ربما لا تخلو حياتنا من خصوم يكيدون لنا, يبذلون ما في وسعهم للنيل منا, لا يتورعون عن استخدام أية وسيلة للقضاء علينا.
وفي ذلك الصراع, نخطئ إذا انجرفنا إلى تيارهم واستخدمنا نفس أساليبهم, وليس الفوز في ذلك هو الذي يأتي بالغدر والخيانة وشراء الذمم والنفوس.
نستطيع أن نقهر أعدائنا وخصومنا بأخلاقنا؛ لنجعلهم يفكرون آلاف المرات قبل أن يقدموا على إيذائنا مرة أخرى.
تقول: إن خصومك يكيلون لك الضربات، ولا بد أن تردّ عليها؟
فاستمع إلى كاتبنا المبدع عبد الوهاب مطاوع وهو يقول: "أفضل وسيلة للانتقام ممن يسيئون إليك، هو ألا تكون مثلهم.. تجنّب أن تسلك نفس سلوكياتهم المريضة في حياتك، ترفّع عن الرد عليهم ليزداد شعورهم بحقارتهم وتفاهة شأنهم وانحراف أخلاقياتهم".
ونزيد على ذلك بأن عدم الرد بالمِثل على أعدائنا, والتزامنا بالحسنى واتباع الحق في سلوكنا، قد يجعلهم يعيدون وزن الأمور, وربما انضموا يوماً إلى صفنا.
في غزوة ذات الرقاع، ومع وطأة حرارة الشمس، تفرّق جيش الإسلام تحت ظلال الأشجار كي يستريحوا من هجير الصحراء، وبينما النبي نائم, وقد علق سيفه على شجرة, تسلل أعرابي وأخذ سيفه, ووقف على رأسه وقد ارتسمت على وجهه ابتسامة المتيقن من قتل نبي المسلمين, قائلاً في غرور المحتمي خلف السلاح: أتخافني؟
وارتجّ الإعرابي, ولم يصدق ما وصل إلى سمعه من قول النبي: "لا"..
وحاول أن يلم شتات نفسه التي انهارت فجأة أمام كلمة النبي؛ فحاول أن يسبر سر تلك القوة العجيبة التي يتكلم بها رجل أعزل أمام سيف مسلط؛ فقال للنبي: فمن يمنعك مني؟ فلم يزد النبي عن كلمة واحدة: الله.
فسقط السيف من يده؛ فأخذه محمد صلى الله عليه وسلم وقال للأعرابي: "من يمنعك مني؟"، وجزع الرجل من الموت؛ فقال مستعطفاً: "كن خير آخذ".
ولا يصدق الرجل قدمه وهي تحمله بعيداً عن معسكر جيش الإسلام, ناجياً بحياته بعد أن عفا عنه النبي!
ويهيم الرجل في أودية الأفكار, يقلب النظر فيما حدث, تأخذه الحيرة من سلوك وأخلاق ذلك الرجل الذي تكيل له الدعاية الوثنية الاتهامات, وتلصق به كل نقيصة, وها هو يعفو عن رجل حاول قتله.
ويدخل الأعرابي على قومه بوجه جديد قائلاً: جئتكم من عند خير الناس.. وتحكي بعض كتب السيرة أن هذا الرجل أسلم, وأسلم معه قومه.
وقد يكون انتصارنا بالأخلاق؛ حتى ونحن في أشد لحظات الهزيمة والانكسار.. انظر إلى ما فعله المغول في العالم الإسلامي؛ كانت حروبهم نوعاً فريداً في التاريخ, لم يأتوا طمعاً في الاحتلال والإقامة؛ وإنما جاءوا ليقتلوا وينهبوا ويحملوا ما يسلبون إلى بلادهم؛ تاركين وراءهم مدناً خاوية على عروشها.
وبعد جيلين اثنين، يقف المؤرخون مبهورين أمام حادث عجيب؛ فلم تمضِ من السنوات إلا القليل؛ حتى رقق الإسلام قلوب أولئك الهمج الخارجين من صحراء منغوليا, ودخل المغول الفاتحين دين المسلمين المقهورين.
وكان أول الغيث إسلام أحد أحفاد الرجل الدموي جنكيز خان وابن عم هولاكو؛ بل إنه حارب بني جنسه من أجل الإسلام؛ ذلكم هو أحمد بركة خان.
وجاء إسلامه تتويجاً لجهود الدعاة المسلمين الذين انبثوا بين المغول ينشرون صورة صحيحة عن الإسلام وسماحته وعقيدته الصافية..
وإلى اليوم يتعجب مؤرخو الغرب من قوة ذلك الدين الذي يجتذب إليه أشد أعدائه, ويجعل المغول من أشد المدافعين عنه في قادم الأيام.
لقد هزم المغول المسلمين سنين عديدة؛ ولكنهم انهزموا أمام بساطة وأخلاق الإسلام.
أتدرك يا صاحبي لما نال القائد صلاح الدين الأيوبي كل تلك الشهرة في العالمين العربي والغربي؟ قد تقول لأنه انتصر في موقعة حطين, واستردّ بيت المقدس, وحارب ملوك أوروبا الأشداء.
كل ما تقوله صحيح؛ لكن عفوه وصفحه عن أعدائه كان أشد وقعاً عليهم من ضربات السيوف؛ فقد أخذت أوروبا كلها ترتجف بعد انتصاره الحاسم في حطين, ترقباً للمذبحة التي ستحلّ بالصليبين في بيت المقدس انتقاماً لما فعلوه بالمسلمين.. ولكن شيئا من ذلك لم يحدث.. لقد سمح صلاح الدين لأهل المدينة أن يغادروها بعد دفع فدية بسيطة للغاية! وأعتق من لم يقدر على دفع الفدية من فقراء الصليبين, وأطلق سراح من كان في أسر المسلمين من الأزواج والآباء, وأجزل العطاء من ماله الخاص للنساء والبنات اللائي قُتل أزواجهن وآباؤهن.
لقد أحدث صلاح الدين بفعله ذلك صدمة نفسية في العالم الصليبي!!
يقول الكاتب الأمريكي ول ديورانت في موسوعته قصة الحضارة: "كان شفيقاً على الضعفاء, رحيماً بالمغلوبين, يسمو على أعدائه في وفائه بوعده سمواً جعل المؤرخين المسيحيين يعجبون كيف يخلق الدين الإسلامي الخاطئ في ظنهم رجلاً يصل في العظمة إلى هذا الحد؟!".
وحينما يكتب الشاعر الإيطالي دانتي كتابه الكوميديا الإلهية, والذي يصف فيه أهل الجنة والنار, لا يستطيع إلا أن يجعل صلاح الدين من أهل الجنة برغم أنه ينتمي -في نظره- إلى دين الكفار!!
لقد كسب صلاح الدين بأخلاقه أضعاف ما حققه بضربات السيوف.
فَسِرْ يا صديقي في طريق الحق على الدوام, واسمُ فوق غدر الخصوم والأعداء, وكن كالنسر يحلّق دائماً فوق السحاب.
إشراقة:
التسامح هو أحلى انتقام.