السلطان الناصر محمد بن قلاوون
(684-693هـ = 1284-1293م)
تمهيد :
بوفاة السلطان خليل انتقل الملك إلي محمد الإبن الثاني للسلطان قلاوون ولد الناصر قلاوون سنة 684هـ (1284م) . وقد مر بنا الكلام علي أبيه ، أما أمه فتسمي أشاون خاتون وهي مغولية الجنس ، قدم أبوها سكتاي بن قراجين إلي مصر في سنة 675هـ في عهد السلطان الظاهر بيبرس، وكان من أمراء المغول الذين نزل بهم سخط ملكهم ، ومن هذا نري أن أم قلاوون كانت تنتمي إلي أشرة عريقة في النسب ، فقد ذكر أبو الفدا أن بيبرس تلقي أباها وأخاها قُرمُشي بالقرب من حلب ورحب بهما وأحسن وفادتهما وأجزل لهما العطايا( ).
ومرت السنون والأيام سكتاي تعيش عيشه هنيئة وتنعم بما كان ينعم به كبار المماليك من ناحية الترف والبذخ ، علي حين ينتقل قلاوون – ذلك المملوك الذي اشتري بألف دينار – إلي مرتبة الإمارة ، ثم يرتقي إلي عرش السلطنة سنة 679هـ ، فيعرف لأسرة أشلون مكانتها وطيب أصلها، فيطلب إلي عمها قرمشي – وكان قد تولاه برعايته بعد وفاة أبيها – أن يزوجها إياه ، ولما تمضي علي سلطنته إلا سنة واحدة ، ويظهر لنا أن أشلون كانت تجمع إلي شرف محتدها أخلاقاً عالية وصفات سامية ، فقدر قلاوون فيها هذه الصفات حتى إنه أنفق الأموال الوفيرة في إقامة الحفلات ومد الأسمطة ابتهاجاً بزفافها إليه.
عاشت أشلون مع زوجها السلطان قلاوون في قلعة الجبل ، حيث ولد الناصر محمد في يوم السبت منتصف المحرم سنة 684هـ (1284م) ، وكان أبوه يحارب الصليبيين في بلاد الشام، قد تم له الاستيلاء علي حصن المرقب بعد أن استعصي عليه ، في الوقت الذي طير إليه نبأ ولادة ابنه محمد ، فاستبشر بهذا النبأ العظيم ، وأيقن أن هذا الحادث السعيد فاتحة يمن وإقبال لأسرة قلاوون ، وسرعان ما أذيع هذا النبأ في كافة أرجاء البلاد المصرية ونيابات الشام وسائر الولايات التابعة لسلطنة المماليك ( ).
نشأ الناصر في بيت الملك محاطاً بالأمراء والنواب والحراس ، ودرج في مراتب العز والإمارة ، فهو ابن ملك ، وأمه بنت أمير من أمراء المغول ، غير أنه لم يتمتع له طويلاً بعطف أبيه قلاوون ، إذ أنه مات وإبنه لم يناهز الخامسة من عمره ، إلا أن الناصر لم يحرم من عطف أخيه خليل الذي اهتم بتربيته وأحسن معاملته علي الرغم من أنه كان أخاه لأبيه فقط.
كان الأشرف خليل يحيط أخاه الناصر بعنايته ومحبته ويحبوه بعطفه ورعايته حتى أصبح ذلك معروفاً لدي العامة والخاصة من أهل مصر ، فإنه لما انتهي من تشييد قصره المعروف بالأشرفية اهتم بختان أخيه الناصر وابن موسي بن الصالح علي ، وأقام لذلك احتفالاً فخما أنفق فيه الأموال عن سعة ، ودعا لذلك جميع الأمراء وأنعم علي كثير منهم الإنعامات السنية( )، ولولا حب الناصر لأخيه محمد لما اهتم بأمره هذا الاهتمام الملحوظ.
تعهد الأشرف خليل أخاه الناصر بالتربية والتثقيف ، ولا غرو فقد ورث خليل عن أبيه قلاوون عنايته بأمر المماليك وتثقيفهم وتنشأتهم نشأة دينية ، فاتبع في تعليمه نفس طريقة السلاطين في تثقيف مماليكهم : فحفظ القرآن الكريم ، وتأدب بآداب الشريعة ، وداوم علي الصلاة ، كما تعلم الخط بلغ ذلك درجة التعليم التي كان لابد أن يبلغها كافة المماليك الذين تربوا في طباق قلعة الجبل.
ولكن الأشرف خليل مات ، ولم يصل الناصر إلي سنن البلوغ بعد ، وارتقي عرش السلطنة وهو في سن التاسعة من عمره .. وهنا ألقيت علي كاهل ذلك الطفل أعباء هذه الدولة المترامية الأطراف، فلم يكن بد إذن من تعلميه وتدريبه علي سياسة الملك ، وكان لابد له من أن يمر بالدور الذي مر به غيره ويعمل علي الاستئثار بالنفوذ والسلطان ، وفي وسط هذه العواصف السياسية يستكمل الناصر تعلم أساليب الحرب من رمي الشهم ولعب الرمح علي أيدي بعض المخلصين من أمرائه الذين يحتفظون لقلاوون فضله عليهم ورعايته لهم .
ولقد أجمع المؤرخون علي أن قلاوون قد أحسن تربية مماليكه ، ولقنهم أساليب الحرب والسياسة، وأكرم وفادتهم ، وعمل علي راحتهم ، وتفقد أحوالهم ، وسهر علي مصالحهم ، وهذه الطائفة هي التي تولت تعليم الناصر محمد وتثقيفه وتلقينه أساليب الحرب وفنون السياسة ، فلا غرو إذا ورث الناصر عن أبيه صفات الحزم والعزم والشهامة والفروسية والإقدام وغيرها من الصفات.
وكان للبيئة التي عاش فيه الناصر محمد أثر عظيم فيما نشأ عليه من صفات ، وانعكست عليه كثير من صفات أبيه قلاوون : فقد كان لا يميل إلي سفك الدماء ، محباً لجمع المال ، مهتماً بالمشروعات الحيوية كالمنشآت العامة من المدارس والمساجد والمستشفيات والملاجئ، كما نشأ محباً للغزو والفتح ، ميالاً للسيطرة والنفوذ.
وكان لقلاوون من الأولاد الذكور أربعة هم :
- الأمير نور الدين علي الذي ولاه أبوه السلطنة باسم الملك الصالح لكثرة أسفاره إلي بلاد الشام ومات في حياة أبيه سنة 678هـ علي ما بينا .
- والأشرف خليل الذي ولي الملك بعد أبيه .
- والناصر محمد .
- والأمير أحمد .
وبعد وفاة نور الدين علي كان قلاوون يميل إلي تولية محمد بدلاً من أخيه خليل ، ولكن صغر سنه قد حال دون تحقيق هذا الميل.
تولي الناصر محمد الملك ؛ وهو صغير ، ولقب الناصر ناصر الدين أبا الفتوح محمد ، وذلك باتفاق الأمراء الذين أجمعوا أمرهم علي أن تكون السلطنة للسلطان الملك الناصر أخي السلطان الملك الأشرف ، حفظاً لنظام البيت ورعاية في الحي حق الميت( )" . وكان ذلك في 14 المحرم سنة 693هـ(1293م).
علي أن ما وراء مفضل بن أبي الفضائل من أن الناصر اعتلي العرش علي أساس المبدأ الوراثي ليس صحيحاً في جملته ، لأنه لم يكن بين الأمراء شخص تطغي شخصيته علي الآخرين فيرتضونه سلطاناً ، ولأن الناصر كان صبياً في التاسعة من عمره لا يستطيع أن يحد من سلطة الأمراء.
صفات الناصر :
وإذا أردنا أن نتبين أسباب نجاح الدولة المملوكية في هذا العهد ، وجب علينا الرجوع قبل كل شيء إلي صفات الناصر وتقدير شخصيته لأنه كان العامل الأول في وضع أسس السياسة العامة للدولة كما كان هو المنفذ الأكبر لقواعدها .
ويعد الناصر المثل الأعلى للسياسي في دولة المماليك ، كما كان بيبرس من قبله المثل الأعلى للقائد الحربي ، ولا غرو فقد كان الناصر شديد البأس ، وسديد الرأي ، يتولى أمور الدولة . مطلعاً علي أحوال مملكته ، محبوباً من رعيته ، مهيباً من الأمراء حتى إنهم كانوا لا يجسرون علي أن يفوه أحد منهم بكلمة واحدة إذ كانوا بحضرته ، ولذلك صفا له الجو في سلطته الثالثة وحكم البلاد بنفسه حكاً مطلقاً ، وكان – علي حد قول أبي المحاسن – "أعظم ملوك الترك بلا مدافعة".
وقد أطرى صاحب كتاب "تاريخ سلاطين المماليك " سجايا الناصر ومزاياه ووصف ما يتجلى به من حزم وشجاعة ودهاء وكياسة ، فقال : ط وهو مرفق في سائر حركاته ، سديد في آرائه ، سعيد في مشورته ، حازم في أموره ، مقدام في مقاصده ، شجاع في حروبه ، لا تزعجه الأراجيف ، ثابت الجأش ، كثير المعرفة صحيح العبارة ، سالم الذهن ، حسن التدبير ، مليح الفكرة ، قوى العزم شديد الحزم.
سلطنة الناصر محمد( )
(693-741هـ= 1293-1340م)
أولاً : اعتلاء الناصر محمد سلطنة مصر :
ينقسم حكم الناصر محمد إلي ثلاثة أقسام :
سلطنته الأولي : [693-694هـ = 1293-1294م] ويتلوها اغتصاب ملكه بوصول كل من العادل زين الدين كتبغا (694-969هـ=1294-1296م] والمنصور حسام الدين لاجين [696-698هـ=1296-1298م] إلي العرش .وفي غضون تلك الفترة يقيم الناصر بالقلعة ولا يسمح له بالظهور . ثم لا يلبث أن يرحل إلي الكرك في عهد السلطان لاجين سنة 696هـ (1296م) ولكن الاضطرابات والفتن التي قامت في عهد كل من كتبغا ولاجين والضعف الذي انتاب البلاد أثناء حكمها ساعدا علي عودة الناصر إلي العرش.
سلطنته الثانية : [708-709هـ= 1308-1309] فقد اشتد الضيق عليه فيها ، كما اشتد استخفاف الناس بأمره خلالها ، حتى اضطر في النهاية للرحيل إلي الكرك ثانية ليتخلص مما هو فيه مذلة وليقيم هناك حتى تستقيم أحوال البلاد ، غير أن نزوحه عن قصبة ملكه ، وخلو جوها للمتآمرين عليه ، مكن المظفر زين الدين بيبرس الجاشنكير المعروف في دولة المماليك باسم بيبرس الثاني [708-709هـ= 1308-1309] من اغتصاب العرش لنفسه ، ولكن هذا لم يصرف أذهان الناس عن الناصر وتعلقهم به وعقيدتهم الراسخة في أنه هو سلطانهم الشرعي ، الذي يستطيع دون سواه أن يخلصهم من الفوضي التي سادت مصر أثناء حكم بيبرس الجاشنكير ، فأوفدوا إليه الرسل يرجونه العودة إلي عرش أبيه وألحوا عليه في ذلك حتى أجاب طلبهم وعاد إلي مصر موفور الجانب ليقبض علي زمام الأمور هذه المرة بيد من حديد .
بذلك تبدأ سلطنة الناصر الثالثة [ 709-741هـ= 1309-1340م]( ) وهي التي انفرد فيها بحكم مصر ، وتمكن من القضاء علي الذين اغتصبوا عرشه وعلي الذين أقاموا الفتن وأثاروا الدسائس حوله ، وقد استمرت هذه الفتن اثنتين وثلاثين سنة ، وهي المدة التي يعدها المؤرخون عهد سلطنة الناصر الحقيقية ، إذ أنه قبل ذلك لم يكن إلا ألعوبه في أيدي الأمراء الأقوياء يجلسونه علي العرش أو يصرفونه عنه حسب أهوائهم ، كما حدث في سلطنته الأولي والثانية عندما كان ظهور الطامحين في العرش من أقوياء الأمراء مثل كتبغا أو لاجين أو بيبرس الجاشنكير كافياً للقضاء علي ملك الناصر فترة من الزمن ، ولكن هؤلاء لم تتوافر فيهم الكياسة وحسن تصرف الأمور ، وهما الخصلتان اللتان اتصف بهما رجل مثل قلاوون فلم يطل عهدهم بالحكم .
وعلي ذلك يمكن القول إن عصر الناصر يمثل عهد وراثة تخللته فترات اغتصاب لا تكاد تظهر حتى تختفي ثم يعود وارث العرش فيستمتع بحقه في ملك أبيه ، وكانت حوادث عصر الناصر تدور حول اغتصاب عرشه ، فاتخذ الأمراء من صغر سنه فرصة سانحة لتحقيق مطامعهم غير آبهين لمبدأ الوراثة الذي ظل مشكوكاً فيه خلال الدولة المملوكية من أولها إلي آخرها.
سلطنته الناصر محمد الأولي :
[ 693-694هـ= 1293-1294م]
تولي الناصر محمد عرش مصر وهو حدث لا يتجاوز التاسعة ، وهي سن مبكرة لا يستطيع صاحبها أن يواجه ما يقيمه أمراء مصر في وجهه من فتن وقلاقل ، إلا إذا كان بجانب السلطان الطفل من كبار الرجال واحد يجمع بين الاعتقاد في وجوب المحافظة علي السلطنة لوارثها حتى يبلغ أشده والمقدرة علي كبح جماح الأمراء الطامعين إلي النفوذ ، غير أن مثل هذا الرجل لم يكن ليوجد بين أمراء المماليك الذي لم تكن بيئهم ونشأة السلطان من بينهم تساعدانهم علي الاقتناع بمبدأ وراثة العرش وحق السلطان الإلهي فيه . لذلك لم يستطع احد من أبناء السلاطين أن يبقي علي عرش أبيه طويلاً ، والأمثلة علي ذلك واضحة جلية منذ قيام الحكم المملوكي في حوادث الناصر يوسف الأيوبي وأتابكة أيبك ، وعلي بن أيبك وأتابكة قطز، وسلامش وأتابكة قلاوون ، ولا عجب إذا حدث الناصر ما لمن سبقه ولا سيما وأنه تولي الملك في وقت كانت البلاد تعج فيه بالاضطرابات والفتن والدسائس عقب مقتل أخيه السلطان خليل ونائبه بيدرا واختفاء كبار الأمراء أمثال حسام الدين لاجين وشمس الدين قرا سنقر وما اكتنف اختفاءهما من الغموض وما كان يتوقعه الناس من ظهورهما بين حين وحين وما قد يستتبعه هذا الظهور من تقلبات خطيرة في مجري الأحوال التي وقعت بمصر إذ ذاك.
لما تولي الناصر محمد الملك عين الأمير زين الدين كتبغا المنصور أتابكاً للعساكر ونائباً للسلطنة والأمير عليم الدين الشجاعي وزيراً له ، وكان من الطبيعي أن يفتتح الناصر عصره بتعيين كتبغا في هذا المنصب ، فإن كتبغا هذا كان زعيم المماليك الذين أخلصوا لذكري الأشرف خليل وذبحوا قاتله الأمير بيدراً وأجلسوا الناصر علي العرش ، فتعيينه أتابكاً ونائباً للسلطنة أمراً كان منتظراً ، وبه يتكرر المنظر المألوف في دولة المماليك ، وهو اختيار صبي صغير ليرث العرش ، علي أن يستأثر بالسلطنة أمير قوي ولكن قوته ليست بدرجة فرضه علي سائر المماليك وتمكنه من الاستيلاء علي العرش.
كذلك عين الناصر الأمير علم الدين سنجر الشجاعي وزيراً له ، وهنا نلاحظ من بداية عصر الناصر شبح الاغتصاب يحاول الظهور ، فقد بدأ كتبغا عهده بالقيام بالدور الذي سبقه إليه الأمير قظز مع السلطان علي بن أيبك في سنة 655هـ وما قام به الأمير قلاوون مع سلامش بن بيبرس سنة 679هـ .
ولكن هناك فارقاً بين ما فعله أولئك الأتابكة مع أولاد سلاطينهم ، وما فعله الأمراء الذين اغتصبوا عرش الناصر ، ذلك أن هؤلاء المغتصبين الأولين لم يمكنوا السلاطين المعزولين من العودة إلي عروشهم علي حين نجد أن مغتصبي عرش الناصر ينهار ملكهم وتقوض عروشهم بسرعة ويعود الناصر ثانية إلي دست الحكومة .
دارت حوادث عصر الناصر محمد في سلطنته الأولي ، منذ بدأ حكمه ، حول اغتصاب عرشه ، وكان أشد القائمين بتلك الحركة ثلاثة من كبار الأمراء ، هم علم الدين سنجر الشجاعي( )، الوزير وزين الدين كتبغا أتابك العسكر وحسام الدين لاجين .
وكان الخلاف الذي قام بين هؤلاء الأمراء أهم ما حدث في ذلك الحين ، فقد كان لكل منهم آمال ومطامع في اعتلاء عرش السلطنة ، واتخذ كل منهم من حداثة سن الناصر فرصة سانحة لتحقيق أغراضه واشتد التنافس علي السلطنة علي وجه أخص بين الأمير كتبغا والأمير الشجاعي في شهر صفر سنة 693هـ ، وانضم إلي كل منهما كثير من الأتباع وأًبح القتال قريب الوقوع بين الفريقين . فبادر كتبغا وحاصر منافسه الشجاعي هو وأتباعه في القلعة ، ومن العبارات التي دارت بين خوند أشلون أم السلطان الناصر وكتبغا من ناحية ، وبين السلطان ووزيره الشجاعي من ناحية أخرى نتبين مدي احترام المبدأ الوراثي في السلطنة المملوكية خلال ذلك العهد .
ذلك أنه لما اشتد الحصار وعرفت أم السلطان أن أسباب الخلاف قد تكون راجعة إلي تنافسهما علي الوصول إلي العرش قالت لكتبغا : "ايش قصدك حتى نفعله ، إن كان قصدك أن تخلع أبني من السلطنة فافعل" ، فرد عليها كتبغا بقوله : " أعوذ بالله السميع العليم والله لو بقي من أولاد أستاذنا بنت عمياء ما أخرجنا الملك عنها ولا سيما ابن أستاذنا رجل وفيه كفاءة لذلك( )، وإنما قصدنا الشجاعي( ) وإخماد الفتنة"( )، وهذا الكلام الذي ورد علي لسان كتبغا يدلنا علي تظاهره باحترامه لصاحب الحق الشرعي في الملك وإن كان في قرارة نفسه لا يقيم وزناً لمبدأ الوراثة.
واشتد الحصار علي أثر ذلك علي الشجاعي بالقلعة حتى إنه لم ير بداً من الدخول إلي السلطان لاستشارته فيما يفعل إزاء ذلك ، فقال له هذا : " يا عمي ! إيش آخر هذا الحال الذي أنتم فيه " ، قال له الشجاعي : " هذا كله لأجلك يا ابن استاذي فهم قصدوا أن يخلعوك من السلطنة ويمسكوني أنا"( ). فقال السلطان : " يا عمي ! أنا أعطيك نيابة حلب لتستريح منهم"( )، فلم يوافق علي ذلك ، وإذا تذكرنا صغر سن الناصر وجب علينا أن نفكر في مصدر هذا الحل الذي اقترحه ، ولسنا نستبعد أن يكون هذا المصدر هو خوند أشلون والدته ، ولم يكن قتل الشجاعي بواسطة كتبغا وأتباعه بل أن الشجاعي لما عرض عليه السلطان نيابة حلب "أغلظ علي السلطان في القول فقام إليه المماليك الذين كانوا عند السلطان وأمسكوه وقيدوه وأرسلوه إلي البرج ، وبينما هو سائر في الطريق إذ خرج عليه جماعة من المماليك البرجية فقتلوه".( )
وانتهت حوادث عام 693هـ والناصر لا يزال صاحب السلطان الشرعي في مصر ، برغم أنه لم يكن له من الأمر شيء ، ولكن هذه الحوادث قد ساعدت علي تقريب أجل حكمه وأدت إلي القضاء علي الشجاعي وجعلت كتبغا صاحب النفوذ الحقيقي في مصر.
وثاني الأمور التي أثرت في مجري الأحوال بمصر إذ ذاك – بالإضافة إلي ذلك الخلاف الذي قام بين كتبغا والشجاعي – هو ظهور حسام الدين لاجين( )في القاهرة ، وعلي أثر ظهوره اضطربت الأحوال وقام المماليك الأشرفية ، في 10 المحرم سنة 694هـ بثورة عنيفة استمرت طوال اليل بمصر والقاهرة ودخلوا أسواق السلاح واستولوا علي ما فيها وأخذوا خيل السلطان ونهبوا الاصطبلات ، فلما رأي لاجين إمارة الغدر بادية من هؤلاء المماليك أخذ يحسن للأمير كتبغا الوصول إلي العرش وخلع الناصر محمد : " لأن الأشرفية ما دام الملك الناصر في الملك شوكتهم قائمة ، ولأن الملك الناصر "متى كبر لا يبقيك (أي كتبغا) البتة ولا يبقي أحداً ممن تعامل علي قتل أخيه الملك الأشرف"( ).
وصادف كلام لاجين هوي في نفس كتبغا ، فجمع الأمراء "وضربوا مشورة ( ) وقالوا : لقد فسدت الأحوال لكون السلطان صغير السن وطمع المماليك في حق الرعية ، ومن الرأس أن نولي سلطاناً كبيراً يقمع المماليك( )عن هذه الأفعال ، فاستقر رأيهم جميعاً علي خلع السلطان الناصر محمد من الملك وإعلان كتبغا سلطاناً في 8 محرم سنة694هـ(1294م)علي أن يكون حسام الدين لاجين نائباً للسلطنة فكانت مدة حكم الناصر في سلطنته الأولي سنة واحدة.
وطبيعي أن سلطنة الناصر محمد الأولي كانت إسمية فقط فقد كان غلاماً صغيراً وكان أتبكة كتبغا هو القائم بجميع أمور الدولة وليس لهذا السلطان معه تصرف البته ، واحتجب الناصر بعد عزله – ولم يتجاوز إذ ذاك العشر سنين – عن الأنظار ومنع من الاتصال بالناس ، وفي ذل يقول بيبرس الدوادار " ولما جلس (كتبغا) في المملكة علي زعمه وخلع الملك الناصر محمد من محله وحكمه( ) أسكنه في قاعة من الدور( ) وحجبه في أمنه الخدور فقضي الله له عليه وأخذ حقه منه ورده إليه"( ).
الاغتصاب الأول في سلطنة الناصر محمد :
السلطان كتبغا :
[ 694-696هـ = 1294 – 1296م ]
وبذا صار زين الدين كتبغا سلطاناً علي مصر وتلقب بالعادل ( 694-696هـ = 1294 – 1296م ) وهو مغربي الأصل ، ومن سبايا التتار ، أخذه السلطان قلاوون في واقعة حمص الأولي سنة 659هـ وجعله من مماليكه وتعهده بالرعاية والتربية والتهذيب ، فلما آلت السلطنة إلي قلاوون رقاه في وظائف الدولة حتى صار من كبار الأمراء ، ولما قتل خليل وتولي أخوه الناصر محمد الملك سنة 693هـ جعله نائباًَ للسلطنة( ).
ولما جلس كتبغا علي العرش في سنة 694هـ أقام الأمير حسام الدين لاجين نائباً للسلطنة وأعطي الأمير شمس الدين قراسنقر إطاعاً ورقي عدداً من مماليكه إلي مرتبة الإمارة ، وهذان الأميران هما اللذان اختفيا عقب مقتل السلطان خليل وعرف كتبغا موضعهما وبرهما علي ما بينا ، ويقول ستانلي لينبول إنه كان من الطبيعي أن يكرم كتبغا هذين الأميرين ، إذ أنه كانت منذ مقتل خليل يطمح إلي عرش السلطنة ووجد كل من لاجين وقراسنقر من عظم النفوذ وكثرة الأتباع والأنصار في البلاد المصرية ما يسهل عليه الوصول إلي غرضه في الملك إذا انضما إليه.
كان كتبغا شيء الطالع : فقد أصيبت البلاد عقب ولايته بالغلاء والوباء حتى تشاءم الناس من سلطانه وتمنوا زواله ، وبلغ من شدة ما أصاب البلاد من الجدب أن نفدت من خزائن السلطان الغلال وعلف الدواب ، وكانت أهم العوامل التي أثرت في حال البلاد في ذلك العصر انخفاض ماء النيل في سنة 694هـ ، فعم البلاد الجدب وقلت المحاصيل الزراعية ولم تف بحاجة البلاد ، وشكا الناس شدة الجوع وفتكت بهم الأمراض وفشا فيهم الموت حتى كانوا يتساقطون صرعي في الطرقات ، ولم يقتصر الأمر علي البلاد المصرية بل انتقل منها إلي الشام والحجاز أيضاً ، غير أنه لم يكن بالغاً هذا الحد الذي بلغه بمصر ، ثم كشف الله عن الناس تلك الكروب وهدأت الأحوال وزال الغلاء بعد أن ترك في الدولة آثاراً سيئة.
ومن أهم العوامل التي أساءت إلي سمعة كتبغا ترحيبه بالأمراء والجند المغول الذين فروا إلي مصر من وجه غازان بعد اعتناقه الإسلام، فإن ترحيب كتبغا بهم – وهم نحو عشرة آلاف، رغم عقائدهم الوثنية ورغم القحط السائد في البلاد وعزمه علي اتخاذهم عوناً له ضد سائر المماليك ، كل هذا أثار حقد الجيش وسائر السكان ، كذلك منح كتبغا السلطة والنفوذ لأميرين من خاصة مماليكه هما بتخاص وبكتوت الأزرق( )، فلم يحسنا استعمالها وتحكما في أمور الدولة وأفسدوا نظام المملكة وغيرا عليه القلوب لسوء سيرتهما واستهتارهما بالأمراء وأوغرا صدره علي لاجين ، أشد أمراء المماليك نفوذاً في ذلك الوقت( ).
علي أن المظالم الذي أتي بها هذان الأميران لم تكن من الخطورة بقدر الدسائس التي حاك شراكها لاجين ، فقد طمع هذا الأمير في السلطنة منذ اعتلاها كتبغا ودأ يكيد له في الباطن حتى وافته الفرصة في سنة 696هـ ، حين غضب بعض أمراء الشام علي كتبغا لعزله عز الدين أيبك الحموي نائب السلطنة الشام وتولية مملوكه اغر ولوا العادلي مكانه ، ثم لعدم منحهم الإنعامات وتوزيع الهدايا حين زيارته لدمشق في 17 شوال سنة 695هـ
(1295م)( )، علي نحو ما جرت به عادة السلاطين عند زيارتهم بلاد الشام لأول مرة بعد توليتهعم . وبذلك ذهل كتبغا عن الصواب ، وللقضاء إذا أراد إنفاذه أسباب وأي أسباب ، وأشعل لاجين نار الفتنة وزاد عوامل البغضاء والكراهية في نفوس أعوانه ، بل اتفق معهم علي قتل وهو في طريقه إلي مصر ليحقق بذلك غرضه الأول وهو الوصول إلي السلطنة علي نحو ما فعله بيبرس مع قطز .
خرج كتبغا من دمشق بجنوده متجهاً نحو الديار المصرية ، ولما وصل إلي اللجون بالقرب من طبرية في 28المحرم سنة 6969هـ كان لاجين قد اتفق مع الأمراء علي الغدر بالسلطان، لكنه لم يتمكن من تنفيذ خطته فقتل الأميرين بتخاص وبكتوت الأزرق ، أعز مماليك كتبغا وأقربهم إليه وأكثرهم خطورة وأوفرهم سطوة ، فلما علم بذلك كتبغا فر إلي دمشق حيث جد له نائب السلطنة بالشام الحلف ، وبقول أبو المحاسن في هذا الصدد : "قصد لاجين (بعد قتل الأميرين) نخيم السلطان فمنعه بعض مماليك السلطان قليلاً وعرفوه عن الوصول إلي الملك العادل ، كان العادل لما بلغه هذا الأمر علم أنه لا قبل له علي قتال لاجين لعمله بمن وافقه من الأمراء ومن غيرهم وخاف علي نفسه ، وركب من خيل النوبة( )، فرساً وساق لقلة سعده ولزوال ملكه راجعاً إلي الشام ولو أقام بمخيمه لم يقدر لاجين علي قتله وأخذوه فما شاء الله كان ! وساق حتى وصل إلي دمشق ... فتهيأ نائب الشام الأمير أغرلوا العادلي واستعد وأحضر أمراء الشام عند ورسم الاحتياط علي نواب الأمير حسام الدين لاجين ... ثم أن الملك العادل طلب قاضي قضاة دمشق وقاضي القضاة حسام الدين الحنفي وحضرا تحليف الأمراء والمقدمين وتجديد المواثيق منهم ووعدهم وطيب قلوبهم".
وعقب فرار كتبغا استولي لاين علي دهليز السلطان وخزائنه وانضم إليه حرسه وسائر رجال جيشه دون أن يبدوا أية مقاومة ، ولما تم له ذلك جمع لاجين الأمراء ورجال الجيش- وهو لا يزال في المكان الذي حاول فيه قتل السلطان – وخاطبهم قائلاً : "أنا واحد منكم ولا أخير نفسي عنكم ولست مولياً عليكم من مماليكي أحداً ولا أسمه فيكم كلاماً أبداً ولا يصيبكم ما أصابكم من مماليك العادل ، وأنتم خوشداشيتي ، ومحل إخوتي" ، ولا غرو فإن بعض سلاطين المماليك كانوا بسارعون بالظهور بمظهر الملوك منذ ينجحون في الاستيلاء علي العرش ، فأراد لاجين هذه المرة أن يقول للأمراء أنه ليس إلا واحداً منهم ، وذلك سياسة منه وتواضعاً حتى لا يشعر الأمراء أنه بعد أن يصل إلي السلطنة يتناساهم أو يتسامي عليهم وهو منهم ونشأ نشأتهم .
وقد عد الأمراء هذه النغمة وتلك الشروط أقضي ما يمكن أن يطلبوه ممن يتولي أمورهم ، لهذه أعجبوا بقوله ولكنهم أراد أن يتأكدوا من أنه ينوي العمل بما قال ولا ينقضه ، فاشترطوا عليه عدة شروط أهمها ضمان عدم انفراده برأي أو تسليط مماليكه عليهم كما فعل كتبغا، فأجابهم إلي كل ما طلبوه وحلف لهم عليه ، وعند ذلك بايعوه بالسلطنة في المحرم سنة 696هـ (1296م) وتلقب بعد وصوله إلي القلعة بالقاهرة بالسلطان الملك المنصور حسام الدين لاجين (6969-698 = 1296-1298م) .
وهذا يدلنا علي أن الاغتصاب كان أمراً مألوفاً لدي الأمراء بدليل أنهم لو كانوا يتمسكون بالمبدأ الوراثي في الوصول إلي العرش ، لما سمحوا لهذين الغاصبين باغتصاب عرش الناصر علي هذه الصورة وهو لا يزال مهما بلغت سنه .
ثم كل ذلك وكتبغا مقيم بقلعة دمشق لا يخرج منها ولا يدري بما حدث في مصر بعد وصوله إلي الشام ، ولكن لم تلبث الأخبار أن جاءت من القاهرة بأن لاجين أصبح متربعاً علي عرش السلطنة بالديار المصرية ، ولما اتصل ذلك بمسامع أهل الشام انصرفوا عن كتبغا . وفي 8 ربيع الأول سنة 696هـ(1296م) وصلت المراسيم إلي قضاة دمشق وأمرائها من السلطان لاجين بإحضار كتبغا وإبلاغه خبر عزله عن سلطنة مصر وأصبح كتبغا أمام الأمر الواقع ،وفي ذلك يقول ابن إياس ، "فقام قاضي القضاة بدر الدين بن جماعة الشافعي هو الأمير حسام الدين لاجين( ) ودخلوا علي العادل كتبغا وهو بقلعة دمشق وتكلموا معه ، فلما رأي كتبغا عين الغلبة أذن وأشهر علي نفسه بالخلع"( ).
ويقول أبوالمحاسن " إن العادل كتبغا تكلم معهم كلاماً كثيراً بحث أنه طال المجلس كالعاتب عليهم ثم إنه حلف يميناً طويلاً ، يقول في أولها : أٌول وأنا كتبغا المنصور – ويكرر اسم الله تعالي في الحلف مرة بعد مرة – أنه يرضي بالمكان الذين عينه السلطان الملك المنصور حسام الدين لاجين ويكاتب ولا يسارره فإنه تحت الطاعة وإنه خلع نفسه من الملك"( ).
وفي 12 ربيع الأول سنة 6969هـ وصل إلي دمشق الأمير سيف الدين قبجق( ) نائب الشام من قبل السلطان لاجين ، وعقب وصوله أرسل إلي كتبغا وأبلغه أن السلطان لاجين يأمره بالتوجه إلي مدينة صرخد للإقامة فيها ، فذهب إليها معززاً مكرماً ومعه أولاده ومماليكه وغلمانه وأقام بها( )، وهذه ظاهرة خطيرة أن يصبح السلطان السابق والياً علي بلدة من أعمال دمشق (صرخد) وهو أول مثل ينزل فيه سلطان في دولة المماليك إلي أمير وتتبابعت حوادث نزول السلاطين عن عروشهم ، إلا أنهم كانوا إما يعزلون أو يقتلون أو يعتزلون في مكان ما أو يقبض عليهم كأولاد الناصر.
السلطـان لاجيـن :
[ 696 – 698 هـ = 1296 – 1298م ]
كان لاجين من أبناء بعض البلاد الواقعة علي البحر البلطني في الشمال الغربي من أوروبا ثم صار من بين مماليك الملك المنصور علي بن أيبك ، فلما خلع علي اشتراه الأمير قلاوون بسبعمائة درهم علي أساس أنه ليس له مالك شرعي ، فلما تبين أنه من مماليك المنصور علي اشتراه قلاوون ، من جديد ثم اعتقه بعد أن رباه وبلغ أشده وقلده عدة وظائف مبتدئاً من علام حتى وصل إلي سلاح دار ، ولما اعتلي قلاوون العرش جعله من بين أمرائه ثم عينه نائباً علي دمشق( ) ، وظل في تلك الوظيفة حتى عزله السلطان خليل بن قلاوون وقبض عليه ولكنه عاد فأفرج عنه بعد أن شفع فيه بعض الأمراء ، ولما خرج من الحبس أوجس خيفة من السلطان فاتفق مع بيدرا وبعض الأمراء علي قتله وتم لهم ما أرادوا( )، وعقب مقتل خليل اختفي لاجين عدة أشهر في جامع ابن طولون( )، إلي أن أخرجه الأمير كتبغا بعد أن شفع فيه عند السلطان الناصر .
ولما صار كتبغا سلطاناً جعله نائباً له ، واستمر يباشر نيابة السلطنة حتى أتيحت له فرصة الاتفاق مع جماعة من كبار الأمراء علي خلع كتبغا وتم لهم ما أرادوا وتولي لاجين سلطنة مصر .
وبعد وصول لاجين إلي عرش السلطنة كانت أمامه عقبتان لابد له من اجتيازهما والتغلب عليهما ليثبت عرشه :
- الأولي : كتبغا وما كان ينتظر أن يأتيه من الدسائس وما يثيره من الفتن لاستعادة عرشه.
- الثاني : الناصر محمد الذي كانولا يزال مقيماً بمصر علي النحو الذي تركه عليه كتبغا، وكان الناصر في نظر الناس صاحب الحق الشرعي في الملك ، إلا أن كتبغا سلم بالأمر الواقع بعد محاولات غير مجدية وكفي نفسه شر القتال وشهد أمام القاضي (قاضي دمشق) بنزوله عن العرش ورضي بالمكان الذي عينه له لاجين .
أما الناصر محمد فقد فكر لاجين في إرساله إلي الكرك وإفهامه أنه سيبقي بها حتى يبلغ سن الرشد ، وعندئذ يسلمه ملكه بحجة أنه ينوب عنه في سلطنة مصر ، ويقول النويري في هذا الصدد : [ أخبرني قاضي القضاة زين الين علي بن مخلوف المالكي عن خبر إرساله يعني الناصر محمد إلي الكرك ، قال : طلبني الملك المنصور حسام الدين ، وقال لي أعلم أن السلطان الملك الناصر ابن أستاذي وأنا والله في السلطنة مقام النائب المنصور حسام الدين ، وقال لبي أعلم أن السلطان الملك الناصر ابن أستاذي وأنا والله في السلطنة مقام النائب عنه ، ولو علمت أنه الآن يستقل بأعباء السلطنة ، ولا تنخرم هذه القاعدة ويضطرب الأمر أقمته وقمت عنه ، ولو علمت أنه الآن يستقل بأعباء السلطنة( )، ولا تنخرم هذه القاعدة ويضطرب الأمر أقمته وقمت بين يديه ( ) وقد خشيت عليه في هذا الوقت ( )، وترجح عندي إرساله إلي قلعة الكرك فيكون بها إلي أن يشتد عضده ويكون من الله الخير ، والله ما أقصد بإرساله إليها إبعاده ولكن حفظه ، والسلطنة فهي له ، وأمثال هذا من الكلام ، قال زين الدين فشكرته علي ذلك ودعوت له ، ولعل السلطان الملك المنصور إنما قال هذا الكلام تطبياً لقلب قاضي القضاة لا حقيقة( )، وكان في طي الغيب كذلك"( ), ثم وجه لاجين كلامه بعد ذلك إلي الناصر محمد ليبين له حقيقة الدافع الذي حمله علي التفكير في الإسراع بإرساله إلي الكرك ، قال لاجين : لو علمت أنهم يخلوك سلطاناً والله تركت الملك لك ، وأنا مملوكك ومملوك والدك أحفظ لك الملك وأنت الآن تروح إلي الكرك إلي أن تترعرع وتترجل (كذا) وتتخرج وتجرب الأمور وتعود إلي ملكك بشرط أن تعطيني دمشق وأكون بها مثل صاحب حماة فيها ، فقال له الناصر: " فاحلف لي أن تبقي علي نفسي وأنا أروح ، فخلف كل منهما علي ما أراده الآخر( )".
أراد لاجين من هذه المناقشات أن يظمئن الناصر علي أنه سيعيده إليعرشه متى بلغ سن الرشد وأصبح قادراً علي أن يحكمك بنفسه ، وتبدو هذه الأسباب التي تعلل بها لاجين لإرسال الناصر إلي الكرك معقولة .
وعلي أثر ذلك الاتفاق رحل الناصر إلي الكرك في سنة 696هـ ، ومعه الأمير سيف الدين سلار وأقام فيها ، وعامله نائبها الأمير جمال الدين أقوش الأشرفي بما يجب له من الإجلال ، وتلقي أوامره ونواهيه بالامتثال ونزله المنزلة اللائقة بمثله ، وفعل في خدمته ما يحمد علي فعله".
وبعد أن اطمأن لاجين علي ملكه من كتبغا والناصر ، والتفت إلي تدبير شئون ملكه فعين الأمير شمس الدين قراسنقر المنصوري( ) نائباً للسلطنة ، ولكن لم يلبث أن قبض عليه وعين بدلاً منه الأمير سيف الدين منكوتمر( ). وتعتبر تولية منكوتمر في نيابة السلطنة إيذاناً بزوال حكم لاجين الذي أخذ عليه الأمراء العهود المواثيق ألا يعين هذا الأمير في أي عمل من أعمال الدولة حتى لا يسير سير كتبغا حين عين بكتوت ويتخاص الذين ساما الناس من الخسف والعذاب.
ومما يؤيد ما ذهبنا إليه هذه العبارة التي ننقلها عن بيبرس الدوادار : لما حلف لهم علي ما طلبوه( ) ، قال الأمير سيف الدين قفجق : نخشي أنك إذا جلست في المنصب تنسي هذا التقرير وتقدم الصغير من مماليكك علي الكبير وتخول مملوكك منكوتمر في التحكم والتدبير فتضل"( ).
وقد صدق حدس الأمراء ، فإن منكوتمر لم يكد يعتلي كرسي نيابة السلطنة وتوضع في يده مهمة الإشراف علي شئون الدولة حتى "استحوذ علي عقل مخدومه واستولي عليه وحجبه عن الخاصة والعامة وكان إذا رسم مخدومه بمرسوم لا يؤثره يوقفه هو ويؤخره وإن كتب توقيعاً لا يختاره يمزقه وعلامته عليه ولا يبالي به ولا يلتفت إليه ، ورسم بأن الأموال تحمل إلي داره دون بيت المال ، وصار الوزير بين يديه ممثل مراسمه ويستعطف مراحمه ولا يمضي أمراً إلا بأمره ، واشتد حنق الأمراء علي السلطان حين علموا أنه يفكر في جعل منكوتمر ولي عهده ( )، وهنا يتضح أن مبدأ الوراثة في العرش لم يكن طبيعياً ولا مفهوماً عند المماليك فإن لاجين لا يغتصب العرش لنفسه فقط بل يريد أن يتركه من بعده لأمير آخر ليست له صلة شرعية بالعرش.
وبذلك أثار لاجين حفيظة الأمراء بتعيينه منكوتمر نائباً للسلطنة حانثاً في يمينه لهم قبل اعتلائه العرش بعدم إسناد أي منصب من مناصب الدولة إليه ، وزاد في سخط الأمراء والجند حين أمر سنة 697هـ بعمل الروك المعروف في التاريخ باسم " الروك الحسامي"( ) وبه صار ما يخص هاتين الطبقتين معاً من القررايط الأربعة والعشرين التي كانت تنقسم إليها أرض مصر عشرة قررايط بعد أن كانت هذا القدر يخص كل طبقة منها علي حدة ، وأغضب لاجين الشعب بإهماله شئون الدولة وسوء معاملة منكوتمر له ، وإذا أضفنا إلي ذلك كله كره المماليك الأشرفية له باعتباره أحد قتلة الأشرف خليل ، أمكننا أن نتصور حالة السخط العام علي حكمه ويقول ابن إياس تعليقاً علي هذه الحوادث "فنفرت قلوبهم عن السلطان لاجين وتمني كل أحد زواله وكثر الدعاء عليه من الناس"( ).
لذلك اتفق عدد من المماليك علي الغدر بالسلطان لاجين وبنائبه منكوتمر ، وانتهزوا سنوح الفرصة لتنفيذ ما اعتزموه ، واتصل ذلك بعلم لاجين فصار لا يبرح القلعة إلا نادراً ولضرورة قاهرة ، وفي الربيع الآخر سنة 698هـ(1298م) تمكن من لاجين مملوكان من المماليك السلطانية هما الأمير سيف الدين طغجي الأمير سيف الدين كرجي( ) بينما كان جالساً في قصره وقتلاء وهو يلعب الشطرنج( ) ثم قتلا منكوتمر بعدئذ( ) .
التمهيد لعودة الناصر محمد إلي عرشه :
قتل لاجين في 10 ربيع الآخر سنة 698هـ بعد أن حكم مصر نحوا من سنتين وثلاثة أشهر وبقلته تجدد التفكير في إعادة الناصر إلي السلطنة ، ولكن ما لبث طغجي أن طمع في العرش ، علي أن يكون كرجي – شريكه في قتل لاجين – نائباً له ، وفي ذلك يقول المقريزي: "في يوم السبت 12 ربيع الآخر جنس طغجي مكان النيابة وبقية الأمراء يمنة ويسره ، ومد السماط السلطاني علي العادة ، ودار الكلام في الإرسال إلي الملك الناصر " فقام كرجي وقال : يا أمراء أنا الذي قتلت السلطان وأخذت ثأر أستاذي( )، والملك الناصر صغيراً ما يصلح ولا يكون السلطان إلا هذا – وأشار لطغجي – وأنا نائبه ومن خالف فدونه". وهذه ظاهرة عجيبة وقاعدة تكاد تكون مطردة في عصر المماليك ، وهي أن قاتل السلطان يعتقد أنه لابد أن يصبح سلطاناً ، ويدل علي ذلك ما سبق أنذكرناه عن وصول بيبرس إلي السلطنة بعد قتل قظز ، وما ذكرناه عن وصول بيدرا إلي العرش بعد قتل خليل بن قلاوون ، والآن تتكرر هذه الظاهرة ويتفاخر كرجي أنه قاتل السلطان لاجين ويقترح طغجي سلطاناً ويعان نائباً له ، ولكن الأمراء لم يرضوا بسلطته طغجي ونيابة كرجي واتفقوا علي قتلهما وتم لهم ما أرادوا.
وحانت للأمراء فرصة فتل طغجي حين دعوه لاستقبال الأمير بدر الدين بكتاش بعد عودته علي رأس الحملة التي جردت إلي سيس بلاد الشام ، وكان الأمراء قد كتبوا إلي الأمير بكتاش وإلي من معه يعلمونهم ما حدث من قتل لاجين وعزم طغجي علي إقامة نفسه سلطاناً وكرجي نائباً له ، وقد أورد لنا ابن أبي الفضائل والمقريزي نص المناقشات التي دارت بين الأميرين بكتاش وطغجي بصدد مقتل لاجين ، ومنها نتبين أن بكتاش لم يظهر في بادئ الأمر معرفته بما حدث في مصر أثناء غيبته وأنه استدرج طغجي حتى اعترف أمامه بأنه هو قاتل السلطان، وقد عير بكتاش عن سخطه بهذه العبارة التي استدل منها علي مبلغ الفرض التي وصلت إليها مصر إذ ذاك وعدم اعتبار المبدأ الوراثي أساساً للوصول إلي عرش السلطنة : " إيش هذه الأفعال القبيحة ، تريدوا كل يوم تقيموا لكم سلطان جديد ، أبعد عني لا صح الله لكم بدن ، أبعد عني ، ولا تلتصق بي" ، وكانت هذه الكلمات كالسهام صوبت إلي صدر طغجي فتأكد من مصيره في الحال ، أما كرجي فإنه لما علم أثناء مقامه بالقلعة بمقتل طغجي ، حاول الهرب ولكنه قتل .
بعد قتل كل من طغجي وكرجي اتفق عدد من الأمراء هم : حسام الدين لاجين ، وعز الدين أيبك الخازندار ، وسيف الدين سلار وسيف الدين كرت ، وجمال الدين عبد الله ، وركن الدين الجاشنكير. وجمال الدين الأقوش والأفرم ، وسيف الدين بكتمر( ) ، أن يقوموا بتدبير أمور الدولة وصاروا يجلسون معاً ويكتب كل منهم علامته علي الكتب والمراسيم ولا يصدر كتاب إلا وعليه إمضاءاتهم جميعاً ، وكان الأمير عز الدين أيبك الأفرم( ) يجلس في مرتبة نائب السلطنة وبقية الأفراد عن يمينه ويساره ، واستقر الحال علي ذلك مدة خمسة وعشرين يوماً كانت البلاد تحكم فيها بغير سلطان حتى وصل الناصر محمد من الكرك إلي مصر وتسلم ملكه في 4 جمادي الأولي سنة 698هـ ( 1298م) وكان عمره إذ ذاك أربع عشر سنة ، وبدأت بذلك سلطنته الثانية( ).
سلطنة الناصر محمد الثانية :
[ 698 – 708 هـ = 1298 – 308م ]
استقبل الناصر أثناء عودته استقبالاً حماسياً من جميع أهالي مصر ، وزينت له القاهرة أجمل زينة ، وأظهر الناس علي اختلاف طبقاتهم سروراً يجل عن الوصف لعودة سلطانهم الحقيقي إلي ملكه ، وارتفعت أصواتهم بالدعاء لذاته بالحفظ والسلامة ولملكه بالعز والتأييد ، وطالبوا بالانتقام من زين الدين كتبغا ومن أعوان حسام الدين لاجين ، ومن ذلك الحين اشتد سخط الأمراء الطامحين علي العامة ، لما أظهروه نحو الناصر محمد من الواء والإخلاص وبدءوا يتدبرون الأمر فيما بينهم .
ولسنا نزعم أن الشعب المصري كان يعني كثيراً بنظام العرش أو حق الناصر في عرش أبيه ، ولكننا نفسر فرح الشعب في مناسبة عودة الناصر بسخطه علي الأمراء المماليك وما يحدثه التنافس بينهم من قلاقل واضطرابات لا ينجو الشعب من أضرارها وبأمله في أن يتغير الحال علي يد الناصر .
لما استقر الناصر علي العرش عين الأمير سيف الدين سلار( ) نائباً له والأمير ركن الدين بيبرس الجاشنكير استاداراً . غير أن هذين الأميرين عملا علي التضييق علي الناصر فلم يمكناه من الاتصال بشعبه أو التصرف في أمواله ، بل عمدا إلي الحجر عليه وتقرير راتب شهري ضئيل لم يكن يكفيه للإنفاق منه علي ضرورات المعيشة ، وكان طلب زيادة راتيه لا يستمعا إليه ولا يأبهان لقوله ولا يوافقانه عليه( ).
وفي سنة 707هـ شدد سلار وبيبرس الحجر علي الناصر ، فشكل لخاصته ضيق يده وعزم علي التخلص منهما ، ومن هنا تبدأ الفتنة بين الناصر من جهة وبين هذين الأميرين من جهة أخرى وينتهي الأمر بعزلة وزاول سلطته الثانية ، ويهمنا في هذا الصدد أن نتتبع تطورات هذه الفتنة ونتائجها لنري أن حب الشعب للناصر وحكمه ، ذلك الحب الذي ظهر بأجلي معانيه أثناء هذا النضال لم يحل دون القضاء علي ملكه وإن كان قد أطال قليلاً في فترة سلطته الثانية .
وبلغ البأس بالناصر مبلغاً عظيماً فاستدعي الأمير بكتمر الجوكندار وأعلمه بما صح عليه عزمه من القبض علي الأميرين سلار بيبرس وكان لكل مهما أرصاد وعيون عند السلطان يبلغونهما كل ما يقال عنهما ، لذلك أخذ كل من هذين الأميرين حذرهما ، واجتمع الأمراء للتشاور في موقفهم بعد ذلك بإزاء السلطان وجهزوا عدداً من المماليك وأوقفوهم علي باب الاسطبل السلطاني بقيادة أجامير سيف الدين سمك أخي سلار حتى لا يتمكن الناصر من الهرب من القلعة ، علي أثر ذلك تأهب المماليك السلطانية للعمل علي نجاة الناصر ، بإخراجه في الحال من الاصطبل وتوقعوا الحرب بينهم وبين أتباع الأميرين سلار وبيبرس فلم يوافق السلطان الناصر ، واستمر حصارهم للقلعة ساعات طويلة ، لذلك خاطب السلطان الأمراء وقال لهم : ما سبب هذا الركون علي باب الاصطبل ؟ إن كان غركم في الملك فما أنا متطلع إليه فخذوه وابعثوني أي موضع أردتم!" فكان ردهم علي ذلك " أن السبب هو من عند السلطان ومن المماليك الذين يحرضونه علي الأمراء" ، فنفي السلطان أن أحداً من المماليك يحاول تحريضه علي الأمراء .
ولا يفوتنا هنا ان نلاحظ أن نظام المماليك البقاء فيه للأصلح والسلطنة فيه لأعظم الأمراء نفوذاً وأكثرهم أتباعاً ، ولا ريب في أن تسلم خوند أشلون في سلطنة الناصر الأولي يضعف ابنها وبأنه في يد الأمراء يستطيعون خلعه إذا أرادوا ثم تسليم الناصر نفسه يمثل ذلك وعرضه أن يعطيهم الملك وأن يبعثوه إلي حيث يشاءون – كل ذلك يشهد بأن وراثة العرش لم يكن مقدراً له النجاح في هذه الدولة وبأن أنصار محمد بن قلاوون بين المماليك لم يكونوا قوة يحسب لها حساب .
وتداخلت العامة في هذا النزاع حين علموا أن الأمراء يريدون الغدر بالسلطان ، فتجمعوا حول قلعة الجبل ، وتحمسوا في الذود عن ملك الناصر ، ولم ينجح سلار وبيبرس في تشتيت جموعهم بالقوة( ) ، فخضعا لمشيئته وتبعهما بقية الأمراء ، إلا أنهم رجوا من السلطان أن يخرج من مصر مماليكه الذين كانوا سبب الفتنة ( )، وعقب ذلك دخل الأمراء علي السلطان وقبلوا الأرض ثم قبلوا يده ( ) وبذلك خمدت الفتنة وخرج الناصر منها منتصراً وكان الفضل في خضوع الأمراء للناصر هذه المرة للشعب ، وهو عامل ظهر أثره بوضوح في ذلك العهد مما سنبينه عند كلامنا علي علاقة الناصر بشعبه .
إلا أن إخماد الفتنة التي تأججت نيرانها بين السلطان والأمراء لم يكن إلا كالهدر الذي يسبق العاصفة فإن قلوب كل من الطرفين كانت قد تغيرت وأصبح إحلال الصفاء والوئام بينهما مستحيلاً ، ولكن الفتنة وإن كانت قد خمدت ظاهرياً ، فإنها لم تؤد إلي زوال ما يشكو منه الناصر من "استيلاء سلار وبيبرس الجاشنكير علي المملكة واستبدادهما بالأمور وتجاوز الحد في الانفراد بالأموال والأمر والنهي". وعدم تصرفه في الدولة من كل ما يريد حتى أنه لا يصل إلي ما تشتهي نفسه من المأكل لقلة المرتب. ، وحتى أنه طلب خروفاً رميساً بدرياً فمنع من ذلك.
ولم يجد الناصر بإزاء تحكم سلار وبيبرس الجاشنكير في أمور الدولة وأمام هذه الاضطرابات القائم في مصر بداً من الرحيل عنها مختاراً قبل أن يضطره أعداؤه إلي مغادرتها، بل ربما تمني ذلك فلم يتمكن منه وقضي عليه فتظاهر بالسفر للحج وغادر مصر.
سار الناصر إلي الكرك فوصل إليها في 10 شوال سنة 708هـ (1308م) بمن معه من الأمراء والمماليك وعندما استقر بها أبلغ الأمراء أنه قد عدل عن الحج واختار الإقامة بالكرك كما كان أولاً حين أخرجه إليها السلطان جين (696هـ) وترك السلطنة ، واستدعي القاضي علاء الدين علي بن أحمد بن سعيد بن الأثير وكان قد توجه معه وأمر أن يكتب للأمراء يعرفهم ما استقر عليه رأيه من ترك السلطنة وإقامته بالكرك ( )، ثم أعطي الناصر الكتاب للأمراء وأمرهم بالعودة إلي الديار المصرية ، وهاك نص الكتاب :
بسم الله الرحمن الرحيم
حرس الله تعالي الجنابين العاليين الكبيرين الغازين المجاهدين وفقهما الله تعالي توفيق العارفين أما بعد : فقد طلعت إلي الكرك( )، وهي من بعض قلاعي وملكي ، وقد عولت علي الإقامة فيها ، فإن كنتم ممالكي ومماليك أبي فأطيعوا نائبي( )، ولا تخالفوه في أمر من الأمور ولا تعلموا شيئاً حتى تشاوروني ، فأنا ما أريد لكم إلا الخير وما طلعت إلي هذا المكان إلا أنه أروح لي وأقل كلفة ، وإن كنتم تسمعون مني أنا متوكل علي الله والسلام"( ).
تشاور الأمراء بعد وصول كتاب الناصر إليهم ، فاستقر رأيهم علي أن يبعثوا إليه بكتاب يدعونه فيه إلي مصر هو ومماليكه وإلا خلعوه من العرش وحرموه الإقامة في الكرك ، وها هو نص هذا الكتاب :
"ما علمنا ما عولت عليه وطلوعك إلي قلعة الكرك وإخراج أهلها( )، وتشييعك نائبها ( ) ، وهذا أمل بعيد فخل عنك الصبي وقم واحضر إلينا ، وإلا بعد ذلك تطلب الحضور ولا يصح لك، وتندم ولا ينفعك الندم ، فياليت لو علمنا ما كان وقع في خاطرك وما عولت عليه( )، غير أن لكل ملك انصرام ولا نقضاً الدولة أحكام ولحلول الاقدار سهام ، ولأجل هذا أمرك غيك بالتطويل وحسن لك زخرف الأٌاويل فالله حال وقوفك علي هذا الكتاب يكون حضورك بنفسك ومعك مماليكك ، وإلا تعلم أنا ما تخليك في الكرك ولو شاركوك ويخرج الملك من يدك والسلام".
فلما قرأ الناصر هذا الكتاب قال : " لا إله إلا الله كيف أظهورا ما في صدورهم ، ثم أعطي علم الدين ينجر البرواني رسول الأمراء إليه كل ما كان قد أخذه من مصر من الأموال والهجن والأدوات وقال له : " قل لسلار ، ما أخذت منكم شيئاً من بيت المال ، وهذا الذي أخذته قد سيرته إليكم ، وانظروا في حالكم فأنا ما بقيت أعمل سلطاناً وأنتم علي هذه الصورة ، فدعوني أنا في هذه القلعة منعزلاً عنكم إلي أن يفرج الله تعالي إما بالموت وإما بغبره" وهذا الكتاب الذي بعث به الناصر إلي أمراء مصر يدلنا دلالة واضحة علي حالة الضعف التي سادت مصر إذ ذاك ومبلغ الظلم الذي أصابها وسوء نظام الحكم فيها .
لما تسلم سلار وبيبرس كتاب الناصر محمد إليهما قالا : ولو كان هذا الطبي يجي ما بقي يفلح ولا يصلح للسلطنة وأي وقت عادلاً نأمن غدره" ، وعقت ذلك تشاور سلار وبيبرس مع الأمراء ، فرأي الأمير ركن الدين بيبرس الدوادار ، الكتابة إلي الناصر ورجائه في العودة إلي ملكه ، فلم يقبلا منه هذا الرأي ، لأنه متى حصل التردد والمرجعة والتقليد والمفاوضة تخشي من اضطراب الأمور وعبث الجمهور نفاق العربان وثورة أهل العصيان ، فاستقر الرأي علي أن يعهدوا بالملك إلي الأمير سلار نائب السلطنة ، علي أن هذا خشي سوء العاقبة وخاف أن يحل به ما حل بكل من كتبغا ولاجين فاعتذر عن قبول السلطنة.
وقد أوضح أبو المحاسن الظروف التي دعت سلار إلي الامتناع عن السلطنة فقال : وأعيد الكلام فيمن يصلح للسلطنة من الأمراء (بعد خروج الناصر إلي الكرك) فأشار الأمراء الأكابر بالأمير سلار ، فقال : سلار : نعم علي شرط كل ما أشير به لا تخالفوه ، وأحضر المصحف وحلفهم علي موافقته وألا يخالفوه في شيء فقلق البرجية من ذلك ولم يبق إلا إقامتهم للفتنه فكفهم الله عن ذلك وانقضي الحلف ، فعند ذلك قال الأمير سلار ، والله يا أمراء أنا ما أصلح لذلك ولا يصح له إلا أخي هذا – وأشار إلي بيب