون وراءهما للتصرف في أمور الدولة كما يشاءون وللتحكم في الخلفاء أنفسهم .
ولكن هذه التجربة الفريدة لتطبيق نظام وراثة السلطنة في العصر المملوكي باءت أخيراً بالفشل حين تفاقمت الفوضي ومهدت السبيل لازدياد قوة المماليك البرجية أو الجراكسة ونفوذهم حتى (عرفوا – كما يقول المقريزي – بين الأمراء وقوي أمرهم ، وصار منهم أمراء وأصحاب أخباز ، وتميزوا بكبر عمائمهم).
وانتهي الأمر بنجاح واحد من هؤلاء الأمراء الجراكسة - وهو برقوق – في خلع آخر سلطان من حفدة الناصر ، وفي تولي العرش ، فكان هذا إيذاناً بنهاية حكم أسرة بني قلاوون ودولة المماليك البحرية وببدء دولة جديدة هي دولة المماليك البرجية أو الجراكسة ، وفيما يلي تفصيل الحديث عن هذه الحقبة من حكم أولاد الناصر وحفدته .
أولاد النـــاصــــر ( )
بعد وفاة الناصر سنة 741هـ (1340م) ، دخلت دولة المماليك البحرية في طور في طور جديد من نظم الحكم ، وذلك بسبب كثرة عدد السلاطين الذين اعتلوا العرش ، وصغر سنهم ، وبسبب ظهور نفوذ الأتابكة بشكل جلي ، واشتداد التنافس بين الأمراء علي النفوذ ، وجعلهم السلطان ألعوبة في أيديهم ، يعزلونه أو يبقونه علي العرش حسب مشيئتهم ، وكان مصير أولئك السلاطين الخلع ثم النفي أو القتل .
وكان نفيهم في العادة إلي قوص أعظم مدن الوجه القبلي إذ ذاك أو إلي الكرك بالشام، وأحياناً يظل بعضهم بقلعة الجبل علي أن يمنع من الاتصال بالناس ، وبذلك ضعفت الدولة المملوكية واضطربت أحوالها وكثرت الفتن والقلاقل في جميع أرجائها.
وقد بلغ عدد أولئك السلاطين الذين تولوا العرش من بعد وفاة الناصر ، محمد إلي نهاية دولة المماليك البحرية اثني عشر سلطاناً ، وهم ثمانية من أولاد الناصر محمد وأربعة من أحفاده ، وكان مجموع مدتهم ثلاثاً وأربعين سنة ، وبذلك يكون متوسط حكم السلطان الواحد في هذه الفترة ثلاث سنوات ونصف سنة .
بعد وفاة الناصر ، رفض الأمير بشتاك( ) إقرار ما عاهد الأمراء السلطان الناصر عليه من ولاية العهد لابنه أبي بكر ، وصمم علي منح السلطنة لابن ثان للسلطان الناصر اسمه أ؛مد وكان مقيماً إذ ذاك بالكرك ولكن الأمير قوصون أظهر أن تلك المعارضة إن كان المقصود منها إقامة بشتاك أو قوصون نفسه علي عرش السلطنة ، فإن ذلك الأمر قد لا يؤيده بقية الأمراء لما جري عليه العرف إذ ذاك من أن الجالس علي العرش ينبغي أن يكون من أصل مملوكي ، أي رقيق اشتري بالمال وتدرج في المناصب ، أو ابن سلطان تدرج في مراتب العز ، يقول المقريزي إنه " لما مات السلطان الناصر وشجي قام قوصون إلي الشباك ، وقال للأمير بشتاك يا أمير ! تعال أنا ما يجي مني سلطان ، لأني كنت أبيع الطمسا ، والكشاتوين في البلاد في البلاد ، أنت اشتريت مني وأهل البلاد يعرفون ذلك مني ، وأنت ما يجي منك سلطان لأنك كنت تبيع البورزا وأنا اشتريت ذلك منك ، وأهل البلاد يعرفون ذلك كله ، فما يكون سلطاناً من عرف ببيع الطمسا والبراغالي ولا من عرف ببيع البوزا ، وهذا أستاذنا هو الذي أصي لمن هو خير به من أولاده( ).
وعلي أثر ذلك تولي سيف الدين أبو بكر عرض مصر ولقب بالمنصور(741-742هـ=13401341م) وله من العمر نحو عشرين سنة ، وهو أول من تولي السلطنة من أولاد الناصر ، وسرعان ما ساءت العلاقات بينه وبين أتابكة قوصون لامتناعه عن تلبية بعض مطالبه وحرص الأمراء عليه فقد ذكر العيني أنه خاطب الأمراء قائلاً : " هذا السلطان يريد أن يقتلبكم ، ولا يخلي أحد منكم ، فأجابه الأمراء قائلين . " الرأي رأي مولانا" ، وعلي أثر ذلك صعد قوصون إلي القلعة وقبض علي السلطان وبعث به إلي قوص ولم يلبث أن أوعز بقلته ، فقتل بها ، ولم تزد مدته التي جلس فيها علي عرش مصر عن ثلاثة أشهر ، ومنذ ذلك الوقت لم تظهر ولاية العهد طوال المدة الباقية من تاريخ سلطنة المماليك البحرية ، واتبع المبدأ الوراثي فأقيم سلاطين من بيت الناصر محمد : من أولاده ثم من أحفاده ، دون تقيد باستمرار السلطان علي العرش حتى وفاته بل يصبح خلعه إذا لم يرض عنه الأمراء ، وإقامة غيره من بيت الناصر مكانه.
بقتل أبي بكر ، أعتلي العرش أخوه علاء الدين كجك( )، ولقب بالأشرف (742هـ=1341م) ، وعمره ، إذ ذاك يتراوح بين الخامسة والسابعة ، فعين الأمير قوصون الناصري أتابكاً له كما كان أيام أخيه ، "فتصرف في أمور المملكة ، ولم يكن للأشرف من السلطنة إلا مجرد الاسم فقط ، وليس له من الأمر شيء … وكانت إذا حضرت العلامة ، أعطي قوصون الأشرف كجك في يده قلماً وجاء الفقيه الذي يقرئه القرآن ، فيكتب العلامة والقلم في يد الأشرف" ، وبذلك لم يكن حضور للأشرف من الأمر شيء ، وقبض أتابكة قوصون علي زمام الأمور " وكان السلطان معه مثل العصفور بين النسور " . ثم ازداد الحال سوءاً ، فاشتد الخلاف بين الأمراء ، وانتشرت الفتن والقلاقل في البلاد ، وامتد الفساد إلي بلاد الشام ، وخرج النواب علي طاعة سلطان مصر.
وما لبث كجك أن خلع بعد أن حكم مصر خمسة أشهر ، وخلفه أخوه أحمد ولقب بالناصر
(742-743هـ= 1342م) ؛ وكان وقت اعتلائه العرش مقيماً بقلعة الكرك ، وكان راغباً عن السلطنة فأرسل إليه الخليفة الحاكم بأمر الله يستدعيه إلي القاهرة ، ليعهد إليه السلطنة ، فحضر إليها ، ولكنه لم يستمر طويلاً في مصر بعد وصوله إلي العرش ، بل عاد إلي الكرك ، وعزم علي جعلها محل إقامته مع بقاء السلطنة ودواوينها وإداراتها بالقاهرة ، ولكن أمراء مصر لم يعجبهم هذا الإجراء وخلعوه "لأن أموال المملكة ضائعة ، والسلطان لا يلتفت لشيء من ذلك " ، ووقع اختيارهم علي إسماعيل ولقب بالصالح (743-646هـ= 1342-1345م) . فبدأ عهده بمحاصرة أخيه بالكرك ، ودام الحصار ثلاث سنوات وانتهي بتسليم أحمد ثم قتله ، وفي سنة 746هـ مرض السلطان إسماعيل ومات ، وتولي السلطنة من بعده أخوه شعبان ولقب بالكامل (746-747هـ= 1345-1346م) . ولم يكن عهده خير من عهد سلفه ، وليس أدل علي ذلك مما قاله له الأمير بلبغا اليحياوي نائب الشام حين اشتد الخلاف بينهما : " أنت أفسدت المملكة ، وأفقرت الأمراء والأجناد ، وقتلت أخاك ، وقبضت علي أكابر أمراء السلطان ، واشتغلت عن الملك ، والتهيت بالنساء وشرب الخمر وصرت تبيع أخباز الأجناد بالفضة" ، واشتد الاستياء من الكامل شعبان حين أمر سنة 747هـ بالقبض علي أخويه الأمير جاجي والأمير حسين وسجنهما تمهيداً لقتلهما ، كما تحارب معه ملكتمر الحجازي أحد كبار الأمراء عندما علم أن السلطان يريد القبض عليه ، وانتهي الأمر بهرب الكامل شعبان إلي القلعة .
تدهورت السلطنة المملوكية في عصر أولاد الناصر ، وتجرأ الأمراء علي السلاطين الأطفال جرأة منقطعة النظير ، فإنه بعد هرب الكامل شعبان إلي القلعة ، سار الأمراء إليها وأفرجوا عن الأمير حاجي والأمير حسين وأعلنوا الأول سلطاناً ،ولما جدوا في البحث عن الكامل وحدوه "واقفاً بين الأزيار ، وقد ابتلت أثوابه بالماء" ، فقبضوا عليه وسجنوه في المكان الذي حبس فيه أخواه من قبل ، ولم يلبث أخوه السلطان حاجي أن أمر بقلته فقتل بعد ثلاثة ايام من حبسه .
وازداد انحلال السلطنة المملوكية بتولية حاجي (747-748هـ= 1346-1348م) فإن هذا السلطان – الذي لم يكن قد بلغ الحادية عشرة من عمره ، كان يجتمع بأوباش الناس وطبقاتهم المنحطة ويلعبون معاً بالحمام ، وكان السلطان يقف معهم ويراهن علي الطير الفلاني والطيرة الفلانية ....وكان السلطان إذا لعب مع الأوباش يتعري ويلبس ثياب جلد ويصارع معهم" ، بذلك اكتفي السلطان حاجي بتربية الحمام والولع به عن تدبير شئون الدولة، واشتغل بلعب الطيور عن تدبير الأمور ، والنهي عن الأحكام بالنظر إلي الحما ، فلا عجب بعد هذا كله إذا قبض عليه بعض الأمراء ، وانتهي أمره بالقتل ولما يستكمل سنة علي عرش السلطنة .
وإن ما حدث لأخيه الناصر حسن ( )، (748-752هـ=1347-1351م) الذي كانت سنه وقت اعتلائه العرش لم تتجاوز الحادية عشرة ، ليدلنا إلي أي حد تدهورت حالة مصر في عهد أولاد السلاطين ، فإن الخلاف لما اشتد بينالناصر حين وأمراء مصر ، نزل السلاطين عن العرش ، فلم يكتف الأمراء بذلك ، بل بعثوا إليه "الأمير صرغنمش ومعه جماعة ليأخذوه ويحبسوه ، وطلعوا إلي القلعة راكبين ودخلوا إلي الناصر حسن ، وأخذوه من بين خدمه ، وصرخ الناس صراخاً عظيماً ، وصاحت بنت صرغتمس صياحاً منكراً وقالت هذا جزاؤه منك، فأخذه صرغتمش وقد غطا وجهه ، فلما رآه الخدم والمماليك تباكوا عليه بكاء كثيراً ، وطلع إلي رواق فوق الأبواب ، ووكل به من يحفظه وعاد إلي الأمراء وبعد ما فعله هؤلاء الأمراء مع السلطان الناصر حسن أقصي ما يمكن أن يحلق ملكاً من المذلة والعار ، لكننا مع ذلك لا نستغرب ما وقع قياساً علي ما كان يحدث إذ ذاك .
ولم يكن للصالح أخي الناصر حسن (752-755هـ= 1251-1254م) مع أتابكة الأمير طاز من الأمر شيء وصال الملك الصالح معه مثل اللواب يديره كيف شاء ، وليس له في السلطنة غير مجرد الاسم ، وكان اشتداد نفوذ أحد الأمراء وتقربه من السلطان لا يقتصر أثره علي تركيز السلطة في يده فحسب ، بل كان من نتائجه المباشرة ظهور عوامل الحسد والغيره والتنافس بينه وبين بقية الأمراء ، لذلك وقع الخلاف بين الأمراء وأضمروا السوء للملك الصالح وللأمير طاز ، وانتهي الأمر بالقضاء علي الأمير طاو أولاً ، ثم بالقبض علي السلطان وحبسه بالقلعة ، وأعيد الناصر حسن إلي عرش السلطنة للمرة الثانية (755-762هـ= 1354-1360م) .
وقد بلغ الاستخفاف بالسلاطين في هذه الفترة حداً لا يمكن أن يتصوره العقل ، فإن السماط الذي يمد للسلطان القائم ، كان يظل علي حاله ليجلس عليه السلطان الجديد ، ويتناول السلطان المخلوع طعامه في المكان الذي حبسه فيه الأمراء … وقد حدث ذلك للسلطان شعبان الذي تناول بعد خلعه طعام أخيه حاجي الذي كان مسجوناً إذ ذاك ثم حمله الأمراء إلي العرش مكان أخيه ، فجلس إلي السماط الذي كان معداً للكامل ، وتتكرر هذه المأساة مع كل من صالح المخلوع وأخيه حسن الجديد ، إذ سجن صالح حيث كان أخوه الناصر حسن .
ومن غريب ما وقع مما فيه أعظم معتبر – كما يقول المقريزي : أنه عمل الطعام للسلطان الملك الصالح ليمد بين يديه علي العادة ، وعمل الطعام الملك الناصر حسن ليأكله في محبسه فاتفق خلع الملك الصالح في أقل من ساعة وسجنه ، وولاية أخيه حسن في السلطنة بدلاً منه فمد السماط بالطعام الذي عمل ليأكله الصالح ، فأكله حسن في دست المملكة ، وأدخل الطعام الذي عمل لحسن علي الصالح ليأكله في محبسه فأكله في السجن الذي كان أخوه حسن فيه ، وتلك الأيام نداولها بين الناس .
ظل الناصر حسن علي عرش الملك في سلطنته الثانية ست سنوات ونصف ، حكم فيها بنفسه إذ كان قد بلغ سن الرشد ، ولكن حدث في نهاية عهده أن اختلف مع الأمير بلبغا الذي قبض عليه ، ولم يعرف للناصر حسن أثر بعد ذلك : قيل إنه خنق ورمي في البحر وقيل إن بلبغا اشتط في عقوبته حتى مات ودفنه في مصطبة بقرب داره . وقيل دفنه بكيمان مصر وأخفي قبره ، وهذه ولا شك نهاية محزنة لسلطان عظيم كالناصر حسن أجمع المؤروخون علي شجاعته وبطولته ونفاذ كلمته ، وعالي همته ، ومحبته لرعيته وتشجيعه الفنون والآداب، ولم يكن يعيبه سوي ميله إلي مصادرة الأموال وبوفاته ينتهي عهد توليه السلاطين من أولاد الناصر ، ويأتي عهد السلاطين من أحفاده .
ومما ذكرناه عن كيفية تولية سلاطين المماليك من أولاد الناصر ونهايتهم ، نري أن الطرقة كانت كلها واحدة ، فالسلطان الطفل يأتي به الأمراء ويجلسونه علي العرش ، ثم يختلفون فيما بينهم علي السلطة والنفوذ فيصبح السلطان ألعوبة في أيديهم ، حتى يأتي الوقت الذي يرون فيه ضرورة استبدال غيره به ، فإما أن يخلعوه أو يقتلوه ، وسنري أن حال مصر في عهد سلاطين أحفاد الناصر لم تختلف عما كانت عليه في عهد أولاده من الضعف والاضطراب ، وانتشار الفوضي ، وقيام الدسائس والفتن بين السلطان والأمراء من جهة ، وبين الأمراء بعضهم مع بعض من جهة أخرى . وقد اشتد ضعف مصر في أيام سلطنة أحفاد الناصر حتى انتهي الأمر بسقوط دولة المماليك البحرية .
ولم يكن التنافس بين الأمراء علي السلطة والنفوذ ، هو وحده الذي أدي إلي القضاء علي عرش سلاطين المماليك ، بل ظهر بعد وفاة الناصر عامل آخر لا يقل عن سابقه أثراً ، وهو الانحلال الخلقي الذي كان عليه معظم سلاطين المماليك الذين تولوا عرش مصر من بيت الناصر مما سهل إلي حد كبير علي أمراء ذلك العصر القضاء علي عروش السلاطين في الوقت الذي كانوا يختارونه لتنفيذ ما اعتزموه من خلعهم .
أحفاد الناصر :
كان السلطان المنصور صلاح الدين محمد (762هـ 764هـ= 1361-1363م) بن المظفر حاجي ابن الناصر محمد بن قلاوون أول أحفاد الناصر في السلطنة ، ميالاً إلي الطرب، مدمناً شرب الخمر ، حتى كاد لا يفيق ساعة واحدة ، لذلك قبض عليه أتابكاً يلبغا في 4 شعبان سنة 764هـ(1363م) ، خلعه من السلطنة وحبسه في القلعة ، فاستمر في دور الحرم مقيماً في غبوق وصبوح لا يفيق من السكر ساعة ، وعنده جوقة مغنيات نحو عشرة من الجواري يدقون بالطارات عند الصباح والمساء( )، ونتبين مدي الانحطاط الخلقي الذي كان عليه هذا السلطان مما ذكره أبو المحاسن عن العوامل التي أدت إلي خلعه ، إذ كتب أن المنصور كان يدخل بين نساء الأمراء ويمزح معهن ، وكان يعمل مكارياً للجواري ويركب هو وراء الحمار بالحوش السلطاني ، وكان يأخذ زنبياً فيه كعك ويدخل بين النساء ويبيع ذلك الكعك عليهم في سبيل المماجنه!".
وفيما يرويه المؤرخون عن كيفية القبض علي السلطان شعبان ابن السلطان حين (764-778هـ= 1363-1376م) ، أمتهان شديد لعرش السلطنة ، مما جعل الناس إذ ذاك لا يكتثرون لما وقع من هذا القبيل ، ويتمنون إما إصلاح الحال أو زوال حكم "السلاطين الأطفال"، فإن شعبان لما هرب بعد أن هزمه أعداؤه من الأمراء ، عاد إلي القاهرة خفية ، ونام ليلته في الصحراء ، ثم اختفي في منزل سيدة تدعي آمنة ، فخافت تلك السيدة علي نفسها من اختفائه عندها ، لأن الأمير أيدمر الشمسي نائب السلطنة قد أمر فنودي في القاهرة بأن من يضبط السلطان عنده ولا يبلغ عنه يكون جزاؤه القتل شنقاً علي باب منزلة ، فلما سمعت تلك السيدة بذلك ، أبلغت خبر وجود السلطان في منزلها للأمير أينبك البدري ، فأرسل معها عدداً من الجنود ولما دخلوا لم يجدوا فيه أحداً ، فصعدوا إلي سطح المنزل حيث وجدوا السلطان مختفياً فقبضوا عليه وأركبوه فرساً بعد أن غطوا وجهه ، وصعدوا به إلي القلعة ، ثم قتلوه عقب ذلك (2 ذي الحجة سنة 778هـ= 17 مارس سنة 1377م).
وقد وقعت ف يعهد السلطان علي بن شعبان (778-783هـ= 1376- 1381م) حادثة نذكرها لطرافتها ، ولأنها كانت الأولي من نوعها في عصر المماليك ، فقد اعتاد الأمراء إذا ما اشتد غضبهم علي السلطان أن يخلعوه ثم يحبسوه أو يقتلوه ، ولكن الأمراء هذه المرة أعلنوا – قبل خلع السلطن القائم – تولية سلطان آخر هو أنوك بن حسن بن محمد بن قلاوون فأصبح علي عرش مصر سلطانان ، والتف حول كل سلطان فرق من الأمراء يسنده أو يعضده ويعمل علي تثبيت عرشه .
ذلك أن السلطان المنصور علاء الدين كان قد وعد مماليك الأمير يلغبا – عند شكواهم إليه من معاملة سيدهم – بمناصرتهم عليه – ففكر يلبغا في إقامة سلطان آخر غيره ، ومن العبارات التي ننقلها عن المقريزي في هذه الصدد ، نتبين الدرك الذي انحدرت إليه السلطنة المملوكية إذ ذاك ، إذ أمر يلبغا ، فجيء إليه بالخليفة وأنوك بن حسين بن محمد بن قلاوون ، أن يقدم إليه السلطنة فامتنع من ذلك ، واحتج بأن الشوكة للأشرف شعبان "فأمر يلبغا بالكوسات فدقت وأقام شعار السلطنة كله ، وقال أنا أعينه وأؤيده ومن له الشوكة غيره فلم يجد الخليفة بداً من سلطنة أنوك فأقاموه ، ولقبوه بالملك المنصور ، وأركبوه بالشعار السلطاني ، ولجس المنصور أنوك بكرة يوم الجمعة ، وبين يديه أرباب الدولة والأمراء وأرباب الأقلام علي العادة.
وقد مر بنا في عصر دولة المماليك فيما قبل وفاة الناصر محمد شذوذ في أنظمة الحكم يماثل الشذوذ وهو وجود سلطانين في وقت واحد علي عرش مصر ، الأول : حين أقيم الناصر يوسف مع السلطان الملك المعز أيبك سنة 648هـ كل منهما بلقب سلطان ، والثاني: قام السلطان قلاوون ابنه الصالح علي سنة 687هـ سلطاناً علي مصر ، والثالث : هو إقامة أنوك مع وجود علي . إلا أننا نلاحظ أن السلطان الأشرف الأيوبي أقيم برضاء أيبك ولو أنه كان رضاء صورياً حتى لا يعزل عن الحكم ، وأٌيم الصالح علي بأمراء أبيه قلاوون وبمحض إرادته ، علي ألا يحكم مصر إلا حين غياب أبيه عنها ، ولكن أنوك أقيم نكاية في الأمير يلبغا ومن شايعه من الأمراء في السلطان القائم وتمهيداً لعزله بوضعه أمام الأمر الواقع ، وأن هتاف أنصار السلطان القائم ضد أنوك بقولهم : سلطان الجزيرة ما يساوي شعيرة ، ثم القبض علي أنوك وحبسه وقتل الأمير يلبغا الذي اقامه ، وأسواق القاهرة طول هذه الأيام مغلقه ، والأسباب متعطلة ، وليس للناس شغل سوي التفرج في شاطئ النيل علي المقاتلين من اليلبغاوية والسلطانية ، ليدلنا علي أن الدولة قد وصلت إذ ذاك إلي حالة يرثي لها من الضعف والانحلال والفوضي ويحق لنا أن ندرك أن دولة المماليك البحرية أصبحت علي وشك الزوال.
وقد ظل علاء الدين علي سلطاناً حتى وفاته في 13 صفر سنة 783هـ (1381م) ، وله من العمر اثنتا عشرة سنة ، وكان خلفه حاجي بن شعبان (783-784هـ= 1381-1382م) وهو آخر سلاطين المماليك البحرية من بيت الناصر . وكانت سنة حين اعتلائه العرش تتراوح بين التاسعة والحادية عشرة ، فعين برقوق أتابكاً له ، فعمل هذا – علي ما جرت به العادة في ذلك العصر ، علي الوصول إلي السلطنة ، مع أن الأتابكة لم يفكروا في طول فترة حكم أولاد الناصر وأحفاده في اعتلاء العرش ، بل إن دولة المماليك البحرية كانت تنتهي بوفاة المنصور علاء الدين في سنة 783هـ (1381م) إذ أن برقوق كان يعتزم اعتلاء عرش السلطنة بعد المنصور ، ولكن كبار الأمراء رفضوا أن يحكمهم مملوك يلبغاً ، الذي كان قد بلع كره الناس له أقصاه ، إلا أن برقوق لما اطمأن إلي زوال ما كان يخشاه وضمن تأييد الأمراء والنواب ، استدعي الخليفة والقضاة الأربعة والأمراء ، فلما اجتمعوا خطبهم القاضي بدر الدين بن فضل الله ، قائلاً : " يا أمير المؤمنين ويا سادتي القضاة إن أحوال المملكة قد فسدت ، وزاد فساد العربان في البلاد ، وخامر غالب النواب في البلاد الشامية ، وخرجوا عن الطاعة والأحوال غير مستقيمة وإن الوقت ضاق ومحتاجون إلي إقامة سلطان كبير تجتمع فيه الكلمة ويكن الاضطراب ، فاستقر الرأي عل يخلع الملك الصالح حاجي من السلطنة ، وجلس برقوق علي العرش ، وعلي أثر ذلك أدخلوا الملك الصالح إلي دور الحرم بالقلعة ، وهو المصير الذي انتهي إليه أخواته السلاطين من قبل.
وفي الواقع أنه لم تكن هناك غير نهاية واحدة لهذه المجموعة من الدمي التي تبوأت عرش مصر منذ وفاة الناصر ، وقبضت علي السلطة بصفة إسمية ، وكان من الطبيعي أن يغتصب العرش أمير قوي ، كما فعل بيبرس وقلاوون ، من قبل ، وكان هذا الأمير تلك المرة برقوق ، الذي تغلب أولاً علي منافسيه من أمراء العصر واحد تلو الآخر ، ثم خلع آخر سلاطين بني قلاوون سنة 784هـ(1382م) وأسس دولة المماليك البرجية أو الجراكسة .
ويجب أن نعرف أن حكم بيبرس الأول (18 سنة) وقلاوون (11 سنة ) والناصر محمد
(42سنة) ، والنصر حسن (11سنة) قد استغرق ثلثي مدة حكم سلاطين دولة المماليك البحرية، ومجموع السنوات التي ظل فيها سلاطين تلك الدولة كلهم متربعين علي عرش مصر هو 134 سنة ، فيكون الباقي وقدره 52سنة هو الذي تولي الحكم خلاله بقية سلاطين الدولة البحرية وعددهم عشرون سلطاناً ويكون متوسط حكم السلطان الواحد منهم سنتين ونصف تقريباً .
أهم الأحداث التي ساعدت علي أود خلافة أولاد الناصر محمد وأحفاده :
أولاً : سنة الفناء أو الوباء الأسود :
وحدوث الوباء الأسود (في سنة 749هـ= 1349م) في عهد السلطنة الأولي للسلطان الناصر حسن ، غير أن هذا الوباء لم يصب مصر وحدها ، وإنما بدأ في بلاد المغول في المشرق الأقصى ، ثم انتقل منها وانتشر غرباً إلي أن وصل إلي بلاد الشام ومصر ، ثم انتقل كذلك عبر آسيا الصغري إلي أوروبا حتى عم العالم كله في وقت واحد ، بل لقد أصاب الحيتان في أعماق البحار والطير في عالم الفضاء علي حد قول المقريزي ، وهو يصف هذا الوباء بقوله : ( ولم يكن هذا الوباء كما عهد في إقليم دون إقليم بل عم أقاليم الأرض شرقاً وغرباً وشمالاً وجنوباً ، جميع أجناس بني آدم وغيرهم ، حتى حيتان البحر وطير السماء ووحوش البر).
وكانت علامات هذا الوباء أن يظهر للإنسان خراج وراء أذنه أو تحت إبطه ثم لا يلبث أن يبصق دماً ثم يمون بعد قليل .
وقد فتك هذا المرض بأهالي مصر والشام فتكاً ذريعاً ، فكان يمون منهم في اليوم الواحد الآلاف ونتج عن هذا أن قلت الأيدي العامة ، فأغلقت الأسواق ، وقفت حركة البيع والشراء ، وأقفرت الأرض لعدم وجود من يفلحا ، بل لقد تعطل صيد السمك من البحيرات لكثرة موت الصيادين .
ونتج عن هذا كله اضطراب أحوال مصر الاقتصادية ، وتعطل نواحي الإنتاج الختلفة ، ونقص القوى البشرية وإضعافها مما كان له آثار جد خطيرة في تدهور الدولة المملوكية وضعفها في المرحلة التالية .
وقد وصف المؤرخان المقريزي وابن تغري بردي حوادث هذا الوباء وصفاً تفصيلياً ، وأسمياً السنة التي حدث فيها بسنة الفناء ، قال المقريزي (في السلوك) : [ فكانت سنة كثيرة الفساد في عامة أرض مصر والشام من كثرة النفاق ، وقطع الطريق] ، وقال : [ وشمل الموت أهل البرلس ونستراوة ، وتعطل الصيد من البحرية لموت الصيادين ، وعم الوباء جميع تلك الأراضي ، ومات الفلاحون بأسرهم ، فلم يوجد من يضم الزرع ، وزهد أرباب الأموال في أموالهم وبذلوها للفقراء] .
وقال : [ وتعطلت بساتين دمياط وسواقيها ، وجفت أشجارها لكثرة موت أهلها ودوابهم].
وقال : [ ثم كان الحال كذلك بأراضي مصر ، فما جاء أوان الحصاد حتى فني الفلاحون ولم يبق منهم إلا قليل ، فخرج الأجناد وغلمانهم لتحصد ، ونادوا ، من يحصد ويأخذ نصف ما يحصده ؟ فلم يجدوا من يساعدهم علي ضم الزروع ، ودرسوا غلالهم علي خيولهم ، وذروها بأيديهم ، وعجزوا عن كثير من الزرع فتركوه].
وكذلك تعطلت أكثر الصناعات والأحوال بالقاهرة وبمصر وأبطل كثير من الناس صناعاتهم وانتدبوا للقراءة أما الجنائز ، وبطلت الأفراح والأعراس من بين الناس.
ثانياً : حملة بطرس لوزنيان علي الإسكندرية سنة 1365م :
وكما أصيبت مصر في عهد أبناء الناصر محمد بسنة الفناء أو الوباء الأسود الذي أتي علي الحرث والنسل وأصاب اقتصاديات مصر في الصميم ، فقد تعرضت مصر في عهد أحد أحفاده وهو الأشرف شعبان لغزوة خارجية أتت علي البقية الباقية من ثروة مصر التجارية فقد نزلت هذه الحملة الصليبية علي مدينة الإسكندرية ميناء مصر الأول ومستودع تجارتها الخارجية ، ولم تقلع إلا بعد أن خربت المدينة تخريباً كاملاً ، وسلبتها كل ما فيها من غال وثمين.
والحقيقة أن الحركة الصليبية لم تنته بخروج آخر جندي صليبين عكا وسواحل الشام في سنة 1291م ، وإنما ظلت الفكرة الصليبية قائمة تداعب خيال الأوربيين وتمارس نشاطها خلال القرنين الثالث عشر والرابع عشر ، وأصبحت جزيرة قبرص تحت حكم أسرة لوزيان ، وجزيرة رودس تحت حكم الفرسان الاسبتاريين مركز هذا النشاط الصليبي ، وظل هدف الحركة الصليبية في عهدها المتأخر هو لم يتغير : بيت المقدس والرغبة في استعادتها من أيدي المسلمين .
ولكن دعاة هذه الحركة ركزوا جهودهم ومشروعاتهم علي مصر باعتبارها الحصن الحصين لمنطقة الشرق الأدني كلها ، وعلي حكامها المماليك باعتبارهم السياج القوى الذي يحمي هذا الحصن ، وكانت خطة دعاة هذه الحركة تهدف إلي فرض الحصار الاقتصادي عل يمصر والعمل علي إقفارها ، وإذا كانت موارد دولة المماليك في مصر تعتمد في معظمها علي ما تجيبه من مكوس وضرائب علي التجارة المتبادلة بين الشرق والغرب عبر مصر ، فقد أصدر البابوات عدة قوانين تحرم علي التجار الأوربيين التعامل مع المسلمين أو الاتجاه بسفنهم إلي مواني مصر والشام ، ولكن تجار الجمهوريات الإيطالية لم يطيعوا هذه الأوامر حفاظاً علي مصالحهم الاقتصادية المتبادلة مع مصر ، فاضطرت البابوية إلي إنشاء قوة بوليسية حربية تعمل علي اختطاف أولئك التجار الأوربيين الذي يقدمون علي التعامل مع دولة المماليك .
وكانت جزيرة صقلية خير مكان في شرق البحر الأبيض المتوسط يتخذ لمراقبة سواحل مصر والشام أو للإغارة عليها .
وكان ملك قبرص بيير أو بطرس لوزنيان قد خرج من جزيرته وطاف بممالك أوربا المسيحية يثير حماسهم ويطلب منهم أن يقدموا له كل المساعدات الممكنة لإعداد حملة صليبية جديدة علي مصر ، ولكنه وجد معظم هؤلاء الملوك قد شغلوا بأنفسهم ومصالح دولهم عن الفكرة الصليبية فلم يلق غير الوعود ، ومع هذا فقد أمده اسبتارية رودس وجمهوريتا جنوة والبندقية ببعض العون .
وخرج بطرس الأول لوزنيان بأسطول ضخم يحمل جيشه الكبير قاصداً إلي الإسكندرية فوصل إلي مياهها يوم الخميس 21 محرم 767هـ ( 9 أكتوبر 1365م).
وفي صباح يوم الجمعة خرج أهالي الإسكندرية إلي الفضاء المواجه لجزيرة فارس خارج الأسوار وانضم إليهم الأعراب الوافدون من الصحراء وأخطأ والي المدينة فخرج وانضم إليهم يريد الدفاع عن المدينة ، فنصحه بعض المغاربة بالعودة وإصدار الأوامر للأهالي كي يدخلوا إلي المدينة ليحتموا جميعاً بأسوارها ويدافعوا عنها من ورائها ، ولكن الوالي لم يستمع لهذه النصيحة فقد حسب أنه يستطيع من موقعه أن يمنع الفرنج من النزول إلي البر.
ولكن القبارصة كانوا أكثر استعدادً وتنظيماص ، فاستطاعوا أن ينزلوا إلي البر ، وبعد مناوشات قليلة انتصروا علي جموع المحتشدين ، فأصيب الأهالي بالذعر الشديد وأسرعوا بالفرار وفي مقدمتهم الأمير جنغرا والي المدينة إلي دمنهور أو إلي القاهرة .
واقتحم أبواب المدينة ودخلوها وانبثوا في شوارعها ومتاجرها ومنازلها ومساجدها وكنائسها يقتلون وينهون ويخربون ، وينقلون كل مسروقاتهم إلي سفنهم .
وهكذا أمضي القبارصة في الإسكندرية ثلاثة أيام حتى إذا أحسوا قرب وصول جيش الدولة من القاهرة فروا مسرعين إلي سفنهم التي أثقلت بالمنهوبات حتى اضطروا إلي إلقاء بعضها في البحر خوفاً علي سفنهم من الغرق ، وصحبوا معهم خمسة آلاف أسير وأسيرة من أهالي الإسكندرية منهم كما يقول المقريزي المؤرخ السكندري (السلم ، والمسلمة ،واليهودي واليهودية والنصراني والنصرانية ).
والتفسير لسقوط المدينة بهذه السرعة رغم تحصنها بالأسوار هو ما كان يسود البلاد في ذلك الحين من العديد من المشاحنات وكذلك تولي ملك ضعيف عمره لم يتجاوز الحادية عشرة وهو السلطان الأشرف بشعبان ، وكان يستبد بالأمر دونه الأمير يلبغا العمري الخاصكي . والذي كان يقاوم منافسيه من الأمراء ، وكذلك فكان والي الإسكندرية الأمير صلاح الدين خليل بن عرام متغيب عن المدينة في أداء فريضة الحج ، وكان ينوب عنه أمير آخر أقل دراية وأصغر سناً وهو الأمير جنغرا .
وهكذا انتهت دولة بني قلاوون