مقدمة
لقد كتبت منذ سنوات كتاباً عنوانه ” تاريخ العالم” ثم اقترح علي ناشري أن أكتب تاريخاً موجزاً للعام، وكنت أعلم أن هذا الأمر سوف يكون أصعب من تأليف الكتاب الأكبر، فليست هذه نسخة مركزة من الكتاب السابق، لأنك لا تستطيع أن تختصر تاريخاً عاماً بأن تختزل الصفحات إلى فقرات والفقرات إلى جمل، بل يجب أن تعيد توزيع المواضيع بشكل مختلف وأحياناً بتسلسل مختلف أيضاً إذا أردت ضم الأفكار الأساسية في حيز أصغر.
كما أنه لابد من حذف بعض الأشياء بينما تأخذ أشياءً أخرى وزناً أكبر، ولا بأس بذلك، لأن التاريخ إنما هو سرد الأمور التي يجدها المؤرخ هامة عندما يريد عن الإجابة عن أسئلة يطرحها، فالحقيقة أنه مهما بدا موضوعه صغيراً ومهما كان كتابه كبيراً، فإن لن يقدر إلا على ذكر الأشياء التي يراها هامة ومرتبطة بموضوعه من وجهة نظره في الإجابة عن الأسئلة التي يطرحها هو نفسه.
قد يستغرب بعض القراء اختياري للأشياء أو الأشخاص الذين وجدتهم هامين ومرتبطين بموضوعي في هذا الكتاب، وربما وجدوا تفسيراً لهذا في المقدمات التي كتبتها لطبعات من النسخة السابقة الأكبر حيث كانت مقاربتي أطول. وأنا لم أعط هذا الكتاب الزمن نفسه لكل جزء من أجزاء العالم ولا لكل فرع من فروع البشر، فصحيح أن اتجاه التاريخ وشكله يتحددان عادة بأعمال الجماعات الكبيرة من الناس، إلا أنه ليس ديمقراطياً أبداُ، إذ أن الأعداد الكبيرة من البشر ذات دور هام في تحديد مجرى الأمور عندما يرتحل الناس في هجرات كبيرة مثلاً أو يضعون أنماطاً من الزراعة أو الصناعة ترسم مصائر أماكن هامة من كوكبنا، أو عندما يتبعون معلماً دينياً أو عقائد أو حتى قادة سياسيين بأعداد غفيرة، وما إلى ذلك.
ولكن الأعداد وحدها لا تشكل العنصر الهام في التاريخ؛ فالصين مثلاً تضم منذ بداية الأزمنة التاريخية نسبة كبيرة من العرق البشري، إلا أن تأثيرها بقي شبه معدوم لزمن طويل. كذلك فإن النساء يشكلن نصف العرق البشري تقريباً، ورغم أنه كانت لهن أحياناً سلطة ونفوذ كبيران في بعض الأماكن، فإن أكثر المجتمعات كانت ومازالت تعطي سلطة ونفوذاً أكبر للرجال.
ولهذا يحق أن نقول أن التاريخ هو قصة الظلم والقمع التي مارسته الترتيبات الاجتماعية ”الأبوية” على النساء، ولا يهمنا ما فعلته الأعداد الكبيرة من البشر فقط، بل تهمنا أيضاً مصائر الأعداد الكبيرة منهم.
إن أكثر طريقة منطقية في تحديد الأشياء المهمة في التاريخ هي أن نعرف عدد الناس الذين تأثروا بها في المحصلة. فقد غيرت بعض الأفكار والحقائق الجغرافية والاكتشافات والمجتمعات وحتى بعض الأفراد حياة مئات بل آلاف الملايين من الأشخاص، وهي التي حددت السبل التي سلكتها البشرية دون سواها.
ويجب أن أقول هنا أن هذه الرواية المختصرة لتاريخ العالم لا تسمح إلا بذكر أسماء أفراد قلائل هم الذين غيروا الإمكانيات المتاحة لغيرهم من البشر. ولا يعني هذا أن تاريخ الملايين من الناس المغمورين غير جدير بالدراسة، بل إن كل شيء في الماضي يستحق الدراسة، ولكن يبقى هذا الكتاب الموجز دليلاً على أن تلك الملايين من الناس ربما كانت ستعيش بصورة مختلفة تماماً لو لم يأت أولئك الأفراد القلائل بأعمالهم التي غيرت العالم.
ولما كان هذا الكتاب قد نشأ من كتاب سابق له فيجب علي من جديد أن أوجه شكري لكل من ساعدني والذين شكرتهم في المقدمات السابقة. ولكن يجب أيضاً أن أقدم اعترافاً خاصاً بالجميل لشخصين اثنين من أجل مساهمتهما في هذا الكتاب. إنني أدين بالمعروف الكبير لناشري ديفيد أتول لأنه هو الذي اقترح هذا المشروع أصلاً، ولمحررتي آن لوسي نورتن لأنها كثيراً ما حفزت همتي الضعيفة في هذا المشوار الذي كان كانت العوائق فيه أكبر مما ظننا في البداية. وأجد نفسي الآن ممتناً لهما امتناناً عميقاً وأشكرهما شكراً حاراً، ولو أنني لم أكن واعياً لفضلهما هذا أثناء إنجاز العمل.
الخامس من آب (أغسطس) 1993