إن من أجمل الدروس المستفادة من صيام رمضان هي قدرتنا على الاعتماد على النفس واكتساب المزيد من الصلابة الذاتية، فمقاومة الشهوات المختلفة طوال النهار، والاجتهاد في العبادات ترفع من ثقة الإنسان بنفسه، وتزيد من قدرته في الاعتماد على النفس، فإن زادت تلك القدرات بات عضوا فاعلا بحق في المجتمع، فهل تنتظر ممن لا يستطع توفير متطلباته الشخصية، ويعتمد على غيره أن يضيف شيئا ذا قيمة لمن حوله، فضلا عن كونه عبئا عليهم يعطل حركتهم!!
إن قوة الاعتماد على النفس وما لها من أثر على تقدم الفرد، ومن بعده المجتمع والتي تظهر بوضوح في أحكام الصيام، يبدو أن الصحابة قد فهموها وعملوا على تطبيقها؛ كمثال الصحابي الجليل عبد الرحمن بن عوف الذي وصل للمدينة المنورة بعد رحلة هجرة شاقة ليقابله صحابي جليل آخر هو سعد بن الربيع، الذي عرض عليه أن يقاسمه شطر ماله، ويختار من زوجاته من يهوى ليطلقها ويزوّجها له!
فعبد الرحمن بن عوف كان قد هاجر من مكة إلى المدينة تاركا كل ثروته التي جناها في التجارة إلى قريش، وذلك مقابل أن يخرج بنفسه فقط، أي أننا الآن أمام رجل فقير بمعنى الكلمة.. وصاحب حاجة بحق، وغريب يخطو خطواته الأولى في بلد ليس له به سابق خبرة.
ولكن..
وللعجب الشديد، فقد رفض هذا المهاجر المحتاج عَرض صاحبه الكريم، وقرر أن يعتمد على نفسه، وردّه بأدب قائلا: "بارك الله لك في أهلك ومالك، ولكن دلّني على السوق".
هل ترون ظروف هذا الرجل؟
إنه بلا رأس مال..
وبعيدا عن المكان الذي صنع فيه سمعته الطيبة كتاجر..
والسلع التجارية الموجودة بالمدينة تختلف إلى حد بعيد عن مثيلاتها في مكة، ولكنه بالرغم من كل هذا قرر أن يكون من أصحاب اليد العليا، ولا يعوّد نفسه على فكرة الاعتماد على الآخرين، فالنفس عندما تألف الاعتماد على غيرها تدمن هذا الفعل، وتضيع الكثير من القدرات الذاتية والصفات الشخصية المهمة.
التحوّل إلى النجاح
تحدى عبد الرحمن بن عوف الظروف، وأبى أن يكون عالة على أحد، ورفض أن يصبح مجرد عامل، وأصر على أن يستخدم مواهبه، ويستفيد من خبراته، ويتحمل مسئولية حياته العملية..
فوفّقه الله لما أراد.. فكسب واغتنى، وفرّج على أهله، وساعد المسلمين، وفكّ بطالة العاطلين.
التوكل على الله مع توظيف الإمكانيات
لقد امتلك هذا الرجل الجرأة، والثقة واتخذ قراره بالاعتماد على نفسه؛ لأنه يعرف أنها طريق الحرية، فلا توجد حرية لمن يحتاج إلى الآخرين احتياجا فوق الطبيعي، أو لنقل يحتاج إليهم أكثر مما يحتاجون إليه.
لا تنتظر الكثير من الآخرين
لقد بدأ ابن عوف رحلته إلى النجاح والثروة التي أفاد بها المسلمين، رحلته إلى الحرية المالية والشخصية بتوكله على الله، واعتماده على نفسه، فحقّ له أن يحصل على دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم بالبركة، ونحن أيضا أيها الأصدقاء المتطلعون لمستقبل مهني ومادي أفضل ليس مستحيلا علينا أن نحذو حذو ابن عوف.
وليس بكثير على الله أن يوفّقنا كما وفّقه، ولكن علينا أن نبدأ بالاعتماد على أنفسنا متخذين من صيام الشهر الكريم في هذا الجو شديد الحرارة، شعلة حماس تؤكد لنا قدرتنا الذاتية، ولا ننتظر الكثير من الآخرين ليقدموه إلينا، فمن يعطينا اليوم قد يبخل غدا، ومن يساعدنا الآن لعله يملّ من ذلك بعد حين.. فهلمّوا بنا نتوكل على الله ونسير على الدرب، ونحن على يقين من أن الله لا يضيع أجر من أحسن عملا.