بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات.
صلة الرحم تدفع نوائب الدهر وترفع بأمر الله عن المرء البلايا :
<p> أيها الأخوة الكرام، لا زلنا في موضوعٍ متصلٍ أشد الاتصال بـ: "سبل الوصول وعلامات القبول" ألا وهو موضوع "صلة الرحم".
الحقيقة أن لهذه الصلة، أو لهذه العبادة التعاملية الأولى التي وردت بعد العبادات الشعائرية في القرآن والسنة ثماراً يانعةً وكبيرة، فصلة الرحم تدفع نوائب الدهر، وترفع بأمر الله عن المرء البلايا، فقد قال جبريل للنبي عليه الصلاة والسلام في الغار:
(( اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ، خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ } فرجع بها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يَرْجُف فؤاده ))
[ أخرجه البخاري ومسلم عن عائشة أم المؤمنين ]
لأول مرة:
(( فدخل على خديجة بنت خُويلد، فقال: زمّلوني، زمّلوني، فزملوه حتى ذهب عنه الرَّوْع. فقال لخديجة وأخبرها الخبر: لقد خشيتُ على نفسي ))
[أخرجه البخاري ومسلم عن عائشة أم المؤمنين ]
الآن دققوا:
(( فقالت له خديجة: كلا، أبشر، فو الله لا يُخزيك الله أبداً، إنك لتَصِلُ الرحم ))
[ أخرجه البخاري ومسلم، عن عائشة أم المؤمنين ]
من أبرز العبادات التعاملية بعد العبادات الشعائرية صلة الرحم.
(( فو الله لا يُخزيك الله أبداً، إنك لتَصِلُ الرحم، وتَصْدُق الحديث، وتحمل الكَلّ - الضعيف - وتَكسِب المعدوم . وتَقْرِي الضيف ، وتُعين على نوائب الحق ))
[ أخرجه البخاري ومسلم عن عائشة أم المؤمنين ]
(( لا يُخزيك الله أبداً، إنك لتَصِلُ الرحم ))
صلة الرحم محبة الأهل و بسط الرزق و بركة العمر :
<p> أيها الأخوة، لقد خلق الله الرحم، وشق لها اسماً من اسمه، ووعد ربنا جلّ وعلا بوصل من وصلها، ومن وصله الرحيم وصله كل خير، ولم يقطعه أحد، ومن بتره الجبار لم يعله بشر، وعاش في كبد، فالله عز وجل يصل من وصل رحمه، ويقطع من قطع رحمه.
أيها الأخوة، في الحديث الصحيح.
(( إن الله خلق الخلق حتى إذا فرغ منهم قامت الرحم فقالت: هذا مقام العائذ بك من القطيعة قال: نعم أما ترضين أن أصل من وصلك وأقطع من قطعك: قالت: بلى قال فذاك لك قال ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اقرؤوا إن شئتم { فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ } ))
[ أخرجه الحاكم في مستدركه عن أبي هريرة ]
أيها الأخوة، وعن عائشة رضي الله عنها قالت:
(( قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الرَّحِمُ مُعلَّقة بالعرشِ، تقولُ: من وَصَلَني وَصَلَهُ اللهُ، ومن قطعني قَطَعَهُ الله ))
[أخرجه البخاري ومسلم عن عائشة أم المؤمنين ]
صلة الرحم محبة الأهل، بسط الرزق، بركة العمر، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه و سلم قال:
(( تعلَّموا من أنسابكم ما تصلون به أرحامكم، فإن صِلَة الرحم: مَحَبَّة في الأهل مَثْرَاة في المال، مَنْسَأة في الأثر ))
[ أخرجه البخاري والترمذي عن أبي هريرة ]
و هناك حديث آخر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
(( مَن سَرَّهُ أن يَبسُطَ اللهُ عليه في رِزْقِهِ، أو يَنْسَأ في أثرِه، فَلْيَصِلْ رحمه))
[ أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود عن أنس بن مالك ]
أيها الأخوة، صلة الرحم أمارةٌ على كرم النفس، وسعة الأفق، وطيب المنبت، وحسن الوفاء، ولهذا قيل: من لم يصلح لأهله لن يصلح لك، ومن لم يذبَّ عنهم لن يذبَّ عنك، يقدم على صلة الرحم أولو التذكرة وأصحاب البصيرة.
أيها الأخوة، صلة الرحم مدعاةٌ لرفعة الواصل، وسببٌ للذكر الجميل، وموجبةٌ لشيوع المحبة، وعزة المتواصلين، صلة الرحم تقوي المودة، وتزيد المحبة، وتتوثق بها عرى القرابة، وتزيل العداوة والشحناء، فيها التعارف، وفيها التواصل، وفيها الشعور بالسعادة.
تلبية دعوة الفقراء والأقارب من عمل الآخرة :
<p> لكن الحقيقة المرة أفضل ألف مرة من الوهم المريح، المسلمون ليسوا كذلك، كثيرٌ من الناس مضيعٌ لهذا الحق، مفرطٌ فيه، فمن الناس من لا يعرف قرابته لا بصلةٍ، ولا بمال، ولا بجاهٍ، ولا بحال، ولا بخلقٍ، ولا بود، تمضي الشهور، و ربما الأعوام، ولا يقوم بزيارتهم، ولا يتودد إليهم لا بصلةٍ، ولا بهدية، ولا يدفع عنهم مضرةً، ولا أذية، بل ربما أساء إليهم، وأغلظ القول فيهم، هذا الواقع المر.
ومن الناس من لا يشارك أقاربه في أفراحهم، ولا يواسيهم في أتراحهم، ولا يتصدق على فقرائهم، بل تجده يقدم عليهم الأباعد في الصِلات والهبات، أحياناً تأتيك دعوة من جهة قوية أو غنية تلبيها فوراً، وتلبية هذه الدعوة من الدنيا، وأحياناً تأتيك دعوة من قريب فقير في أطراف المدينة لا تلبيها لضعف شأنه، لذلك تلبية دعوة الفقراء والأقارب من عمل الآخرة.
(( لو دعيت إلى كراع لأجبت ))
[ أخرجه الطبراني عن عبد الله بن عباس ]
((من لم يجب الدعوة فقد عصى أبا القاسم ))
[مسند أبي يعلى عن أبي هريرة]
لكن الناس ألفوا أن يلبوا دعوة الأغنياء والأقوياء، وتلبية هذه الدعوة ليست من الدين بل من الدنيا، لكن تلبية دعوة الفقراء والأقرباء من عمل الآخرة.
بطولة المؤمن أن يصل من قطعه :
<p> هناك حالة أخرى من الناس من يصل أقاربه إن وصلوه، ويقطعهم إن قطعوه، يدعوهم إن دعوه، هذه ليست بصلة رحم، إنما هو مكافئٌ للمعروف بمثله، وهو حاصلٌ للقريب والبعيد، لذلك قال عليه الصلاة والسلام:
(( ليس الواصلُ بالمكافئ، ولكن الواصلُ مَنْ إِذا قَطَعَتْ رَحِمُهُ وَصَلَهَا ))
[ أخرجه البخاري وأبو داود والترمذي عن عبد الله بن عمرو بن العاص ]
البطولة أن تصل من قطعك، أما أن تصل من وصلك، أن تلبي من لباك، فهذا ليس في باب صلة الرحم هذا في باب المكافأة.
الآن هناك أناسٌ يحرصون على دعوة الأباعد، ويغفلون دعوة الأقارب، الأباعد قد يكونون من أصحاب الشأن، من أصحاب القوة والمال، لذلك الأقربون أولى بالمعروف.
نتائج قطيعة الرحم :
<p> النتائج أيها الأخوة نتائج صلة الرحم تحدثنا عنها كثيراً، لكن نتائج قطيعة الرحم معاداة الأقارب، هذه المعاداة شرٌ وبلاء، الرابح فيها خاسر، والمنتصر مهزوم، وقطيعة الرحم من كبائر الذنوب، وقبائح العيوب، متوعدٌ صاحبها باللعنة والثبور، فالتدابر بين ذوي القربى مؤذنٌ بزوال النعمة، وسوء العاقبة، وتعجيل العقوبة.
فعن جبير بن مطعم أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول:
(( لا يَدْخُلُ الجنةَ قاطِع -أي قاطعَ رحم -))
[ أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود عن جبير بن مطعم ]
عقوبتها معجلةٌ في الدنيا قبل الآخرة، فعن أبي بكرة قال: قال عليه الصلاة والسلام:
(( ما من ذنب أجدر أن يعجل لصاحبه العقوبة في الدنيا مع ما يدخر له في الآخرة من قطيعة الرحم والبغي ))
[ رواه الترمذي عن أبي بكرة ]
ذنبان يعجل الله لصاحبهما العقوبة في الدنيا قبل الآخرة.
أيها الأخوة، قطيعة الرحم سببٌ للذلة والصغار، والضعف والتفرق، مجلبةٌ للهم والغم، قاطع الرحم لا يثبت على مؤاخاة، ولا يرجى منه وفاء، ولا صدقٌ في الإخاء، يشعر بقطيعة الله له، ملاحقٌ بنظرات الاحتقار مهما تلقى من مظاهر التبجيل، لقد كان الصحابة الكرام رضي الله عنهم يستوحشون من الجلوس مع قاطع رحم.
<P class=title>معنى قوله تعالى
﴿ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ ﴾
<p> أخواننا الكرام، ما دام القلب ينبض كل شيء له حل، المشكلة أن يقف القلب وأنت قاطع رحم، ما دام القلب ينبض، ما دام في الحياة بقية، كل مشكلة مهما عظمت لها حل، فالعداوات التي تتوهم أنها لن تنقضي تنقضي، بزيارة مفاجئة، بهدية، باعتذار على الهاتف، بعمل صالح، فالإنسان إذا أراد أن يحسن العلاقة بينه وبين الخلق الله يعينه على ذلك، قال تعالى:
﴿ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ ﴾
[ سورة الأنفال الآية: 1 ]
قال بعض العلماء:
﴿ ذَاتَ بَيْنِكُمْ ﴾
تعني ما بينك وبين الله عز و جل، هذه أهم علاقة، وقال بعضهم:
﴿ ذَاتَ بَيْنِكُمْ ﴾
ما بينك وبين من حولك، مع زوجتك، مع أولادك، مع أهلك، مع والديك، مع أخوتك، مع أخواتك، مع أصهارك،
﴿ ذَاتَ بَيْنِكُمْ ﴾
بزيارة، بمصالحة، بمودة، بهدية، باتصال هاتفي، باعتذار
﴿ َأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ ﴾
والمعنى الثالث:
﴿ َأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ ﴾
أي أصلح أية علاقةٍ بين اثنين، أول معنى: بينك وبين الله، المعنى الثاني: بينك وبين من حولك، المعنى الثالث: أصلح أي علاقةٍ بين اثنين، لذلك النمام لا يدخل الجنة، النمام ينقل ما قاله فلان عن فلان.
أثر الهدية في اجتلاب المحبة وإثبات المودة :
<p> أيها الأخوة، حسن الخلق له تأثير في هذه الصلة، حسن الخلق من جهة والهدية قال:
(( تَهَادُوا، فإن الهدية تُذْهِبُ وَحَرَ الصَّدْرِ))
[ أخرجه الترمذي عن أبي هريرة ]
(( تهادوا تحابوا ))
[ البيهقي عن أبي هريرة]
هناك مشكلة مع أخيك قدم له هدية، لتكن هذه الهدية شفيعاً لك في إعادة المودة إلى ما كانت عليه، فالهدية لها أثرٌ في اجتلاب المحبة، وإثبات المودة، وإذهاب الضغائن، وتأليف القلوب، وكان عليه الصلاة والسلام يحذرنا ويقول:
(( لا يَحِلُّ لمسلم أن يهجرَ أخاه فوقَ ثلاث ليال، يلتقيان، فيُعرِضُ هذا، ويُعرضُ هذا، وخيرُهما الذي يبدأُ بالسلام ))
[ أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي ومالك عن أبي أيوب ]
الله عز و جل يقول:
﴿ وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ ﴾
[ سورة فصلت ]
أخلاق الحرب شيء وأخلاق السلم شيءٌ آخر :
<p> أيها الأخوة الأكارم، قد يلتبس على بعض الناس أخلاق الجهاد مع أخلاق السلم في السلم:
﴿ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ ﴾
هذا في الحياة الدنيا، أما في الحرب.
﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ ﴾
[ سورة التحريم الآية:9]
أخلاق الحرب شيء وأخلاق السلم شيءٌ آخر، بالسلم اجعل هذه الآية شعاراً لك:
﴿ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ ﴾
﴿ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ ﴾
[ سورة فصلت ]
قطيعة الرحم من أقبح العيوب و أفظع الذنوب :
<p> مرة ثانية:
(( لا يَدْخُلُ الجنةَ قاطِع- أي قاطعَ رحم -))
[ أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود عن جبير بن مطعم ]
وكأنها من أكبر الكبائر، من أقبح العيوب، من أفظع الذنوب، الله عز و جل يقول:
﴿ وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ ﴾
[ سورة الرعد ]
هدي النبي صلى الله عليه و سلم من خلال سيرته :
<p> لنقف وقفةً متأنيةً عند هدي النبي صلى الله عليه و سلم من خلال سيرته، كان عليه الصلاة والسلام أرق الناس، وأعفهم، وأوصلهم للرحم، وأحلمهم، لذلك ذكره القرآن الكريم بأنه ذو:
﴿ خُلُقٍ عَظِيمٍ ﴾
[ سورة القلم الآية: 4 ]
وقال أيضاً:
﴿ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ﴾
[ سورة آل عمران الآية: 159 ]
أي أنت أنت يا محمد على علو قدرك، وعلى أنك سيد الأنبياء والمرسلين، وقد أوتيت وحي السماء، أوتيت القرآن، أوتيت الفصاحة والبيان، أوتيت جمال الصورة، أوتيت الحكمة، أوتيت المنطق، مع كل هذه الخصائص أنت أنت يا محمد مع كل هذه الخصائص.
﴿ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ﴾
[ سورة آل عمران الآية: 159 ]
أمثلة من التاريخ عن صلة النبي الكريم لرحمه :
<p> النبي الكريم بلغ من صلة رحمه مبلغاً عظيماً ضرب به المثل على مرّ التاريخ، فما سمعت الدنيا بأوصل منه.
قرابته، أبناء عمه، أبناء عمومته، أخرجوه من مكة، طاردوه، أرادوا قتله، شتموه، آذوه، حاربوه في المعارك، نازلوه في الميدان، قاموا بثلاثة حروبٍ في بدرٍ وأحدٍ والخندق، ودخل مكة منتصراً، عشرة آلاف سيف متوهجة تنتظر كلمة من فمه، وقفت له الأعلام مكبرة، طنت بذكر نصره الجبال والوهاد، فلما انتصر وقف عند حلق باب الكعبة صلى الله عليه و سلم منحنياً وهو يقول للقرابة والعمومة: ماذا ترون أني فاعلٌ بكم؟ فيتصورون الجزاء المر، والقتل الحار، والموت الأحمر، فيقولون وهم يتباكون: أخٌ كريم وابن أخٍ كريم، فتدمع عيناه، فيقول: اذهبوا فأنتم الطلقاء، هذا من أعلى درجات العفو، أخرجوه، طاردوه، قاتلوه، شتموه، نكلوا بأصحابه لعشرين عاماً، فلما تمكن منهم، وحياتهم موقوفة على كلمة من فمه، وعشرة آلاف سيف متوهجة تأتمر بأمره، قال: اذهبوا فأنتم الطلقاء، النبي الكريم أسوة حسنة لنا، في الطائف حينما قهر قال:
((إن لم تكن غضبان علي فلا أبالي))
[ أخرجه الطبراني عن عبد الله بن جعفر ]
وفي فتح مكة حينما انتصر قال: اذهبوا فأنتم الطلقاء، كأنه يقول عفا الله عنكم وسامحكم، يأتي ابن عمه - أبو سفيان بن الحارث- يسمع بالانتصار، وقد أذى الرسول الكريم، وشتمه، وقاتله، فيأخذ هذا الرجل أطفاله، ويخرج بهم من مكة، فيلقاه علي بن أبي طالب يقول له: يا أبا سفيان إلى أين تذهب؟ قال: أذهب بأطفالي إلى الصحراء فأموت جوعاً وعرياً، والله إن ظفر بي محمد ليقطعني إرباً إرباً، يقول له عليٌ وهو يعرف رسول الله: أخطأت يا أبا سفيان، إن رسول الله صلى الله عليه و سلم أوصل الناس، وأبر الناس، وأكرم الناس، فعد إليه وسلم عليه بالنبوة، وقل له كما قال أخوة يوسف:
﴿ قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آَثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ ﴾
[ سورة يوسف ]
فيأتي بأطفاله ويقف على رأس المصطفى صلى الله عليه و سلم ويقول: يا رسول الله: السلام عليك ورحمة الله وبركاته
﴿ تَاللَّهِ لَقَدْ آَثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ ﴾
فيبكي عليه الصلاة و السلام وينسى تلك الأيام، وتلك الأعمال، وتلك الصحف السوداء، ويقول:
﴿ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ﴾
[ سورة يوسف ]
هذه هي النبوة، يقول أبو سفيان: يا بن أخي ما أوصلك! وما أرحمك! وما أحكمك! يا بن أخي ما أوصلك! أي ما أشد وصلك لنا، وما أرحمك! وما أعظم رحمتك بنا، وما أحكمك! وما أعقلك!
الآن تأتيه أخته من الرضاعة، وقد ابتعدت عنه عقوداً كثيرة، فتأتيه وهو لا يعرفها وهي لا تعرفه أصلاً، رضعت معه وتسمع وهي في بادية بني سعد في الطائف بانتصاره، فتأتي لتسلم على أخيها من الرضاعة، وهو تحت سدرةٍ عليه الصلاة و السلام، والناس بسيوفهم بين يديه، وهو يوزع الغنائم بين العرب، فتستأذن فيقول لها الصحابة: من أنت؟ تقول: أنا أخت رسول الله من الرضاعة، أنا الشيماء بنت الحارث، أرضعتني أنا وإياه حليمة السعدية، فيخبرون النبي الكريم، يتذكر القربى وصلة الرحم، ويقوم لها ليلقاها في الطريق، ويرحب بها ترحيب الأخ بأخته بعد طول غياب، وبعد الوحشة والغربة، ويأتي بها ويجلسها مكانه، ويظللها من الشمس، تصوروا هذا النبي الكريم، ومعلم الإنسانية، ومزعزع كيان الوثنية، يظلل هذه العجوز أخته من الرضاعة من الشمس، ويترك الناس وشؤون الناس ويقبل عليها ويسألها: يا أختاه كيف حالكم؟ يا أختاه اختاري الحياة عندي أو تريدين أهلك؟ تقول: أريد أهلي، فيمتعها بالمال، ويعطيها مئة ناقة، ليُعلّم الناس صلة الرحم، يا سيدي يا رسول الله، يا من كانت الرحمة مهجتك، والعدل شريعتك، والحب فطرتك، والسمو حرفتك، ومشكلات الناس عبادتك، هذه نبوة النبي، هذه أخلاق النبي، هذه صلة الرحم، العبادة التي تأتي بعد الفرائض.
أسباب قطيعة الرحم :
أخواننا الكرام، قطيعة الرحم لها أسباب كثيرة، أولها: الجهل بعواقب القطيعة وفضائل الصلة، ضعف التقوى والكبر، الانقطاع الطويل عن الأقارب، العتاب الشديد، هذا يضعف العلاقة، التكلف الزائد أحياناً بإكرامهم بحيث أن الآخر يخاف على هذا القريب من أن يدفع مبالغ فوق طاقته، الشح والبخل، تأخير قسمة الميراث، أحد أسباب قطيعة الرحم، الشراكة بين الأقارب أحد الأسباب، الاشتغال بالدنيا، الطلاق بين الأقارب، بعد المسافة والتكاسل، هذه كلها أسباب، أو الاحتكاك الشديد يأتي إلى قطيعة الرحم من حيث الأولاد أحياناً، قلة التحمل، أن تنسى أقاربك في الولائم والمناسبات و تدعو الأباعد، هذه كلها أسباب تدعو إلى ضعف صلة الرحم.
أيها الأخوة الكرام، أرجو الله سبحانه وتعالى أن تترجم هذه الحقائق، وهذه المواقف الرائعة للنبي الكريم إلى سلوك يومي.