Eng. Ahmedzoubaa Admin
عدد المساهمات : 1216 تاريخ التسجيل : 28/08/2010 العمر : 50
| موضوع: ثقافة الفوضى··!: الخميس 24 فبراير 2011 - 16:56 | |
| ثقافة الفوضى··!: دكتور : محمد سليم العوا
في الستينيات من القرن العشرين، شاع على ألسنة المتحدثين وعلى أقلام الكاتبين، تعبير الغزو الثقافي وتعبير الغزو الفكري ، وتنازع المتحدثون والكاتبون فيما إذا كان ذلك الغزو حقيقة أم خرافة، وصدرت كتب كثيرة تتناول الموضوع نفسه· وكان المراد بهذا الغزو -آنذاك- هو شيوع أفكار آتية من خارج الحدود يُراد لها أن تسود في بلادنا· فكان اليساريون يرون الأفكار الرأسمالية الغربية تمثل غزواً، والعادات الأوروبية والأميركية تمثل غزواً، والمدارس الأجنبية تمثل غزواً· وكان الليبراليون يرون الأفكار اليسارية -ماركسية واشتراكية- تمثل غزواً، والتطبيقات الاقتصادية المنقولة من المعسكر الشيوعي أو اليسار الأوروبي أو الشيوعية الصينية تمثل غزواً· وفي مواجهة هؤلاء، جميعاً، كان الإسلاميون يرون كل وافد ثقافي أو فكري أو سياسي أو سلوكي، غزواً غير مقبول، ويرون مواجهته وتحديه بأفكار، ونماذج سلوك فردي واجتماعي، مستفادة من أصول ثقافتنا العربية والإسلامية واجباً على أولي النهى وأصحاب القدرة على التأثير في الناس· هذا الصراع كله، حول الوافد والموروث، وحول الفكر المستورد والثقافة الغازية، والفكر المحلي والثقافة العربية والإسلامية الراسخة، كان يجري بين المثقفين وحدهم، وكان الخطر الذي يخافه كل فريق هو أن تسود الأفكار التي يرفضها، على ألسنة المتحدثين إلى العامة، وعلى أقلام الكاتبين الذين لا يقرأ ما يكتبون إلا الخاصة، وخاصة الخاصة، ولو كتبوها في الصحف السيارة والمجلات الأسبوعية والفصلية· ولا زلت أذكر حديثاً جرى في أواسط الستينيات بيني وبين أحد دعاة الثقافة الإسلامية الأصيلة حول هذا الصراع الثقافي/الفكري، فعبّر لي عن اطمئنانه المستمد من تجارب حياته الطويلة -كان يكبرني بنحو من أربعين سنة- باستعارة كلمات سعد زغلول التي تحدى بها معارضيه أن يؤثروا في الشعب المصري فقال: أمامهم الصحف السيارة فليكتبوا فيها إن وجدوا قارئاً، وأمامهم المنابر العامة فليعتلوها إن وجدوا سامعاً ! وهكذا كان مجال التحدي الثقافي، ونطاق الخوف الثقافي، محصوراً فيمن يهتمون بالقراءة وتستهويهم المحافل العامة، وهؤلاء وأولئك كانوا قلة محدودة إذا قيس عددهم بالجمهور العربي -أو المصري- العام· في هذا الزمان أخذت الثقافة الغازية المستوردة أنحاء شتى يجمعها كلها أنها تؤدي إلى فساد الذوق، وامتهان الإنسان، وإلى شيوع الفوضى في السلوك الخاص والعام· ولم يعد الأمر خاصاً بفئة من الناس دون أخرى، ولا الخوف من آثار هذه الفوضى وذلك الإفساد مقتصراً على طبقة من طبقات المجتمع دون سواها· تفتح المذياع -وهو أهون أدوات الثقافة الفاسدة شراً- فتستمع إلى عدد من الناس يتحدثون في وقت واحد حتى لا تكاد تفقه مما يقال شيئاً، وتحاول مشاهدة التلفزيون فلا ترى، وأنت تنتقل من قناة إلى أخرى، إلا موسيقى صاخبة، لكلمات لا تتبين من نطقها بناءها ولا معانيها، تصاحب أداءها صور عارية مقزّزة لنساء أو رجال، أو لهما معاً، لا تعبر عن فن، وهم يزعمون أنها رقصات(!) ولا تستثير التأمل في جمال الخلقة، وهم يزعمون أن الذين يؤدونها نماذج للجمال(!) ولا تغري عاقلاً بمتابعتها، ولو كان مراهقاً قد يغريه العُرْيُ والحركة العنيفة، لأنها تعتمد على إظهار ما يعرف العقلاء كافة أنه إن عرض على خلق الله دون تمييز هان ورخُص واحتقر عارضه وطالبه معاً(!) وهم -على رغم ذلك- يحشدون أنفاراً من الكومبارس الرديء الأداء حول تلك التي يسمونها، ظلماً وعدواناً على الطرب، مطربة، أو ذاك الذي يسمي نفسه مطرباً، وهم ليسوا إلا أدوات إزعاج تؤذي الأذن والعين والنفس جميعاً· فإذا استمعت إلى نشرة الأخبار، في معظم القنوات العربية، فأنت لن ينقضي عجبك من الخطأ في نطق أسماء البلدان والأشخاص، العربية فضلاً عن الأجنبية، ولن تستطيع أن تتابع إحصاء الأخطاء في النحو والصرف لكثرتها الشنيعة حتى صدق فيها ما كان يصف به أستاذنا المرحوم الدكتور عبدالحميد متولي آراء بعض مخالفيه في الرأي القانوني عندما يقول: فيه من الأخطاء عدد ما فيه من الكلمات ! إذا خرجت الأسرة لتجلس في متنزه، هرباً من الحر أو التماساً لبعض الترويح، وَجَدتْ في كل مكان معدّ لذلك أنواعاً شتى من الطعام تصنع في وقت واحد، وتختلط روائح دخانها المتصاعد من المواقد أو المشاوي فيزكم الأنوف وتضيق به الصدور الصحيحة فضلاً عن العليلة أو الحساسة· ووجدتْ في كل ركن من يقدم ذلك الوباء القاتل المسمّي الشيشة يدخن تبغه الرجال والنساء والفتيان والفتيات بلا تمييز ولا إدراك لعواقب تدخينه البشعة التي أقلها ما أعلنته منظمة الصحة العالمية من عودة وباء السل إلى مصر بعد اختفائه منها منذ نحو من أربعة عقود· ووجدتْ في كل عدة أمتار الأصوات الصادرة من الجهاز المدمر للأعصاب، الذي يعمل عليه النظام المسمى (D.J) وهي في تنافرها وقبحها واختراقها الأذن تكفي للإصابة بالصداع المزمن فضلاً عما تصيب به السامع من الكآبة والضيق· والناس يجلسون لا يتكلمون ولا يَسْمرون، ولكنهم متسمرون في أماكنهم يحملقون في شاشات عملاقة تعرض صور الفساد الذوقي والخلقي التي وصفتها قبلاً، أو يغرقون في جذب أنفاس الشيشة واستنشاق دخان المطعومات التي لا يعلم محتواها الحقيقي إلا الله، وصانعها(!)· وعلى حواف السيارات يجلس شباب وفتيات وصف ما يرتدونه ويقولونه ويفعلونه يدخل في باب إشاعة الفاحشة المحرم شرعاً(!) وفوق ذلك كله يخرق أذنك -كل ثانية- صوت نغمة، لا تعجب إلا من اختارها، لهاتف جوّال محمول ثم صوته وهو يجيب محدثه في أمر تافه أو جاد، برقة أو بعصبية، بالعربية أو برطانة أجنبية··· فتوقن أن الجنون فنون(!) كما قال آباؤنا الأولون· قال المستشار الشاب، وهو يصف لي جوانب من ذلك كله رآها أثناء إجازته الصيفية، إن المصيبة الواقعة من ذلك كله ليست في انحراف جزئي، فكري أو سلوكي، فهذا في الغالب مؤقت، وعلاجه ليس عسيراً لكن المصيبة هي في شيوع ثقافة جديدة، هي ثقافة فوضوية، يسهل على الناس في ظلها اختلاط الحابل بالنابل، والجاد بالهازل، والنافع بالضار· والذين ينشأون في ظل هذه الثقافة تدمر لديهم إمكانيات الاستقبال لثقافة نافعة من أي نوع، ويفقدون القدرة على العطاء البناء بعد أن تعودوا على الموقف السلبي الذي يتلقون فيه ما لا معنى له ولا فائدة فيه· وقال المستشار الشاب: إن الأجهزة المعنية بالثقافة والإعلام غافلة عن هذه الظواهر، أو ساكتة عليها، وهما أمران يثيران علامات استفهام لا نهاية لها· قلت له: لقد ألقي إذاً على عواتقنا أن نواجه هذه الظواهر الفوضوية، بمقاطعتها، والتحذير منها، والتنبيه إلى خطرها، وإشاعة الثقافة النافعة الجادة التي تشعر الناس بإنسانيتهم وبواجباتهم المترتبة عليها، وإذا لم نستطع أن نستنقذ كل الذين ابتلوا بثقافة الفوضى، فلنسترد بعضهم، ولندفع الباقين إلى التفكير في مخاطرها··· لعلهم ينتهون
| |
|