رسالة مصرية ثقافية
مرحبا بك أخي الزائر نشكر زيارتك ونتمني انضمامك للمنتدي
زيارتك تسر إدارة المنتدي ومشاركتكك تسعدنا وتساهم معنا بارتفاع الثقافة العامة
بعض المنتديات الفرعية والموضوعات
لا يمكنك الإطلاع عليها إلا بعد التسجيل كعضو في المنتدي
رسالة مصرية ثقافية
مرحبا بك أخي الزائر نشكر زيارتك ونتمني انضمامك للمنتدي
زيارتك تسر إدارة المنتدي ومشاركتكك تسعدنا وتساهم معنا بارتفاع الثقافة العامة
بعض المنتديات الفرعية والموضوعات
لا يمكنك الإطلاع عليها إلا بعد التسجيل كعضو في المنتدي
رسالة مصرية ثقافية
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

رسالة مصرية ثقافية

ثقافية - علمية - دينية - تربوية
 
الرئيسيةرسالة مصريةأحدث الصورالتسجيلدخول

 

 الفصل الرابع - العالم اليوناني

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
Eng. Ahmedzoubaa
Admin
Eng. Ahmedzoubaa


عدد المساهمات : 1216
تاريخ التسجيل : 28/08/2010
العمر : 50

الفصل الرابع - العالم اليوناني Empty
مُساهمةموضوع: الفصل الرابع - العالم اليوناني   الفصل الرابع - العالم اليوناني Emptyالثلاثاء 14 يونيو 2011 - 7:44

مقدونيا والهلينية


لقد أقام الإغريق عالماً جديداً في المتوسط والشرق الأدنى، والمفارقة أن هذا العالم قد نشأ أثناء تفسخ دول المدن، إذ أمست هذه الدول أضعف وأقل قدرة على مقاومة التدخل الخارجي من بعد كارثة حرب البيلوبونيز، فبدأت تبزغ قوة جديدة على الطرف الشمالي لليونان هي مملكة مقدونيا. كان بعض الناس وخاصة المقدونيين يقولون إن مقدونيا دولة إغريقية وجزء من العالم الإغريقي، وكان أهلها يتحدثون اللغة اليونانية ويحضرون احتفالات اليونان، كما كان ملوكها يدعون أنهم متحدرون من سلالات إغريقية، بل من أخيل نفسه بطل الإلياذة الأخائي العظيم. إلا أن الكثيرين من الإغريق لم يقبلوا بهذا، وكانوا يعتبرون المقدونيين شعباً بربرياً غير متحضر لا يقارن بالشعوب ذات الثقافة الغنية في بحر إيجة وصقلية.


الفصل الرابع - العالم اليوناني Chp4-1


نمو مقدونيا


لاريب أن مقدونيا كان بلداً متخلفاً بالقياس إلى أثينا أو كورنتس مثلاً، وكان على ملوكها أن يتعاملوا مع أرستقراطية من الزعماء الجبليين البعيدين كل البعد عن الجو الثقافي المتطور في أثينا، إلا أنها قد غيرت مجرى تاريخ الإغريق بفضل اجتماع عدد من العوامل الملائمة. من تلك العوامل ظهور أمير كفؤ وطموح فيها عام 359 ق.م، كان من بين طموحاته أن يُعترف بمقدونيا كبلد إغريقي، وهو فيليبس الثاني ولي عهد المملكة، لقد كانت الظروف كلها في صالح فيليبس، لأن الدول الإغريقية كانت منهكة إثر صراعها الطويل، وفارس كانت قد مرت بسلسلة من الثورات تركتها في حالة ضعف. كما أن مقدونيا كانت غنية بالذهب فكان بمقدورها أن تمول جيشاً قوياً وفعالاً تدين فعاليته بالكثير لجهود فيليبس الشخصية. وكان فيليبس قد فكر ملياً في الأساليب العسكرية الإغريقية عندما كان في طيبة أثناء شبابه، وتوصل إلى أن تطوير تكتيك الهبليت يكمن في ابتكار تكوين جديد، هو الكتيبة المؤلفة من عشرة صفوف من المشاة المسلحين برماح طويلة. كانت رماح هذه الكتيبة أطول بمرتين من الرماح العادية، وكانت المسافة بين الرماحين أكبر منها في تشكيل الهبليت، بحيث تبرز رماح الذين في المؤخرة من المقدمة بين الصفوف الأمامية، وقد شكل هذا الترتيب سلاحاً رهيباً مكوناً من الرماح المتراصة التي تشبه أشواك القنفذ. وفوق هذا كان يدعمها أيضاً خيالة مدرعون وسلاح حصار مكون من أسلحة ثقيلة مثل المنجنيق.





الاسكندر الكبير


لقد بلغ من نجاح الجيش المقدوني أنه مكن فيليبس وابنه من بعده القضاء على استقلال مدن بر اليونان وإنهاء حقبة من تاريخ البشرية هي حقبة دولة المدينة. في عام 335 ق.م محيت طيبة عن بكرة أبيها واستعبد سكانها عقاباً لهم على ثورتهم، ويمكننا اعتبار هذا التاريخ نقطة تحول هامة، صحيح أن ثورات أخرى قد حصلت فيما بعد، إلا أن عصر اليونان الكلاسيكية العظيم كان قد ولى، ويكفي هذا الأمر وحده لكي يضمن لملوك مقدونيا مكاناً في التاريخ. إلا أن هناك تغيرات باهرة أكثر سوف تحدث في عهد الاسكندر ابن فيليبس، وهو واحد من الرجال القلائل في التاريخ الذين درجت العادة على إطلاق لقب ” الكبير ” عليهم. لقد سحرت شخصيته حلفاءه وأحاطت الأساطير باسمه حتى صار معبود الناس طوال آلاف السنين. كان الاسكندر قبل كل شيء محارباً وفاتحاً، ولكنه كان أكثر من هذا بكثير، ومن المؤسف أنه لم تبق لنا سيرة معاصرة عنه، ومازالت حقائق كثيرة حول حياته وشخصيته غامضة، ولكنه كان بلا شك قوة حاسمة لا في تاريخ اليونان وحدها بل في تاريخ العالم أيضاً، منذ عام 334 ق.م عندما عبر إلى آسيا لمهاجمة الفرس على رأس جيش مجند من دول إغريقية كثيرة، حتى عام 323 ق.م، عندما مات في بابل ربما بالتيفوئيد، وله من العمر ثلاثة وثلاثون سنة فقط


الفصل الرابع - العالم اليوناني Chp4-2


من فسيفساء تمثل الإسكندر المقدوني


كان الاسكندر مغرماً بإغريقيته، وكان يجل ذكرى أخيل الذي يعتبره جداً له ويحمل معه في حملاته نسخة يعتز بها من قصائد هوميروس، كما كان قد تتلمذ على يد أرسطو، وكان مقاتلاً شجاعاً بل متهوراً في بعض الأحيان، كما كان قائداً داهية وبارعاً في قيادة الرجال، وكان يعرف عندما يفتح البلاد أن يتصرف بتعاطف مع شعبها بعد الإطاحة بحكامها. وكان أيضاً رجلاً عنيفاً، إذ يبدو أنه قتل صديقاً له في شجار وهو ثمل، بل ربما وافق على مقتل أبيه.




فيليبس المقدوني والاسكندر الكبير





358-336 ق.م

حكم فيليبس الثاني المقدوني

338 ق.م

معركة خيرونيا تضمن لفيليبس المقدوني السيطرة على بر اليونان

336-323 ق.م

حكم الاسكندر

334 ق.م

الاسكندر يغزو إمبراطورية الفرس، ويكسب معركة غرانيكوس قرب الدردنيل

333 ق.م

الإسكندر يهزم داريوس الثالث ملك فارس في معركة ايسوس

332 ق.م

الاسكندر يحاصر صور ويستولي على مصر

331 ق.م

هزيمة داريوس الثالث النهائية في معركة كوكميلة ثم موته في العالم التالي

330-324 ق.م

حملات الاسكندر إلى المرزبانات الفارسية الشرقية وغزوة للهند

323

موت الاسكندر



مهما كانت نقائص الاسكندر فإنها لم تمنعه من إحراز مسيرة باهرة من النجاح، لقد هزم الفرس في آسيا الصغرى في معركة ايسوس، ثم قطع إمبراطوريته كلها جنوباً أولاً عبر سوريا إلى مصر، وعاد نحو الشمال والشرق إلى بلاد الرافدين مطارداً ملك الفرس داريوس الثالث الذي مات أثناء فراره، فكانت تلك نهاية الحقبة الأخمينية. ثم تابع مسيره عبر إيران وأفغانستان ونهر جيحون (آمودريا) وما وراء سمرقدند، وأسس مدينة على نهر سيحون سيردريا، ثم عاد نحو الجنوب ثانية لكي يغزو الهند ولكنه بعد أن قطع مئتي كيلو متر وراء نهر الهندوس وصار ضمن إقليم البنجاب بلغ الإنهاك بقواده مبلغاً شديداً فجعلوه يعود أدراجه. وعاد في مسير فظيع على نهر الهندوس وعلى طول الساحل الشمالي للخليج الفارسي إلى أن وصل إلى بابل وهنا مات الاسكندر.


إلا أن حياته القصيرة لم تقتصر على الفتوحات، وسرعان ما تفككت إمبراطوريته من ناحية أنه لم يعد لها مركز حكم واحد، ولكنه نشر التأثير الهيليني إلى أصقاع لم يكن قد بلغها قط. لقد أسس الاسكندر مدناً كثيرة كانت تسمى على اسمه في العادة، ومازالت هناك مدن عديدة تحمل اسم الإسكندرية، عدا عن أماكن أخرى تحمل اسمه بصورة مقنعة. كما أنه مزج الإغريق والآسيويين في جيشه بحيث راح كل منهم يتعلم من الآخر، وصار هذا الجيش قوة أكثر عالمية. لقد جند الشباب من نبلاء الفرس، كما ترأس ذات مرة زواجاً جماعياً لتسعة آلاف من جنوده على نساء شرقيات، وترك الاسكندر الإداريين السابقين في البلاط الفارسي في مناصبهم من أجل إدارة الأراضي المفتوحة، بل إنه اتخذ اللباس الفارسي أيضاً مثيراً بذلك استياء رفاقه الإغريق الذين كانوا يستنكرون ما فرضه على زوار بلاطه من سجود أمامه سيراً على عادة ملوك الفرس.


الفصل الرابع - العالم اليوناني Chp4-3


إمبراطورية الإسكندر ومساره في فتوحاته والمعرك الهامة


لقد كان الإطاحة بأعتى إمبراطورية في عصره وإنهاء عصر المدن الإغريقية في أوروبا وآسيا معاً أعمالاً غيرت شكل العالم، ولو أن تأثيرها الكامل لم يتضح على الفور. وكانت هناك نتائج إيجابية كثيرة لم تظهر إلا بعد موته، عندما برزت آثار الأفكار والمعايير الإغريقية التي نشرها في أصقاع الأرض في البلاد الإغريقية وغير الإغريقية على السواء. ولهذا السبب صيغت كلمة هلنستي لوصف العصر الذي تلا موته والمنطقة التي غطتها الإمبراطورية السابقة أي بالتقريب المنطقة الواقعة بين بحر الأدرياتيك ومصر في الغرب وجبال أفغانستان في الشرق، أما إمبراطوريته نفسها فلم تبق متماسكة لزمن طويل، ولم يخلف الاسكندر وريثاً له سرعان ما راح قواده يتنازعون على الغنائم.



الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://resalahmasriyah.mam9.com
Eng. Ahmedzoubaa
Admin
Eng. Ahmedzoubaa


عدد المساهمات : 1216
تاريخ التسجيل : 28/08/2010
العمر : 50

الفصل الرابع - العالم اليوناني Empty
مُساهمةموضوع: رد: الفصل الرابع - العالم اليوناني   الفصل الرابع - العالم اليوناني Emptyالثلاثاء 14 يونيو 2011 - 7:45

خلفاء الاسكندر: العالم الهلنستي




لقد احتاج الأمر حوالي أربعين عاماً لكي تستقر أراضي الإمبراطورية السابقة في ترتيب جديد كمجموعة من الممالك التي يحكم كلاً منها أحد رجال الاسكندر أو رجل متحدر منه، ويسمى هؤلاء عادة الخلفاء Diadochi . وكانت أغنى تلك الممالك في مصر، حيث استولى على زمام الأمور قائد مقدوني اسمه بطليموس، وقد تمكن بطليموس من الفوز بجثمان الاسكندر ودفنه في مدفن فخم مهيب في الإسكندرية، فمنحه هذا مكانة خاصة كحارس لرفات الفاتح العظيم. كما أنه أسس آخر سلالة مصرية في العصور القديمة، وهي السلالة التي سوف تحكم مصر حتى عام 30 ق.م عندما ماتت آخر البطالسة، أي كليوباترا الشهيرة عدا عن فلسطين وقبرص وجزء كبير من ليبيا. إلا أن مصر لم تكن أكبر دول الخلافة. فرغم أن فتوحات الاسكندر في الهند قد آلت إلى ملك هندي، فإن أسرة سلوقس وهو قائد عسكري آخر من مقدونيا قد حكمت لفترة من الزمن مساحة تمتد من أفغانستان حتى البحر المتوسط، ولكن هذه المملكة السلوقية لم تبق كبيرة إلى هذا الحد، إذ تأسست في بداية القرن الثالث ق.م مملكة جديدة اسمها مملكة برغاما في آسيا الصغرى، كما أسس جنود إغريق مملكة أخرى في بلخ في أفغانستان الحالية. أما مقدونيا نفسها فقد غزاها البرابرة ثم صارت بيد سلالة جديدة، بينما استمرت الدول الإغريقية القديمة في تفسخها، وكانت تنظم نفسها أحياناً في اتحادات فضفاضة مع أن بعضها كانت قد أملت باستعادة استقلالها عند موت الاسكندر ولكن لا حاجة بنا هنا لكل هذه التقلبات؛ إن أهميتها التاريخية تكمن في أنها كانت التربة التي مهدتها فتوحات الاسكندر لنمو الأفكار والحضارة الإغريقية نمواً لا سابق له، إذ غدت اليونانية هي اللغة الرسمية في الشرق الأدنى كله، وكانت أكثر شيوعاً كلغة يومية أيضاً خاصة في المدن الجديدة.


لقد أُسس عدد كبير من هذه المدن خصوصاً في أراضي السلوقيين وشُجّع المهاجرون الإغريق على الاستقرار فيها، ولكنها كانت مختلفة جداً عن المدن الإغريقية القديمة في بحر إيجة، إذا أنها كانت أكبر منها بكثير وسرعان ما صار في كل من الإسكندرية بمصر وأنطاكية في سورية والعاصمة السلوقية قرب بابل حوالي 200.000 نسمة. كما أن هذه المدن لم تكن ذات حكم ذاتي قط، فالسلوقيون مثلاً كانوا يحكمون من خلال حكام الولايات وأجهزة الإدارة التي استلموها من الإمبراطورية الفارسية القديمة، والتي كان إغريق القرن الخامس يعتبرونها دولاً استبدادية بربرية. وراحت تظهر إدارات مستمدة من التقاليد القديمة لمصر وبلاد الرافدين وليس من تقاليد دولة المدينة، وقد منح الحكام ألقاباً شبه إلهية مثل ملوك الفرس القدامى، وفي مصر أحيى البطالسة عبادة فرعون القديمة كما أن أول البطالسة اتخذ لقب ”سوتير” أي المخلص.


إلا أن المدن كانت ذات طابع إغريقي إلى حد ما، فقد كانت أبنيتها تشيد حسب الأنماط الإغريقية، كما كانت فيها مسارح وصالات رياضة ومراكز للألعاب والاحتفالات تشبه كثيراً مثيلاتها في الماضي. وظهرت التقاليد الإغريقية أيضاً في الأسلوب الفني، وربما كان أشهر التماثيل الإغريقية هو تمثال أفروديت الذي وجد في جزيرة ميلوس والموجود في متحف اللوفر بباريس اليوم، ويسمى فينوس ميلوس وهو عمل الحقبة الهلنستية. ومثلما انتشر الأسلوب والموضة الإغريقيان كذلك انتشرت الثقافة الإغريقية، ولكن الريف لم يتأثر بها تقريباً إذ لم تكن اليونانية اللغة الأصلية لأكثر الناس في دول الخلافة ولو أن الكثيرين منهم قد تعلموا الحديث بأشكال منها. وسرعان ما راح الكتاب في المدن الجديدة يكتبون أعمالهم باليونانية، وقد وجد هذا الأدب جمهوراً ورعاة له في بيئة ما برحت تزداد ازدهاراً لزمن طويل، لأن حروب الاسكندر كانت قد أطلقت غنائم هائلة من الذهب والفضة والأغراض الثمينة حركت التطور الاقتصادي، كما أمنت الضرائب اللازمة لتمويل الجيوش الدائمة والإدارات، وكان العالم الهلنستي أوسع بكثير من العالم الإغريقي السابق، ومسرحاً أوسع منه للثقافة الإغريقية.


إن أوضح إشارة إلى استمرارية تقاليد الماضي هي دراسة العلم، وكانت الإسكندرية في مصر بارزة بروزاً خاصاً في هذا المجال، ففيها عاش إقليدس، وهو الرجل الذي نظم علم الهندسة وأعطاه شكله الذي احتفظ به حتى القرن التاسع عشر ميلادي. ومن أبناء الإسكندرية أيضاً رجل كان أول من قاس حجم الكرة الأرضية وأول من استخدم البخار لنقل الطاقة. اشتهر أرخميدس ببناء آلات الحرب في صقلية كما اشتهر باكتشافاته النظرية في الفيزياء، وكان على الأرجح تلميذاً لإقليدس، وثمة إغريقي هلنستي آخر هو أريستارخوس وهو من ساموس وليس من الإسكندرية توصل إلى فكرة أن الأرض تدور حول الشمس وليس العكس، ولو أن معاصريه لم يقبلوا بهذه النظرية لأنها لا تتفق مع فيزياء أرسطو. إن هذه الكمية من العلوم والفرضيات ، وماهذا إلا غيض من فيض، هي إضافات كبرى إلى معارف البشرية، ولكن بالرغم من هذا كانت هناك عقبة هامة أمام العلم الهلنستي، وهي غياب الرغبة باختبار تلك النظريات بصورة عملية وعدم توفر الأدوات اللازمة لذلك أيضاً، وكان العلماء متحيزين للعلوم الرياضية وليس التطبيقية، وربما لم يكن وضع التقنية في ذلك الزمان يسمح بالاستخدام العملي لتلك الأفكار، ولو أن البعض قد عارضوا هذا الرأي قائلين إن المخترعين الهلنستيين كانوا قادرين على بناء محرك بخاري مثلاً لو أنهم تخيلوه. ومع هذا قد يجوز لنا اعتبار انتصارات العلم الهلنستي تعويضاً عن ضياع تقاليد الحكم الذاتي في السياسة، والأسئلة الفلسفية المتعلقة بأهداب الحياة وكيف يجب على الناس أن يعيشوا ويسلكوا، إلا أن العالم الهلنستي قد نجح في إنتاج فلسفة أخلاقية جديدة هامة هي الفلسفة الرواقية. وتقول الرواقية بصورة تقريبية أن واجب الإنسان هو أن يكون فاضلاً مهما كانت العواقب المترتبة عليه من ذلك، والفضيلة هي قبل كل شيء إطاعة القوانين الطبيعية التي تحكم الكون والناس جميعاً وليس الإغريق وحدهم. وكانت تلك أول محاولة لتقديم فلسفة تصلح للبشرية جمعاء، كما نتجت عنها أول إدانة للعبودية، وهي خطوة فكرية عملاقة لم يحرزها فلاسفة اليونان الكلاسيكية قط، وسوف يكون لهذه الأفكار تأثير عميق طوال قرون عديدة بين نخب قوة جديدة هي روما.



الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://resalahmasriyah.mam9.com
Eng. Ahmedzoubaa
Admin
Eng. Ahmedzoubaa


عدد المساهمات : 1216
تاريخ التسجيل : 28/08/2010
العمر : 50

الفصل الرابع - العالم اليوناني Empty
مُساهمةموضوع: رد: الفصل الرابع - العالم اليوناني   الفصل الرابع - العالم اليوناني Emptyالثلاثاء 14 يونيو 2011 - 7:45

صعود قوة روما



في هذه المنطقة التي تأثرت تأثراً عميقاً بل تبدلت بفعل الثقافة المنبعثة أصلاً من اليونان، سوف تنتشر في النهاية قوة إمبراطورية جديدة، وسوف تضم أيضاً جزءاً كبيراً من بر أوروبا وشمال أفريقيا، وهما منطقتان لم تدخلا نطاق الحضارة قبل ذلك قط، فضلاً عن العالم الهلنستي، هذه القوة هي إمبراطورية روما. يمكننا اعتبار روما واحدة من الدول الهلنستية الخليفة، ولكن تاريخها يبدأ بحسب التقاليد وبحسب الدراسات الحديثة أيضاً قبل الاسكندر بوقت طويل، وإثر طرد الملوك الإتروريين في حوالي عام 510 ق.م.

كانت روما في ذلك الزمان جمهورية، وسوف يظل مواطنوها يصرون على تقاليدهم الجمهورية، حتى عندما باتوا يعيشون في دولة أشبه بالملكية، ومن الناحية الواقعية لا يمكنك أن تعتبر أن الجمهورية استمرت أكثر من 450 عاماً، أي حتى منتصف القرن الأول ق.م، ولكنها على كل حال فترة طويلة. لقد تغيرت الجمهورية كثيراً على مدى السنين، إلا أن هناك تغيراً كان أهم من سواه لأنه يفسر تأثير روما على التاريخ اللاحق، هذا التغير هو توسع سلطتها وانتشارها، فعلى عهد الجمهورية باتت سلطة روما تضم عالم البحر المتوسط بأكمله، وقد صنعت إمبراطورية رومانية كانت إطاراً ومهداً لأشياء كثيرة مازالت تشكل حياتنا اليوم.
[b]الجمهورية الباكرة




لقد تغيرت روما كثيراً خلال تلك القرون التي بنيت فيها الإمبراطورية، وكان أول قرنين من عمر الجمهورية مليئة بالصراعات السياسية العنيفة، وكان سببها أحياناً مطالبة المواطنين الفقراء بالمشاركة في السلطة إلى جانب الأغنياء والنبلاء. كان هؤلاء يسيطرون على مجلس الشيوخ، وهو جهاز الحكم الأساسي، كما تبين الأحرف المنقوشة على الصروح وعلى رايات الجيش SPQR وهي الأحرف الأولى من عبارة لاتينية معناها مجلس شيوخ روما وشعبها. والغريب أن هذه الصراعات استمرت زمناً طويلاً من دون أن تلحق بالجمهورية ضرراً قاتلاً، ويدل هذا دلالة كبيرة على أن مؤسساتها كانت تتغير رويداً رويداً مع تقديمها التنازلات للقوى الشعبية. ولكن رغم أن المواطنين الفقراء أحرزوا انتصارات كبيرة ونالوا حصة أكبر من غنائم السلطة فإن روما لم تصبح قط ديمقراطية بمعنى أن يسيطر فيها الفقراء على الحكم زمناً طويلاً.

وبقي المواطن الروماني العادي فلاحاً يزرع أرضه الصغيرة مستفيداً من المناخ والخصب الرائعين اللذين جعلا إيطاليا دوماً بلداً غنية عندما تحكم بصورة جيدة، بل حتى عندما لا تحكم بصورة جيدة أحياناً. وكان الفلاح يتصف بالكد والمهارة اللذين ميزا الإيطاليين في زمن لاحق، وكانت زراعته هي أساس الجمهورية الباكرة، ولم تكن روما في الأيام الأولى للجمهورية قد أصبحت بعد مدينة كبيرة تعيش على الحبوب المستوردة ومليئة بأعداد هائلة من المهاجرين كما أصبحت في القرون القادمة. كان الروماني العادي يملك أرضاً صغيرة إذاً كما أنه كان مستقلاً، ولم تنتشر ظاهرة الأملاك الكبيرة التي يملكها سكان المدن وتعتمد على عمل العبيد لزراعة الحبوب والزيتون لصنع الزيت من أجل بيعها إلا في القرن الثاني ق.م. وحتى نهاية هذه القصة سوف ينظر الرومان بحنين إلى الأيام البسيطة للجمهورية الباكرة على أنها الأزمنة التي كان فيها المواطن متمسكاً بالقيم والفضائل الرومانية ويعيش مستقلاً بالاعتماد على قطعة الأرض التي يملكها.

إن هذا الأساس الزراعي الضيق يجعل من الصعب تفسير المرحلة الأولى من توسع روما، وليس من العدل أن نقول أن الرومان كانوا دوماُ عدوانيين ومتلهفين للغزو، إذ كثيراً ما كان حكم روما مثل الإمبراطوريات اللاحقة يمتد بسبب الخوف من الجيران والمنافسين وليس بسبب الجشع، كما أن هذا التوسع كان بطيئاً. صحيح أن مساحة أرض روما قد تضاعفت بقدر مثلين على حساب جيرانها في القرن الخامس، وأن سيطرة الرومان قد حلت محل سلطة الإتروريين في وسط إيطاليا، إلا أن هذه لم تكن بعد بداية نموها المتواصل. في عام 390 ق.م نهب غاليون من الشمال روما نفسها وهذه هي المناسبة المشهورة التي تقول الأسطورة أن الرومان التجأوا فيها إلى مبنى الكابيتول حيث أنقذهم من الهجوم المباغت صياح الإوز التي لاحظت ما كان يجري وكل على حال كان الرومان في حوالي عام 250 ق.م يسيطرون على إيطاليا إلى الجنوب من نهر الأرنو، وكانت هذه المنطقة تابعة إما للجمهورية أو لخلفائها، الذين سمح لهم بإدارة شؤونهم الداخلية على أن يزودوا جيش روما بالرجال، وبالمقابل كان مواطنوهم يتمتعون بحقوق المواطنين الرومان عندما يأتون إلى روما، ويشبه هذا الأمر إلى حد ما سيطرة أثينا على عصبة ديلوس.

كان نجاح روما قائماً على عدد من الميزات، فقد ساعدها موقعها الاستراتيجي كمدينة وكذلك انغماس الإترورييين الطويل بصراعاتهم مع الإغريق والمدن اللاتينية الأخرى بينما كانت القبائل السلتية تضغط عليهم من الشمال. وهناك عامل آخر هو النظام العسكري الذي استفاد الفائدة القصوى من طاقة روما البشرية، فقد كان من واجب كل مواطن ذكر بحوزته أملاك أن يخدم في الجيش إذا احتاج الأمر، وكان هذا مطلباً شاقاً، لأن جندي المشاة كان يخدم ست عشرة سنة على عهد الجمهورية، ولو أن الخدمة لم تكن تشمل العام كله لأن الحملات كانت تبدأ في الربيع وتنتهي خلال الخريف. وقد تم بذلك صنع آلة عسكرية أضحت خلال القرون القليلة التالية أفضل آلة عرفها العالم، وكان عدد السكان الذين يجند منهم أفراد الجيش يزداد بصورة مطردة بسبب التزام الحلفاء بإمداده بفرقهم العسكرية.ومنذ أن كانت روما تسيطر على إيطاليا كانت قد تورطت في بلاد أبعد، كانت بعض المدن الإغريقية قد استغاثت بملك ايبرس* لمساعدتها ضد الرومان في بداية القرن الثالث ق.م فقام هذا بحملات في الجنوب وفي صقلية، وربما كان يفكر ببناء إمبراطورية في الغرب مثل إمبراطورية الإسكندر، وقد ربح معارك بالفعل ولكن الثمن كان باهظاً، وقد بدا في وقت من الأوقات أن مصر البطالسة قد ترغب بالتحالف مع روما، والحقيقة أن أول هم كبير للجمهورية خارج إيطاليا كان بالفعل في أفريقيا، ولكن إلى الغرب من مصر






* مملكة قديمة في البلقان جنوبي مقدونيا

[/b]
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://resalahmasriyah.mam9.com
Eng. Ahmedzoubaa
Admin
Eng. Ahmedzoubaa


عدد المساهمات : 1216
تاريخ التسجيل : 28/08/2010
العمر : 50

الفصل الرابع - العالم اليوناني Empty
مُساهمةموضوع: رد: الفصل الرابع - العالم اليوناني   الفصل الرابع - العالم اليوناني Emptyالثلاثاء 14 يونيو 2011 - 7:46

الحروب الفونية



كانت قرطاجة بالأصل مدينة فينيقية، وكانت أغنى بكثير من صور وصيدون، كما أنها كانت قوة بحرية كبرى لها قواعدها في صقلية وسردينية. وكانت أحياناً تتحالف مع إغريق صقلية وأحياناً أخرى تحاربهم، ولكنها ظلت خطراً دائماً يهدد السهول الساحلية الغربية الغنية في إيطاليا وتجارة موانئها. ولقد حدثت في النهاية ثلاث حروب فونية والتسمية مشتقة من التسمية اللاتينية للفينيقيين، بين روما وقرطاجة. وانتهت الحرب الأولى في عام 241 ق.م بتخلي القرطاجيين عن صقلية بعد أكثر من عشرين عاماً من القتال، ولو أنه لم يكن قتالاً مستمراً كما استولى الرومان على كورسيكا وسردينية نتيجة لذلك، وأسسوا أول مقاطعة لهم في غرب صقلية أما بر إيطاليا فكان إما تحت حكمهم المباشر كجزء من الجمهورية أو متحالفاً معها عملياً. وكانت تلك أولى أراضي روما فيما وراء البحار. وليست الحروب دوماً أهم الأحداث عند رواية التاريخ، ولكن من المفيد في هذه الحالة أن نتمهل قليلاً عند الحروب الفونية، لأن أشياء كثيرة قد نجمت عنها، قبل الحرب الثانية التي بدأت في عام 218 ق.م كان القرطاجيون قد ثبتوا أقدامهم في إسبانيا واستقروا في قرطاجة الجديدة أي قرطاجنة الحالية وشعر الرومان بالخطر عندما امتدت سلطتهم حتى نهر الإبرو، وهاجم القرطاجيون واحدة من المدن القليلة التي بقيت مستقلة على ساحل إسبانيا، ثم سار جيش كامل لهم مع فيلته إلى إيطاليا بقيادة هنيبعل أعظم قادتهم. وهزم الرومان سلسلة من الهزائم المنكرة، فتخلى عنهم كثيرون من حلفائهم وانقلبوا إلى طرف أعدائهم، إلا أن الرومان صمدوا حتى استعادوا سيطرتهم في النهاية، وبعد أن قضى القرطاجيون اثنتي عشر سنة في إيطاليا عانوا من المجاعة وطردوا. وأعطى مجلس الشيوخ الروماني قائده الكفء سيبيو الإذن بالعبور إلى أفريقيا، حيث وقعت معركة زام في عام 202 ق.م التي قصمت ظهر المنافس الجدي الوحيد لروما في الغرب في واحدة من المعارك الحاسمة في التاريخ. واضطر القرطاجيون عندئذٍ لعقد سلام كان مقيداً لهم، إلا أن الكثيرين من الرومان بقوا يخشونهم بصورة عظيمة. ولم تنشأ الحرب الفونية الثالثة إلا بعد زمن طويل في عام 149 ق.م وقد انتهت بهزيمة القرطاجيين الكاملة، فدمرت مدينتهم وحرثت الأرض فوق موقعها.

الفصل الرابع - العالم اليوناني Chp4-4

الإمبراطورية القرطاجية في القرن الثالث قبل الميلاد باللون الأحمر

في ذلك الحين كانت الإمبراطورية الرومانية قد ولدت بالفعل ولو لم تولد بعد بالاسم، كانت الإطاحة بقرطاجة بمثابة نهاية سيراكوز، وهي آخر دولة إغريقية مستقلة في صقلية، لأنها تحالفت مرة أخرى مع القرطاجيين، فصارت صقلية كلها رومانية، كما تم غزو جنوب إسبانيا، وسرعان ما تدفق العبيد والذهب من صقلية إلى سردينية وإسبانيا ففتح عيون الرومان على غنائم الغزوات. أما في الشرق فكانت مقدونيا قد تحالفت مع قرطاجة لفترة من الزمن، وبذلك بدأت روما تتدخل في سياسة الإغريق، وفي عام 200 ق.م استنجدت أثينا ومملكة برغاما بصورة مباشرة بروما ضد مقدونيا والسلوقيين، وكان الرومان عندئذٍ مهيئين نفسياً لزيادة تدخلهم في الشرق. وكان القرن الثاني ق.م حاسماً، إذ أطيح بمقدونيا وتحولت المدن الإغريقية إلى مدن تابعة لروما، وورث آخر ملوك برغاما أرضه لروما في عام 133 ق.م. وأنشأت في نفس السنة مقاطعة جديدة اسمها مقاطعة آسيا، هي الطرف الغربي من الأناضول، وكان شمال إسبانيا قد فتح أيضاً، وبعده بقليل أخذ جنوب فرنسا أي غاليا. وفي القرن التالي تبعها شمال فرنسا ثم المزيد من الفتوحات في الشرق، وقد كانت هذه سلسلة مذهلة من النجاحات، ولم تقتصر فائدتها على روما ولا اقتصرت أضرارها على الشعوب المغزوة، بل أن الجمهورية نفسها قد تضررت منها أيضاً.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://resalahmasriyah.mam9.com
Eng. Ahmedzoubaa
Admin
Eng. Ahmedzoubaa


عدد المساهمات : 1216
تاريخ التسجيل : 28/08/2010
العمر : 50

الفصل الرابع - العالم اليوناني Empty
مُساهمةموضوع: رد: الفصل الرابع - العالم اليوناني   الفصل الرابع - العالم اليوناني Emptyالثلاثاء 14 يونيو 2011 - 8:10

انحلال الجمهورية



كان الرومان يحبون أن يهنئوا أنفسهم على اتباعهم ما يسمونه mos maiorum وهي عبارة لاتينية يمكن ترجمتها بأساليب أجدادنا. وكانوا يبدون ولعاً دائماً بالتقاليد ويحبون الحفاظ على الأساليب القديمة في أداء الأمور، وكانت الديانة الرومانية بالدرجة الأولى عبارة عن المحافظة على الاحتفالات التقليدية وأدائها بالصورة اللائقة. وحتى عندما يفعل الرومان شيئاً جديداً كان يحبون أن يكسوه بثوب قديم، ومن نتائج ذلك أن أسماء مؤسسات الجمهورية وفكرة أن الدولة جمهورية وليست ملكية قد ظلت تستخدم بعد أن فرغت من محتواها بزمن طويل.

والمواطنة الرومانية مثال على ذلك. فقد كان المواطنون الأوائل كلهم رجالاً، وكانوا فلاحين في جميع الحالات تقريباً، وكان لهم حق التصويت والحصول على العدالة أمام المحاكم وواجب الخدمة في الجيش. ثم حصلت ثلاث تغيرات هامة مع مرور القرن: أولها حقوق المواطنة صارت تمنح بالتدريج لأناس كثيرين خارج أراضي روما الأصلية. وثانيها أن الحروب الفونية أفقرت الفلاح الإيطالي، فقد صارت الجندية تبعد الجنود الرومان عن بيوتهم وعائلاتهم فترات أطول فتقع فريسة للفقر، كما أن الحروب خربت الريف الإيطالي تخريباً فظيعاً، وعندما عاد السلام أخيراً كان أصحاب الأراضي الصغيرة عاجزين عن تأمين معيشتهم هناك. ومن ناحية أخرى كان رجال آخرون قد جمعوا ثروات طائلة خلال تلك الحروب، فراحوا يشترون الأراضي لزراعتها ضمن أملاك كبيرة، وكانوا أحياناً يستخدمون العبيد وهم جزء من غنائم الفتوحات، للعمل فيها. فبات المواطن الفلاح يميل للانتقال إلى المدينة بحثاً عن معيشته، ويتحول إلى ما يسميه الرومان "بروليتاريا" أي رجلاً تنحصر مساهمته في الدولة بإنجاب الأطفال. وقد أثر هذان التغيران على السياسة، لأن تلك الأعداد المتزايدة من المواطنين الفقراء هي أصوات انتخابية يمكن شراؤها أو تملقها أو ترهيبها على يد السياسيين المتلهفين للوصول إلى مناصب تتيح لهم الحصول على الغنائم الثمينة التي تؤمنها الفتوحات في الخارج.

وهناك تغير ثالث في وضع المواطن نشأ من الحرب أيضاً، هو أن الجندية باتت مهنة احترافية دائمة بدلاً من أن تعتمد على مواطنين يسلحون ويجندون عند الأزمات الطارئة. ومن معالم هذا التطور أن ملكية الأرض لم تعد شرطاً للخدمة العسكرية، وكانت القوة البشرية التي يستمد منها الجيش أفراده تتقلص بالتدريج، لهذا أتيح لمن لا أملاك لهم أن يخدموا فيه، فتوفرت عندئذٍ أعداد كافية من المتطوعين من بين الفقراء المستعدين للخدمة مقابل أجر، ولم يعد التجنيد الإلزامي ضرورياً. صحيح أن المواطنة شرطاً للخدمة العسكرية في البدء، ولكن في النهاية سمح لغير المواطنين بالانخراط في الجيش أيضاً، وأخيراً صاروا ينالون حقوق المواطنة مكافأة لهم على خدمتهم.

وبالتدريج انفصل الجيش الروماني بهذه الطريقة عن الجمهورية، فصارت الفيالق المشهورة التي يتألف منها تنظيمات دائمة، وازداد شعور جنودها بالولاء لرفاقهم وقادتهم، ومنذ القرن الأول ق.م كان كل فيلق يحمل رمز العقاب على راية ترمز إلى شرف الفيلق واتحاده، وهو مزيج من الوثن الديني والشارة العسكرية.

كانوا المواطنون يزدادون فقراً إذاً وصارت أصواتهم تشترى، كما أتيح للسياسيين أن يفوزوا بثروات هائلة بالأراضي الجديدة إذ عينوا فيها حكاماً أو قادة عسكريين، وأضحى الجيش قوة لا تقهر تقريباً في ميدان القتال، وبات ولاءه لذاته وقواده أكبر منه لمجلس الشيوخ. وكانت هذه كلها تطورات سياسية بطيئة ولكن حاسمة، وقد استمرت حوالي قرنين مبدلة من طبيعة الجمهورية ولو بقيت المظاهر الخارجية على حالها. في تلك الأثناء كانت روما تزداد غنى بصورة واضحة، ولم يقتصر هذا على الغنائم والعبيد المتوفرة نتيجة الفتوحات للأفراد القلائل الذين كانوا في المكان المناسب في الوقت المناسب، بل إن المواطنين الفقراء استفادوا أيضاً بصورة غير مباشرة، لأن فرض الضرائب على المقاطعات الجديدة قد أعفاهم من دفع ضرائبهم. وكانت تقام ألعاب مكلفة لتسليتهم، كما بذل بعض الثروة الجديدة في تجميل روما وغيرها من المدن الإيطالية، وكانت تظهر تغيرات أخرى في تلك المدن مع زيادة الاتصال بالشرق، خاصة في المدن الإغريقية التي كان المثقفون الرومان يربون أصلاً على احترامها كجذور لثقافتهم. ومع اتساع عملية التهلن وصلت إلى الغرب عادات ومعايير جديدة تظهر في الأشياء اليومية مثلما تظهر في الفن والحياة الفكرية، فقد يبدو شغف الرومان بالاستحمام مثلاً واحداً من أكثر الأشياء المميزة لهم، ولكن الحقيقة أنهم تعلموا هذه العادة من الشرق الهلنستي.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://resalahmasriyah.mam9.com
Eng. Ahmedzoubaa
Admin
Eng. Ahmedzoubaa


عدد المساهمات : 1216
تاريخ التسجيل : 28/08/2010
العمر : 50

الفصل الرابع - العالم اليوناني Empty
مُساهمةموضوع: رد: الفصل الرابع - العالم اليوناني   الفصل الرابع - العالم اليوناني Emptyالثلاثاء 14 يونيو 2011 - 8:10

السلام الروماني




رغم تفاقم الفساد والعنف السياسيين في روما، ورغم سوء بعض حكام المقاطعات الرومانية، فقد حققت سلطة روما السلام لمنطقة واسعة من المتوسط والشرق الأدنى، ولفترات طويلة لم تعرفها من قبل، وفرضت الإدارة الجمهورية النظام على شعوب كثيرة وأمنت لها قانوناً مشتركاً. وكان الكثيرون من غير الرومان الذين يعيشون تحت حكم روما معجبين بمن يديرون هذا النظام بالنظر لما يتمتعون به من حس بالعدالة والنزاهة، وبسبب أعمالهم التي رسخت جذور الحضارة. وكانت النتيجة العملية لهذا كله هامة جداً لتاريخ العالم أيضاً، لأن الجمهورية قبل أن تنتهي كانت قد وضعت إطاراً سياسياً وعسكرياً على مستوى لا مثيل له إلى الغرب من الصين، كما أنها حمت الحضارة الهلنستية، وكانت ثقافات كثيرة تعيش ضمن هذا الإطار، الواحدة إلى جانب الأخرى، وتساهم كل منها بدورها في هذا الكيان العالمي.


وبقيت هذه البنية تنمو لزمن طويل، ففي عام 58 ق.م ضم الرومان قبرص، وفي السنوات القليلة التالية استلم سياسي شاب اسمه يوليوس قيصر قيادة الجيش الروماني في غاليا وراء جبال الإلب في فرنسا، وقضى على استقلال الشعوب السلتية فيها، كما أنه قاد حملتي استطلاع عبر القنال الإنكليزي (المانش) إلى الجزيرة التي كان الرومان يسمونها بريطانيا، ولكنه لم يبق فيها، ويمكن اعتبار هذه الأراضي آخر ما ضم إلى الإمبراطورية الجمهورية. وفي عام 50 ق.م باتت جميع السواحل الشمالية للمتوسط وكل فرنسا والبلاد الواطئة وإسبانيا والبرتغال وقسم كبير من الساحل الجنوبي للبحر الأسود ومن تونس وليبيا الحاليتين تحت حكم روما، إلا أن الجمهورية كانت عندئذٍ على حافة الزوال.


لقد ذكرنا أسباب انهيارها، إلا أن الطريقة التي حدث بها تدين بالكثير للأفراد والصدفة، مثلما هي الحال دائماً. كان حلفاء روما في إيطالية صعاب المراس، فحاربتهم أولاً ثم منحت المواطنة الرومانية لكامل شبه الجزيرة تقريباً، وبهذا لم تعد الكلمة الأخيرة للجمهورية في الحقيقة بيد المجالس الشعبية الرومانية التي لا تجتمع إلا في روما، ثم إن استمرار الحروب في الشرق قد أتى إلى روما بمزيد من القادة العسكريين الذين تملؤهم الطموحات السياسية. وفي حوالي عام 100 ق.م نشبت حالات طارئة في أفريقيا وجنوب غاليا أدت إلى منح سلطات استثنائية لقادة عسكريين كانوا ساسة في روما، فاستخدموها ضد خصومهم السياسيين فضلاٌ عن أعداء الجمهورية. وصارت روما مكاناً خطيراً تتفشى فيه الجرائم والعنف الشعبي عدا عن الدسائس والفساد السياسي، وبات الناس يخشون أن يظهر ديكتاتور ولكنه لم يعلموا من أين سيأتي.


ولم يخطر ببال أحد أن يكون الديكتاتور هو يوليوس قيصر فاتح غاليا. لقد منحته السنوات السبع التي قضاها هناك ثلاث ميزات عظيمة، فقد أبعدته عن روما بينما ألقي اللوم على غيره وتفاقم الفوضى والعنف والفساد، كما أنه بلغ درجة هائلة من الغنى، وكسب أيضاً ولاء أفضل الجيوش الرومانية وأحسنها تدريباً وخبرة، وكان جنوده يشعرون أنه رجل يهتم لحالهم ويضمن لهم الأجر والترقية والنصر.


لقد ظل قيصر دوماً شخصية خلابة، واعتبره الناس بطلاً مثلما اعتبروه شريراً، ومازالت سمعته تتأرجح بين هذا وذاك. صحيح أنه لم يبق طويلاً في القمة، وأنه مات على يد أعدائه، إلا أن كفاءاته لا يمكن أن يرقى الشك إليها. لقد كتب روايته عن حملاته الناجحة بلغة لاتينية هي من أفضل ما كتب في أيامه، وساهم هذا في تدعيم الإيمان بها، وكانت صفاته القيادية عظيمة كما كان رابط الجأش وذا صبر عنيد، ولم يكن متوحشاً، إلا أنه لم يعرف الرحمة. ومهما كانت أهدافه والناحية الأخلاقية لأعماله فيمكننا أن نجمع على الأقل على أنه لم يكن أسوأ من أكثر السياسيين في أيامه، وكثيراً ما كان يظهر نفسه بصورة أفضل منهم.



[b]نهاية الجمهورية




في كانون الثاني (يناير) من عام 49 ق.م ضرب قيصر ضربته، لقد ادعى أنه يدافع عن الجمهورية ضد أعدائها، فعبر نهر الروبيكون وهو حدود مقاطعته وسار بجيشه إلى روما، وكان هذا عملاً غير شرعي. ثم راح يخوض الحملات طوال أربع سنوات في أفريقيا وإسبانيا ومصر مطارداً خصومه الذين كانت لهم جيوش في المقاطعات قد يستخدمونها ضده، لقد سحق المعارضة بالقوة ولكنه كسب أيضاً أعداء سابقين إلى جانبه عن طريق اتخاذ سبيل الحلم معهم بعد انتصاره عليهم. ونظم دعمه السياسي في مجلس الشيوخ بعناية فجعلوه ديكتاتوراً مدى الحياة، إلا أن بعض الرومان كانوا يخشون أن يعيد تأسيس الملكية فاجتمع عليه أعداؤه في النهاية واغتالوه في عام 44 ق.م.

وظلت الجمهورية موجودة من ناحية المظهر، ولكن التغيرات التي أجراها قيصر نحو مركزية السلطة بقيت على حالها، ولم يكن بالإمكان حل المشاكل عن طريق العودة إلى الوراء. وفي النهاية جاء ابن أخيه ووريثه بالتبني أوكتافيانس، الذي بين أن التغيرات الحاصلة غير قابلة للعكس، فكانت هذه بداية ما يعرف بالإمبراطورية الرومانية. لقد قام أوكتافيانس أولاً بمطاردة السياسيين الذين اغتالوا قيصر، ثم خاض حرباً أهلية وصلت به إلى مصر التي ضمت كمقاطعة رومانية بعد انتحار أنطونيوس وكليوباترا، وعندما عاد إلى روما مدعوماً بولاء جنوده السابقين وجنود يوليوس قيصر أيضاً، راح يستخدم سلطته بحذر، فجعل مجلس الشيوخ يؤمن الواجهة الجمهورية اللائقة لكل ما يفعل. وكان من الناحية الرسمية يحمل لقب Imperator ومعناه أنه قائد الجيش في ساحة القتال، ولكنه كان أيضاً ينتخب العام تلو العام إلى منصب القنصل، وهو أهم المناصب التنفيذية في الجمهورية. وأخيراً منح لقب فخري هو أوغسطس، وقد عرف بالتاريخ باسم أوغسطس قيصر. وظلت سلطته تزداد بازدياد المناصب والألقاب الشرفية التي تمنح له، ولكنه بقي يصر دوماً على أن هذا كله إنما يتم ضمن الإطار الجمهوري القديم، وكان يسمى Princeps أي مواطناً أول وليس ملكاً. وكان في الواقع يزداد اعتماداً على السلطة التي أتته بفضل سيطرته على الجيش، وقد نظم أول فيلق للخدمة في العاصمة نفسها وهو الحرس الإمبراطوري الخاص، وعلى الإدارة المكونة من موظفين مدنيين يعملون مقابل أجر. كان أوغسطس ينوي أن يخلفه قريب له، وكان هذا ابناً لزوجته بالتبني، إذ لم يكن له إلا ابنة وقد حمل خمسة قياصرة متتاليين من بعده لقبي Imperator و Princeps وبعد أن مات أوغسطس في عام 14 للميلاد أُلّه مثلما أله يوليوس قيصر قبله.

لقد كان هذا تغيراً كبيراً وضع الدولة الرومانية على طريق جديدة، إذ سوف يحكمها في المستقبل ملوك ولكنهم معتمدون على الجيش ومحتاجون لاسترضائه. وعندما مات أوغسطس كانت قد زالت السيطرة القديمة والطويلة لطبقة صغيرة من السياسيين في روما بانتصار واحدة من الأسر القائدة بينها، ولو أن سيادة القياصرة لم تخل من الاضطراب. وعندما دفن أوغسطس كان يذكر بإنجازاته العظيمة في إحلال السلام وإحياء التقاليد الرومانية القديمة. إلا أن أياً من القياصرة الثلاث الذين أتوا بعد خليفته تيباريوس لم يمت ميتة طبيعية، ويعتقد البعض أن تيباريوس نفسه لم يمت بصورة طبيعية أيضاً. لقد بات بإمكاننا الآن أن نسمي هذه الدولة إمبراطورية، وسوف تحقق هذه الإمبراطورية إنجازات عظيمة وتنشر حكم روما فوق أراض أوسع بعد، ولكنها سوف تنهار هي الأخرى في النهاية.


[/b]
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://resalahmasriyah.mam9.com
Eng. Ahmedzoubaa
Admin
Eng. Ahmedzoubaa


عدد المساهمات : 1216
تاريخ التسجيل : 28/08/2010
العمر : 50

الفصل الرابع - العالم اليوناني Empty
مُساهمةموضوع: رد: الفصل الرابع - العالم اليوناني   الفصل الرابع - العالم اليوناني Emptyالثلاثاء 14 يونيو 2011 - 8:12

المسيحية



إذا كانت الأهمية التاريخية للأحداث تقاس بأعداد الناس الذين أثرت فيهم، فيمكننا أن نقول بثقة إنه لا يوجد في الأزمنة القديمة، وربما في كل تاريخ البشر، حدث واحد يساوي في أهميته ولادة الرجل الذي عرف في التاريخ باسم يسوع. ونحن نعلم بثقة أنه ولد في الناصرة بفلسطين، ولو لم يكن تاريخ ولادته مؤكداً ولكن يرجح أن تكون قد حدثت في عام 6 ق.م.

ويبين تاريخ البشرية منذ ذلك الحين مدى أهمية هذا الحدث، إن الذين سموا أنفسهم مسيحيين، أي أتباع يسوع، سوف يغيرون التاريخ على سطح الأرض كلها، وإذا أردنا البحث عن شيء كان له تأثير يقارن بهذا الحدث فعلينا ألا نبحث عن أحداث منفردة بل عن عمليات كبرى مثل الثورة الصناعية، أو القوى الكبرى التي جرت في مرحلة ما قبل التاريخ كتأثير المناخ الذي هيأ خشبة المسرح للتاريخ مثلاً. إلا أن أهمية هذا الحدث لم تمنع الناس من الاختلاف الحاد حول يسوع وحول ما كان يحاول أن يفعله. ومن الواضح أن الذي أعطى تعاليمه تأثيراً أكبر بكثير من غيره من الرجال القديسين في عصره هو أن أتباعه قد رأوه مصلوباً وآمنوا بالرغم من هذا بأنه قد قام بعد ذلك من بين الأموات.

كان أتباع يسوع يهوداً فلسطينيين، ومن أجل أن نفهم قصته يجب أن نراه ضمن تاريخ شعبه أي الشعب اليهودي. بعد أن سبى البابليون أعداداً كبيرة منهم في عام 587 ق.م ودمروا الهيكل في أورشليم، ازداد شعور اليهود بأنهم شعب متميز ومختلف عن سواهم من شعوب الشرق الأدنى، إن حرمانهم من الهيكل كمركز لعبادتهم قد جعلهم يتحولون إلى قراءة كتبهم المقدسة بصورة أسبوعية، وهي عادة أدت بمرور الزمن إلى ظهور الكنيس كمكان للوعظ والتلاوة وليس لتقديم القرابين. كما أن الأنبياء الذي قادوا بعض اليهود أثناء عودتهم من السبي في عام 538 ق.م بعد إطاحة الفرس ببابل، كانوا يدعون إلى تقيد أشد بالشريعة اليهودية من أجل تمييز اليهود عن غيرهم من الشعوب، وحرصواً أيضاً على إعادة بناء الهيكل. وعندما كانت فلسطين تحت حكم السلوقيين تعلم بعض اليهود عادات هلنستية، ولكنهم كانوا ينتمون إلى أقلية من الطبقة العليا يرتاب بها ويكرهها الشعب الذي بقي متشبثاً بتقاليده، بل إن تشبثه بها قد ازداد عناداً. وقد حدثت ثورة يهودية كبيرة في القرن الثاني ق.م ضد ما يمكن أن نسميه تهلينا، وصار الملوك السلوقيون من بعدها يعاملون اليهود بحذر شديد.



[b]اليهود في الإمبراطورية الرومانية




عندما انتهى حكم السلوقيين في عام 143 ق.م مرت مرحلة من الاستقلال استمرت حوالي ثمانين سنة، ثم استولت روما على منطقة اليهودية. وفي عصر أوغسطس كان عدد اليهود المقيمين في المنطقة اليهودية أقل منه في بقية أنحاء الإمبراطورية الرومانية، لأن حرية التنقل والتجارة التي توفرت بعد السبي في الدول الهلنستية أولاً ثم تحت حكم روما قد سمحت بانتشارهم على كافة سواحل المتوسط وفي مرافئ البحر الأسود وفي بلاد الرافدين. وربما كان هناك في روما نفسها حوالي 500.000 يهودي كما كان هناك مركز كبير ثاني لهم في الإسكندرية، وهذا هو ما يسمى ”الشتات”. بل إن بعض اليهود كانوا قد استقروا في مرافئ غرب الهند منذ عام 175 ق.م.

وازدادت أعداد اليهود قليلاً من خلال اعتناق غيرهم لهذه الديانة التي اجتذبتهم بشريعتها الأخلاقية، وباحتفالاتها الدينية المتمحورة حول قراءة النصوص المقدسة، ولأنها لا تحتاج مقامات ولا كهنة، وبالأخص لأنها تقدم للإنسان وعداً بالخلاص. لقد كانت نظرة اليهود للتاريخ واضحة تلهب النفوس حماسة، إذ إنها تعتبر الشعب اليهودي شعباً ميزه الله عن سواه واختاره لكي يطهره في النار تحضيراً ليوم الدينونة، ولكنه سوف يجمعه بعد ذلك من أجل خلاصه. ومن الصعب أن نعرف لماذا حرضت هذه العقيدة الواثقة الكراهية، إلا أن العلاقات بين اليهود وجيرانهم كثيراً ما كانت متوتره، وكانت حوادث الشغب أمراً شائعاً وكانت تؤرق السلطات الرومانية، وقد ساهم تميز اليهود ونجاحهم في إثارة تحامل الشعب عليهم.




[b]يسوع الناصري





في عام 26 للميلاد عين حاكم روماني جديد هو بيلاطس النبطي على المقاطعة التي كانت اليهودية جزءاً منها في لحظة من لحظات التاريخ العصيبة. وكانت هذه المنطقة تعيش اضطراباً كبيراً، فقد كان يهود سوريا وفلسطين يبغض كل منهم الآخر، كما كانوا يبغضون جيرانهم الإغريق والسوريين، ولكنهم كانوا يبغضون أشد ما يبغضون المحتلين الرومان وجباة ضرائبهم. وكان بعض اليهود ينتمون إلى طائفة تسمى الزيلوت، هي من إحدى نواحيها حركة قومية، بينما كان الكثيرون منهم ينتظرون قائداً أو مسيحاً مسحه الله متحدراً من سلالة داود لكي يسير بهم نحو النصر، ولكنهم كانوا مختلفين كثيراً حول طبيعة هذا النصر، هل هو عسكري أم رمزي. كان يسوع الناصر عندئذٍ في حوالي الثلاثين من عمره، وكان قد شب ضمن هذه التوقعات والآمال، كان يعلم أنه رجل قديس، وقد أثارت تعاليمه والمعجزات التي رويت عنه حماسة كبيرة، إن السجلات التي بين أيدينا عن حياته هي الأناجيل، وهي روايات دونها أتباعه بعد موته بناء على ذكريات أشخاص كانوا يعرفونه، وقد كتبت لكي تبين أنهم محقون في اعتباره شخصاً متميزاً فريداً، هو المسيح.


وأكدت الأحداث التي جرت في نهاية حياة يسوع لأتباعه أنه شخص فريد، فقد اتهمه الزعماء الدينيون اليهود بالتجديف وأخذوه أمام الحاكم الروماني بيلاطس الذي كان حريصاً على تجنب المزيد من النزاع الطائفي في تلك المدينة المضطربة، فتغاضى قليلاً عن حرفية القانون وسمح بإدانة يسوع. وبناء على ذلك صلب يسوع، وكان هذا على الأرجح في عام 33 للميلاد، وبعد فترة قصيرة آمن تلاميذه أنه قام من بين الأموات، وأنهم قابلوه وتحدثوا معه بعد ذلك، وأنهم رأوه يصعد إلى السماء، وأنه إنما تركهم ليعود عما قريب جالساً عن يمين الله لكي يدين الناس جميعاً عند نهاية الدهور.


ومهما اختلفت الآراء في تفاصيل الأناجيل فإن الذين كتبوها كانوا مؤمنين بها، أو أنهم دونوا ما أخبرهم به رجال يؤمنون أنهم رأوها بأمهات أعينهم، ومن الواضح أيضاً أن حياة يسوع لم تكن ناجحة بالمعنى الدنيوي إلى درجة تسمح باستمرار تعاليمه بقوة رسالتها الأخلاقية وحدها. صحيح أنه اجتذب بصورة خاصة الكثيرين من الفقراء والمنبوذين، فضلاًً عن اليهود الذين كانوا يشعرون أن تقاليدهم لم تعد مرضية بالأشكال التي تبلورت فيها، إلا أن هذه النجاحات كانت ستموت معه لو لم يؤمن أتباعه أنه قهر الموت نفسه وأن الذي عمدوا باسمه سوف ينتصرون على الموت بدورهم ويعيشون إلى الأبد من بعد دينونة الله. وقبل أن ينقضي قرن واحد كان التبشير بهذه الرسالة منتشراً في كافة أنحاء العالم المتحضر تحت مظلة الإمبراطورية الرومانية.





[b]القديس بولس





كانت تلك الطائفة اليهودية الجديدة قد ضربت جذورها أولاً بين الجماعات اليهودية، التي كان توزعها على أهمية كبيرة في تحديد نمط المسيحية الباكرة، لقد أطلق على يسوع اسم ”المسيح” Christ وهو اسم مشتق من اليونانية ومعناه الممسوح بالزيت، ولكن سرعان ما بدأ التبشير بتعاليمه بين غير اليهود أيضاً، وقد تم هذا بناء على قرار من مجلس المسيحيين -وكان قد بدأ استعمال هذه التسمية للدلالة على أتباعه- الذي عقد في أورشليم في عام 49 للميلاد. وفضلاً عن الذين كانوا قد عرفوه معرفة شخصية، ومنهم أخوه يعقوب وتلميذه بطرس، ربما كان هناك يهودي متهلن من طرسوس هو شاول الذي سوف يعرف فيما بعد بالقديس بولس، وهو أهم شخصية في تاريخ المسيحية بعد يسوع. كان الكثيرون من غير اليهود مهتمين بالتعاليم الجديدة، إلا أن أعمال بولس التبشيرية وقرار مجلس أورشليم بإعفاء غير اليهود من الالتزام بحذافير الشريعة اليهودية، أي الختان ومحرمات الطعام، هما اللذان أطلقا أنجح الديانات العالمية من قوقعتها اليهودية التي حمتها في أيامها الأولى.


وهكذا بدأت المسيحية تبزغ الآن من المجتمع اليهودي، كما أنها من خلال القديس بولس صارت تتميز عن عالم الأفكار اليهودية، مع أن يسوع على ما نعلم لم يخرج قط في تعاليمه عن نطاق العالم الفكري للشريعة والأنبياء، بل كان دقيقاً جداً في تقيده بالشعائر الدينية. كان بولس يتحدث اليونانية، وكان رجلاً مثقفاً فوضع نظرته لرسالة يسوع باللغة اليونانية ومن خلالها بلغة الفلسفة الإغريقية وأفكارها، واستخدم في تبشيره برسالته مفاهيم إغريقية مثل التمييز بين الروح والجسد، والروابط بين العالم المادي والمنظور والعالم الروحي غير المنظور. وقد أثار حنق اليهود التقليديين لأنه بشر بيسوع على أنه الله نفسه، وما كان لفكرة كهذه أن تجد مكاناً لها ضمن اليهودية. ويمكننا أن نقول إن بولس هو صانع المسيحية الحقيقي، إذ لاريب أن أكثر لاهوت الكنيسة المسيحية تعود جذوره إلى تفسيره هو لتعاليم يسوع. ونضيف هنا إلى أن بولس انتهز الفرصة المتاحة للناس بالسفر في يسر وأمان، عالم انتشرت فيه اللغة اليونانية انتشاراً واسعاً فسهلت نقل الأفكار، لكي يطلق المسيحية في مسيرتها الكبرى من النمو والانتشار. وليس من الغريب أن المسيحيين سرعان ما صاروا يعتقدون أن الإمبراطورية الرومانية نفسها إنما خلقها الله لكي يمكن من انتشار كلمة الحق، وأنه خطة إلهية لتوطيد المسيحية وترسيخها، وراودت بعضهم أيضاً فكرة شريرة مع مرور الزمن، هي أن يسوع لم يقتله الرومان في الحقيقة بل إن الذين قتلوه هم اليهود.


إن آخر ما نسمعه عن بولس هو أنه عندما اتهمه زعماء اليهود في أورشليم بالتحريض على الفتنة والعصيان وبتدنيس الهيكل، استخدم حقوقه كمواطن روماني لكي يستأنف حكم حاكم قيصرية إلى الإمبراطور في روما، وقد رحل إلى العاصمة بالفعل لينتظر محاكمته هناك. ولا نعلم ماذا حل به بعد ذلك، إلا أن التقاليد المسيحية الباكرة تقول إنه استشهد في روما في عام 67 للميلاد، وسواء كان هذا صحيحاً أم لا فإن بولس كان قد غير مجرى التاريخ.

[/b][/b][/b]
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://resalahmasriyah.mam9.com
Eng. Ahmedzoubaa
Admin
Eng. Ahmedzoubaa


عدد المساهمات : 1216
تاريخ التسجيل : 28/08/2010
العمر : 50

الفصل الرابع - العالم اليوناني Empty
مُساهمةموضوع: رد: الفصل الرابع - العالم اليوناني   الفصل الرابع - العالم اليوناني Emptyالثلاثاء 14 يونيو 2011 - 8:12

الإمبراطورية الرومانية



لقد احتاج لقب Imperator الذي حمله أوغسطس وخلفاؤه إلى زمن طويل لكي يصبح معناه الرجل الذي يتربع على قمة الإمبراطورية، أي ما نسميه إمبراطوراً وكان أكثر تاريخ الإمبراطورية على هذه الصورة، مثلما حدث على عهد الجمهورية، أي أن المؤسسات والأفكار كانت تتغير رويداً رويداً وبطريقة غير ملحوظة على المدى القصير. في القرن الذي تلا موت أوغسطس جاء إلى العرش إثناء عشر إمبراطوراً، كان أول أربعة منهم أقرباء له ولعائلته، وآخرهم نيرون الذي مات في عام 68 ميلادي. ثم تفككت للتو في حرب أهلية، فنودي بأربعة أباطرة في عام واحدة. وبين هذا الأمر أنه عندما يعجز الإمبراطور عن تأمين انتقال السلطة إلى خليفته بصورة سلمية فإن السلطة الحقيقية تكون بيد الجيش، كما حدث في العام الذي يسمى "عام الأباطرة الأربعة". وربما كان هناك أكثر من جيش واحد في المعادلة، لأن حاميات المقاطعات قد تؤيد عدة مرشحين مختلفين، وقد تكون الكلمة الأخيرة أحياناً للحرس الإمبراطوري الشخصي في روما نفسها لأنه في مسرح الأحداث. وقد بقي مجلس الشيوخ يعين القاضي الأول في الجمهورية ولكن لم يكن بمقدوره إلا أن يعمل عن طريق المناورة وحبك المكائد، ولم يكن بقادر على هزم الجيش في المحصلة. أما الأباطرة فكانت صفاتهم وكفاءاتهم الشخصية تحدد ما يقدرون على فعله، بشرط أن يحافظوا على ولاء الجيش.

وظهر في النهاية إمبراطور صالح من عام الأباطرة الأربعة، هو فسبسيانس، الذي كان أسوأ عيوبه البخل. لم يكن فسبسيانس أرستقراطياً رومانياً، بل كان جده قائد مئة ثم أصبح جابي ضرائب، ولكنه كان عسكرياً بارزاً. وبات من الواضح أن العائلات الرومانية القديمة قد فقدت قبضتها على السلطة، إلا أن عائلة فسبسيانس -أي العائلة الفلافية- قد عجزت عن الحفاظ على الخلافة الوراثية لفترة طويلة، فعاد أباطرة القرن الثاني إلى الحل الذي ابتدأه أغسطس، أي تبني ورثة العرش. وجاء أربعة من هؤلاء هم ”الأباطرة الأنطونيون” الذي أمنوا للإمبراطورية قرناً كاملاً تقريباً من الحكم الصالح والهادئ، بدا للعصور اللاحقة عصراً ذهبياً، وكان ثلاثة منهم إسبانيين وواحد إغريقي، أي أن الإمبراطورية لم تعد بيد الإيطاليين.

كانت الإمبراطورية عالمية في قمتها إذاً كما تدل أصول هؤلاء الأباطرة، وفي قاعدتها أيضاً ما برحت تحطم الحواجز بين الشعوب. واستمرت عملية رومنة العائلات القائدة في المقاطعات باطراد، فتعلم شباب الغاليين والسوريين والأفارقة والإلبريين اللغتين اليونانية واللاتينية، وكانوا يرتدون ألبسة مثل ألبسة الرومان ويربون على الافتخار بالتراث الروماني. وكان الموظفون المدنيون والجيش يحافظون على سير الأمور ويحترمون مشاعر الناس في المناطق المختلفة من الإمبراطورية طالما أن الضرائب تدفع بانتظام، وعندما صدر في عام 212 م مرسوم يقضي بمنح حقوق المواطنة لجميع الرعايا الأحرار في الإمبراطورية، كان هذه هي النتيجة المنطقية لعملية الاندماج الطويلة. وحتى مجلس الشيوخ كان بعض أعضائه في ذلك الحين غير مولودين في إيطاليا، ولم تعد صفة روماني تدل على الولادة في مكان معين بل على الانتماء إلى حضارة معينة.



الفصل الرابع - العالم اليوناني Chp4-5

الإمبراطورية الرومانية في العام 117 الميلادي.

لقد ازدادت مكانة الأباطرة، أو مكانة منصبهم على الأقل، وصاروا يبتعدون عن صورة القاضي الأول ويزدادون تشبثاً بالملوك الشرقيين، الذي يعتبرون من طينة مختلفة عن طينة رعاياهم. وساهمت في هذا عادة تأليه الإمبراطور بعد موته. فقد أله كل من يوليوس قيصر وأوغسطس من بعد موتهما، ولكن منذ دوميتيانس وهو ابن قسبسيانس صار الأباطرة يؤلهون أثناء حياتهم، كما أن المذابح التي كانت تقدم عليها القرابين للجمهورية أو لمجلس الشيوخ باتت تكرس للإمبراطور فقط، خاصة في الشرق.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://resalahmasriyah.mam9.com
Eng. Ahmedzoubaa
Admin
Eng. Ahmedzoubaa


عدد المساهمات : 1216
تاريخ التسجيل : 28/08/2010
العمر : 50

الفصل الرابع - العالم اليوناني Empty
مُساهمةموضوع: رد: الفصل الرابع - العالم اليوناني   الفصل الرابع - العالم اليوناني Emptyالثلاثاء 14 يونيو 2011 - 8:13

الميراث الروماني



حتى الذين أسفوا على تلك التغيرات لم يكن بإمكانهم أن ينكروا أن الإمبراطورية كانت إنجازاً مدهشاً يحق للرومان أن يفتخروا به. فقد أمن الرومان حكماً منظماً وقانونياً لأوسع رقعة عرفها العالم حتى ذلك الزمان، وكانت تضم شعوباً سوداء وبيضاء وسمراء وكلها رومانية على قدم المساواة، كما ضمنوا لها نعم السلام والازدهار أيضاً، وهذه كلها إنجازات لا سابق لها، وهي أفضل حجة تسمح لنا أن نقول إن الرومان قد أتوا بأشياء عظيمة حقاً. من الناحية الملموسة خلفوا صروحاً وأبنية وأعمالاً هندسية كبيرة، وبعد قرون عديدة سوف يظن الناس أن آثارهم قد بناها عمالقة وسحرة في الماضي البعيد من شدة انبهارهم بها، كما أن أحد علماء الآثار الإنكليز في القرن السابع عشر قال إن آثار ستونهنج* هي معبد روماني، لأنهم وحدهم قادرون على الإتيان بشيء بهذه العظمة. وقد كان مخطئاً هو الآخر، ولكن هذه الأخطاء طبيعية ولها دلالات هامة. إن ما خلفه الرومان في القرميد والصخر والإسمنت كان باهراً ولا مثيل له في أوروبا الغربية، والكثير منه بني لأغراض عملية جداً. ولم يكون يجوز لفيلق ما أن يعسكر ولو لليلة واحدة إلا بعد أن يضع مخططاً جيداً لمعسكره ويحفر له الخنادق ويبني المتاريس للدفاع عنه، ولهذا اكتسب الجيش قدراً كبيرة من الخبرة في أمور المساحة والهندسة والبناء. إلا أن أكثر الأبنية الرومانية كانت في المدن، لأن الرومان كانوا يعيشون في حضارة مدنية، وفي كافة أنحاء الإمبراطورية كانت الأبنية والصروح العامة شواهد على ما يعتبرونه لائقاً بالحياة المتحضرة. ومن أجل تخديم تلك المدن بنوا طرقاً تربطها فيما بينها، وزودوها بمسارح الألعاب والحمامات ومصارف المياه والماء العذب لجعلها مريحة. وكانوا يحبون الفخامة والأبهة، ورغم أنهم صنعوا بعض الأشياء الفظة والغليظة، فقد كانوا أشخاصاً عمليين لذلك لم يبنوا أشياء بلا فائدة مثل الأهرام، ومع هذا كانت بعض مدافنهم فاخرة جداً، وبعد قرون عديدة سوف يصبح مدفن الإمبراطور هادريانس قلعة سان أنجلو.

لقد استخدم الرومان تقنية فعالة جداً ولكنها لم تكن بجديدة، وكانت بكراتهم أفضل من بكرات المصريين، وكانوا يستخدمون رافعات وأدوات حديدية لم يعرفها بناة الأهرام، ولكنهم لم يخترعوا أشياء هامة قياساً بالإغريق. كانوا يستخدمون أنواعاً كثيرة من المواد، ولكن أكثرها كانت موجودة قبلهم، ماعدا الإسمنت الذي اخترعوه هم، وقد مكن الإسمنت من تشييد الأبنية بأشكال جديدة، وكان الرومان أول معماريين تخلصوا من الحاجة لرفع الأسقف العريضة على صفوف من الأعمدة، لأنهم اخترعوا القبة المحمولة على قناطر.

من أكثر أعمالهم ظهوراً لنا الآن هي الطرق، التي مازالت في بعض الأحيان صالحة للنقل، وحتى عندما زالت كانت الطرق الجديدة تبنى فوق مواقعها. وكان هناك فيلق خاص من المساحين يرعى تلك المهارات التي مكنت من بلوغ هذه الدقة المدهشة في عبور الهضاب والوديان على خط مستقيم، وكانت تبنيها الفيالق في العادة، وهي التي أمنت للإمبراطورية وسائل الاتصال التي مكنت من حكم هذه الرقعة الكبيرة من العالم. وإن سرعة نقل الرسائل والبضائع عن طريق البر لم تتحسن منذ عصر القياصرة حتى عصر القطار بل إن الاتصالات كانت تتراجع في بعض الأماكن خلال الألف سنة التالية عندما لا تصان الطرق الرومانية.

لقد أخذ البناؤون الأوروبيون في عصور لاحقة كميات هائلة من الأحجار المقصوصة الجاهزة من الآثار الرومانية، لذلك صار من الصعب علينا أن نتخيل مدى روعة الإمبراطورية في أيامها. ومازالت هناك بعض الصروح العظيمة التي تقف منفردة، مثل جسر بون دوغار في جنوب فرنسا، ومسرح الألعاب في مدينة نيم القريبة منه، والبوابة السوداء في ترير بألمانيا، وقناة جر المياه التي مازالت تروي مدينة سغوفيا الإسبانية، ومجمع الحمامات في بات بإنكلترا، أما في مدينة بومبيي بإيطاليات فتجد مدينة محفوظة بأكملها، كما تجد بقايا أخرى في أماكن كثيرة في كافة أرجاء أوروبا والشرق الأدنى وشمال أفريقيا، وأهم ما بقي هو الآثار المدهشة في روما نفسها عاصمة الإمبراطورية.

كان الرومان يفتخرون بأنهم أقوياء أشداء، ولكنهم كانوا يحبون الراحة أيضاً، وكانوا أحياناً يغالون في الانغماس بالملذات كما تدل لوائح الأطعمة والأشربة التي كانت تقدم في ولائم الأغنياء عندما كانت موضة دارجة، ولكن يحق لنا أن نعجب باهتمامهم بالاستحمام والتدفئة المركزية، وفقد كانوا ذوي مهارة كبيرة في كافة أمور السباكة والتمديدات الصحية، وكانت هناك قنوات محكمة تجلب ماء الشرب إلى المدن التي تجد فيها الحمامات والمراحيض العامة. أما في البيوت الخاصة فكنت تجد غرف البخار وغرف المعيشة المدفأة تدفئة مركزية من تحت الأرض، ولم يعتد سكان بريطانيا على ضرورة تدفئة المنازل بصورة كافية بعدها حتى القرن العشرين.

أما عدا عن مجالي الهندسة والهيدروليك (علم حركة السوائل) فكانت ابتكارات الرومان قليلة، وهم لم يساهموا مساهمة كبيرة في العلوم البحتة. في مجال الزراعة بدؤوا يدخلون استخدام الطواحين المائية في نهاية الأزمنة الإمبراطورية، أما الطواحين الهوائية فلم تكن قد ظهرت بعد، وبقيت عضلات الحيوان والإنسان هي المصدر الأساسي للطاقة. كثيراً ما قيل إن توفر أعداد كبيرة من العبيد لم يخلق عند الرومان الحاجة لاختراع آلات تقوم بعمل البشر، وقد يكون في هذا شيء من الصحة، ولكن هناك تفاسير أخرى محتملة، فقد استمرت مشكلة تحويل الفكرة الجيدة إلى اختراع عملي بسبب وضع التقنية، كما أن تاريخ الإمبراطورية صار يجبر العزب الريفية على أن تكون مكتفية بذاتها، فباتت تعيش على ما تنتجه بنفسها ولم تجرب أشياء جديدة. وأخيرا ً لم يكن هناك أي حافز من الخارج، لأن الصين الغنية بالمهارات التقنية كانت بعيدة للغاية، وجيران روما القريبين لم يكن لديهم شيء هام يشكل تحدياً وحافزاً لها.

يبدو أن أكثر نشاط فكري حاز على إعجاب الرومان هو مجال عملي أيضاً، ألا وهو القانون وفن الخطابة الملازم له، ولم ينشأ في بيئة روما فلاسفة مثل فلاسفة اليونان الكلاسيكية، ولا في أي حضارة أخرى كالصين أو الهند مثلاً، وحتى الفلاسفة الهلنستيون كانوا أقل أصالة من المفكرين الإغريق الذي سبقوهم بالرغم من هذا تجد في الثقافة الرومانية بعض الممثلين الجيدين للفلسفة الرواقية، وبعض المؤرخين الهامين، وكوكبة من كتاب النثر والشعر اللاتيني، منهم فرجيل شاعر الملاحم، وهو بلا شك شخصية عملاقة حتى في الأدب العالمي.

من السهل أن نستخف بإنجازات الرومان الفكرية قياساً إلى إنجازات اليونان، ولا ننس أن إنتاج هذا السيل المتصل من الرجال ذوي الكفاءات الشاملة طوال قرون يدل على اعتماد ثقافة الرومان على الأفكار المحافظة، وقد كان للتقاليد الإغريقية دور كبير في ذلك. كان السياسيون الرومان الذي يصلون إلى أعلى المراتب يمرون بمناصب عديدة كإداريين وقادة عسكريين ومشرفين على البناء والأشغال الهندسية ومحامين وقضاة، وقد استطاعت روما أن تقدم فيضاً لا ينقطع من الرجال القادرين على هذه الأشياء كلها. كما أن الإمبراطورية نفسها كانت متسامحة وعالمية، فحتى عقيدة ثورية مثل المسيحية بكل ما تحمل من بذور الانقلاب للمستقبل أمكنها أن تضرب جذورها وتزدهر، وكانت الإمبراطورية على درجة هامة من التطور الفكري أيضاً، وإن الإمبراطورية المسيحية اللاحقة هي التي لجأت إلى محاكمة الناس بتهم التجديف.
المسيحية والإمبراطورية



وسرعان ما ظهرت الجماعات المسيحية في كافة أرجاء العالم الروماني، وكان الجميع يعترفون بأن مسيحيي أورشليم، حيث عاش أول جيل عرف المسيح وسمعه من قادة الكنيسة، يستحقون توقيراً خاصاً. وكانت الروابط الوحيدة التي تجمع بين جميع المسيحيين هي طقس التعميد، وهو علامة القبول في الدين الجديد، وإيمانهم بأن المسيح قد قام من بين الأموات، وطقس الإفخارستيا وهي الخدمة الخاصة التي تمثل وتحيي ذكرى آخر وجبة تناولها المسيح مع تلاميذه عشية اعتقاله ومحاكمته وصلبه. كان أكثر المسيحيين يؤمنون أيضاً أن نهاية العالم أمست على الأبواب، وأن يسوع سوف يعود قريباً لكي يجمع المؤمنين به، ويضمن لهم الخلاص في الدينونة الأخيرة. وبناء على ذلك لم يكن ثمة ما يفعله المرء على هذه الأرض سوى أن يترقب ويصلي، ولهذا لم تكن إدارة الكنائس عملاً معقداً. ولكن كانت هناك قرارات إدارية لابد من اتخاذها بسبب زيادة أعداد المؤمنين وأموالهم، فظهر رجال إداريون يسمون أساقفة وشمامسة، وبمرور الزمن سوف يتخذون أدواراً كهنوتية أكثر ويزداد اهتمامهم بقيادة العبادة ومسائل اللاهوت فضلاً عن شؤون الإدارة.

كان أول تغير كبير هو انفصال المسيحية عن اليهودية، صحيح أن المسيحية لم تتخل قط عن ميراث التوحيد اليهودي، ولا عن كتب العهد القديم من الكتاب المقدس، ولا عن النظرة إلى مصير الإنسان كامتداد لرحلة الحج الطويلة لشعب مختار عبر التاريخ، وصحيح أن الثقافة المسيحية مازالت حتى اليوم مشبعة بالأفكار والصور المأخوذة من الماضي اليهودي، إلا أنها بالرغم من ذلك قد انفصلت عن المجتمع اليهودي والأمة اليهودية. كان الرومان في البداية يعتبرون المسيحيين طائفة من الطوائف اليهودية، ولكن نمو الكنائس غير اليهودية جعلهم متميزين، وعجز المسيحيون اليهود عن إقناع اليهود الآخرين باعتناق نظرتهم بأن المسيح الذي ينتظره شعبه منذ زمن طويل قد جاء في يسوع، ولا يمكن أن يكونوا استمروا في حضور اجتماعات الكنيس إذ كان من المعروف أنهم يتناولون الطعام في وجبات عامة مع أشخاص غير يهود وغير مختونين ويأكلون لحم الخنزير ولا يراعون النواحي الأخرى للشريعة اليهودية.

وقد حصلت نقطة تحول أخرى هامة عندما ثار اليهود ثورتهم الكبرى ضد الرومان في فلسطين في عام 66 م وكان قائد الجيش في المنطقة في ذلك الحين هو إمبراطور المستقبل فسبسيانس وكانت هذه أسوأ ثورات اليهود التي اضطر الرومان للسيطرة عليها، فبعد سبع سنوات من الاقتتال وصلت المجاعة بأهل أورشليم إلى حد أكل لحوم البشر لكي يبقوا على الحياة، ودمر الهيكل الذي أعيد بناؤه بعد العودة من السبي، وفضلت القوات اليهودية الأخيرة أن تنتحر انتحاراً جماعياً على أن تسلم معقلها في مسادة في عام 73 م. أما المسيحيون فلم يشاركوا في هذه الثورة، وربما خفف هذا من ارتياب السلطات الرومانية بهم، ولكن اليهود الآخرين خارج فلسطين لم يشاركوا بها أيضاً، لهذا تركوا وشأنهم تحت حكم سلطاتهم الدينية الخاصة، أما أورشليم فقد أخذت من اليهود بعد الثورة وجعل منها هادريانس مستوطنة إيطالية في عام 135 م وأقصى جميع اليهود عن المنطقة اليهودية، إلا أن هذه الثورة وعواقبها قد زادت الشعب اليهودي وعياً لذاته واعتماداً على التقيد الصارم بالشريعة، لأن الهيكل قد زال من الوجود، وزاد هذه الأمر من صعوبة وضع المسيحيين اليهود.

كان اليهود أول من اضطهد المسيحيين، فهم الذين طالبوا بصلب المسيح، كما أنهم قتلوا أول شهداء المسيحيين القديس اسطفانس وسببوا للقديس بولس أشد المحن العصيبة في حياته، ويقول بعض العلماء إن يهود روما جعلوا من المسيحيين أكباش فداء بأن اتهموهم بتسبب الحريق الكبير الذي اندلع في المدينة عام 64 م، فجلبوا عليهم أول اضطهاد روماني، وهو الذي تقول الأسطورة إن القديسين بطرس وبولس قد هلكا فيه. ولا ريب أن عدداً كبيراً من المسيحيين ماتوا ميتة فظيعة في ميدان الألعاب أو أحرقوا أحياء، ولكن هذه الأحداث الرهيبة كانت محلية وغير شائعة، بل يبدو أن المسيحيين ظلوا يتمتعون عادة بالتسامح الرسمي حتى وقت متقدم من القرن الثاني الميلادي، أما الناس فكانوا يرتابون بهم ويلفقون عليهم القصص، فيقولون إنهم يمارسون السحر الأسود، وأكل لحوم البشر، وسفاح القربى، وكان بعض الرومان يكرهون أفكارهم التي تشجعهم على اعتبار أنفسهم مساوين لسادتهم في نظر الله، وبالتالي على مقاومة السلطة التقليدية للزوج على زوجته وللوالدين على أبنائهما والسيد على عبيده. ومن الطبيعي أن يعتبر المؤمنون بالخرافات أن المسيحيين هم سبب الكوارث الطبيعية، فكانوا يقولون إن الآلهة القديمة أغضبها التسامح مع المسيحيين فصارت ترسل المجاعات والفيضانات والأوبئة، إلا أن هذا لم يؤثر كثيراً في الإدارة، ولم تدخل السلطة صراعاً رسمياً ضد المسيحية إلا في القرن الثاني.








* آثار حجرية ضخمة من حقبة ما قبل التاريخ في إنكلترا



الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://resalahmasriyah.mam9.com
Eng. Ahmedzoubaa
Admin
Eng. Ahmedzoubaa


عدد المساهمات : 1216
تاريخ التسجيل : 28/08/2010
العمر : 50

الفصل الرابع - العالم اليوناني Empty
مُساهمةموضوع: رد: الفصل الرابع - العالم اليوناني   الفصل الرابع - العالم اليوناني Emptyالثلاثاء 14 يونيو 2011 - 8:13

اضطهاد المسيحية وتطورها



لقد تبين في ذلك الحين أن بعض المسيحيين يرفضون تقديم القرابين للإمبراطور والآلهة الرومانية، وكان اليهود أيضاً يرفضون القيام بهذا، ولكن الرومان كانوا يقبلونه منهم ويعتبرونهم شعباً متميزاً له عاداته التي يجب احترامها. أما المسيحيون فإن أكثرهم لم يعودوا يهوداً ، فلماذا لا يقومون إذاً بأعمال التوقير الرسمي هذه مثل غيرهم؟ وبالتالي فقد أدينوا لا لأنهم مسيحيون بل لأنهم رفضوا القيام بشيء يأمر به القانون. ولاريب أن هذا الأمر قد حرض على الاضطهاد على المستوى غير الرسمي، فظهرت المذابح والمضايقات بحق المسيحيين في القرن الثاني في أنحاء كثيرة من الإمبراطورية خاصة في غاليا.

إلا أن هذا القرن كان أيضاً قرن تقدم بالنسبة للكنيسة، وفي هذا العصر ظهر أول آباء الكنيسة، وهم شخصيات كبيرة من علماء اللاهوت والإداريين، وضعوا الخطوط الأساسية للعقيدة المسيحية من أجل أن يميزوها بوضوح عن العقائد الأخرى ويحددوا واجبات المسيحيين ووظائفهم. ومن هؤلاء الآباء اثنان كانا على أهمية خاصة بسبب الطريقة التي حاولا بها ربط المسيحية بالأفكار الإغريقية، فساهما بالتالي في فصل المسيحية عن غيرها من العبادات الشرقية الكثيرة، وهما القديس اكليمنضس الإسكندري، وتلميذه أوريجنس. لقد كانت منجزات الآباء الفكرية والمعنوية عظيمة، وقد ساعدتهم بعض تيارات ذلك العصر، إذ كان البحث جارياً عن أساليب جديدة في الدين في كافة أرجاء العالم الروماني في القرن الثاني، فاستفادت المسيحية من هذا، كما أن الأفكار الجديدة كانت تنتشر بسرعة في عالم يضمه القانون والنظام الرومانيان، ويستطيع الناس فيه أن يسافروا بحرية ويجدوا أشخاصاً يتحدثون اللغة اليونانية في كل بقعة منه.

عند نهاية القرن الثالث ربما كان حوالي عشر عدد السكان في الإمبراطورية مسيحيين، وكان قد جاء إمبراطور مسيحي أيضاً بالاسم على الأقل، كما يبدو أن هناك إمبراطوراً آخراً قد ضم يسوع المسيح إلى الآلهة التي يعبدها في مسكنه. وفي أماكن كثيرة صارت السلطات المحلية تألف التعامل الرسمي مع الزعماء المسيحيين المحليين، الذين كثيراً ما كانوا رجالاً بارزين في جماعاتهم، ويلعبون كأساقفة دوراً كبيراً في إدارة شؤونها وفي تمثيلها. ولقد كانت لدى الإمبراطورية هموم أخرى أولى من هذه الديانة التي لا يسعى أفرادها لتسبب المتاعب.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://resalahmasriyah.mam9.com
Eng. Ahmedzoubaa
Admin
Eng. Ahmedzoubaa


عدد المساهمات : 1216
تاريخ التسجيل : 28/08/2010
العمر : 50

الفصل الرابع - العالم اليوناني Empty
مُساهمةموضوع: رد: الفصل الرابع - العالم اليوناني   الفصل الرابع - العالم اليوناني Emptyالثلاثاء 14 يونيو 2011 - 8:14

فرثية وفارس



منذ عام 92 ق.م كان جيش روماني قد وصل إلى نهر الفرات، وللمرة الأولى صارت الجمهورية على اتصال مباشر بالفرثيين، وهم شعب سوف يلعب دوراً هاماً في شؤون الرومان طوال القرون الثلاثة التالية. وهذا ما حدث بعد حوالي أربعين سنة عندما غزا جيش روماني بلاد الرافدين، فمحي خلال أسابيع قليلة عن بكرة أبيه في واحدة من أبشع الكوارث العسكرية في التاريخ الروماني، وبات من الواضح أن الفرثيين شعب لا يسهل التدخل في شؤونه. كان الفرثيون شعباً آخر من تلك الشعوب الهندية الأوروبية البدوية الأصل الآتية من آسيا الوسطى، وكانوا مشهورين بطريقتهم في القتال، فكانوا يتظاهرون بالفرار ثم يستديرون بسروجهم لإطلاق السهام نحو من على ظهور الخيل وهي تجري، ومن هنا أتت الرمية الفرثية. وكانوا قد اختاروا الاستقرار في جنوب شرقي بحر قزوين، في منطقة صارت تعبرها بعد ذلك طريق هامة للقوافل من الصين إلى بلاد الشام وهي طريق الحرير، وسوف تجلب هذه الطريق الثروة للملوك الفرثيين في المستقبل. وكانوا يعيشون هناك تحت حكم الفرس أولاً ثم تحت حكم السلوقيين، إلى أن ضاق الحاكم الفرثي المحلي في منتصف القرن الثالث ق.م بحكم الأخيرين وقرر أن يخلع نيرهم، فكانت تلك بداية المملكة الفرثية المستقلة التي سوف تستمر حوالي خمسمائة عام. في إحدى مراحلها في القرن التالي كانت الإمبراطورية الفرثية تمتد من بلخ* في الشرق حتى بابل والفرات الذي يفصلها عن سوريا في الغرب أي كل ما بقي في ذلك الحين من المملكة السلوقية وحتى أباطرة الصين ارتأوا أن يفتتحوا معها علاقات دبلوماسية وربما كان من أسباب ذلك شهرة الخيول الفرثية البديعة التي كان الصينيون يقدرونها أيما تقدير. وكان الملوك الفرثيون يسمون أنفسهم على قطع نقودهم الملك العظيم أو ملك الملوك وهي ألقاب تقليدية لحكام فارس، وكانوا يدعون أنهم ورثة سلطة الأخمينيين. ولكن فرثية لم تكن في أيامها الأولى دولة مركزية منظمة على الأرجح، بل كانت أشبه بتحالف من النبلاء الكبار الذين يأتون بالفرق العسكرية المكونة من أتباعهم ليضموها إلى جيش سيدهم. وعندما واجه الرومان جيشهم كان هذا قوة حربية مخيفة، فعدا عن خيالته رماة السهام المشهورين كان فيه سلاح غير موجود عند الرومان هو سلاح الخيالة المدرعين بدروع ثقيلة، والذين يمتطون خيولاً مغطاة هي أيضاً بدروع ذات زرد.

لقد ظلت روما وفرثية تتنازعان على أرمينيا زمناً طويلاً ، وهي مملكة حدودية إلى الشرق من الأناضول كان كل منهما يعتبرها ضمن مجاله، واستمرت الصراعات سجالاًً بينهما، مرة ينتصر هذا ومرة ذاك، وفي إحدى المرات احتل جيش روماني العاصمة الفرثية، إلا أن الحدود لم تتغير كثيراً. كانت منطقة النزاع هذه بعيدة جداً عن روما، لذلك لم يكن بإمكانها أن تتمسك بفتوحاتها هناك إلا بمجهود كبير ومصاريف باهظة، كما أن مشاكل الملوك الفرثيين في بلادهم كانت تشغلهم وتمنعهم من طرد خطر الرومان من آسيا بشكل كامل. وفي حوالي عام 225 م قتل آخرملك فرثي على يد حاكم فارس الذي كان تابعاً له، وهذا الرجل الذي أطاح به اسمه أردشير وسوف يحيي أحفاده عظمة الأخمينيين وأبهتهم من جديد، ويعيدون السيادة الفارسية إلى قسم كبير من الشرق الأدنى.

كان تلك الإمبراطورية الفارسية الساسانية التي سميت على اسم ساسان أحد أجداد أردشير والتي سوف تصبح ألد أعداء روما. لقد سعى حكام ساسان للتشديد على استمرارية الماضية، فاتخذوا الألقاب الملكية الفارسية التقليدية والديانة الزردشتية، كما أن أردشير ادعى الحق بكل الأراضي التي كان يحكمها داريوس أعظم الأخمينيين. وكانت تقاليد الإدارة الساسانية تعود لزمان أبعد من هذا أي إلى آشور وبابل، وكان ادعاء الملك بالسلطة الإلهية، إلا أن هذه الإدعاءات لم تسلم من النزاع، فقد حصلت صراعات بين الملكية وكبرى أسر النبلاء التي ادعت التحدر من الزعماء الفرثيين القدامى الذين كانوا يريدون الاحتفاظ بالسلطة في أيديهم. ولكن في النهاية وبعد قرون من الصراع، سوف تعيش الإمبراطورية الساساينة فعلياً حياة أطول من حياة الإمبراطورية الرومانية، وقد زاد من خطرها أنها ظهرت في وقت كانت روما فيه مكبلة بالأخطار في أماكن أخرى وبالاضطراب في شؤونها الداخلية، وبقي الوضع دوماً على هذه الصورة. فقد جاء مثلاً بين عامي 226-379 م خمسة وثلاثون إمبراطورياً رومانياً، بينما لم يحكم في فارس إلى تسعة ملوك ساسانيين، وكان لفترات الحكم الطويلة هذه والاستقرار الملازم لها ميزات كبيرة. ربما كان شابور الأول (241-272) م أبرز ملوك الساسانيين على الأقل حتى نهاية سلالته، وقد أسر ذات مرة إمبراطوراً رومانياً هو فاليريانس المسكين الذي يقال أن الفرس سلخوا جلده حياً وحشوه، ولكن قد لاتكون هذه الرواية صحيحة. كما أن شابور فتح أرمينيا وغزا مقاطعتي سوريا وكبدوقية الرومانيتين في مناسبات عديدة. وقد مرة بعد ذلك فترات طويلة من السلام بين روما وفارس، إلا أن هاتين القوتين الكبيرتين لم تتمكنا من التعايش الهادئ قط.

كانت الإمبراطورية الرومانية قد بلغت أقصى مداها قبل هذا بزمن طويل، وعندما مات الإمبراطور ترايانس – تراجان في عام 117م. وكانت تغطي في ذلك الحين مساحة تبلغ حوالي نصف مساحة الولايات المتحدة الحالية، وكانت أراضيها تمتد من شمال غربي إسبانيا حتى الخليج الفارسي. وكان أرمينيا قد ضمت في عام 114 م، فوصل هذا بحدود روما إلى بحر قزوين في الشمال الشرقي، وكانت مقاطعة داسيا الكبيرة إلى الشمال من الدانوب قد فتحت قبل ذلك ببضع سنوات.

صحيح أنهم اضطروا للتخلي عن بعض تلك الأراضي فور احتلالها، خاصة الواقعة وراء الفرات، ولكن هذه الرقعة الواسعة كانت مصدر مشاكل أمنية هائلة حتى من دونها. ورغم أنها لم تكن هناك قوة كبرى تهدد روما إلا في الشرق وهي دولة مثل روما قادرة على حشد الجيوش الكبرى في ميادين القتال وتنفيذ الخطط الدبلوماسية والإستراتيجية طويلة الأمد، فإن المشاكل في المناطق الأخرى باتت أعصى عن المعالجة بمرور الزمن. وربما كانت أفريقيا هي المكان الوحيد الذي بقيت فيه الأمور هادئة بعد ضم موريتانيا في عام 42 م، إذ لم يكن لروما هناك جيران ذو شأن، ولم تكن فيها مجموعات سكانية هامة خلف حدود الحكم الروماني مباشرة، حيث لاشيء سوى الصحراء الممتدة بلا نهاية.





* مدينة قديمة في أفغانستان غربي مزار شريف وجنوبي مجرى آمودريا




الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://resalahmasriyah.mam9.com
Eng. Ahmedzoubaa
Admin
Eng. Ahmedzoubaa


عدد المساهمات : 1216
تاريخ التسجيل : 28/08/2010
العمر : 50

الفصل الرابع - العالم اليوناني Empty
مُساهمةموضوع: رد: الفصل الرابع - العالم اليوناني   الفصل الرابع - العالم اليوناني Emptyالثلاثاء 14 يونيو 2011 - 8:14

أوروبا: الحدود المحصنة*

أما في أوروبا فكانت الأمور مختلفة، إذ كانت توجد على طول الحدود الممتدة من البحر الأسود إلى مصبات نهر الراين شعوب جرمانية كثيراً ما كان الرومان في حالة حرب معها، وكانوا قد طردوا بعضها من مواطنها الأصلية، ولكن الجرمان كانوا خصوماً أشداء. كان أوغسطس قد أمل بتوسيع حدود الإمبراطورية حتى نهر الإلب – لابه- ولكن بات من الواضح أن هذا غير ممكن، خاصة بعد الكارثة الكبرى التي حلت بالجيش الروماني في عام 9 م حيث محيت ثلاثة فيالق عن بكرة أبيها في هزيمة نالت من معنويات الرومان بصورة كبيرة، حتى إنهم لم يسمحوا من بعدها بظهور أرقام تلك الفيالق في لائحة الجيش، وبسبب المشاكل الناجمة عن وجود هذه الشعوب ثم صنع الحدود المحكمة للإمبراطورية.

ولم يكن الهدف من هذه الحدود تبيان أين تنتهي مسؤوليات حكومة، وتبدأ مسؤوليات حكومة أخرى فقط، كما هي الحال في الحدود بين أكثر الدول اليوم، بل كان الغرض منها حماية ما يكمن داخلها وفصله عما يقبع خارجها. كانت الحدود تفصل بين درجتين متباينتين من الثقافة، فضمنها تقع أوروبا اللاتينية المتميزة عن المجتمعات الجرمانية في الشمال وخلف نهر الدانوب، ولم يكن السلاف وصلوا إلى خشبة المسرح بعد. فعلى الجانب الروماني من الحدود كان يسود النظام والقانون والأسواق المزدهرة والمدن الراقية، أي باختصار الحضارة، بينما كانت تنتشر على الطرف الآخر المجتمعات القبلية والتخلف والأمية والبربرية، وكان من المستحيل بالطبع أن تنعزل هاتان المنطقتان انعزالاً كاملاً والحقيقة أن الحركة بالاتجاهين لم تنقطع قط، إلا أن الرومان كانوا ينظرون إلى ماوراء الحدود نظرة حذر ويقظة. وكانوا يقيمون هذه الحدود على عوائق طبيعية كلما أمكنهم ذلك، وكان أكثرها على طول نهري الراين والدانوب، أما في الفجوات الواقعة بين تلك العوائق الطبيعية فكانوا يبنون التحصينات من التراب أو الخشب أو الحجر أحياناً، ويضعون على طولها معسكرات دائمة للفيالق تربط فيما بينها أبراج إشارة ونقاط دفاع أصغر. وكانت الطرق تمتد على طول الحدود بحيث يستطيع الجنود أن يسيروا بسرعة من نقطة إلى أخرى، وكانت هناك أشغال طويلة تمتد بين أعلى الراين والدانوب، وأشغال أخرى في دوبروجا* تمتد حتى البحر. ولكن أبرز تلك الأشغال هو ما يعرف اليوم بسور هادريانس على اسم الإمبراطور الذي بناه، وقد ابتدأ العمل في هذا السور حوالي 122 م في شمال بريطانيا بين نهر التاين ولسان سولواي البحري، وهو مبني من الحجر ويمتد على طول ثمانية أميال رومانية حوالي 120 كم وتحميه من الجانبين خنادق يبلغ عرضها حوالي عشرة أمتار وعمقها ثلاثة، فضلاً عن ستة عشر حصناً، ونقاط دفاع أصغر تبعد الواحدة عن الأخرى حوالي 1.5 كم، وبرجين بين كل نقطتي دفاع، وقد قال مدون سيرة هادريانس إن الغرض من هذا السور كان فصل الرومان عن البرابرة. ولكن هذه الحواجز لم تكن فعالة إلا إذا زودت تزويداً كافياً بالرجال، وقد ضعفت الحامية التي تحرس سور هادريانس مرتين، مرة عند نهاية القرن الثاني ومرة خلال القرن الرابع، فاجتاحته عندئذٍ الشعوب الاسكتلندية والبيكت البربرية التي غزت الإمبراطورية حتى مسافة بعيدة في الجنوب وأعملت فيها النهب والتدمير.

أما في القارة الأوروبية فرغم أن الحدود على نهر الراين كانت قصيرة نسبياً فقد كانت تحرسها ثمانية فيالق، في عهد أوغسطس كان أفراد الجيش جنوداً متطوعين يخدمون خدمة طويلة وصاروا يأتون من المقاطعات بصورة متزايدة، وكثيراً ما كانوا من البرابرة، ولم تقتصر خدمتهم على الوحدات الخاصة ذات الخلفية المحلية مثل الرماة المهرة في جزر البليار بإسبانيا والخيالة المدرعة الثقيلة في مقاطعات الدانوب بكل كانوا يخدمون أيضاً في فيالق المشاة التي كانت قلب قوة روما العسكرية. وكان هناك في العادة ثمانية وعشرون فيلقاً تبلغ حوالي 160.000 رجل بالإجمال، تخدم كلها على طول الحدود أو في المقاطعات البعيدة مثل إسبانيا ومصر، وكان هناك نفس هذا العدد من الرجال تقريباً في الوحدات الاحتياطية والمختصة كالخيالة. إن الخدمة الطويلة في المناطق نفسها قد جعلت الفيالق أقل حركة مع مرور الزمن، فكانت مدن الحاميات تضم مجموعات كبيرة من الأتباع وعائلاتهم والذين يصعب عليهم أن يتنقلوا من مكان لآخر. إلى أن الشبكة الداخلية للطرق ظلت تؤمن لقواد الإمبراطورية ميزات كبيرة في تحريك قواتهم بسرعة، وقد تغير توزيع وحدات الجيش رويداً رويداً بصورة تعكس الاحتياجات الإستراتيجية، ففي بداية القرن الثالث كان نصف فيالق الراين قد نقل، بينما تضاعف حجم الجيش على الدانوب بمقدار الثلثين.





* the limes


* منطقة في رومانيا بين البحر الأسود والدانوب
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://resalahmasriyah.mam9.com
Eng. Ahmedzoubaa
Admin
Eng. Ahmedzoubaa


عدد المساهمات : 1216
تاريخ التسجيل : 28/08/2010
العمر : 50

الفصل الرابع - العالم اليوناني Empty
مُساهمةموضوع: رد: الفصل الرابع - العالم اليوناني   الفصل الرابع - العالم اليوناني Emptyالثلاثاء 14 يونيو 2011 - 8:15

ضغوط البرابرة

بعد عام 200 م بقليل كان ضغط الشعوب الجرمانية على الحدود في تصاعد مستمر وباتت تطالب بعبور تلك الحدود والاستقرار ضمن أراضي الإمبراطورية. ولاريب أن بعضهم قد اجتذبتهم الحضارة والثروة، ولكن كانت هناك أيضاً قوة أخرى هامة تؤثر عليهم، وهي ضغط شعوب لشعوب أخرى من الشرق نحو الغرب نتيجة تغيرات في آسيا الوسطى إما طبيعية كالمناخ أو سياسية مثل مضايقة أباطرة الهان في الصين لشعب الهسيونغ نو الذي سوف يعرفه الأوربيون لاحقاً باسم الهون، فكانت تجري إذاً عملية دفع للشعوب نحو الغرب، وفي نهاية السلسلة كانت القبائل الجرمانية التي صار محتماً عليها أن تصطدم بحدود الإمبراطورية الرومانية.

يبدو أن البرابرة لم يكونوا قادرين على حشد أكثر من عشرين أو ثلاثين ألف رجل في ميدان المعركة مرة واحدة، ولكن هذه الأعداد كانت أقوى من قدرة الإمبراطورية في القرن الثالث، وكان من المستحيل عليها أن تصدهم إلى الأبد بسبب الضغوط والمشاغل التي كانت تؤرقها في أماكن أخرى. وقد سمح أولاً لبعض قبائل الراين بالإقامة في الأراضي الرومانية، حيث جندوا عندئذٍ للمساعدة في حماية الحدود من القادمين الجدد.

وبعد ذلك عبر القوط، وهي عائلة جرمانية أخرى من شعوب نهر الدانوب في عام 251 م وقتلوا إمبراطوراً في معركة، وبعد خمس سنوات عبرت شعوب الإفرنج نهر الرين وسرعان ما راحت مجموعة أخرى هي الألمان تغير حتى ميلانو جنوباً. وفي تلك الأثناء تابع القوط مسيرتهم إلى اليونان ثم راحوا يضايقون إيطاليا وآسيا الصغرى من البحر.

وكان هذا زمناً عصبياً بالنسبة لروما، فبينما كانت هجمات البرابرة مستمرة بدأت مرحلة جديدة من الحرب الأهلية والنزاعات على الخلاقة، وقد قتل عدد من أباطرة القرن الثالث على يد جنودهم، ومات أحدهم على يد القائد العام لقواته. ثم ذبح الغاليون هذا الأخير بعد أن وشى به أحد ضباطه. وحتى الناس البعيدون عن هذه الأحداث العنيفة أصابتهم الضرائب الباهظة والانحسار الاقتصادي والتضخم الفظيع، ولم يعد الوجهاء المحليون يرغبون بالخدمة في مجالس المدن أو في الإدارة لأن هذه المناصب صارت تعني أنهم سيجلبون على أنفسهم كراهية الشعب بسبب جبي تلك الضرائب، وكثيراً ما كانت ضرائب عينية جراء تفاقم الأزمة المالية. كما أن هناك علامات أخرى على التدهور هي إعادة بناء الأسوار الدفاعية حول المدن ، ولم تكن هناك حاجة لتلك الأسوار على عهد الأباطرة الأنطونيين، أما الآن فحتى أسوار روما قد تم ترميمها، كما بنيت في القرن الثاني تحصينات حول مدن لم تحصن من قبل قط.




ديوقليتيانس وقسطنطين



لقد تغير طالع روما في نهاية القرن الثاني عندما جاءتها سلسلة جديدة من الأباطرة الأكفاء، وكان أول من قلب التيار رجلاً من مقاطعة إليريا هو أورليانس الذي سماه مجلس الشعب تسمية تليق به هو محيي الإمبراطورية الرومانية، ولكنه اغتيل حين كان على وشك غزو فارس، إلا أن خلفاءه كانوا هم أيضاً عسكريون أكفاء مثله، فبعد عشر سنوات من موت أورليانس ارتقى العرش رجل آخر من إليريا هو ديوقليتيانوس، الذي أعاد صنع قوة الإمبراطورية القديمة ومجدها ظاهرياً على الأقل، كما أنه بدل طريقة عملها. وكان ديوقليتيانوس ذا أصول متواضعة وتفكير تقليدي جداً، وكان ينظر لدوره نظرة عالية جداً، فقد اتخذ اسم جوبيتر وهو رب الأرباب عند الرومان أي زفس عند الإغريق، ويبدو أنه كان يرى نفسه مثل إله يحمل العالم المتحضر بمفرده.

وحاول ديوقليتيانوس أن يقدم علاجات أكثر عملية لمشاكل الإمبراطورية، فجرب أن يضبط الأسعار والأجور من أجل إيقاف التضخم ولكنه محاولته هذه انتهت بكارثة. إلا أن أهم خطوة اتخذها كانت خطوة ربما لم ير هو نفسه نتائجها البعيدة، إذ أنه قد مهد الطريق أكثر من أي رجل آخر لتقسيم الإمبراطورية إلى كيانين شرقي وغربي سوف يسير كل منهما في سبيله. وقد تجادل الناس كثيراً حول ما إذا كانت هذه النتيجة حتمية أم لا. كانت روما قد صهرت جزءً كبيراً من إمبراطورية الاسكندر في الشرق المتهلّن بالعالم الإغريقي الغربي الذي لم يزره ذلك الفاتح الكبير قط، ولكن بقيت هناك دوماً فروق واضحة بين الاثنين، إلا أن الضغوط لم تظهر إلى أن تبدت مصاعب القرن الثالث. وبات من المستحيل معالجة مشاكل الغرب مع وجود الحاجة لموارد الشرق الغني ضد البرابرة والفرس. في عام 285 م جرب ديوقليتيانس أن يحل المشاكل عن طريق تقسيم الإمبراطورية على طول خط يمتد من الدانوب إلى دلماتيا*، وعين إمبراطوراً شريكاً له على النصف الغربي يحمل مثله لقب أوغسطس، وكان لكل منهما مساعد يعني كخليفة له ويسمى قيصراً. ثم تبعت ذلك تغيرات أخرى، فزالت سلطات مجلس الشيوخ القليلة الباقية، ولم تعد عضويته إلا لقباً فخرياً، كما قسمت المقاطعات السابقة إلى وحدات أصغر يحكمها رجال معينون من قبل الإمبراطور، وأعيد ترتيب الجيش ووسع كثيراً وأعيد التجنيد الإلزامي وسرعان ما صار هناك حوالي نصف مليون رجل جاهز للقتال.

ولاريب أن هذه الترتيبات قد حسنت الأوضاع لفترة من الزمن، ولكن كانت لها أيضاً نقاط ضعف. إن تلك الآلية التي أريد منها تأمين الخلافة السلسة لمنصبي أوغسطس لم تعمل إلا مرة واحدة عندما تنازل ديوقليتيانس وزميله عن العرش في عام 305 ، وانسحب إلى قصره الكبيرة في سبليت على ساحل كرواتيا التي مازالت آثاره تحيط بجزء كبيرة من المدينة الحالية هناك. لقد اقتضى كبر حجم الجيش فرض المزيد من الضرائب على سكان الإمبراطورية الذين تناقصت أعدادهم. ولكننا نرى على المدى البعيد أن خطوة عظيمة الأهمية قد اتخذت؛ فرغم أن خلفاء ديوقليتيانس لم يلتزموا بتقسيم الإمبراطورية حسب المخطط الذي وضعه، ورغم حصول محاولات أخرى لحكمها كوحدة واحدة، فإن كل إمبراطور في المستقبل كان مضطراً عملياً لتقيل مقدار كبير من الانقسام بين الشطرين.

وثمة جانب آخر من جوانب مجهود الإصلاح هذا، هو زيادة التشديد على سلطة الحاكم الفريدة والإلهية تقريباً، وهي في الحقيقة ناحية شرقية، وتدل على أن الناس لم يعودون يثقون بالإمبراطورية ثقة كاملة ولا يشعرون بالولاء لها كما في السابق، وسوف يكون هذا التطور على أهمية كبيرة لمستقبل المسيحية وفأل شر لتقاليد التسامح الديني للإغريقية الرومانية القديمة. لقد أعيد إحياء مسألة تقديم المسيحيين للقرابين للإمبراطور، وفي عام 303 م بدأ ديوقليتيانس آخر اضطهاد عام للمسيحية، ولكنه لم يدم طويلاً بعد تنازله عن العرش الذي حدث بعد ذلك بسنتين، ولو أنه استمر في مصر وآسيا فترة أطول بقليل منه في الغرب.

والمفارقة هي أن المسيحية كانت في ذلك الحين على عتبة أولى انتصاراتها العالمية الكبرى بفضل عمل الإمبراطور الذي يمكننا اعتباره أهمهم جميعاً، ألا وهو قسطنيطين الذي نادى به جيشه إمبراطوراً في مدينة يورك في إنكلترا عام 306 م والذي أعاد توحيد الإمبراطورية في عام 324م بعد عقدين من الحرب الأهلية. كان قسطنطين قد قرر أن يرى ما إذا كان إله المسيحيين سيساعده، وليس ثمة ما يدعو للشك بصدقه وإخلاصه الديني، إذ يبدو أنه كان دوماً يتوق لعبادة توحيدية وظل لزمن طويل يعبد إل الشمس الذي كانت عبادته مرتبطة بعبادة الإمبراطور. وفي عام 312 م تراءت له رؤيا عشية معركة هامة جعلته يأمر جنوده أن يضعوا على تروسهم حروفاً ترمز للمسيحية كطريقة لإظهار تبجيله لإله هذه الديانة. وقد ربح قسطنطين المعركة بالفعل، وسرعان ما شمل تسامح الإمبراطور وعطفه المسيحية، فراح يمنح الهبات للكنائس، ولو أن نقوده بقيت سنوات طويلة تحمل رمز الشمس، وبدأ يشارك في شؤونها الداخلية عن طريق التحكيم في الخلافات الكنسية الهامة عندما تطلب منه ذلك الأطراف المتنازعة، وإننا نشعر في أعماله بأنه يتحول رويداً رويداً نحو اعتناق المسيحية.

ومنذ عام 320 م لتعد الشمس تظهر على نقوده وصار على جنوده أن يحضروا المواكب الكنسية، وفي عام 321 م جعل يوم الأحد عطلة عامة، ولكنه قال إن هذا كان توقيراً لإله الشمس، كما بنى الكنائس وشجع معتنقي المسيحية عن طريق منحهم الجوائز والوظائف. وأخيراً أعلن أنه مسيحي، ولو أنه لم يتنكر رسمياً للديانات والعبادات القديمة قط ، ولم يتلق قسطنطين المعمودية إلا عندما كان على سرير الموت، مثل كثيرين من المسيحيين الاوائل. ولكنه في 325 م ترأس أول مجمع مسكوني للكنيسة في نيقيا، والمجمع المسكوني هو الذي يحضره الأساقفة من كافة أرجاء العالم المسيحي، فكانت هذه بداية التقليد الذي يمنح الأباطرة سلطة دينية خاصة والذي سوف يستمر حتى القرن السادس عشر. لقد ساهم قسطنطين أيضاً مساهمة أخرى كبيرة في المستقبل عندما قرر أن يجعل عاصمته في بيزنطية، وهي مستوطنة إغريقية قديمة عند مدخل البحر الأسود سوف تعرف بالقسطنطينية. وكان يرغب أن يبني هناك مدينة تضاهي روما نفسها، لكنها غير ملوثة بالديانة الوثنية، وسوف تظل القسطنطينية عاصمة إمبراطورية طوال ألف سنة ومركزاً للدبلوماسية الأوروبية لخمسمائة عام أخرى. إلا أن أعمق الآثار التي تركها قسطنطين في تشكيل المستقبل إنما هو جعل الإمبراطورية مسيحية، إذ إنه كان يؤسس أوروبا المسيحية من دون أن يعلم، وقد قبل بحق أنه يستحق لقبه أي قسطنطين الكبير بسبب أهمية أعماله لا بسبب دوافعه أو شخصيته.

كانت الأخطار الخارجية على الإمبراطورية الشرقية تبدو في أيام قسطنطين أقل منها على الإمبراطورية الغربية، وقد ساهمت أعماله في زيادة الانقسام الثقافي بين الشطرين. كان الشرق أغنى بالسكان وقادراً على إطعام نفسه وجمع كميات أكبر من الضرائب ومن المجندين، أما الغرب فقد صار أفقر وتراجعت مدنه وصار يعتمد على استيراد الحبوب من أفريقيا وجزر المتوسط، وأضحى في النهاية معتمداً على تجنيد البرابرة للدفاع عن نفسه؛ كما ازداد تألق القسطنطينية رويداً رويداً حتى صارت تضاهي روما بل تفوقها بهاء. والأهم من كل هذا أن المسيحية ساهمت في تشديد الانفصال بين منطقتين اثنتين، فأصبح هناك غرب يتحدث اللاتينية فيه جماعتان مسيحيتان كبيرتان إحداهما رومانية -يرأسها أسقف هو بابا روما- والأخرى أفريقية، وازداد ابتعادهما عن الكنائس الناطقة باليونانية في آسيا الصغرى وسوريا ومصر التي كانت كلها أكثر تقبلاً للتأثيرات الشرقية وأشد تأثراً بالتقاليد الهلنستية.





* منطقة ساحلية في كرواتيا على بحر الأدرياتيك

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://resalahmasriyah.mam9.com
Eng. Ahmedzoubaa
Admin
Eng. Ahmedzoubaa


عدد المساهمات : 1216
تاريخ التسجيل : 28/08/2010
العمر : 50

الفصل الرابع - العالم اليوناني Empty
مُساهمةموضوع: رد: الفصل الرابع - العالم اليوناني   الفصل الرابع - العالم اليوناني Emptyالثلاثاء 14 يونيو 2011 - 8:15

نهاية الإمبراطورية في الغرب



لقد حكم أبناء قسطنطين الإمبراطورية حتى عام 361، ولكنها سرعان ما تقسمت من جديد فصار يحكمها إمبراطوران شريكان، ولم ينضم الشرق والغرب بعدها تحت حكم رجل واحد إلا مرة واحدة. كان هذا الرجل هو الإمبراطور ثيودوسيوس، الذي منع أخيراً عبادة الآلهة الوثنية القديمة، فوضع بذلك وزن الإمبراطورية بأكمله في كفة المسيحية وانقطع عن الماضي الروماني القديم.

إلا أن الأمور في أيامه ما برحت تتدهور في الغرب بصورة متسارعة، إلى أن اختفت الإمبراطورية الغربية في عام 500.

ولم يحدث زلزال ويبتلع المجتمع فجأة، أي أن الدولة الرومانية لم تزل من الوجود، بل إن الذي اختفى هو جهازها في الشطر الغربي، أو بالأحرى ما بقي منه. في القرن الرابع كانت علامات التراجع واضحة في الإدارة الإمبراطورية الغربية، وازدادت المطالب على مواردها المتناقصة، ولم تحدث فتوحات جديدة يمكن أن تساعد في دفع تكاليف الدفاع عنها. ومع ارتفاع الضرائب صار الناس يغادرون المدن ويحاولون العيش في الأرياف حيث يمكنهم أن يكتفوا بذاتهم ويهربوا من الضرائب. إن نقص المال هذا قد أفقر الجيش فجعله أكثر اعتماداً على المرتزقة البرابرة، وكلف هذا الأمر الدولة المزيد من المال، كما أنها كانت مضطرة لتقديم التنازلات للبرابرة بينما كانت حدودها خاضعة لضغوط موجات جديدة منهم.

وفي الربع الأخير من القرن الرابع هجم شعب بدوي شديد الشراسة من آسيا هو شعب الهون على الشعوب القوطية التي كانت تعيش على ساحل البحر الأسود والقسم الأسفل من الدانوب وراء الحدود الرومانية، ورتبت الإمبراطورية الشرقية بصورة سلمية استقرار اللاجئين منهم ضمن حدودها، ولكن أحد تلك الشعوب وهم شعب الفيزيغوط -القوط الغربيون- انقلبوا على الرومان وقتلوا في عام 378 م إمبراطوراً في معركة أدريانوبل، وسرعان ما تدفق المزيد والمزيد منهم ضمن أراضي الإمبراطورية حتى صاروا مثل إسفين يفصل القسطنطينية عن الغرب. وبعد سنوات قليلة عادوا يتحركون من جديد ولكن نحو إيطاليا هذه المرة، وكان الذي أوقفهم قائداً عسكرياً فانداليا يعمل في خدمة الإمبراطورية، ومنذ عام 406 م صارت الإمبراطورية تستخدم قبائل البرابرة كحلفاء foederati وهي كلمة تدل على البرابرة الذين لا يمكن مقاومتهم ولكن يمكن إقناعهم بالمساعدة. وكان هذا أقصى ما بوسع الإمبراطورية الغربية أن تفعله لحماية نفسها، وسرعان ما تبين أنه لم يعد كافياً.



التواريخ الرئيسية في القرون الأخيرة من الإمبراطورية الغربية



212 م كركلا يمنح المواطنة لجميع سكان الإمبراطورية الأحرار تقريباً

249 م بداية أول اضطهاد عام للمسيحيين

285 م ديوقليتيانس ينظم الإمبراطورية في نظام جديد هو النظام الرباعي

313 م مرسوم ميلانو يعيد للمسيحيين أملاكهم وحرية العبادة

330 م تكريس القسطنطينية كعاصمة

376 م القوط يعبرون الدانوب

406 م الفاندال والسويف يعبرون الراين

409 م الفاندال والألان والسويف يغزون إسبانيا

410 م انسحاب الفيالق من بريطانيا، الغيزيغوط ينهبون روما

412-414 م الفيزيغوط يغزون غاليا وإسبانيا

420 م الجوت والأنكلوسكسون يرسون في بريطانيا

429-439 م الفاندال يغزون شمال أفريقيا ويفتحون قرطاجة

455 م الفاندال ينهبون روما

476 م خلع آخر إمبراطور في الغرب رومولس أوغسطولس

وراحت الشعوب البربرية تتجول على طول الغرب اللاتيني وعرضه، ففي عام 410 نهب القوط روما نفسها، وكان هذا حدثاً فظيعاً جعل القديس أوغسطينس وهو أسقف أفريقي وأعظم آباء الكنيسة يكتب كتاباً (وهو أحد تحف الأدب المسيحي) وهو مدينة الله*، لكي يشرح كيف يسمح الله بحدوث شيء كهذا. وأخيراً بلغ الفيزيغوط في تقدمهم أكيتانيا في جنوب غربي فرنسا، ثم توصلوا إلى تفاهم مع الإمبراطور الذي أقنعهم بمساعدته في معالجة أمر شعب بربري آخر هو شعب الفاندال الذي كان قد اكتسح إسبانيا في ذلك الحين. ودفع الفيزيغوط بالفاندال في النهاية عبر مضيق جبل طارق، فاستقر الفاندال في شمال أفريقيا حيث جعلوا عاصمتهم في قرطاجة التي أقاموا فيها، ومنها عبروا المتوسط في عام 455 م لينهبوا روما مرة ثانية.

ولكن رغم فظاعة هذه الغارة فإن ضياع أفريقيا كان هو المصيبة الكبرى لأن القاعدة الاقتصادية للإمبراطورية الغربية قد تقلصت وصارت محصورة بجزء من إيطاليا. ومن الصعب أن نقول متى انتهى الإمبراطورية الغربية بالتحديد، لأن ملامحها كانت تتلاشى رويداً رويداً وقد استمرت الأسماء والرموز فيها حتى النهاية. وعندما صد الهون أخيراً عن الغرب في معركة كبيرة قرب تروا وهي مدينة على نهر السين بفرنسا الحالية، في عام 451 م كان الجيش الروماني مؤلفاً من فيزيغوط وإفرنج وسلتيين وبرغنديين، وكلهم برابرة تحت قيادة ملك فيزيغوطي، وفي عام 476 م قتل رجل بربري آخر الإمبراطور الأخير في الغرب فمنحته الإمبراطورية لقب "نبيل" وكانت الإمبراطورية الغربية قد حل محلها عدد من الممالك الجرمانية، ولو بقيت بعض الأشياء رومانية في الظاهر، ويعتبر عام 476 عادة تاريخاً مناسباً لنهاية قصة الإمبراطورية التي بدأت على عهد أوغسطس. إلا أن التاريخ لا يعرف النهايات الواضحة البسيطة، وإن الكثيرين من البرابرة الذي كان بعضهم قد تعلموا على يد الرومان قد اعتبروا أنفسهم الأمناء الجدد على ما بقي من سلطة روما، وظلوا يعتبرون إمبراطور القسطنطينية سيدهم الأعلى.




* نشرته دار المشرق ببيروت 2002، ترجمه الخورأسقف يوحنا الحلو




الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://resalahmasriyah.mam9.com
Eng. Ahmedzoubaa
Admin
Eng. Ahmedzoubaa


عدد المساهمات : 1216
تاريخ التسجيل : 28/08/2010
العمر : 50

الفصل الرابع - العالم اليوناني Empty
مُساهمةموضوع: رد: الفصل الرابع - العالم اليوناني   الفصل الرابع - العالم اليوناني Emptyالثلاثاء 14 يونيو 2011 - 8:16

أشياء تبدلت وأشياء استمرت



في نهاية القرن الخامس كان الكثير من البرابرة قد استقروا إلى جانب النبلاء القدامى في مقاطعات غاليا وإسبانيا وإيطاليا وتبنوا الأساليب الرومانية، بل إن بعضهم كان قد تنصر، ولم يقض البرابرة على الماضي الروماني إلا في الجزر البريطانية، لهذا لم تنته قصة الحضارة القديمة في عام 500 م بصرف النظر عما حل بالإمبراطورية. قبل قرون عديدة كان شاعر روماني قد قال عن إحدى فتوحات روما ”إن اليونان الأسيرة قد أسرت فاتحها الهمجي”، ويقصد بهذا وهو على حق أن الحضارة الإغريقية قد اسرت قلوب الرومان الذين استولوا عليها، وقد تكررت الصورة في الغرب عندما انهارت الإمبراطورية الرومانية على يد البرابرة. لذلك استمر تأثير الرومان في التاريخ، ومن خلالهم استمر أيضاً تأثير الإغريق واليهود، وسوف تكون هناك إمبراطورية رومانية مركزها مدينة بيزنطية طوال ألف عام تقريباً، وحتى في عام 1800 كان في أوروبا ثمة شيء اسمه الإمبراطورية الرومانية المقدسة. بل مازال رجال الدين المسيحيون اليوم يرتدون لباساً مأخوذاً من لباس نبلاء الرومان في القرن الثاني الميلادي، ومازالت باريس ولندس وإكستر وكولونيا – كولن- وميلانو وعشرات غيرها من المدن مراكز هامة للسكان مثلما كانت في الأزمنة الرومانية. ولو أنها مرت بقرون ذوى فيها ازدهارها عما كان عليه على عهد الأباطرة الأنطونيين. ومازال قسم كبير من خارطة أوروبا على الشكل الذي رسمه الرومان عندما وضعوا حامياتهم وبنوا طرقهم، وكثيراً ما كانت مستوطناتهم تزيد من تأثير التقسيمات الطبيعية.


ولكن ربما كانت الاستمرارية أوضح اليوم في الأمور غير المادية، وأهم هذه الأمور وأولها هي اللغة، لأن اللغات الأوروبية غنية جداً بالكلمات المأخوذة عن اليونانية واللاتينية، وهما اللغتان اللتان أتى بهما الكتاب المقدس إلى أوروبا للمرة الأولى. كما أن الطرائق التي نستخدمها في حساب الوقت وتقسيمه إنما أتتنا من العالم الإغريقي الروماني، لأن يوليوس قيصر هو الذي تبنى اقتراح رجل إغريقي من الإسكندرية بأن السنة المصرية المؤلفة من 365 يوم مع إضافة يوم واحد كل أربع سنوات هي أفضل من التقويم الروماني التقليدي المعقد، وعلى عهد قسطنطين صارت الفكرة اليهودية عن يوم راحة sabbeth كل سبعة أيام فكرة مقبولة. كما أننا ندين بالطبع للمسيحيين الأوائل بتقسيم التاريخ إلى ماقبل الميلاد وما بعده، وهو تقسيم مازال كل العالم المسيحي وأكثر العالم غير المسيحي يستخدمه اليوم، فبعد عام 500 بقليل قام راهب بحساب تاريخ ميلاد المسيح وأخطأ فيه بمقدار بضع سنوات، ولكن حكمه مازال إلى اليوم أساس التقويم الذي نستخدمه، ويمكنك أن تجد أمثلة لاحصر لها في الرياضيات الإغريقية والقانون الروماني واللاهوت المسيحي وغيرها من المجالات عن أفكار ورثناها من العصور القديمة ومازال لها تأثير تاريخي كبير حتى يومنا هذا. عندما صار الناس في عصور لاحقة ينظرون إلى الماضي أدهشتهم كثرة الأشياء التي يدينون بها للحضارة التي أنتجتهم، فوجدوا فيها الإلهام والوحي، كما وجدوا فيها المحك لتقييم أعمالهم، ولو أن الأوروبيين قد بالغوا أحياناً في إنجازات الإغريق والرومان، وإن لدى أكثر الحضارات عصوراً كلاسيكية تأخذ عنها المعايير التي تقيم بها إنجازاتها اللاحقة. ولقد صارت العصور الكلاسيكية أسطورة عما تستطيع الحضارة الإتيان به وعما ينبغي على الناس أن يفعلوه، ولهذا السبب ما برح الناس اليوم يسيرون بين آثار هذا الماضي العظيم مثل أجدادهم في العصور الوسطى. ومابرح يفتنهم.



الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://resalahmasriyah.mam9.com
 
الفصل الرابع - العالم اليوناني
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
رسالة مصرية ثقافية :: قسم العلوم التربوية والأدبية :: التاريخ العربي :: كتاب تاريخ العالم-
انتقل الى: