بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار العلم والمعرفة، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات.
الخشوع :
<p> أيها الأخوة الكرام، مع موضوعٍ جديد من موضوعات: "سبل الوصول وعلامات القبول" إنه موضوع "الخشوع"، فقد ورد الخشوع، أو وردت كلمة الخشوع في القرآن الكريم في قوله تعالى:
﴿ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ ﴾
[ سورة المؤمنون]
الفلاح و النجاح :
بادئ ذي بدء: ما الفلاح؟ قد يقول أحدكم: إنه النجاح، لا، فرقٌ كبير بين الفلاح وبين النجاح، الفلاح هو الفوز بالآخرة، الفلاح هو الفوز برضا الله عز وجل، الفلاح هو أن يحقق الإنسان في الدنيا سرّ وجوده، الفلاح أن يكون قريباً من الله، الفلاح أي يحمل نفسه على طاعة الله، الفلاح أن يتقرب إلى الله بالعمل الصالح، فالفلاح نجاح مع الله، والفلاح نجاحٌ في الفوز في الآخرة، هذا هو الفلاح.
أما قد ينجح إنسان بكتابة سيناريو فيلم فهذا ليس فلاحاً هذا نجاح، قد ينجح الإنسان في عمل لا يرضي الله، قد ينجح الإنسان في عمل يسبب دماراً للبشرية، ربح حرباً لكن دمر أمماً، فلذلك الفرق كبير بين الفلاح والنجاح، النجاح في الدنيا، وفي موضوعات شتى، وقد تكون هذه الموضوعات ليست خيرة.
الهدف الأول لكل مؤمن أن يزكي نفسه لأن تزكية النفس ثمن دخول الجنة :
<p> على كلٍ كلمة الفلاح أو:
﴿ قَدْ أَفْلَحَ ﴾
وردت مراتٍ ثلاثة في القرآن الكريم حصراً، الآية الأولى دقق:
﴿ قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى ﴾
[ سورة الأعلى ]
النجاح بالمعنى الواسع الفلاح، الفوز، التفوق، العقل، الذكاء، الذي يتزكى كلام خالق الكون، لأن تزكية نفسك ثمن دخول الجنة، لأنك خلقت لجنة عرضها السماوات والأرض، ثمن هذه الجنة أن تزكي نفسك، أي أن تحملها على طاعة الله أولاً، وأن تقبل بنفسك على الله ثانياًً عندئذٍ تطهر النفس من كل أدرانها وتتحلى بالكمال الإلهي، هذه التزكية.
أي إنسان صادق، أمين، عفيف، منصف، متواضع، يحب الخير، قلبه ممتلئ رحمة، يجري الله على يديه أعمالاً بطولية، هذا هو الفلاح
﴿ قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى ﴾
لذلك ينبغي أن يكون الهدف الأول لكل مؤمن أن يزكي نفسه، لأن تزكية النفس ثمن دخول الجنة، قد حرف تحقيق:
﴿ قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى * وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى ﴾
[ سورة الأعلى ]
هذه الآية الأولى، والآية الثانية:
﴿ قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا ﴾
[ سورة الشمس ]
الهاء تعود على النفس.
﴿ وَقَدْ خَابَ ﴾
[ سورة الشمس الآية : 10 ]
خاب على العكس من أفلح.
﴿ قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا ﴾
[ سورة الشمس ]
دساها أبعدها عن ربها، فلما أبعدها عن ربها تعلقت بشهوات الدنيا فمارستها معتديةً على حقوق الآخرين، أيها الأخوة،
﴿ قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا ﴾
أما الآية الثالثة فيبدو أن الصلاة كما تعلمون عماد الدين، الصلاة من أجل الاتصال بالله، والصيام من أجل الاتصال بالله، والحج من أجل الاتصال بالله، والعمل الصالح من أجل الاتصال بالله، وإنفاق المال من أجل الاتصال بالله، يكاد يجمع حالات لا تعد ولا تحصى مؤداها الاتصال بالله.
الخشوع في الصلاة ليس من فضائلها ولكن من فرائضها :
لذلك.
﴿ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ ﴾
[ سورة المؤمنون ]
من أروع ما قرأت عن هذه الآية في بعض التفاسير أن الخشوع في الصلاة ليس من فضائلها ولكن من فرائضها، لأن هذا الإله العظيم لا يعقل أن يأمرك أن تصلي في اليوم خمس مرات، تقف وأنت شارد الذهن، غافل، تركع، وتسجد، تقرأ الفاتحة وسورة، ولا تشعر بشيء، وكأنك أديت حركاتٍ وسكناتٍ وتمتماتٍ لا معنى لها، هذا الإله العظيم خالق السموات والأرض، هذا الذي يفعله المسلمون في الصلاة ليست هي الصلاة التي أرادها الله عز وجل، الصلاة اتصال بالله، والاتصال يحتاج إلى تمهيد، إلى استقامة، وإلى عمل صالح.
التجارة الرابحة هي التجارة مع الله وأكبر خسارة أن يخسر الإنسان الآخرة :
<p> فلذلك كلمة أفلح وردت مراتٍ ثلاثة حصراً:
الأولى:
﴿ قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى ﴾
والثانية:
﴿ قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا ﴾
والثالثة:
﴿ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ ﴾
ولعل الفلاح هو الذي يشق الأرض، ويزرع بذرة، كمعلومات لطيفة بذار بعض الخضروات يعطي مليون ضعف، الآن البيت البلاستيكي الذي مساحته خمسمئة متر يحتاج إلى خمسة غرامات من البذور، هذا البيت يعطي خمسة طن أي مليون ضعف، في بلادنا يعطي خمسة طن، في هولندا يعطي خمسة وعشرين طناً، أي البذرة تقدم خمسة ملايين ضعف، هذا هو الفلاح، تزرع بذرة تعطيك خمسة ملايين ضعف من وزنها من هذه الثمرة اليانعة التي يحتاجها الناس دائماً، فكأن الفلاح هو الذي يقدم قليلاً ويأخذ كثيراً، وكأن الله سبحانه وتعالى يريد أن نربح عليه، يريد أن نتاجر معه.
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ﴾
[ سورة الصف الآية : 10-11 ]
أكبر تجارة مع الله، الإنسان أحياناً يضع لقمة في فم زوجته يراها يوم القيامة كجبل أُحد، والله لا أبالغ لو عرفنا ماذا ينتظر المؤمن من عطاء، من تكريم، من نعيم مقيم، لأنه في السنوات المعدودة استقام على أمر الله، وأدى العبادات، وعمل الصالحات، فاستحق جنة ربه إلى أبد الآبدين، لذلك.
﴿قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ ﴾
[ سورة الزمر ]
أكبر خسارة أن تخسر الآخرة.
الله عز وجل إذا أعطى أدهش :
<p> أيها الأخوة، إذاً الفلاح يشق الأرض، ويزرع البذار، وتأتيه الأضعاف المضاعفة من هذه البذار، وكأن الفلاح سمّي فلاحاً لأنه أفلح في أخذ الكثير من الشيء القليل، طبعاً يؤكد هذا المعنى ربنا جلّ جلاله حينما يقول:
﴿ مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِئَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ﴾
[ سورة البقرة ]
أنا مرة كنت في غوطة دمشق، رأيت في حقل قمح مجموعة سنابل كثيرة جداً، والله قلعتها فإذا هي خمس وثلاثون سنبلة، أخذت واحدة وعددت حبات القمح فيها فكان العدد خمسين، ضربت خمس وثلاثين بخمسين خرج من حبة واحدة ألف وسبعمئة حبة من حبة واحدة.
أخواننا الكرام، الله إذا أعطى أدهش، في بعض الأماكن في أمريكا نهر الأمازون، غزارته بالثانية الواحدة ثلاثمئة ألف متر مكعب، في البرازيل هناك شلالات كثافتها مليون وأربعمئة ألف متر مكعب بالثانية، كنت في كندا في مدينة اسمها مونتريال حولها مليون بحيرة، أكبر تجمع مائي في العالم، الله إذا أعطى أدهش.
مرة في البرازيل لي درس عقب المغرب، هناك أخوة كرام وعدوني أن يأتوا إلى المسجد فلم يحضروا، سألت عنهم؟ قال: الأمطار نزلت، مئة وخمسون ميلمتر بساعتين، أمطار دمشق على مدى العام بساعتين، فارتفع الماء في الطرقات متراً ونصف، تعطل السير وشقت المدينة نصفين، الله إذا أعطى أدهش.
تقنين الله تقنين تأديب لا تقنين عجز :
<p> أولاً: لا يمكن أن يكون تقنين الله عز وجل إن صحّ التعبير تقنين عجز، تقنين الله تقنين تأديب فقط.
﴿ وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقاً * لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ ﴾
[ سورة الجن الآية : 16-17 ]
﴿ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ ﴾
[ سورة الأعراف الآية : 96 ]
نحن في الجديدة هناك واد سحيق، في قعر الوادي يمشي نهر بردى، وهناك واد أعمق منه بكثير، وقد وضع عمود وفوقه لوحة مكتوب عليها مستوى الماء عام ستة وثلاثين، هذا الوادي السحيق ممتلئ ماء، وفوق هذا الوادي ارتفاع مستوى الماء يقدر بستة أمتار سابقاً، أنا أذكر قبل بضع عقود من الزمن إن كل سنة يغرق أشخاص كُثر في نهر بردى، الآن لا أحد يغرق فيه، لأن الماء قليل جداً،
﴿ وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقاً * لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ ﴾
﴿ وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ ﴾
[ سورة المائدة الآية : 66 ]
هذا التقنين تقنين تأديب.
الفلاح لا أن نستهلك الوقت بل أن نستثمره :
أيها الأخوة، الفلاح ألا تستهلك الوقت بل أن تستثمره، أنت وقت، أنت بضعة أيام كلما انقضى يومٌ انقضى بضعٌ منك، هذا الوقت إما أن ينفق استهلاكاً أو أن ينفق استثماراً، ينفق استهلاكاً كمعظم الناس يأكلون ويشربون ويتمتعون ثم يفاجؤون بالأجل، استهلكوا وقتهم استهلاكاً بلا عمل له أثر مستقبلي، للتقريب: إنسان جلس بحوض وملأه ماء فاتر، استمتع، هذا العمل هل له أثر مستقبلي؟ هل يمكن أن يكون بعد الاستمتاع تاجر كبير أو دكتور؟ هذا عمل آني، استمتاع ليس له أثر مستقبلي.
فلذلك الفلاح لا أن تستهلك الوقت بل أن تستثمره، لذلك المؤمن ينفق وقته استثماراً، بمعنى أنه يفعل في الوقت الذي سينقضي عملاً يرى نتائجه بعد انقضاء الوقت، بينما غير المؤمن يستهلك وقته استهلاكاً، تماماً كتاجر ينفق من رأسماله بعد حين يعلن إفلاسه، وتاجر آخر ينفق نفقاتٍ كبيرة من ريع ماله.
لذلك الإنسان وقت، وأثمن شيء يملكه هو الوقت، بل رأسماله الوحيد هو الوقت، هذا الوقت إما أن ينفق استهلاكاً أو أن ينفق استثماراً، لذلك قال تعالى:
﴿ وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ ﴾
[ سورة العصر ]
الله أقسم بمطلق الزمن لهذا المخلوق الأول الذي هو في الحقيقة زمن، جاء جواب القسم:
﴿ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ ﴾
النقلة من بيت إلى قبر، من منصب رفيع إلى قبر، من صحة جيدة إلى قبر، من زوجة وأولاد إلى قبر، من دخل كبير إلى قبر، نقلة مخيفة، نقلة من كل شيء مبدئياً إلى لا شيء، فكيف إذا كان بعد هذا القبر عذابٌ لا ينتهي؟
فلذلك الفلاح ألا تستهلك الوقت بل أن تستثمره، وألا تستهلك المال بل أن تستثمره بالعمل الصالح، وألا تستهلك نعمة الأمن بل تستثمرها في معرفة الله، وألا تستهلك نعمة الصحة بل تستثمرها في طاعة الله ، الفرق الواضح الصارخ بين المؤمن وغير المؤمن غير المؤمن يستهلك بينما المؤمن يستثمر.
الآية التالية متعلقة بالخشوع :
أيها الأخوة، آيةٌ ثانية متعلقة بالخشوع قال تعالى:
﴿ أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ ﴾
[ سورة الحديد ]
إلــى متى وأنت باللذات مشغول وأنت عن كل ما قدمت مسؤول
تــعصي الإله وأنت تظهر حبه ذاك لــعمري في المقال بديع
لـــو كان حبك صادقاً لأطعته إن الــمحب لمن يحبه مطيع
* * *
فيا خجلي منه إذا هـــو قال أيا عبدنــا ما قرأت كتابنـــا
أما تستحي منا ويكفيك ما جرى أما تختشي من عتبنا يوم جمعنـا
أما آن أن تقلع عن الذنب راجعاً وتنظر ما به جـاء وعدنــــا
وجدناك مضطراً يا فتى فقلنا لك ادعُنا نجـبكا فهل أنت حقاً دعوتنا؟
دعوناك للإحسان أعرضت نائياً فهل تلقى من يحسن لمثلك مثلنـا؟
* * *
فالإنسان إلى متى هو غافل؟ إلى متى هو غارق بهمومه وشهواته وميوله وطموحاته في الدنيا؟ أما آن له أن يصحو، والله الذي لا إله إلا هو الإنسان حينما يصحو ويصطلح مع الله عز وجل يشعر أن جبالاً على كاهله أُزيحت عنه.
لن يكون الإنسان مؤمناً صادق الإيمان إلا إذا ذاق في الدنيا طعم الجنة :
<p> حياة المؤمن الذي اصطلح مع الله، والذي استقام على أمر الله من الصعب أن نعرف أبعادها، قال أحدهم: ماذا يفعل أعدائي بي؟ بستاني في صدري، إن أبعدوني فإبعادي سياحة، وإن حبسوني فحبسي خلوة، وإن قتلوني فقتلي شهادة، فماذا يفعل أعدائي بي؟ قال: في الدنيا جنة من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة، والدليل في قوله تعالى:
﴿ وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ ﴾
[ سورة محمد ]
لن تكون مؤمناً صادق الإيمان إلا إذا ذقت في الدنيا طعم الجنة، هذه حنة القرب.
فلو شاهدت عيناك من حسننا الذي رأوه لما وليت عنا لـــغيرنا
ولـو سمعت أذناك حسن خطابنا خلعت عنك ثياب العُجب وجئتنـا
ولـو ذقت من طعم المحبة ذرةً عذرت الذي أضحى قتيلاً بحبنـا
ولـو نسمت من قربنا لك نسمةٌ لمت غريباً واشتياقا لقربنـــا
* * *
هذا كله من خلال الخشوع،
﴿ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ ﴾
الإنسان أحياناً يشعر أن قلبه ميت، أحياناً القلب يكبر ويكبر ويكبر ولا نرى كبَرَه فيتضاءل أمامه كل كبير، ويصغر ويصغر ويصغر ولا نرى صغره فيتعاظم عليه كل حقير، هذا القلب كما قال الله عز وجل:
﴿ يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ﴾
[ سورة الشعراء ]
العبادات في الإسلام ليست طقوساً هي عبادات معللة بمصالح الخلق :
<p> أيها الأخوة: الآن هناك موضوع دقيق جداً، هناك مصطلح اسمه الطقوس، الطقوس هذه الكلمة تستخدم لأعمالٍ، وحركاتٍ، وسكناتٍ، وتمتماتٍ، يرددها أصحاب الديانات الأرضية، الديانات الأرضية التي من أصل أرضي بشري، من اختراع البشر، هذه الديانات لها طقوس، لكن يجب أن نؤمن إيماناً دقيقاً أن العبادات ليست طقوساً، ليس موضوع حركات، وسكنات، وتمتمات، مثلاً قال الإمام الشافعي: العبادات معللةٌ بمصالح الخلق، الدليل القرآني:
﴿ خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ ﴾
[ سورة التوبة الآية : 103 ]
تطهر الغني من الشح، والفقير من الحقد، تزكي الفقير فيشعر بقيمته في المجتمع، تزكي الغني فيشعر بإحسانه، تطهر المال من تعلق حق الغير به، تزكي المال فينمو، فالزكاة معللة بمصالح الخلق.
علة خلق السماوات والأرض أن نعرف الله عز وجل :
لذلك قال بعض العلماء: الشريعة مصلحةٌ كلها، عدلٌ كلها، رحمةٌ كلها، وأية قضيةٌ خرجت من العدل إلى الجور، من المصلحة إلى المفسدة، من الحكمة إلى خلافها، فليست من الشريعة ولو أُدخلت عليها بألف تأويلٍ وتأويل، فالزكاة معللة بمصلحة الخلق.
﴿ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ ﴾
[ سورة العنكبوت الآية : 45 ]
أي أكبر ما فيها ذكر الله، أو ذكر الله لك وأنت في الصلاة أكبر من ذكرك له، إنك إن ذكرته أديت واجب العبودية، لكنه إذا ذكرك منحك نعمة الأمن، منحك نعمة الحكمة، منحك نعمة الرضا، منحك نعمة السعادة، منحك عطايا لا تعد ولا تحصى من خلال الصلاة.
الصيام:
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾
[ سورة البقرة ]
فعلة الصيام أن تصل إلى مرتبة التقوى.
الحج الآية الدقيقة في موضوع الحج:
﴿ جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَاماً لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلَائِدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ﴾
[ سورة المائدة الآية : 97 ]
أي:
﴿ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ ﴾
[ سورة الطلاق الآية : 12 ]
دققوا الآن:
﴿ لِتَعْلَمُوا ﴾
[ سورة الطلاق الآية : 12 ]
هذه لام التعليل، علة خلق السماوات والأرض أن نعرف الله.
من أيقن أن علم الله يطوله و قدرته تطوله لا يمكن أن يعصيه :
﴿ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً ﴾
[ سورة الطلاق ]
اختار الله من أسمائه اسمين؛ العلم والقدرة، معنى العلم ومعنى القدرة، أي علم الله يطولك وقدرته تطولك، فإذا أيقنت أن علمه يطولك وأن قدرته تطولك لا يمكن أن تعصيه.
أنت كتاجر لا يمكن أن تغفل صفقة استوردتها في حسابات تقدمها للمالية، لماذا؟ لأن هناك نسخة من هذه الصفقة تذهب إلى المالية، فإن أغفلت هذه الصفقة أُهدرت حساباتك، لأنه توقن أن علم هذه الوزارة يطولك وأن قدرتها تطولك بإهدار حساباتك، أنت دقق مع أشخاص من بني البشر لأن علمهم يطولك ولأن قدرتهم تطولك لا يمكن أن تعصيهم فكيف بالواحد الديان؟.
الخشوع من أدق الموضوعات في الوصول إلى الله تعالى :
<p> أيها الأخوة، الخشوع حينما تعرف حكمة العبادات، حكمة الصلاة، وحكمة الصيام، وحكمة الحج، وحكمة الزكاة، حينما تؤمن أن العبادات في الإسلام ليست طقوساً هي عبادات معللة بمصالح الخلق، وهذا من فضل الله علينا.
أيها الأخوة، موضوع الخشوع من أدق الموضوعات التي تعد ذات أهميةٍ بالغة في الوصول إلى الله، أنت حينما تصلي بخشوع وصلت إلى الله.
لذلك الصلاة هي كبيرة أي صعبة إلا على الخاشعين.
﴿ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ ﴾
[ سورة البقرة الآية : 45 ]
الخاشع يسعد بالصلاة وغير الخاشع يراها عبئاً، النبي كان يقول:
(( أقم الصلاةَ يا بلالُ ، أرِحْنا بها ))
[أخرجه أبو داود عن رجل من خزاعة ]
ولسان حال المسلم المقصر أرحنا منها.
والحمد لله رب العالمين