الفصـــل الخــامس
أنواع بيان السنة للقرآن الكريم
إن الرسول صلى الله عليه وسلم قد بَيّن في سنته كل ما يحتاج إلى بيانه من القرآن، وهل بيَّنه كله أو بعضه؟
من العلماء من يقول: لم يبين الرسول عليه الصلاة والسلام من القرآن إلا قليلاً كما يقول السيوطي، ويستدلون بحديث مروي عن عائشة رضي الله عنها: "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يفسِّر شيئًا من القرآن برأيه إلا آيًا بعدد"( )، وهذا الحديث لا يصح، رواه البزار وغيره وهو معلول، في إسناده محمد بن جعفر الزبيري، وهو ضعيف لا يُحتج بحديثه.
ومن العلماء من يقول: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بيَّن القرآن كله، ومقصودهم بأنه بيَّن ما يحتاج إلى بيان، فهناك آيات لا تحتاج إلى بيان لأنها بيِّنة بنفسها.
يقول ابن عباس رضي الله عنهما -كما ذكر الطبري وغيره-: التفسير أربعة أوجه:
وجه تعرفه العرب من كلامها، فإذا قرئ على العرب فإنهم يفهمونه.
وتفسير لا يُعذر أحد بجهالته، وذلك كتفسير الآيات في الأحكام والعقائد التي يحتاج الناس إلى معرفتها.
وتفسير تعلمه العلماء، وهي المعاني الخفية التي لايفقهها عامة الناس.
وتفسير لا يعلمه إلا الله تعالى.
فهذه أربعة أنواع من التفسير.
والخلاصة أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد بيَّن كل ما يحتاج الناس إلى بيانه من القرآن الكريم في سنته.
وبشكل عام فإن السنة النبوية تفسير للقرآن الكريم، وأنواع بيان السنة للقرآن على أربعة أضرب:
الأول: بيان القرآن بالقول (بالنص):
وذلك بأن يبيِّن الرسول صلى الله عليه وسلم القرآن بقوله، وهذا كثير جدًّا، حتى صنَّف فيه العلماء مصنفات مستقلة، مثل: تفسير عبد بن حميد( )، وتفسير ابن مردويه( )، وتفسير ابن أبي حاتم( )، وتفسير الطبري( )، وجمع السيوطي من ذلك أشياء طيبة في كتابه: "الدر المنثور في التفسير بالمأثور"( ).
وكثير من كتب السنة تفرد بابًا خاصًّا بالتفسير، فمثلاً: "جامع الأصول" لابن الأثير( ) خصَّص مجلدًا تقريبًا للمروي عن النبي صلى الله عليه وسلم في تفسير القرآن في الكتب الستة، وهي: صحيح البخاري، وصحيح مسلم، وسنن أبي داود، وسنن الترمذي، وسنن النسائي، وموطأ مالك، ولم يستقص؛ بل فرَّق بعضها في مواضع أخرى، وهو قريب من مجلد كامل.
إذًا فقد بيَّن الرسول صلى الله عليه وسلم وفسَّر أشياء كثيرة من القرآن الكريم بقوله ولفظه، ومن أمثلة ذلك:
أ- ما جاء في الصحيحين عن كعب بن عجرة في تفسير قوله تعالى: (فَمَن كَانَ مِنكُم مَرِيضًا أَو بِهِ أَذًى مِن رَأسِهِ فَفِديَةٌ مِن صِيَامٍ أَو صَدَقَةٍ أَو نُسُكٍ) [البقرة:196]، فقوله: (مِن صِيَامٍ أَو صَدَقَةٍ أَو نُسُكٍ) يحتاج إلى تفسير، فهو مجمل، ما الصيام؟ ما مقداره؟ ما الصدقة؟ ما النسك؟
قال كعب: "كان بي أذى من رأسي فحُملت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم والقمل يتناثر على وجهي، فقال: ما كنت أرى أن الجهد بلغ منك ما أرى، أتجد شاة؟ فقلت: لا، فنـزلت هذه الآية: (فَفِديَةٌ مِن صِيَامٍ أَو صَدَقَةٍ أَو نُسُكٍ)، قال: صوم ثلاثة أيام، أو إطعام ستة مساكين، نصف صاع طعامًا لكل مسكين"( ). فبيَّن عليه الصلاة والسلام تفسير هذه الآية في هذا الحديث.
ب- قوله تعالى: (يَومَ يَأتِي بَعضُ آيَاتِ رَبِّكَ لا يَنفَعُ نَفسًا إِيمَانُهَا لَم تَكُن آمَنَت مِن قَبلُ أَو كَسَبَت فِي إِيمَانِهَا خَيرًا) [الأنعام:158].
بيَّنها رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن ذلك حين تطلع الشمس من مغربها، فقال: "لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها، فإذا طلعت من مغربها آمن الناس كلهم أجمعون، فيومئذ (لا يَنفَعُ نَفسًا إِيمَانُهَا لَم تَكُن آمَنَت مِن قَبلُ أَو كَسَبَت فِي إِيمَانِهَا خَيرًا)"( ).
ج- كذلك ما ورد في صحيح مسلم عن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر يقول: (وَأَعِدُّوا لَهُم مَا استَطَعتُم مِن قُوَّةٍ)، ألا إن القوة الرمي، ألا إن القوة الرمي، ألا إن القوة الرمي"( ).
ففسَّر القوة بالرمي؛ والمراد الرمي بكل شيء سواء كان بالسهام كما في وقتهم، أو بالمدفعية والطائرات والصواريخ في وقتنا هذا.
د - ما جاء في الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ليس أحد يحاسب يوم القيامة إلا هلك"، فقالت عائشة رضي الله عنها: "يا رسول الله، أليس قد قال الله تعالى: (فَأَمَّا مَن أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ.فَسَوفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا)؟" فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنما ذلك العرض، وليس أحد يناقش الحساب يوم القيامة إلا عُذِّب"( ).
فبيَّن صلى الله عليه وسلم أن المقصود بالحساب اليسير، هو أن تعرض على العبد أعماله وذنوبه ولا يناقش فيها، وإلاَّ لو نوقش الحساب عُذِّب.
هـ - وما جاء في الصحيحين من حديث البراء، في تفسير قوله تعالى: (يُثَبِّتُ الله الَّذِينَ آمَنُوا بِالقَولِ الثَّابِتِ فِي الحَيَاةِ الدُّنيَا وَفِي الآخِرَةِ).
قال صلى الله عليه وسلم: "إذا أُقعد المؤمن في قبره، أُتي، ثم شهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، فذلك قوله: (يُثَبِّتُ الله الَّذِينَ آمَنُوا بِالقَولِ الثَّابِتِ)"( ).
وأمثلة ذلك كثيرة جدًّا.
الثاني: ما جاء في السنة النبوية استنباطًا واستقراء من القرآن الكريم:
أحيانًا تكون المعاني الواردة في النصوص النبوية تفصيلاً لمعاني آيات الكتاب العزيز، وهذا الضرب لطيف، فتأتي إلى معنى جاء في السنة فتستخرج من القرآن ما يدل عليه، وهذا أسلوب لطيف عُني به الحافظ ابن كثير في تفسيره.
وبعض طلبة العلم في هذا العصر يحاولون أن يجمعوا كتابًا يشمل كل ما ورد في السنة النبوية مما يعتبر مستخرجًا من القرآن الكريم استنباطًا من النبي صلى الله عليه وسلم، ومن لطيف ذلك:
أ - قوله صلى الله عليه وسلم -كما في الصحيح-: "أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد"( )، ففي القرآن الكريم آية تدل على هذا المعنى، وهي قوله تعالى: (كَلاَّ لا تُطِعهُ وَاسجُد وَاقتَرِب) [العلق:19].
ب - أيضًا قوله صلى الله عليه وسلم -كما في صحيح مسلم-: "إذا دخل الرجل بيته، فذكر الله عند دخوله وعند طعامه، قال الشيطان: لا مبيت لكم ولا عشاء، وإذا دخل فلم يذكر الله عند دخوله، قال الشيطان: أدركتم المبيت، وإذا لم يذكر الله عند طعامه، قال: أدركتم المبيت والعشاء"( ).
فالآية التي تدل على هذا المعنى هي قوله تعالى: (وَاستَفزِز مَنِ استَطَعتَ مِنهُم بِصَوتِكَ وَأَجلِب عَلَيهِم بِخَيلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكهُم فِي الأموَالِ وَالأولادِ وَعِدهُم) [الإسراء:64]، فمن مشاركته في الأموال، أن يأكل الشيطان ويشرب وينام معك، إذا لم تذكر الله تعالى.
ج- أيضًا قوله صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب: "شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر، ملأ الله بيوتهم وقبورهم نارًا"( )، والحديث نفسه جاء في صحيح مسلم عن ابن مسعود( )، فكأن الحديث تفسير للصلاة الوسطى الواردة في قوله تعالى: (حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الوُسطَى) [البقرة:238].
وفي القرآن الكريم آية تدل على هذا وهي قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَستَأذِنكُمُ الَّذِينَ مَلَكَت أَيمَانُكُم وَالَّذِينَ لَم يَبلُغُوا الحُلُمَ مِنكُم ثَلاثَ مَرَّاتٍ مِن قَبلِ صَلاةِ الفَجرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُم مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِن بَعدِ صَلاةِ العِشَاءِ) [النور:58].
ويمكن أن يستأنس بهذه الآية على أن الرسول صلى الله عليه وسلم فهم أن الصلاة الوسطى هي صلاة العصر من القرآن الكريم، فهذه الآية تدل على أن الأوقات تبتدئ بالفجر وتنتهي بالعشاء… إذًا يكون الوقت الأوسط هو العصر، وقبله الفجر والظهر، وبعده المغرب والعشاء، فقد بدأ الله تعالى بقوله: (قَبلِ صَلاةِ الفَجرِ)، وانتهى بقوله: (وَمِن بَعدِ صَلاةِ العِشَاءِ)، فأول الأوقات هو الفجر وآخرها العشاء.
ولذلك كان مسلك بعض الفقهاء وكثير من المحدِّثين في ذكر المواقيت في كتب الفقه، أن يبدأوا بميقات صلاة الفجر، ثم الظهر، ثم العصر، ثم المغرب، ثم العشاء.
د – ومنه أن بني سلمة -وهم حي من الأنصار- أرادوا أن يتحولوا بمنازلهم قرب مسجد رسول الله – صلى الله عليه وسلم، فلمَّا علم بذلك النبى صلى الله عليه وسلم، قال: "يا بني سلمة، دياركم تكتب آثاركم"( )، يعني: الزموا دياركم وابقوا فيها.
وكأنه صلى الله عليه وسلم كره أن يخلوا أنحاء المدينة، وأحب أن يكون أهل الخير منتشرين في البلد، ولا يكونون موجودين فقط حول المسجد، وتخلو بقية الأحياء عنهم.
وقد يكون صلى الله عليه وسلم فهم ذلك واستنبطه من قوله تعالى: (إِنَّا نَحنُ نُحيِي المَوتَى وَنَكتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُم) [يس:12]، فمن الآثار التي تُكتب خطى الإنسان إلى المسجد ذهابًا وإيابًا.
هـ- أيضًا قوله صلى الله عليه وسلم -: "لا يمس القرآن إلا طاهر"( )، والحديث حسن بمجموع طرقه وله ما يشهد له، والمقصود بالطاهر على الراجح من أقوال أهل العلم الطاهر من الحدثين الأكبر والأصغر.
فقد يكون الرسول صلى الله عليه وسلم استنبط ذلك من قوله تعالى: (إِنَّهُ لَقُرآنٌ كَرِيمٌ.فِي كِتَابٍ مَكنُونٍ.لا يَمَسُّهُ إِلاَّ المُطَهَّرُونَ.تَنزِيلٌ مِن رَبِّ العَالَمِينَ) [الواقعة:77-80]، فقوله: (إِنَّهُ لَقُرآنٌ كَرِيمٌ) كل ما بعده وصف له، فهو (فِي كِتَابٍ مَكنُونٍ)، وهو (لا يَمَسُّهُ إِلاَّ المُطَهَّرُونَ)، وهو (تَنزِيلٌ مِن رَبِّ العَالَمِينَ)؛ ولذلك استدل أهل العلم على تحريم مس المصحف لغير المتوضئ بهذه الآية.
الثالث: بيان أسباب نزول القرآن الكريم:
ولا شك أن من يعلم سبب نزول القرآن يكون أقدر على فهم الآيات، وربطها بسبب النـزول، ومعرفة على أي وجه أُنزلت، وأضرب على ذلك بعض الأمثلة:
أ- ما رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما عن الزهري عن عروة بن الزبير أنه قال: "سألت عائشة رضي الله عنها، فقلت لها: أرأيت قول الله تعالى: (إِنَّ الصَّفَا وَالمَروَةَ مِن شَعَائِرِ الله فَمَن حَجَّ البَيتَ أَوِ اعتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا) [البقرة:158]، فوالله ما على أحـد جناح أن لا يطُوف بالصفا والمروة، قالت: بئس ما قلت يا ابن أختي، إن هذه لو كانت كما أوَّلتها عليه، كانت: لا جناح عليه أن لا يتطوف بهما، ولكنها أُنزلت في الأنصار، كانوا قبل أن يسلموا يهلُّون لمناة الطاغية، التي كانوا يعبدونها عند المُشَلَّل، فكان من أهلَّ يتحرج أن يطوف بالصفا والمروة، فلما أسلموا سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، قالوا: يا رسول الله، إنا كنا نتحرج أن نطوف بين الصفا والمروة، فأنزل الله تعالى: (إِنَّ الصَّفَا وَالمَروَةَ مِن شَعَائِرِ الله) الآية.