Eng. Ahmedzoubaa Admin
عدد المساهمات : 1216 تاريخ التسجيل : 28/08/2010 العمر : 50
| |
Eng. Ahmedzoubaa Admin
عدد المساهمات : 1216 تاريخ التسجيل : 28/08/2010 العمر : 50
| |
Eng. Ahmedzoubaa Admin
عدد المساهمات : 1216 تاريخ التسجيل : 28/08/2010 العمر : 50
| موضوع: رد: الفصل التاسع - بدايات الأزمنة الحديثة الأربعاء 15 يونيو 2011 - 0:22 | |
| الكنائسفي عام 1500 كانت هناك كنيسة واحدة تضم شمل أوروبا وتعطيها هويتها المميزة لها، إلا أن هذه الحقيقة مالبثت أن تبدلت خلال خمسين عاماً بفعل الإنقلاب الكبير الذي سمي لاحقاً بالإصلاح البروتستانتي.ويمكننا أن نعتبر هذا التبدل نهاية العصور الوسطى وبداية حقبة جديدة في الحضارة الأوروبية، كما سوف تكون له أيضاً أهمية بارزة في تاريخ العالم، لم يكن هذا الإصلاح متوقعاً، وهذه هي حال الكثير من التغيرات الكبرى، ولو علم الرجال الذين ابتدأوه بشيء من نتائجه الأخيرة لروعتهم.لقد كان أولئك رجالاً ذو عقليات من العصور الوسطى، ولكنهم حطموا تقليداً قديماً من احترام السلطة الدينية يعود إلى ألف عام مضت، فقضوا بذلك على وحدة المسيحية التي كانوا يؤمنون بها إيماناً عميقاً، كما خلقوا صراعات سياسية جديدة، مع أنهم كانوا يظنون أنهم لايهتمون إلا للأمور الروحية.ونستطيع اليوم أن نرى أيضاً أنهم كانوا يتخذون أولى الخطوات وأهمها نحو مزيد من حرية السلوك للفرد، ومزيد من التسامح مع الآراء المختلفة، ومزيد من الانفصال بين الناحيتين الدنيوية والدينية للحياة، ولو أنهم في الحقيقة لم يرغبوا بشيء من هذا أو حتى يتوقعوه، ولقد أطلقوا باختصار الشيء الكثير من التاريخ الحديث.من الناحية النظرية، كانت أوروبا كلها مسيحية منذ أن تم تنصير البرابرة في عصور الظلام، ولاتجد لهذه القاعدة إلا استثناءات قليلة في إسبانيا، حيث كان الملوك المسيحيون في عام 1500 يحكمون عدداً هاماً من الرعايا غير المسيحيين، كما كن هناك في بعض البلاد أعداد قليلة من اليهود يعيشون منفصلين عن المسيحيين في أحيائهم الخاصة الغيتو وكانوا خاضعين للضرائب وغير متمتعين عادة بنفس الحماية التي يتمتع بها المسيحيون.فعدا عن هذه الحالات الخاصة كان جميع الأوروبيين مسحيين، بل إن أوروبا والمسيحية كانتا كلمتين مترادفتين تقريباً في العصور الوسطى، كان الدين هو الرابطة الوحيدة التي تجمع أوروبا، وكان العالم المسيحي كياناً واحداً غير منقسم يجمعه معتقد واحد وأعمال الكنيسة، التي كانت المؤسسة القانونية الوحيدة الشاملة للقارة برمتها.كانت قوانين الكنيسة سارية في جميع البلاد عن طريق محاكم قائمة إلى جانب النظام العلمانية وبصورة منفصلة عنه، وكانت كل الجامعات تحت إدارة رجال الكنيسة وإشرافهم. وأخيراً كان الناس في جميع البلاد يتلقون نفس الأسرار المقدسة، وكانت هذه تفرض عليهم نمطاً واحداً من الأحداث الكبرى التي يمرون بها خلال حياتهم من ولادة وزواج وموت.المصلحونبالرغم من مكانة الكنيسة التي لاينازعها عليها أحد فإنها كانت دوماً عرضة للكثير من الانتقاد، ولم يكن هذا بالأمر الجديد، فالشرور التي كان الناس يستنكرونها في بداية القرن السادس عشر كانت موضع شجب وانتقاد منذ العصور الوسطى، ومنها جهل رجال الدين وسوء استخدامهم لسلطتهم من أجل مكاسبهم الشخصية، وحياتهم المادية البعيدة عن الأمور الروحية.ولطالما هاجم هذه العلل رجال الدين أنفسهم، ولطالما هزأ الكتاب وسخروا من الكهنة الذين يفضلون الشراب وملاحقة الفتيات على الاهتمام بواجباتهم الروحية، فكانوا يقارنون الكهنة الفقراء المخلصين لرعيتهم والمتفانين في خدمتها، وبين رؤسائهم الأثرياء المنغمسين في ملذات الحياة. إلا أن هذه الهجمات على رجال الدين لم تكن تعني أن الناس يرغبون بهجر الكنيسة نفسها، أو أنهم يشككون بجوهر الديانة المسيحية.كان رجال الدين يحاولون منذ زمن بعيد أن يرتبوا أمور بيتهم، وبمرور القرن الخامس عشر صار بعض المنتقدين ومنهم الكثير من الكهنة، يقولون بضرورة العودة إلى الكتاب المقدس لكي يرشد الناس إلى الحياة المسيحية الصالحة، بما أن الكثيرين من رجال الدين قد انحرفوا عنها.كان هؤلاء عادة يتهمون بالهرطقة، وكانت الكنيسة تمتلك أسلحة قوية لمعالجة أمرهم، ومنهم العالم ويكليف من جامعة أوكسفورد والتشيكي جون هوس الذي أعدم حرقاً، وكانوا يتمتعون بدعم شعبي قوي، ويعتمدون على الشعور القومي لدى مواطنيهم بأن البابوية مؤسسة أجنبية غاشمة.كما أن بعض الهراطقة كانوا يعتمدون على استياء الناس من الظلم الاجتماعي، ولاننس أن الكتاب المقدس يتطرق كثيراً إلى هذا الموضوع. وقد طاردت السلطات منتقدي الكنيسة من أتباع ويكليف وهوس هذين وضايقتهم، ولكن لم يكونوا هم الذين قوضوا الكنيسة,لم تكن الكنيسة قد خسرت بعد شيئاً من قوتها وسلطتها القديمتين في عام 1500، بالرغم من التزايد المفاجئ لانتقاداتها، بل استمرت بلعب دورها المحوري على كافة مستويات المجتمع، فكانت تشرف على الأحداث السياسية في حياة الفرد من المهد إلى اللحد وتقولبها في أنماط مألوفة وثابتة.وكان الدين يتخلل الحياة اليومية إلى حد بعيد ويرتبط بها ارتباطاً لاتفصم عراه، ففي أكثر القرى والمدن الصغيرة مثلاً لم يكن ثمة بناء عام غير الكنيسة، فليس من الغريب إذاً أن يجتمع الناس فيها لإدارة شؤونهم الجماعية، ولكن أيضاً للتسلية والاحتفال والرقص في أيام الأعياد.ولم يكن تدخل رجال الدين في الشؤون الدنيوية مفيداً دوماً للكنيسة، لأن الأساقفة الذين كانوا يلعبون دوراً بارزاً في شؤون حكامهم كانوا معرضين لخطر الانشغال عن العناية برعيتهم، فالكاردينال الكبير ولسي مثلاً الذين كان رئيس أساقفة يورك ومحظياً لدى ملك إنكلترا هنري الثامن، لم يزر أبرشيته إلا عندما أرسله إليها الملك مخزياً بعد أن خسر حظوته لديه وسلطته.وكان البابوات أنفسهم شديدي الحرص على مكانتهم كحكام دنيويين، ولما كان العرش البابوي والإدارة البابوي أيضاً قد صارا بأيدي الإيطاليين فإن الأجانب قد شعروا بهذا الأمر بصورة أكثر حدة.وكانت الكنيسة تعاني أيضاً منذ زمن طويل من مشكلة أخرى، هي استلام الفرد الواحد لمناصب عديدة وقبض ما تقدمه له من رواتب من دون أن يقوم بواجباته نحوها، ويبدو أن الكنيسة قد عجزت عن معالجة هذه المشكلة. ومن أسبابها أن المال لم يكن كافياً، بالرغم من الأبهة التي كان يعيش فيها الكثيرون من الأساقفة ورؤساء الأديرة، وبالرغم من الترف والبذخ في البلاط البابوي بروما. ويروى عن أحد البابوات أنه قال "بما أن الله قد أعطانا البابوية فلنستمتع بها"، فبسبب قلة المال كانت الوظائف توزع على رجال الدين مكافأة لهم على خدماتهم.وسبب الفقر مصاعب أخرى أيضاً، لقد وصل البابا سيكستس الرابع إلى درجة رهن التاج البابوي، ولم يكن من المألوف أن يبلغ البابوات هذا الحد، ولكن الشكاوى من استخدام السلطتين القانونية والروحية من أجل زيادة مدخول البابوية كانت شكاوى قديمة، وكان سببها البعيد هو الحاجة لإيجاد مصادر جديدة للمال.كان المال قليلاً في الأبرشيات أيضاً، فصار الكهنة أشد صرامة في جمع الضريبة التي تترتب على أبناء أبرشيتهم، وهي نسبة من منتجاتهم الزراعية تساوي عادة العشر أو 1/12. وقد أدى هذا إلى الاستياء والمقاومة بين الناس، فصار رجال الكنيسة يهددونهم بالحرمان من الأسرار المقدسة ما لم يدفعوا ما يترتب عليهم، وكان هذا تهديداً خطيراً في عصر يؤمن فيه الناس أنه قد يؤدي بهم إلى نار جهنم الأبدية.وأخيراً كان الفقر من أسباب جهل رجال الدين، ولو أنه لم يكن السبب الوحيد، صحيح أن مستوى التعليم بينهم قد تحسن منذ القرن الثاني عشر خاصة بفضل الجامعات، إلا أن الكثيرين من الكهنة في عام 1500 لم يكونوا أقل جهلاً وإيماناً بالخرافات من أبناء أبرشيتهم.وفي هذه الأجواء بدأت البابوية بتشييد كاتدرائية جديدة كبيرة في روما، هي كاتدرائية القديس بطرس التي مازالت قائمة هناك، فكان عليها أن تجد طرقاً جديدة لجمع المال، ومن هذه الطرق أنها أرسلت أعداداً أكبر من الباعة المتجولين الذين يبيعون صكوك الغفران. وكان هؤلاء وعاظاً يأخذون من الناس مساهمة مالية لبناء الكاتدرائية، ويعطونهم بالمقابل ضماناً من البابا باختصار المدة التي سوف يقضونها في المطهر، وهو المسكن الذي كان يعتقد أن النفس تتطهر فيه من أشرار العالم وخطاياهم قبل أن تنتقل إلى السماء. لوثركانت تلك هي الشرارة غير المتوقعة التي أشعلت الثورة الدينية، في عام 1517 كان الراهب الألماني مارتن لوثر قد قرر أن يحتج على صكوك الغفران وعلى عدد من ممارسات البابوية الأخرى، ولما كان عالماً من الطراز القديم فقد سار على التقليد السائد بأن علق حججه المؤلفة من خمسة وتسعين بنداً على باب كنيسة القلعة في مدينة فيتنبرغ للنقاش العلني، حيث أنه كان أستاذاً في جامعة تلك المدينة.وهنا بدأت حركة الإصلاح البروتستانتي، وسرعان ما ترجمت حججه من اللغة اللاتينية التي كتبها بها إلى اللغة الألمانية، فانتشرت في ألمانيا انتشار النار في الهشيم، وأمنت لها الطباعة جمهوراً أوسع مما حظيت به الانتقادات السابقة للبابوية.كان لوثر يساهم في صنع تاريخ العالم من دون أن يعلم، وكان يتمتع بالمزاج الملائم لهذه المهمة الكبرى، كان سكسونياً ابن فلاح، كما كان رجلاً مندفعاً وانفعالياً، وقد أصبح راهباً في سن الحادية والعشرين بعد انقلاب نفسي عنيف سببته صاعقة من البرق أصابته وهو يسير على الطريق العام، لقد غلب عليه عندئذٍ شعور بالهلع وبأنه إنسان مذنب وأنه لو مات من الصاعقة لما كان جديراً إلا بالجحيم، وصار فجأة على يقين من أن الله يحبه وأنه سوف ينقذه.ويشبه هذا التحول في سرعته وعنفه تحول القديس بولس عندما كان في طريقه إلى دمشق، وعندما قدم لوثر بأنه غير جدير بأن يكون كاهناً، وقد آمن فيما بعد بأن الشيطان قد ظهر له، بل إنه رماه بمحبرة كانت أمامه، ولكن طبيعة لوثر كانت في الوقت نفسه صلبة لاتلين إذا ما اقتنع أنه على حق، وهذا ما يفسر تأثيره الكبير، وربما كانت ألمانيا بالأصل ناضجة لتقبل أفكار مثل أفكاره، ولكن لولاه لما سلكت حركة الإصلاح الطريق التي سلكتها.كان هناك في ألمانيا حقد وضغينة شديدان ضد البابوية الإيطالية ينتظران أن يأتي أحد ليحركهما ويستغلهما. وقد تحول لوثر إلى الكتابة والوعظ بإرادة صلبة عندما حاول رئيس أساقفة ألمانيا في ماينز أن يسكته، كما تخلى عنه زملاؤه الرهبان، إلا أن جامعته وقفت إلى جانبه، وكذلك حاكم سكسونيا أي الولاية التي كان يعيش فيها.وفي النهاية قسمت كتاباته الألمان إلى فريقين، فريق صار يسمى باللوثريين مع أن لوثر سمي في البداية هوسيا، أي من أتباع هوس*، وفريق المؤيدين للبابا والإمبراطور. وقد جاءه الدعم من رجال الدين المستهجنين لتعاليم رجال دين روما وممارساتهم، ولكن أيضاً من أناس بسطاء يحملون المظالم ضد جباة الضرائب ومحاكم الكنيسة، ومن أمراء جشعين طامعين بثروة الكنيسة ومن أشخاص آخرين وقفوا إلى جانبه لسبب بسيط هو أن خصومهم التقليديين قد وقفوا ضده.لقد وضع لوثر في النهاية آراءه بصورة مجموعة من العقائد اللاهوتية، أي بيانات حول الإيمان يجب على المسيحي أن يتمسك بها لكي يضمن أنه مسيحي حقاً وأنه سوف ينقذ من الجحيم بعد الموت. قال لوثر إن الكنيسة نفسها وحتى الأسرار المقدسة ليست حتمية من أجل الخلاص، وإن الإنسان يمكنه تحقيق الخلاص إذا هو آمن بيسوع المسيح.وكانت هذه التعاليم على درجة كبيرة من الأهمية، لأنها تعلم أن الخلاص ممكن في المحصلة من دون الكنيسة، وبالاعتماد على علاقة الفرد الشخصية بالله. ولقد قيل أن لوثر أزاح البابا عن عرشه ونصب محله الكتاب المقدس، أي كلمة الله التي يمكن لكل مؤمن أن يسترشد بها من دون الحاجة لوساطة الكنيسة.إن هذه النظرة التي تشدد تشديداً كبيراً على الضمير الفردي كانت نظرة ثورية، وليس من الغريب أن يكون لوثر قد حرم من الكنيسة، إلا أنه استمر بالتعليم والوعظ وراح يكسب المزيد والمزيد من الدعم.البروتستانتية والإصلاح المضادإن الصراعات السياسية التي أثارتها تعاليم لوثر بين حكام ألمانيا قد اندلعت بشكل سلسلة من الحروب والثورات، وبعد مرحلة طويلة من الاضطراب كان لابد من الوصول إلى تسوية عامة، فعقد صلح أوغسبرغ عام 1555، أي بعد تسع سنوات من وفاة لوثر، واتفق فيه على أن تقسم ألمانيا بين الكاثوليك والبروتستانت، وكانت هذه الكلمة قد صارت مستخدمة بعد توقيع احتجاج Protestation ضد البابوية في عام 1529، فكان حاكم كل دولة يقرر الديانة التي تتبع لها ولايته.وبهذا أضيفت زمرة جديدة من الانقسامات إلى بلد كانت بالأصل مقسمة، وكان الإمبراطور شارلكان مضطراً للقبول بهذا الترتيب لأنه الطريقة الوحيدة القادرة على تأمين السلام في ألمانيا، مع أنه كان قد كافح المصلحين، وللمرة الأولى اعترف الأمراء ورجال الكنيسة بوجود أكثر من مصدر واحد للسلطة الدينية، وبوجود أكثر من كنيسة رسمية واحدة ضمن المسيحية الغربية.وكانت قد بدأت تطورات أخرى كان لوثر نفسه يستنكرها، هي تقسم البروتستانتية، إذ راح المزيد والمزيد من الناس يتخذون لأنفسهم آراء خاصة في المسائل الدينية، وسرعان ماظهر بروتستانتيون آخرون لايشاركون لوثر آراءه، وكان أهمهم الفرنسي جون كلفين الذي ظهر في سويسرا.لقد انشق كلفين عن الكاثوليكية وراح يبشر في ثلاثينيات القرن السادس عشر، وقد نجح نجاحاً كبيراً في جنيف، كما أسس فيها دول ثيوقراطية أي أنها تحت حكم الأتقياء الورعين من أتباعه الكلفينيين.كانت جنيف مكان شديد التزمت، وكان الهرطقة تعاقب فيها بالموت، ولم يكن هذا بالأمر الغريب في تلك الأيام، ولكن جنيف كانت تتميز بأنها تفرض عقوبة الموت، كما فعل كلفين على الرجل الذي يذهب مع امرأة متزوجة أو المرأة التي تذهب مع رجل متزوج.إلا أن الكلفينية نجحت نجاحاً كبيراً أيضاً في فرنسا والبلاد الواطئة واسكتلندا، بينما لم تنتشر اللوثرية في البداية خارج ألمانيا التي ولدت فيها إلا في اسكندينافيا. وكانت النتيجة على كل حال مزيداً من الانقسام، بحيث صارت هناك الآن أوروبات ثلاث، اثنتان منها بروتستانتية وواحدة كاثوليكية، عدا عن عدد من الطوائف البروتستانتية الصغيرة.وسوف تلعب البروتستانتية دوراً هاماً في مستقبل إنكلترا أيضاً، كانت إنكلترا تعيش الكثير من الظروف المناهضة للبابوية التي رأيناها في بلاد أخرى، وكان فيها فوق هذا عامل شخصي جداً، هو رغبة ملكها هنري الثامن بالتخلص من ملكته، لأنه لم تحمل له بابن يرث العرش من بعده. ولكن هنري كان في الحقيقة ابناً مخلصاً للكنيسة، بل إنه قد كتب كتاباً ضد لوثر أكسبه استحسان البابا الذي سماه حامي حمى الإيمان وهو لقب مازالت سليلته تحمله حتى اليوم.ولقد كان من الممكن جداً أن يتم له ما أراد عن طريق أن يلغي البابا زواجه من هذه الملكة، لولا أنها كانت عمة للإمبراطور شارلكان، الذي تحتاج الكنيسة إلى دعمه ضد الهراطقة الألمان، لهذا ماكانت الكنيسة لتساعده، فتخاصم هنري مع البابا وانشقت إنكلترا عن ولائها لروما واستولى الملك على أراضي الأديرة في إنكلترا، وكان بعض الإنكليز يرجون أن تصبح إنكلترا لوثرية ولكن هذا لم يحصل.إن هذه النجاحات الكبيرة التي أحرزتها البروتستانتية قد أجبرت كنيسة روما على أن تبدل نفسها من نواحٍ عديدة، وكان الكاثوليك يتمنون أن تعود الأمور إلى سابق عهدها، ولكنهم كانوا يدركون أنهم باتوا الآن مضطرين للعيش بين أشخاص مختلفين عنهم ويدعون أنهم هم أيضاً مسيحيون.لذلك صارت كاثوليكية روما أكثر تصلباً، أو يمكننا أن نقول أنها صارت أكثر انضباطاً وتنظيماً، وهذا ما يسمى الإصلاح المضاد. وكانت هناك قوى عديدة ساهمت في هذه الحركة، ولكن أهمها كان المجمع المسكوني العام للكنيسة، الذي افتتح في مدينة ترانتو بشمال إيطاليا عام 1545، وظل يعقد جلساته حتى عام 1563.لقد أعاد مجمع ترانتو تعريف جزء كبير من عقيدة الكنيسة، كما وضع تعاليم جديدة لتدريب الكهنة وثبت سلطة البابا، وقد وجدت حركة الإصلاح المضاد نصيراً بارزاً لها هو الإسباني أغناطيوس لويولا، الذي أسس جماعة جديدة لخدمة البابوية هي جمعية يسوع أو اليسوعيون.فقد أقرت جمعية اليسوعيين في عام 1540، وكانت مرتبطة بالبابا شخصياً بيمين خاص من الطاعة، وكان اليسوعيون يدربون بعناية كبيرة بحيث يصبحون جيشاً مكوناً من نخبة المعلمين والمبشرين، وكان لويولا مهتماً اهتماماً خاصاً بتنصير البلاد الوثنية المكتشفة حديثاً. وكانوا أكثر الرجال تمثيلاً للروح المحاربة المتصلبة المميزة لحركة الإصلاح المضاد. وكانت هذه الروح موافقة لمزاج لويولا، إذ أنه كان جندياً وكان يعتبر جمعيته تنظيماً عسكرياً، والحقيقة أن اليسوعيين كانوا يسمون أحياناً ميليشيا الكنيسة.ولم تكن جمعيتهم هذه هي السلاح الوحيد في الترسانة الجديدة للكنيسة، بل كانت هناك أيضاً محاكم التفتيش، وهي المؤسسة التي وضعت في العصور الوسطى لملاحقة الهرطقة ثم أصبحت محكمة الاستئناف الأخيرة في قضايا الهرطقة في عام 1542، فضلاً عن قائمة الكتب الممنوعة والتي وضعت للمرة الأولى في عام 1557.الدين والحربلقد قسمت حركتا الإصلاح والإصلاح المضاد الأوروبيين بصورة مريرة، ولم يتأثر العالم الأرثوذوكسي في الشرق كثيراً، إلا أن جميع أنحاء أوروبا التي كانت كاثوليكية في السابق قد مرت بأكثر من قرن من الصراعات الدينية والصراعات السياسية التي سممها موضوع الدين. وقد نجحت بعض البلاد في اضطهاد أقلياتها حتى قضت على وجودها تماماً، مثل إسبانيا وإلى حد بعيد إيطاليا أيضاً، فبقيت بذلك قلاعاً منيعة للإصلاح المضاد.وكان الحكام في العادة يتخذون القرارات بأنفسهم فيقبل رعاياهم بقراراتهم، وقد يحاول الأجانب التدخل أحياناً، ولكن إنكلترا البروتستانتية كانت محمية بفضل قنالها، فكان الخطر عليها أقل منه على ألمانيا وفرنسا.إلا أن الدين لم يكن السبب الوحيد في الحروب التي عرفت بالحروب الدينية والتي خربت جزءً كبيراً من أوروبا بين عامي 1550 و 1648، فقد كان هناك أحياناً كما هي الحال في فرنسا مثلاً صراع على السلطة بين الأسر الأرستقراطية الكبيرة التي ارتبطت بهذا الحزب الديني أو ذاك.وكان المنتصر الأخير في فرنسا رجلاً من أسرة بروتستانتية هو الملك هنري الرابع، الذي تمكن من الوصول إلى العرش عن طريق اعتناق الكاثوليكية، وهكذا ظلت الملكية الفرنسية كاثوليكية، ولو أن الكثيرين من الهغنوت أي الفرنسيين البروتستانت قد ظلوا يتمتعون بحقوق خاصة، كما سمح لهم بالاحتفاظ بمدن محصنة لحماية أنفسهم وحقوقهم.كانت البلاد الواطئة تحت حكم إسبانيا، وقد نشبت فيها ثورة بدأها النبلاء المحليون الراغبون بمزيد من الحكم الذاتي، ثم تغيرت طبيعة تلك الثورة شيئاً فشيئاً بتأثير الدين، وفي النهاية شعر الزعماء الأرستقراطيون في المقاطعات الجنوبية، أي بلجيكا الحالية، أن من الأفضل لهم أن يظلوا كاثوليكاً وتحت حكم إسبانيا.أما المقاطعات الشمالية، والتي تقابل تقريباً مملكة الأراضي الواطئة هولندا الحالية، فقد دخلت في حظيرة البروتستانتية، مع أنها كانت تحوي مجموعة سكانية كاثوليكية كبيرة، وبعد صراع طويل يسموه الهولنديون حرب الثمانين عاماً ظهرت في أوروبا دولة جديدة هي المقاطعات المتحدة، التي كانت اتحاداً فيدرالياً صغيراً من الجمهوريات الصغيرة بقيادة هولندا، وكان تطبق مبدأ التسامح الديني.إن أبشع استغلال للدين من أجل الأهداف السياسية قد حدث في ألمانيا، فالصراعات الدينية التي سويت في أوغسبرغ عادت فاندلعت من جديد في القرن السابع عشر، عندما حاول إمبراطور من أسرة هابسبرغ مشبع بمبادئ الإصلاح المضاد أن يدفع الكاثوليكية على حساب البروتستانتية، فنتج عن ذلك حرب الثلاثين عاماً الفظيعة، التي استعرت نارها بصورة متقطعة بين عامي 1618 و1648، والتي ضاعت فيها المسائل الدينية في خضم السياسة والمجازر. وقد تحالف في إحدى مراحلها كاردينال فرنسي من كنيسة روما مع ملك السويد البروتستانتي من أجل أن يسحق مصالح أسرة هابسبرغ الكاثوليكية. وفي هذه الأثناء كانت الجيوش تذرع أنحاء ألمانيا مخلفة البؤس والدمار في كل مكان وناشرة الأمراض والمجاعة، وقد فقدت بعض المناطق سكانها، كما أن بعض المدن التي كانت مزدهرة قد اختفت تماماً.ولم يكن هناك بد من تسوية جديدة في النهاية، فكان صلح فستفاليا الذي أنهى الحرب في عام 1648 وافتتح حقبة جديدة، لقد ظل موضوع الدين حتى في ذلك الحين سبباً مشروعاً للاقتتال بين الدول، وعذراً كافياً لكي يقتل الإنسان جاره أو يعذبه إذا ما انحرف عن جادة الصواب، إلا أن رجال الدولة قد صاروا بالإجمال أكثر اهتماماً بأمور أخرى في تعاملهم بعضهم مع بعض، وصار العالم أكثر تحضراًَ بقليل، عندما عادوا يهتمون بشؤون التجارة والأراضي وابتعدوا عن أمور الدين,وكانت أوروبا في ذلك الحين أي في النصف الثاني من القرن السابع عشر، مقسمة إلى دول أكثر لاتقبل رسمياً إلا ديانة واحدة هي الديانة السائدة فيها، ولكن بعضها كانت فيها درجة لابأس بها من التسامح، خاصة في إنكلترا والمقاطعات المتحدة. * يان هوس 1370-1415 مصلح تشيكي دانه مجمع كونستانس وأعدم حرقاً، انتشر مذهبه في بوهيميا ومورافيا وتلاشى بعد 1433 . المنجد في الأعلام. | |
|
Eng. Ahmedzoubaa Admin
عدد المساهمات : 1216 تاريخ التسجيل : 28/08/2010 العمر : 50
| موضوع: رد: الفصل التاسع - بدايات الأزمنة الحديثة الأربعاء 15 يونيو 2011 - 0:23 | |
| عالم جديد من القوى العظمىلقد تغيرت طبيعة الحكم في الدول الأوروبية رويداً رويداً في اتجاهات مختلفة، وسوف ننظر هنا في حالات ثلاث منها، هي فرنسا والمقاطعات المتحدة وإنكلترا، كان أنجح الحكام الأوروبيين وأبرزهم قاطبة في تمثيل الملكية المركزية المطلقة هو لويس الرابع عشر، الذي حكم فرنسا في عام 1660 حتى عام 1715 كان قد ورث العرش منذ عام 1643 وهو في الخامسة من عمره، فكان عليه أن ينتظر حتى يبلغ السن القانونية، وما أن استلم زمام الحكم حتى دفع ادعاءات الملكية إلى مراتب لم يبلغها أحد من معاصريه، فانتهت على عهده المتاعب التي كان يسببها النبلاء الفرنسيون، كما أنه صادر الميزات التي كسبها الهغنوت البروتستانت الفرنسيون وقد مكنته الضرائب العالية وكثرة الرجال النسبية في فرنسا من إكساب الجيش قوة لاسابق لها، ومن القيام بسلسلة ناجحة من الفتوحات، أقله خلال النصف الأول من حكمه. لويس الرابع عشر أما في المقاطعات المتحدة الهولندية وإنكلترا فقد سلكت التطورات مناحي خاصة ومتميزة جداً، لم يكن لدى الهولنديين قدر كبير من الحكم المركزي القوي، وكان هذا الأمر ضاراً بالبلاد، لأن المنافسات بين المقاطعات المختلفة كثيراً ما عرقلت تعاونها فيما بينها، من أجل مقاومة الضغوط الخارجية. وكان هذا الضعف ثمن الحرية الواسعة التي كانوا يتمتعون بها، والتي لم يكن لها من مثيل في أي بلد آخر.كان جوهر هذه الحرية هو الدفاع عن استقلال مجموعات حاكمة صغيرة نسبياً من المواطنين الأغنياء المسيطرين على الحكم في كل دولة، وأهمها تجار أمستردام، عاصمة مقاطعة هولندا، ومركز الحياة التجارية في البلاد. ولكن حرص الأغنياء على حماية حرية المقاطعات قد أمن في الوقت نفسه حرية للمواطن العادي أيضاً، لأن نظرتهم إلى الأمور كانت في العادة مشابهة لنظرة أكثرية رعاياهم، ولأن مصالحهم الاقتصادية كانت موافقة لمصالح المواطنين الأفقر، فالجميع كانوا يعانون مثلاً إذا ساءت الأشغال في أمستردام، وليس الأغنياء وحدهم ولأنهم كانوا حريصين جداً على حريتهم في المتاجرة وكسب المال.وقد نجحوا نجاحاً بارزاً خلال القرن السابع عشر، رغم اضطرارهم للصراع الشديد ضد لويس الرابع عشر الذي كان يبغض اتجاهاتهم الجمهورية ولكنه يحب أزهار التوليب التي يزرعوها ويشتريها منهم بالملايين كل عام، إلا أن الهولنديين أضحوا في القرن الثامن عشر على عتبة مرحلة من التراجع والانحسار، وكان من أسبابها تلك الضغوط التي فرضتها عليهم أوضاعهم المذكورة، ولن يكونوا بعدها أبداً قوة عالمية هامة كما كانوا في المائة سنة السابقة.وأما قصة إنكلترا فهي قصة مختلفة كل الاختلاف، كان يلوح في البداية أن أسرة تيودور قد تبني لنفسها ملكية مركزية قوية مثل ملكيات أوروبا، فقد كانت تقاليدها الملكية الوطنية هي الأقدم في أوروبا، كما كان الشعور القومي في إنكلترا أكثر تطوراً منه في البلاد الأخرى.والحقيقة أن هذا الأمر قد سهل على هنري الثامن أن يقوم بعملية تأميم الكنيسة في إنكلترا، بحيث اندمجت فيها البروتستانتية بالشعور القومي اندماجاً لاتجد مثيلاً له في ألمانيا. إلا أن هنري اعتمد أيضاً في وضع القوانين الجديدة اللازمة على مؤسسة قديمة في إنكلترا، ألا وهي البرلمان، وسوف يكون لهذا الخيار أهمية كبيرة في المستقبل. ولم يكن البرلمان الإنكليزي وحيداً من نوعه في أوروبا، بل كانت هناك هيئات شبيهة في دول أخرى، ولكنها انهارت جميعاً خلال القرون القليلة التالية أمام متطلبات الملكية المطلقة، بينما راح هو يزداد قوة على قوة.ومن سخرية القدر أن هذه التطورات إنما تمت عن يد سلالة التيودور التي ما كانت لتتمنى شيئاً من هذا القبيل، فعندما طلب هنري من البرلمان أن يقر القوانين المتعلقة بمصير الكنيسة، كان يعترف ضمناً بأن للبرلمان حق التشريع في أمر على هذه الدرجة من الأهمية، ولهذا صار من الصعب جداً على الملوك من بعده أن ينصرفوا في أمور تمس المصلحة الوطنية من دون دعم البرلمان.والعامل الآخر الذي لعب دوره في تدعيم سلطة البرلمان هو الشك والقلق المحيطان بموضوع الخلافة، إذ أن جميع أولاد هنري لم تكن لهم ذرية، إن حكم الملكة إليزابيث الأولى يعتبر عصراً عظيماً وكان عظيماً بالفعل، إلا أن الملكة كانت تعيش في قلق وخوف دائمين من أن تفقد عرشها ورأسها أيضاً، لذلك قطعت رأس منافستها ماري ملكة الاسكتلنديين لقد كانت الأوضاع ضدها في أوروبا، وكان ثمة أشخاص آخرون يدعون الحق بالعرش وقد ينالون الدعم من الخارج، لذلك كانت إليزابيث حريصة على ألا تعادي رعاياها، فمكنتهم من أن يعبروا أن يعبروا عن أنفسهم خلال البرلمان الذي كان يقر الضرائب، وشيئاً فشيئاً صار من الواضح أن الملكية لايمكنها أن تفرض الضرائب دون موافقة البرلمان على الأهداف التي تجبى تلك الضرائب من أجلها.كان الملكة إليزابيث تتمتع بشعبية كبيرة، وكانت تسمى تحبباً Good Queen Bess ، وكانت بارعة في التعامل مع الناس فاستطاعت أن تخفي الكثير من تلك المتاعب، أما خليفتاها، أي أول ملكين من سلالة ستيوارت، فلم يتمتعا بتلك المزايا، وكان جيمس الأول رجلاً اسكتلندياً لايحب الأساليب التي اعتاد عليها الإنكليز على عهد التيودور أو لايفهمها، وقد انهارت على عهديها علاقات التاج بالبرلمان.ثم اندلعت في منتصف القرن السابع عشر حرب أهلية كبيرة بينت أخيراً بصورة حاسمة أن إنكلترا لن تتطور نحو الحكم المطلق السائد في القارة مع أنها مرت بفترة من الزمن أضحت فيها جمهورية تحت حكم رجل يتمتع بسلطات ديكتاتورية هو السيد الحامي أوليفر كرومويل، وقد تثبت انتصار الملكية الدستورية، أي المحدودة، في عام 1688 عندما حصلت ثورة بيضاء تقريباً هي الثورة المجيدة، فأزاحت عن العرش جيمس الثاني آخر ملوك الستيوارت، الذي كان يعتقد أنه يحاول عكس التيار السائد منذ قرن ونصف القرن من أجل أن يعيد توطيد الكاثوليكية في إنكلترا.بعد ذلك صارت إنكلترا تحكم في الحقيقة من قبل ملاك الأراضي المهيمنين على البرلمان، وكما كانت مصالح الأغنياء الحاكمين في الجمهورية الهولندية موافقة لمصالح الكثيرين من الناس، كذلك كان حكام إنكلترا يرعون المصالح الوطنية بصورة جيدة.كانت الزراعة هي القطاع الأهم في إنكلترا، لذلك فإن ما يناسب صاحب الأرض والمزارع كان في العادة مناسباً للبلاد أيضاً، كما أن مصالح الفئات الأخرى كالمصرفيين والتجار مثلاً لم تهمل؛ مع أنهم كانوا يتذمرون من سياسات الحكومة إلا أنها كانت عادة تأخذ آراءهم بعين الاعتبار.وبالتدريج صار الإنكليز المتعلمون وغير المتعلمين على حد سواء يشعرون بوجود ارتباط طبيعي بين المزايا الجلية التي يتمتعون بها، من حرية شخصية ومساواة أمام القانون وبروتستانتية وحماية من الملكية المطلقة من جهة، وبين نمو ثروات البلاد من جهة أخرى، ورغم حصول الكثير من النكسات بعد عام 1660 فإن أكثر الإنكليز كانوا مرتاحين ومؤيدين للدستور ولفكرة الملكية المحدودة.منذ القرن الثامن عشر كان الكثيرون من الأوروبيين معجبين بإنكلترا، أولاً لأنها ليست ملكية استبدادية، بل خاضعة لحكم ممثلين منتخبين وأرستقراطيين، ولو أن أصحاب الأراضي كانوا هم الذين يختارون أولئك الممثلين. وثانياً لأن الإنكليز كانوا يتمتعون بحريات أكبر بكثير في حياتهم الخاصة، فلم يكن من الشائع أن يسجن الأشخاص من دون محاكمة، ولا أن تدخل بيوتهم وتفتش من دون مذكرة قاضي.صحيح أن الطبقات كانت هامة جداً في المجتمع الإنكليزي، ولكن النبلاء الكبار قد يمثلون للمحاكمة إذا ما ارتكبوا جرماً، مثلهم مثل أي إنسان آخر، هذه الأشياء التي كان الأوروبيون يستغربونها ويعجبون بها كان سببها هي أيضاً أن إنكلترا يحكمها أصحاب الأراضي الذين يعتقدون أن أفضل طريقة لحماية أنفسهم هي أن يدعموا امتيازاتهم بقوانين لايمكن أن يغيرها إلا البرلمان. وهكذا صار الحكم الدستوري مرتبطاً بواحدة من القوى العظمى كحقيقة إيديولجية في الحياة الدولية.مواضيع جديدة في العلاقات الدوليةمنذ القرن السابع عشر كانت مواضيع النزاع بين الدول الأوروبية قد بدأت بالتغير قليلاً، لقد كان جوهر الصراعات الكبيرة بين سلالة الهابسبرغ من جهة، وسلالتي الفالوا ثم البوربون في فرنسا من جهة أخرى، هو الهيمنة على إيطاليا ثم على ألمانيا.وقد زاد الدين الأمور تعقيداً في الحالة الثانية، حيث صار الأمراء البروتستانتيون يتطلعون إلى حماية فرنسا الكاثوليكية ضد أباطرة الهابسبرغ الكاثوليك. كما تداخلت هذه الصراعات كلها بالصراع بين الإنكليز والإسبان، الذي ازداد حدة بسبب الدين، والذي غذته المنافسة بين الاثنين في العالم الجديد والخوف من سيطرة إسبانيا على الأراضي الواطئة، فضلاً عن الثورة الهولندية.كانت هذه الصراعات في البداية إذاً صراعات بين السلالات ومقتصرة على القارة الأوروبية، ولكنها اكتسبت قبل عام 1700 بعداً جغرافياً أوسع وبعداً إيديلوجياً جديداً أيضاً، ويبدو الآن أن البعد الجغرافي ذا أهمية خاصة، لأن الحروب التي خيضت بين عامي 1500 و 1800 قد امتدت إلى كافة أنحاء الكرة الأرضية، وبلغت بقاعاً تبعد آلاف الأميال عن البلاد التجارية، وإن أكبر الحروب العالمية التي جرت في الأزمنة القديمة لتبدو ضئيلة جداً بالقياس إلى نطاق هذه الحروب الجديدة.وكان تلك أيضاً بداية عصر طويل، استمر على الأقل حتى عام 1917 صارت فيه الصراعات بين الأوروبيين ترسم مصائر الملايين من أبناء الشعوب السوداء والسمراء والصفراء التي لم تكن قد سمعت يوماً بباريس أو بلندن.ولاريب أن بعض أسباب هذا التطور قد باتت الآن واضحة، مثل سيطرة الأوروبيين المتزايدة على البحار، ونشاطهم الاقتصادي في كافة أنحاء العالم، والمزايا التقنية التي صاروا يتمتعون بها على غير الأوروبيين. لقد مكنتهم هذه الأمور من اختراع كيانات جديدة، هي الإمبراطوريات الممتدة عبر المحيطات والمعتمدة على الاتصالات البحرية، وكان من المحتم أن يؤدي هذا إلى صراعات بين تلك الأمم الأوروبية الضارية في كل ركن من أركان الأرض.تعود جذور هذه الصراعات بالدرجة الأولى إلى نمو التجارة، التي كانت كما قال وزير فرنسي للويس الرابع عشر " سبب نزاع دائم في الحرب وفي السلم بين أمم أوروبا" فطوال قرنين تقريباً راحت كل من إسبانيا والبرتغال والمقاطعات المتحدة وإنكلترا وفرنسا ترسل سفنها وتبني حصونها من أجل الحفاظ على تجارتها مع البلاد التي استملكتها، أو مع الشعوب التي كانت أول من تاجر معها من بين أهل أوروبا. وإن سواحل هذه البلاد الأوروبية قد منحتها مصائر مختلفة عن مصائر دول أوروبا الوسطى البعيدة عن البحر وعن دول البحر المتوسط، وكان العالم الجديد في الأمريكيتين هو المسرح الأساسي للمنافسات فيما بينها إلا أنه لم يكن بالمسرح الوحيد.إمبراطوريات المحيطاتكان البرتغاليون والإسبان أول من بدأ ببناء الإمبراطوريات عبر المحيطات، وقد اتفقوا فيما بينهم على اقتسام كل أرض جديدة يكتشفوها في أي بقعة من بقاع العالم من دون أن يستشيروا أحداً، ولو أن البابا قد سمح لهم فيما بعد بضم أي أرض ليست ملكاً لأمير مسيحي.وقد عقدوا في عام 1494 اتفاقية رسمت خطاً شمالياً جنوبياً على بعد 370 فرسخاً إلى الغرب من جزر الآزور الواقعة في المحيط الأطلسي، وكان الفرسخ يساوي عادة حوالي خمسة كيلومترات، ونص عل أن كل ما يقع على الغرب من هذا الخط سوف يكون لإسبانيا، وكل ما يقع إلى الشرق منه سوف يكون للبرتغال، وهكذا ضمت البرتغال إليها البرازيل لأنها واقعة في الطرف الشرقي، فكانت هي الجزء الوحيد الذي استملكته من العالم الجديد.ثم عقدوا في عام 1529 اتفاقية ثانية رسمت خطاً جديداً يقع على بعد 297.5 فرسخاً إلى الشرق من جزر ملوك البرتغالية (إندونيسيا الحالية) وأعطت جميع الأراضي الواقعة على طرف المحيط الهادي من هذا الخط لإسبانيا، وجميع الأراضي الواقعة إلى الغرب منه للبرتغال ماعدا جزر الفيليبين التي احتفظت بها إسبانيا فكانت النتيجة الإجمالية لهاتين الاتفاقيتين أن العالم الجديد المؤلف من الأمريكتين قد صار لإسبانيا، بينما آلت الهند والمحيط الهندي وجزر التوابل إلى البرتغال.ويعكس هذان العالمان إلى حد ما نوعين مختلفين من التوسع الإمبراطوري، فقد اتخذ الأوروبيون أمريكا منذ البداية أرضاً للاستيطان، مع اهتمامهم بالمتاجرة معها وبمنتوجاتها الفريدة، بينما كانت إمبراطورية البرتغال بالدرجة الأولى إمبراطورية تجارية وليست استيطانية باستثناء ساحل البرازيل.واستمرت الأمور على هذه الصورة لزمن طويل، فكان الأوروبيون يذهبون إلى الأمريكتين بأعداد متزايدة طوال قرون ثلاثة، ولكن قليلون منهم من استقروا في آسيا وإندونيسيا، وحتى الذين استقروا كانوا في العادة مزارعين أو مقيمين إقامة طويلة ولكنهم راغبون بالعودة إلى بلادهم ذات يوم بعد أن يجمعوا ثرواتهم، لهذا لم يكن صراع الأوروبيين في الشرق الأقصى وفي الطرق الأفريقية المؤدية إليه صراعاً على الأراضي، بل على المرافئ والمحطات التي كانوا يتاجرون فيها مع أهل البلاد الأصليين، وكان لابد لهم من احترام الحكام المحليين الذين سمحوا لهم بتأسيس محطاتهم تلك، ولم يكن التوسع الأوروبي في آسيا في مراحله الأولى عادة عن طريق الغزو بل عن طريق الدبلوماسية والتفاوض.كان الشرق في القرن السادس عشر خاضعاً لهيمنة البرتغاليين، وكان ملكهم قد منح نفسه لقباً فخماً هو "سيد الفتوحات والملاحة التجارية في الحبشة وبلاد العرب وفارس والهند" وإلى الجنوب من جزر الرأس الأخضر كابوفرده كانوا يحتكرون التجارة حتى المحيط الهندي ومنه إلى جزر التوابل.فكانوا يحملون البضائع بين بلاد آسيا، مثل السجاد الفارسي إلى الهند، وكبش القرنفل من جزر ملوك إلى الصين، والقماش الهندي إلى سيام (تايلاند) وقد تغلبوا على منافسيهم العرب من قواعدهم عند مدخل البحر الأحمر والخليج الفارسي. وكان هذا كله يرتكز على قوتهم البحرية وعنايتهم الكبيرة بعلاقاتهم الدبلوماسية بالحكام المحليين، فوضعوا بذلك نمطاً سار عليه الأوروبيون في المحيط الهادي وآسيا طوال القرنين التاليين.إلا أن البرتغاليين فقدوا هيمنتهم هذه عند نهاية القرن السادس عشر عندما أزاحهم الهولنديون وأسسوا شركة للهند الشرقية في عام 1602 بهدف الحلول محلهم في تجارة التوابل مع أوروبا وهي غنيمة ثمينة، وقد نجحوا في مسعاهم هذا بمهارة وقسوة كبيرتين، وما إن أزاحوا البرتغاليين حتى راحوا يقاتلون الإنكليز بشراسة لإبعادهم عن جزر التوابل، ونجحوا في هذا الأمر أيضاً نجاحاً كبيراً، وهكذا كانوا في عام 1700 قد بسطوا هيمنتهم على كافة إندونيسيا الحالية.وفي هذه الأثناء كان قد ظهر عدد من المحطات الإنكليزية المتفرقة حول سواحل الهند، تمتد من غجرات حتى كلكوتا، بينما احتفظ البرتغاليون ببعض محطاتهم الأقدم في شبه القارة، وكان للفرنسيين والدنمركيين أيضاً مواطئ أقدام فيها.ويمكنك ملاحظة الاهتمام المتزايد للأوروبيين بشؤون الأراضي الواقعة خارج قارتهم من خلال محطات زمنية ثلاث. فإذا بدأت بمعاهدات السلام التي عقدت كما رأيت في فستفاليا في عام 1648 لم تجد فيها كلمة واحدة عن الشؤون غير الأوروبية. ولكن بعد أقل من ثلاثين سنة أي في عام 1667 كانت معاهدة بريدا بين الإنكليز والهولنديين الفرنسيين مهتمة بالشؤون الخارجية (خارج أوروبا) مثل اهتمامها الشؤون الداخلية (داخل أوروبا)، وكانت تلك نهاية الحرب الثانية من حروب بحرية ثلاث بين إنكلترا والمقاطعات المتحدة حول التجارة.وبعد سبعين سنة من ذلك أي في عام 1739، خاضت المملكة المتحدة وإسبانيا حرباً حول مسألة لاعلاقة لها بأوروبا، هي حرب أذن جنكيز، فكانت تلك أول حرب تنشب بين دولتين أوروبيتين بسبب مسألة خارجية، ويمكننا اعتبارها خاتمة مرحلة مابرحت أهمية الشؤون البعيدة تنمو فيها حتى أصبحت مساوية في نظر الدبلوماسيين لأهمية الشؤون الأوروبية المألوفة.لقد حدثت حرب أذن جنكيز لأن البحارة الإنكليز كانوا يحاولون منذ عقود عديدة أن يخترقوا التجارة مع المستوطنات الإسبانية، وأن ينالوا منها أكثر مما يحق لهم بحسب المعاهدات المعقودة، فكانت الأساطيل الإسبانية تحاول القبض عليهم، وعندما تنجح في ذلك كان تعاملهم معاملة قاسية وهكذا فقد القبطان جنكيز أذنه على زعمه، وكان النزاع يدور حول غنيمة ثمينة، هي الحق ببيع البضائع لسكان الإمبراطورية الإسبانية.كان الإسبان يرغبون بالاحتفاظ باحتكارهم لتلك التجارة، ولكن حاجتهم لدعم مصالح الهابسبرغ في أوروبا كانت دوماً تعيقهم عن إحراز هذه الغاية وتضطرهم لإبقاء قواهم مقسمة، فلم تكن إسبانيا قادرة على التخلي عن إمبراطوريتها عن المستوطنات لأنها معتمدة على مواردها، وفي الوقت نفسه، لم تكن قادرة على الحد من ثرواتها في المشاكل المكلفة التي كانت سلالة الهابسبرغ متورطة بها في أوروبا. التنافس بين الإمبراطوريتين الإنكليزية والفرنسيةلقد كانت أوضاع الإنكليز أفضل من الإسبان، صحيح أنهم كانوا متورطين في أوروبا ولكن تورطهم لم يبلغ تلك الدرجة من العمق، ثم إن إنكلترا قد اتحدت باسكتلندا في عام 1707، فأصبحت بذلك الجزيرة كلها دولة واحدة، ولم تعد تخشى أن تغزى عبر حدودها البرية.وكان مرسوم الوحدة في ذلك العام معلماً هاماً لا من الناحية الدستورية فقط، بل أيضاً لأنه مرحلة هامة في النزاع الطويل بين إنكلترا وفرنسا، الذي صار الآن متداخلاً بالمشاكل بين إنكلترا وإسبانيا.عندما حدثت الثورة المجيدة كما ذكرنا في عام 1688، وأزاحت الملك جيمس الثاني عن العرش، وكان آخر ملوك الستيوارت في إنكلترا، حل محله ويليام الهولندي (ويليام أوف أورانج) وزوجته الملكة ماري ستيوارت ابنة الملك السابق، فصارت إنكلترا عندئذٍ تساند الهولنديين ضد لويس الرابع عشر بعد أن كان هؤلاء أعداءها اللدودين منذ سنوات قليلة فحسب.ثم اندلعت بعد ذلك حروب عديدة كانت أهمها هي حرب الخلافة الإسبانية فقد مات ملك إسبانيا، وهو من سلالة هابسبرغ في عام 1701 من دون أن يخلف وريثاً للعرش، وكان لكل من فرنسا والنمسا ادعاءات بتاج إسبانيا، وهو بلاريب غنيمة كبيرة، وكانت فرنسا مثل إسبانيا مضطرة للقتال في أوروبا كما في البحر، حيث كان لويس الرابع عشر في حالة حرب ضد تحالف ترأسه ملكية هابسبرغ.لقد انتهت حرب الخلافة الإسبانية في عام 1713 بصلح أوترخت الذي قسم الخلافة الإسبانية، فأخذت أسرة هابسبرغ النمساوية الأراضي الواطئة، بينما سمح لأمير فرنسي بأن يصبح ملكاً على إسبانيا وإمبراطوريتها بشرط ألا يتحد تاج إسبانيا بتاج فرنسا أبداً.وفي نفس الصلح كسبت المملكة المتحدة الكثير من الجزر الكاريبية الفرنسية، وكانت قد بدأت بأخذها من منافسيها منذ خمسينيات القرن السابع عشر، عندما استولى كرومويل على جمايكا من الإسبان بالإضافة إلى جزء جديد من أمريكا الشمالية كئيب ولكنه هام استراتيجياً هو أكاديا، التي سميت الآن نوفا سكوتيا أي اسكتلندا الجديدة، كما كسب البريطانيون الحق بالمتاجرة مع المستوطنات الإسبانية عن طريق إرسال سفينة واحدة في العام إلى بورتوبلو، فكان هذا تنازلاً سوف يستخدمونه مثل إسفين لفتح التجارة بصورة أوسع.وقد أدى هذا في عام 1739 إلى حرب أذن جنكيز التي سرعان ماتورطت فيها فرنسا وبروسيا من طرف والنمسا وبريطانيا من الطرف الآخر، وقد تحارب البريطانيون والفرنسيون في الهند، حيث كانت شركة الهند الشرقية الفرنسية في أربعينيات القرن الثامن عشر تتدخل في السياسة المحلية تدخلاً حثيثاً من أجل أن تحاول التغلب على منافسيها والتفوق عليهم.وكان الفرنسيون قد وسعوا نشاطاتهم كثيراً في أمريكا الشمالية أيضاً، حيث أسسوا مرافئ قرب مصب نهر الميسيسيبي، وهو مدخل شبكة الأنهار الهائلة المسيطرة في وسط القارة، وكانت إحدى حملاتهم في بداية القرن الثامن عشر قد اندفعت ضمن هذه المنطقة من الجنوب، بينما نزلت إليها حملات أخرى آتية من منطقة البحيرات الكبرى في الشمال.شعر المستوطنون البريطانيون المقيمون على الساحل الشرقي حينذاك أنهم باتوا بين فكي كماشة هائلة، وأن الفرنسيين يبغون أن يعزلوهم ويمنعوهم من الامتداد نحو الداخل، ولكن الفرنسيين لم يستقروا في الحقيقة في وادي الميسيسيبي، ولم تكن لهم أراضي ثابتة في الداخل. إلا أنهم كانوا قد بنوا عدداً من الحصون في نقاط إستراتيجية هامة، فكانت هذه بدايات مدن سوف تظهر في المستقبل، مثل سانت لويس في عام 1862، وممفيس في نفس العام، ودوترويت في عام 1701، ونيوأورليانز في عام 1718، كما أنهم سلحوا الهنود وشجعوهم على محاربة البريطانيين، وكان من الواضح أنهم لن يتخلوا عن المناطق الداخلية من دون صراع.ولم يتوقف القتال في الهند وأمريكا قط رغم عقد صلح صوري جديد في أوروبا في عام 1748، وكانت إسبانيا قد أضحت الآن قوة ثانوية، وقد اندلعت عام 1756 حرب جديدة بين فرنسا وإنكلترا وكان النزاع فيها يدور حول كل من الهند وكندا. وتسمى هذه الحرب حرب السبع سنوات لأن الصلح عقد من جديد في عام 1763، وقد حسم فيها مصير الهند وكندا، كما حسم في الوقت نفسه مصير الأراضي التي كانت بروسيا حليفة البريطانيين والنمسا حليفة الفرنسيين تتنازعان عليها في ألمانيا.وبلغت الحرب ذروتها بالنسبة لبريطانيا على عهد حكومة كان يرأسها ويسيطر عليها ويليام بت ، الذي يحق له أن يقول أنه أول رجل دولة بريطاني ألم إلماماً تاماً بإمكانيات السلطة الإمبراطورية.لقد قال بت في ألمانيا أنه يريد كسب كندا عن طريق حمل حلفائه على تطويق الفرنسيين فيها ومنعهم من التوسع، وقد نجح ذلك بالفعل، وكان بعض الإنكليز يرجون أن يأتي الصلح أشد قسوة، ولكنه على كل حال قد ضم كندا إلى بريطانيا، كما جعل الهند آمنة لعمل شركة الهند الشرقية البريطانية. وصارت هناك سلسلة من الجزر البريطانية أضيفت إليها الآن جزر جديدة تطوق البحر الكاريبي بالكامل تقريباً، الذي تكاثرت فيها المستوطنات البريطانية في جمايكا وهندوراس وساحل بليزه. | |
|
Eng. Ahmedzoubaa Admin
عدد المساهمات : 1216 تاريخ التسجيل : 28/08/2010 العمر : 50
| |