نهاية الإمبراطورية في الغربلقد حكم أبناء قسطنطين الإمبراطورية حتى عام 361، ولكنها سرعان ما تقسمت من جديد فصار يحكمها إمبراطوران شريكان، ولم ينضم الشرق والغرب بعدها تحت حكم رجل واحد إلا مرة واحدة. كان هذا الرجل هو الإمبراطور
ثيودوسيوس، الذي منع أخيراً عبادة الآلهة الوثنية القديمة، فوضع بذلك وزن الإمبراطورية بأكمله في كفة المسيحية وانقطع عن الماضي الروماني القديم.
إلا أن الأمور في أيامه ما برحت تتدهور في الغرب بصورة متسارعة، إلى أن اختفت الإمبراطورية الغربية في عام 500.
ولم يحدث زلزال ويبتلع المجتمع فجأة، أي أن الدولة الرومانية لم تزل من الوجود، بل إن الذي اختفى هو جهازها في الشطر الغربي، أو بالأحرى ما بقي منه. في القرن الرابع كانت علامات التراجع واضحة في الإدارة الإمبراطورية الغربية، وازدادت المطالب على مواردها المتناقصة، ولم تحدث فتوحات جديدة يمكن أن تساعد في دفع تكاليف الدفاع عنها. ومع ارتفاع الضرائب صار الناس يغادرون المدن ويحاولون العيش في الأرياف حيث يمكنهم أن يكتفوا بذاتهم ويهربوا من الضرائب. إن نقص المال هذا قد أفقر الجيش فجعله أكثر اعتماداً على المرتزقة البرابرة، وكلف هذا الأمر الدولة المزيد من المال، كما أنها كانت مضطرة لتقديم التنازلات للبرابرة بينما كانت حدودها خاضعة لضغوط موجات جديدة منهم.
وفي الربع الأخير من القرن الرابع هجم شعب بدوي شديد الشراسة من آسيا هو شعب
الهون على الشعوب
القوطية التي كانت تعيش على ساحل البحر الأسود والقسم الأسفل من الدانوب وراء الحدود الرومانية، ورتبت الإمبراطورية الشرقية بصورة سلمية استقرار اللاجئين منهم ضمن حدودها، ولكن أحد تلك الشعوب وهم شعب
الفيزيغوط -القوط الغربيون- انقلبوا على الرومان وقتلوا في عام 378 م إمبراطوراً في معركة
أدريانوبل، وسرعان ما تدفق المزيد والمزيد منهم ضمن أراضي الإمبراطورية حتى صاروا مثل إسفين يفصل القسطنطينية عن الغرب. وبعد سنوات قليلة عادوا يتحركون من جديد ولكن نحو إيطاليا هذه المرة، وكان الذي أوقفهم قائداً عسكرياً
فانداليا يعمل في خدمة الإمبراطورية، ومنذ عام 406 م صارت الإمبراطورية تستخدم قبائل البرابرة كحلفاء foederati وهي كلمة تدل على البرابرة الذين لا يمكن مقاومتهم ولكن يمكن إقناعهم بالمساعدة. وكان هذا أقصى ما بوسع الإمبراطورية الغربية أن تفعله لحماية نفسها، وسرعان ما تبين أنه لم يعد كافياً.
التواريخ الرئيسية في القرون الأخيرة من الإمبراطورية الغربية 212 م كركلا يمنح المواطنة لجميع سكان الإمبراطورية الأحرار تقريباً
249 م بداية أول اضطهاد عام للمسيحيين
285 م ديوقليتيانس ينظم الإمبراطورية في نظام جديد هو النظام الرباعي
313 م مرسوم ميلانو يعيد للمسيحيين أملاكهم وحرية العبادة
330 م تكريس القسطنطينية كعاصمة
376 م القوط يعبرون الدانوب
406 م الفاندال والسويف يعبرون الراين
409 م الفاندال والألان والسويف يغزون إسبانيا
410 م انسحاب الفيالق من بريطانيا، الغيزيغوط ينهبون روما
412-414 م الفيزيغوط يغزون غاليا وإسبانيا
420 م الجوت والأنكلوسكسون يرسون في بريطانيا
429-439 م الفاندال يغزون شمال أفريقيا ويفتحون قرطاجة
455 م الفاندال ينهبون روما
476 م خلع آخر إمبراطور في الغرب رومولس أوغسطولس
وراحت الشعوب البربرية تتجول على طول الغرب اللاتيني وعرضه، ففي عام 410 نهب القوط روما نفسها، وكان هذا حدثاً فظيعاً جعل القديس أوغسطينس وهو أسقف أفريقي وأعظم آباء الكنيسة يكتب كتاباً (وهو أحد تحف الأدب المسيحي) وهو
مدينة الله*، لكي يشرح كيف يسمح الله بحدوث شيء كهذا. وأخيراً بلغ
الفيزيغوط في تقدمهم أكيتانيا في جنوب غربي فرنسا، ثم توصلوا إلى تفاهم مع الإمبراطور الذي أقنعهم بمساعدته في معالجة أمر شعب بربري آخر هو شعب
الفاندال الذي كان قد اكتسح إسبانيا في ذلك الحين. ودفع
الفيزيغوط بالفاندال في النهاية عبر مضيق جبل طارق، فاستقر الفاندال في شمال أفريقيا حيث جعلوا عاصمتهم في قرطاجة التي أقاموا فيها، ومنها عبروا المتوسط في عام 455 م لينهبوا روما مرة ثانية.
ولكن رغم فظاعة هذه الغارة فإن ضياع أفريقيا كان هو المصيبة الكبرى لأن القاعدة الاقتصادية للإمبراطورية الغربية قد تقلصت وصارت محصورة بجزء من إيطاليا. ومن الصعب أن نقول متى انتهى الإمبراطورية الغربية بالتحديد، لأن ملامحها كانت تتلاشى رويداً رويداً وقد استمرت الأسماء والرموز فيها حتى النهاية. وعندما صد الهون أخيراً عن الغرب في معركة كبيرة قرب تروا وهي مدينة على نهر السين بفرنسا الحالية، في عام 451 م كان الجيش الروماني مؤلفاً من
فيزيغوط وإفرنج وسلتيين وبرغنديين، وكلهم برابرة تحت قيادة ملك فيزيغوطي، وفي عام 476 م قتل رجل بربري آخر الإمبراطور الأخير في الغرب فمنحته الإمبراطورية لقب "نبيل" وكانت الإمبراطورية الغربية قد حل محلها عدد من الممالك الجرمانية، ولو بقيت بعض الأشياء رومانية في الظاهر، ويعتبر عام 476 عادة تاريخاً مناسباً لنهاية قصة الإمبراطورية التي بدأت على عهد أوغسطس. إلا أن التاريخ لا يعرف النهايات الواضحة البسيطة، وإن الكثيرين من البرابرة الذي كان بعضهم قد تعلموا على يد الرومان قد اعتبروا أنفسهم الأمناء الجدد على ما بقي من سلطة روما، وظلوا يعتبرون إمبراطور القسطنطينية سيدهم الأعلى.
* نشرته دار المشرق ببيروت 2002، ترجمه الخورأسقف يوحنا الحلو