رسالة مصرية ثقافية
مرحبا بك أخي الزائر نشكر زيارتك ونتمني انضمامك للمنتدي
زيارتك تسر إدارة المنتدي ومشاركتكك تسعدنا وتساهم معنا بارتفاع الثقافة العامة
بعض المنتديات الفرعية والموضوعات
لا يمكنك الإطلاع عليها إلا بعد التسجيل كعضو في المنتدي
رسالة مصرية ثقافية
مرحبا بك أخي الزائر نشكر زيارتك ونتمني انضمامك للمنتدي
زيارتك تسر إدارة المنتدي ومشاركتكك تسعدنا وتساهم معنا بارتفاع الثقافة العامة
بعض المنتديات الفرعية والموضوعات
لا يمكنك الإطلاع عليها إلا بعد التسجيل كعضو في المنتدي
رسالة مصرية ثقافية
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

رسالة مصرية ثقافية

ثقافية - علمية - دينية - تربوية
 
الرئيسيةرسالة مصريةأحدث الصورالتسجيلدخول

 

 كتاب العبادة - للقرضاوي - الباب الثالث

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
Eng. Ahmedzoubaa
Admin
Eng. Ahmedzoubaa


عدد المساهمات : 1216
تاريخ التسجيل : 28/08/2010
العمر : 49

كتاب العبادة - للقرضاوي - الباب الثالث  Empty
مُساهمةموضوع: كتاب العبادة - للقرضاوي - الباب الثالث    كتاب العبادة - للقرضاوي - الباب الثالث  Emptyالخميس 2 سبتمبر 2010 - 17:06

مجالات العبادة في الإسلام
عرفنا أن رسالة الإنسان في هذه الأرض أن يعبد الله الذي خلقه فسواه، وأسبغ عليه نعمه ظاهرة وباطنة.

وعرفنا معنى العبادة، وحقيقتها في اللغة والشرع.

وبقي أن نعرف صور العبادة وأنواعها ومظاهرها ومجالاتها. وبعبارة أخرى: علينا أن نعرف جواب هذا السؤال: بماذا نعبد الله تعالى؟

إذا كان الله قد خلقنا لنعبده، أي لنطيعه طاعة مصحوبة بأقصى الخضوع، الممزوج بغاية الحب، ففي أي شيء تكون هذه الطاعة ـ طاعة الخضوع والحب؟ وفي أي مجال يجب أن تكون؟ إن الجواب عن هذا التساؤل سيبين لنا حقيقة هامة، هي: شمول معنى العبادة في الإسلام، وسعة آفاقها، وهذا الشمول له مظهران:

الأول: شمولها للدين كله وللحياة كلها.

الثاني: شمولها لكيان الإنسان كله ظاهره وباطنه، كما سنشرح ذلك فيما يلي:

شمول العبادة للدين كله

لقد سئل شيخ الإسلام ابن تيمية عن قول الله عز وجل: (يا أيها الناس اعبدوا ربكم): ما العبادة؟ وما فروعها؟ وهل مجموع الدين داخل فيها أم لا؟ فأجاب الله عن ذلك إجابة مبسوطة مفصلة تضمنتها رسالته المعروفة باسم "العبودية" وقد بدأها بقوله:

"العبادة: هي اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال، الباطنة والظاهرة، فالصلاة والزكاة والصيام والحج، وصدق الحديث وأداء الأمانة وبر الوالدين، وصلة الأرحام، والوفاء بالعهود والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والجهاد للكفار والمنافقين، والإحسان للجار واليتيم والمسكين وابن السبيل، والمملوك من الآدميين، والبهائم، والدعاء والذكر والقراءة، وأمثال ذلك من العبادة".

"وكذلك حب الله ورسوله، وخشية الله والإنابة إليه وإخلاص الدين له، والصبر لحكمه، والشكر لنعمه، والرضا بقضائه، والتوكل عليه، والرجاء لرحمته، والخوف من عذابه، وأمثال ذلك هي من العبادة لله".

وهكذا نجد أن للعبادة ـ كما شرحها ابن تيمية ـ أفقا رحبا ودائرة واسعة، فهي تشمل الفرائض والأركان الشعائرية من الصلاة والصيام والزكاة والحج، وهي تشمل ما زاد على الفرائض من ألوان التعبد التطوعي من ذكر وتلاوة ودعاء واستغفار، وتسبيح وتهليل وتكبير وتحميد.

وهي تشمل حسن المعاملة والوفاء بحقوق العباد، كبر الوالدين، وصلة الأرحام، والإحسان لليتيم والمسكين وابن السبيل، والرحمة بالضعفاء، والرفق بالحيوان.

وهي تشمل الأخلاق والفضائل الإنسانية كلها، من صدق الحديث، وأداء الأمانة، والوفاء بالعهد، وغير ذلك من مكارم الأخلاق.

كما تشمل ما نسميه بـ "الأخلاق الربانية" من حب الله ورسوله، وخشية الله، والإنابة إليه وإخلاص الدين له، والصبر لحكمه، والشكر لنعمه، والرضا بقضائه، والتوكل عليه، والرجاء لرحمته والخوف من عذابه.

وأخيرا تشمل العبادة الفريضتين الكبيرتين اللتين هما سياج ذلك كله وملاكه وهما 1. الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، 2. وجهاد الكفار والمنافقين في سبيل الله.

بل تشمل العبادة أمرا له أهميته وخطره في الحياة المادية للناس، ذكره ابن تيمية في موضع آخر من رسالته، وهو الأخذ بالأسباب، ومراعاة السنن التي أقام الله عليها الكون قال: "فكل ما أمر الله به عباده من الأسباب فهو عبادة".

وأكثر من ذلك ما ذكره شيخ الإسلام رحمه الله: أن الدين كله داخل في العبادة، إذ الدين يتضمن معنى الخضوع والذل يقال: دنته فدان، أي أذللته فذل، ويقال: يدين الله ويدين لله، أي يعبد الله ويطيعه ويخضع له، فدين الله: عبادته وطاعته والخضوع له، والعبادة أصل معناها الذل أيضا.

وبهذا يلتقي معنى الدين بأصل معنى العبادة لغة وشرعا.

العبادة تسع الحياة كلها

وإذا عرفنا أن الدين كله عبادة كما قال الإمام ابن تيمية، وعرفنا أن الدين قد جاء يرسم للإنسان منهج حياته، الظاهرة والباطنة، ويحدد سلوكه وعلاقاته، وفقا لما يهدي إليه هذا المنهج الإلهي ـ عرفنا أن عبادة الله تسع الحياة كلها، وتنتظم أمورها قاطبة: من أدب الأكل والشرب، وقضاء الحاجة، إلى بناء الدولة، وسياسة الحكم، وسياسة المال، وشئون المعاملات والعقوبات، وأصول العلاقات الدولية في السلم والحرب.

ولهذا نجد كتاب الله الكريم يخاطب عباده المؤمنين بأوامر تكليفية وأحكام شرعية، تتناول جوانب شتى من الحياة، وفي سورة واحدة هي سورة البقرة، نجد مجموعة من التكاليف كلها جاءت بصيغة واحدة (كتب عليكم) ولنقرأ هذه الآيات الكريمة:

(يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى) (كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف). (يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون). (كتب عليكم القتال وهو كره لكم، وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم).

فهذه الأمور كلها من القصاص، والوصية، والصيام، والقتال، مكتوبة من الله على عباده، أي مفروضة عليهم، فعليهم أن يعبدوا الله بالتزامها والانقياد لها.

وبهذا البيان يتضح لنا حقيقة هامة لازال يجهلها الكثيرون من المسلمين، فبعض الناس لا يفهم من كلمة "العبادة" إذا ذكرت إلا الصلاة والصيام والصدقة والحج والعمرة، ونحو ذلك من الأدعية والأذكار، ولا يحسب أن لها علاقة بالأخلاق والآداب، أو النظم والقوانين، أو العادات والتقاليد.

إن عبادة الله ليست محصورة ـ إذن ـ في الصلاة والصيام والحج وما يلحق بها من التلاوة والذكر والدعاء والاستغفار، كما يتبادر إلى فهم كثير من المسلمين إذا دعوا إلى عبادة الله، وكما يحسب كثير من المتدينين أنهم إذا قاموا بهذه الشعائر فقد وفوا الإلهية حقها، وقاموا بواجب العبودية لله كاملا.

إن هذه الشعائر العظيمة والأركان الأساسية في بناء الإسلام ـ على منزلتها وأهميتها ـ إنما هي جزء من العبادة لله، وليست هي كل العبادة التي يريدها الله من عباده.

والحق أن دائرة العبادة التي خلق الله لها الإنسان، وجعلها غايته في الحياة، ومهمته في الأرض، دائرة رحبة واسعة، إنها تشمل شئون الإنسان كلها، وتستوعب حياته جميعا.

العبادة انقياد لمنهج الله وشرعه

إن مقتضى عبادة الإنسان لله وحده: أن يخضع أموره كلها لما يحبه تعالى ويرضاه، من الاعتقادات والأقوال والأعمال، وأن يكيف حياته وسلوكه وفقا لهداية الله وشرعه، فإذا أمره الله تعالى أو نهاه، أو أحل له أو حرم عليه كان موقفه في ذلك كله: سمعنا وأطعنا، غفرانك ربنا وإليك المصير.

ففرق ما بين المؤمن وغيره: أن المؤمن خرج من العبودية لنفسه وللمخلوقين إلى العبودية لربه، خرج من طاعة هواه إلى طاعة الله، ليس المؤمن "سائبا" يفعل ما تهوى نفسه أو يهوى له غيره من الخلق، إنما هو "ملتزم" بعهد يجب أن يفي به، وميثاق يجب أن يحترمه، ومنهج يجب أن يتبعه، وهذا التزام منطقي ناشئ من طبيعة عقد الإيمان ومقتضاه.

مقتضى عقد الإيمان: أن يسلم زمام حياته إلى الله، ليقودها رسوله الصادق، ويهديه الوحي المعصوم.

مقتضى عقد الإيمان: أن يقول الرب: أمرت ونهيت، ويقول العبد: سمعت وأطعت.

مقتضى عقد الإيمان: أن يخرج الإنسان من الخضوع لهواه إلى الخضوع لشرع مولاه.

وفي هذا يقول القرآن الكريم: (وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم، ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا) ويقول: (إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا: سمعنا وأطعنا، وأولئك هم المفلحون).

ليس بعابد لله إذن من قال: أصلي وأصوم وأحج، ولكني حر في أكل لحم الخنزير، أو شرب الخمر، أو أكل الربا، أو رفض ما لا يروقني من أحكام الشريعة، فأحكم فيه بغير ما أنزل الله! ليس بعابد لله من أدى الشعائر، ولكنه لم يخضع لآداب الإسلام وتقاليده في نفسه أو أهله، كالرجل الذي يلبس الحرير الخالص ويتحلى بالذهب، ويتشبه بالنساء، والمرأة التي تلبس ما يبرز مفاتنها، ولا يغطي جسدها، ولا تضرب بخمارها على جيبها. ليس بعابد لله من ظن أن عبوديته لله لا تعدو جدران المسجد، فإذا انطلق في ميادين الحياة المتشعبة، فهو عبد نفسه فقط، وبعبارة أخرى: هو حر في اتباع هواها، أو اتباع أهواء عبيد أنفسهم من المخلوقين!

من اتبع غير منهج الله فقد أشرك في عبادته

إن من العبادة التي يغفلها كثير من الناس: الخضوع لشرع الله، والانقياد لأحكامه التي أحل بها الحلال وحرم الحرام، وفرض الفرائض، وحد الحدود.

فمن أدى الشعائر وصلى وصام وحج واعتمر، ولكنه رضي أن يحتكم في شئون حياته الخاصة والعامة، أو في شئون المجتمع والدولة، إلى غير شرع الله وحكمه، فقد عبد غير الله، وأعطى غيره ما هو خالص حقه سبحانه.

إن الله وحده هو المشرع الحاكم لخلقه، لأن الكون كله مملكته، والناس جميعا عباده، وهو وحده الذي له أن يأمر أو ينهى، وأن يقول: هذا حلال، وهذا حرام، بمقتضى ربوبيته وملكه وألوهيته للناس، فهو رب الناس، ملك الناس، إله الناس.

فمن ادعى من الخلق أن له أن يشرع ما شاء، أمرا ونهيا وتحليلا وتحريما، بدون إذن من الله، فقد تجاوز حده، وعدا طوره، وجعل نفسه ربا أو إلها من حيث يدري أو لا يدري!

ومن أقر له بهذا الحق، وانقاد لتشريعه ونظامه، وخضع لمذهبه وقانونه، وأحل حلاله وحرم حرامه، فقد اتخذه ربا، وعبده مع الله، أو من دون الله، ودخل في زمرة المشركين من حيث يشعر أو لا يشعر!

إن القرآن الكريم دمغ أهل الكتاب بالشرك، ورماهم بأنهم عبدوا أحبارهم ورهبانهم، واتخذوهم أربابا من دون الله، وذلك حين أطاعوهم واتبعوهم فيما شرعوا لهم مما لم يأذن به الله.

قال تعالى: (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح بن مريم، وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا، لا إله إلا هو، سبحانه عما يشركون).

وقد فسر هذه الآية أعلم الناس بمراد ربه ـ عز وجل ـ من كلامه، وهو الرسول الذي لا ينطق عن الهوى، والذي أوحى الله إليه هذا القرآن ليبينه للناس ولعلهم يتفكرون، فلنصغ إلى التفسير النبوي الكريم لهذه الآية الكريمة.

روى الإمام أحمد والترمذي وابن جرير ـ من طرق ـ عن عدي بن حاتم رضي الله عنه: أنه لما بلغته دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فر إلى الشام وكان قد تنصر في الجاهلية، فأسرت أخته وجماعة من قومه، ثم من رسول الله صلى الله عليه وسلم على أختهوأعطاها، فرجعت إلى أخيها، فرغبته في الإسلام، وفي القدوم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقدم عدي إلى المدينة ـ وكان رئيسا في قومه وأبوه حاتم الطائي المشهور بالكرم ـ فتحدث الناس بقدومه، فدخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي عنق عدي صليب من فضة، وهو يقرأ هذه الآية: (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله) قال: إنهم لم يعبدوهم! فقال: بلى، إنهم حرموا عليهم الحلال، وأحلوا لهم الحرام، فاتبعوهم، فذلك عبادتهم وأياهم".

قال الحافظ ابن كثير في تفسيره: وهكذا قال حذيفة بن اليمان، وعبد الله بن عباس، وغيرهما في تفسير (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله): إنهم اتبعوهم فيما حللوا وحرموا.

وقال السدي: استنصحوا الرجال، ونبذوا كتاب الله وراء ظهورهم.

قال: ولهذا قال تعالى (وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا) أي الذي إذا حرم الشيء فهو حرام، وما حلله فهو الحلال، وما شرعه اتبع، وما حكم به نفذ (لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون).


الأعمال الاجتماعية النافعة عبادة

وأكثر من ذلك: أن الإسلام قد فسح مجال العبادة ووسع دائرتها، بحيث شملت أعمالا كثيرة لم يكن يخطر ببال الناس أن يجعلها الدين عبادة وقربة إلى الله.

إن كل عمل اجتماعي نافع يعده الإسلام عبادة من أفضل العبادات مادام قصد فاعله الخير لا تصيد الثناء، واكتساب السمعة الزائفة عند الناس، كل عمل يمسح به الإنسان دمعة محزون، أو يخفف به كربة مكروب، أو يضمد به جراح منكوب، أو يسد به رمق محروم، أو يشد به أزر مظلوم، أو يقيل به عثرة مغلوب، أو يقضي به دين غارم مثقل، أو يأخذ بيد فقير متعفف ذي عيال، أو يهدي حائرا، أو يعلم جاهلا، أو يؤوي غريبا، أو يدفع شرا عن مخلوق، أو أذى عن طريق، أو يسوق نفعا إلى ذي كبد رطبة ـ فهو عبادة وقربة إلى الله إذا صحت فيه النية.

أعمال كثيرة من هذا النوع جعلها الإسلام من عبادة الرحمن، وشعب الإيمان، وموجبات المثوبة عند الله.

فليست الصلاة أو الصيام أو الذكر والدعاء هي التي تكتب لك عبادة في يومك وتستوجب بها الأجر عند ربك، كلا إنك تستطيع في اليوم الواحد أن تضيف إلى ميزان عبادتك وحسناتك أشياء كثيرة، لها ثقلها وقيمتها في تقدير الحق تبارك وتعالى، وإن بدت عندك هينة خفيفة في الميزان.

من ذلك ما قاله رسول الإسلام عن الإصلاح بين المتخاصمين قال: ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة؟ قالوا: بلى.

قال: إصلاح ذات البين، فإن فساد ذات البين هي الحالقة: وفي رواية: لا أقول تحلق الشعر ولكن تحلق الدين.

ويقول عليه السلام في عيادة المريض وما لها من مكانة عند الله لما فيها من تخفيف ومواساة: "من عاد مريضا ناداه مناد من السماء طبت وطاب ممشاك وتبوأت من الجنة منزلا" "من عاد مريضا لم يزل يخوض في الرحمة حتى يجلس، فإذا جلس اغتمس فيها".

ويروي لنا النبي صلى الله عليه وسلم مشهدا من المشاهد البديعة العميقة يوم القيامة في صورة حوار بين الله وعباده: "إن الله عز وجل يقول يوم القيامة: يابن آدم مرضت فلم تعدني!! قال: يا رب، كيف أعودك وأنت رب العالمين؟ قال أما علمت أن عبدي فلانا مرض فلم تعده؟ أما علمت أنك لو عدته لوجدتني عنده؟ يابن آدم استطعمتك فلم تطعمني! قال: يا رب؟ كيف أطعمك وأنت رب العالمين؟! قال استطعمك عبدي فلان فلم تطعمه، أما علمت أنك لو أطعمته لوجدت ذلك عندي؟! يابن آدم استسقيتك فلم تسقني. قال: يا رب: كيف أسقيك وأنت رب العالمين؟! قال: استسقاك عبدي فلان فلم تسقه. أما إنك لو سقيته لوجدت ذلك عندي".

ويروي الشيخان عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: بينما رجل يمشي بطريق وجد غصن شوك فأخره فشكر الله له، فغفر له، وفي رواية مسلم: "مر رجل بغصن شجرة على ظهر الطريق فقال: والله لأنحين هذا عن المسلمين لا يؤذيهم.. فأدخل الجنة".

وعن أبي ذر قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "عرضت علي أعمال أمتي حسنها وسيئها فوجدت في محاسن أعمالها الأذى يماط عن الطريق".

والإسلام لا يستحب هذه الأعمال ويحمدها فحسب، بل هو يدعو إليها، ويحث عليها، ويأمر بها، ويجعلها من الواجبات اليومية على المسلم، التي تقربه إلى الجنة، وتبعده عن النار، وهو تارة يسميها "صدقة" وطورا يسميها "صلاة" وهي على كل حال عبادة وقربة إلى الله الكريم.

عن أبي ذر رضي الله عنه قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم: ماذا ينجي العبد من النار؟ قال: الإيمان بالله.

قلت: يا نبي الله، مع الإيمان عمل؟

قال: أن ترضخ مما خولك الله (أي تعطي مما ملكك الله).

قلت: يا نبي الله، فإن كان فقيرا لا يجد ما يرضخ؟

قال: يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر.

قلت: فإن كان لا يستطيع أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر؟

قال: فليعن الأخرق (هو الجاهل الذي لا يعرف صنعة، يعينه على تعلم صنعة).

قلت: يا رسول الله، أرأيت إن كان لا يحسن أن يصنع؟

قال: فليعن مظلوما.

قلت: يا نبي الله، أرأيت إن كان ضعيفا لا يستطيع أن يعين مظلوما؟!

قال: ما تريد أن تترك لصاحبك من خير؟ ليمسك أذاه عن الناس.

قلت: يا رسول الله، أرأيت إن فعل هذا يدخل الجنة؟

قال: "ما من مؤمن يطلب خصلة من هذه الخصال إلا أخذت بيده حتى تدخله الجنة".

بمثل هذه الروح يستحث نبي الإسلام كل مسلم ـ وإن يكن محدود الاستطاعة ـ أن يؤدي هذه العبادة أو "الضريبة" الاجتماعية، ولم يجعل الإسلام هذه العبادة موقوتة بزمان أو مرهونة بمكان، كما لم يجعل هذه العبادة أو الضريبة مالية فينفرد بها الأغنياء، ولا بدنية فيختص بها الأقوياء، ولا ثقافية فيتميز بها المتعلمون، ولكنه جعلها ضريبة إنسانية عامة، يؤديها كل إنسان على قدر طاقته، يشترك فيها الفقير والغني، والضعيف والقوي، والأمي والمتعلم.

وإننا لنقرأ أحاديث النبي الكريم في هذا الباب، فنرى أنه لم يكتف بفرض هذه العبادة العامة على الإنسان من حيث هو إنسان فحسب، بل يشتد في طلبها، فيفرضها على كل ميسم من مياسمه، أو كل مفصل من مفاصله.

فيروي أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كل سلامي من الناس عليه صدقة كل يوم تطلع فيه الشمس: يعدل بين الاثنين صدقة. ويعين الرجل في دابته، فيحمله أو يرفع عليها متاعه صدقة. والكلمة الطيبة صدقة. وكل خطوة يمشيها إلى الصلاة صدقة، ويميط الأذى عن الطريق صدقة".

ويروي ابن عباس نحو هذا عن الرسول إذ يقول: "على كل ميسم من الإنسان صلاة كل يوم! فقال رجل من القوم: هذا من أشد ما أنبأتنا به! قال: أمرك بالمعروف ونهيك عن المنكر صلاة وحملك عن الضعيف صلاة، وإنحاؤك القذر من الطريق صلاة، وكل خطوة تخطوها إلى الصلاة صلاة".

ونحو ذلك ما رواه بريدة عنه صلى الله عليه وسلم قال: "في الإنسان ستون وثلاثمائة مفصل، فعليه أن يتصدق عن كل مفصل منها صدقة، قالوا: فمن يطيق ذلك يا رسول الله؟ ـ ظنوها صدقة مالية ـ قال: النخامة في المسجد تدفنها، والشيء تنحيه عن الطريق".

وقد وردت أحاديث عديدة تجعل تبسم المرء في وجه أخيه صدقة وإسماع الأصم، وهداية الأعمى، وإرشاد الحيران، ودلالة المستدل على حاجته، والسعي بشدة الساقين مع اللهفان المستغيث، والحمل بشدة الذراعين مع الضعيف، وما يدور في هذا الفلك من الأعمال، عده رسول الإسلام عبادة كريمة، وصدقة طيبة.

وبهذا يعيش المسلم في مجتمعه ينبوعا يفيض بالخير والرحمة، ويتدفق بالنفع والبركة، يفعل الخير ويدعو إليه، ويبذل المعروف ويدل عليه، فهو مفتاح للخير، مغلاق للشر، كما حثه النبي الكريم.

وأفق الخير والنفع الذي يعيش المسلم في دائرته ليس خاصا بالإنسان وحده، وإنما يتسع فيشمل كل كائن حي في الوجود حتى الطير والحيوان فكل إحسان يسديه إليه أو أذى يدفعه عنه عبادة تقربه إلى الله، وتوجب له رضاه.

وقد حدث النبي أصحابه عن رجل وجد كلبا يلهث يأكل الثرى من شدة العطش، فنبضت عروق الرحمة في قلبه، وعز عليه أن يدع هذا الكلب في حرقه وشدة ظمئه، فذهب به إلى بئر فنزع خفه وملأه منها، فسقى الكلب، فشكر الله له فغفر له، سمع الصحابة هذه القصة فقالوا في عجب: أئن لنا في البهائم لأجرا يا رسول الله؟

قال: "في كل كبد رطبة (أي فيها حياة) أجر".

وفي هذه الدائرة الرحبة من أعمال البر التي شملت الإنسان وغير الإنسان يجد المهتمون بالعبادة، الراغبون في الإكثار منها، والمهتمون بخدمة المجتمع والإحسان إلى الخلق أيضا ما يشبع نهمهم ويتجاوب مع أشواقهم، بدل أن يحصروا في عبادات "الصوامع" وحدها وينقطعوا عن ركب الحياة.


عمل الإنسان في معاشه عبادة بشروط

وأعجب من هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم يجعل الأعمال الدنيوية التي يقوم بها الإنسان لمعيشته، والسعي على نفسه وأهله، من أبواب العبادة والقربات إلى الله، وإن لم يتعد نفعها دائرته الشخصية والأسرية، فالزارع في حقله، والعامل في مصنعه، والتاجر في متجره، والموظف في مكتبه، وكل ذي حرفة في حرفته، يستطيع أن يجعل من عمله المعاشي صلاة وجهادا في سبيل الله، إذا التزم فيه الشروط الآتية:

أن يكون العمل مشروعا في نظر الإسلام، أما الأعمال التي ينكرها الدين كالعمل في الربا والحانات، والمراقص ونحوها، فلا تكون ولن تكون عبادة أبدا، إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا.

أن تصحبه النية الصالحة: نية المسلم إعفاف نفسه، وإغناء أسرته، ونفع أمته، وعمارة الأرض، كما أمر الله.

أن يؤدي العمل بإتقان وإحسان ففي الحديث: "إن الله كتب الإحسان على كل شيء" "إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملا أن يتقنه".

أن يلتزم فيه حدود الله فلا يظلم ولا يخون، ولا يغش ولا يجور على حق غيره.

ألا يشغله عمله الدنيوي عن واجباته الدينية كما قال تعالى: (يأيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله ومن يفعل ذلك فأولئك هم الخاسرون) (رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة).

إذا راعى المسلم هذه الأمور كان في سعيه عابدا وإن لم يكن في محراب، متبتلا إلى الله وإن لم يكن في صومعة.

عن كعب بن عجرة قال: مر على النبي صلى الله عليه وسلم رجل فرأى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من جلده ونشاطه فقالوا: يا رسول الله، لو كان هذا في سبيل الله؟! (أي في الجهاد لإعلاء كلمة الله، وكان أفضل العبادات عندهم) فقال: إن كان خرج يسعى على ولده صغارا فهو في سبيل الله، وإن كان خرج يسعى على أبوين شيخين كبيرين فهو في سبيل الله، وإن كان خرج يسعى على نفسه يعفها فهو في سبيل الله، وإن كان خرج يسعى رياء ومفاخرة فهو في سبيل الشيطان.

ويخلع القرآن على السعي في مناكب الأرض، لطلب الرزق تسمية جميلة موحية برضا الله، فيسمي ذلك "الابتغاء من فضل الله" مثل قوله تعالى: (فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله) (ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم) ويقرن المسافرين للرزق بالمجاهدين لله في سياق واحد إذ يقول: (آخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله، وآخرون يقاتلون في سبيل الله).

والنبي صلى الله عليه وسلم يقول في فضل الزرع والغرس وما يجلب لصاحبه من مثوبة عند الله: "ما من مسلم يغرس غرسا أو يزرع زرعا فيأكل منه طير أو إنسان أو بهيمة إلا كان له به صدقة".

ويعلن أن "التاجر الصدوق الأمين مع النبيين والصديقين والشهداء".

وفي ظل هذه التعاليم لا يجوز للمسلم ـ ولا يتصور منه ـ أن يكون عالة على غيره، أو عبئا على المجتمع: يأخذ من الحياة ولا يعطيها، ويعتزل الناس والحياة باسم التفرغ للعبادة أو التبتل، بل يندفع بغير وازع خارجي إلى كل ميادين الحياة منتجا متقنا متفوقا، وهو يوقن أنه في صلاة وجهاد!


حتى أعمال الغريزة والشهوة

على أن الأروع مما تقدم كله أن تشمل العبادة الحاجات الضرورية التي يؤديها المسلم استجابة لدافع الغريزة البشرية، فالأكل والشرب ومباشرة الزوج لزوجته، وما كان من هذا القبيل يدخله الإسلام في دائرة العبادة الفسيحة بشرط واحد هو "النية". فالنية هي المادة السحرية العجيبة التي تضاف إلى المباحات والعادات فتصنع منها طاعات وقربات.

وأوضح شاهد على ذلك ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه:

"وفي بضع أحدكم صدقة قالوا: أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟ قال: أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه وزر؟ قالوا: نعم، قال: كذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر!!" قال العلماء: وهذا من تمام رحمة الله على عباده، يثيبهم على ما فيه قضاء شهواتهم إذا نووا أداء حق الزوجة وإحصان الفرج ولله الحمد.

صحح وجهتك تكن كل حياتك عبادة

بحسب المسلم أن ينظر إلى نفسه على أنه خليفة الله في الأرض، مهمته أن ينفذ أمره، ويقيم حدوده ويعلي كلمته، ويقوم بواجب العبودية له تعالى. بحسبه ذلك لتصطبغ أعماله كلها بصيغة ربانية، وليكون ما يصدر عنه من أقوال وأفعال وحركات وسكنات عبادة لله رب العالمين.

وهذا هو الموافق لما تعطيه الآية الكريمة من معنى كبير: (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون) فأين هي العبادة التي جعلها الله غاية لخلقهم إذا حصرنا معنى العبادة في تلك الشعائر التي لا تستغرق إلا دقائق معدودات من يوم الإنسان وليلته، أما جل الوقت ففي معترك الحياة، ويعجبني ما قاله هنا الأستاذ محمد الغزالي.

"إن الإسلام ليس أفعالا تعد على الأصابع دون زيادة أو نقص، كلا، إنه صلاحية الإنسان للمسير في الحياة وهو يؤدي رسالة محددة".

فالمهندس الذي يصنع آلة ما لا يعنيه كم تنتج من السلع والأدوات، وإنما يعنيه أن تكون أجهزتها مستعدة على الدوام لإنجاز ما تكلف به.

فصلاحية الطيارة للانطلاق، وصلاحية المدفع للقذف، وصلاحية القلم للكتابة، هذه الصلاحيات هي مناط الحكم على قيمة الشيء فإذا أطمأننا إلى وجودها قبلناها ورجونا ثمرتها.

كذلك الإنسان، إن الإسلام يريد أن تستقيم أجهزته النفسية أولا، فإذا توفرت لها صلاحيتها المنشودة، بصدق اليقين، وسلامة الوجهة، فكل عمل تتعرض له في الحياة يتحول من تلقاء نفسه إلى طاعة الله، إن آلة سك النقود يدخلها المعدن الغفل (الخام) فيخرج منها عملة مالية غالية الثمن، تحمل من الألوان والأختام والشارات ما يجعلها شيئا آخر، كذلك المسلم يعالج ما يعالج من شئون الدنيا، فيضفي عليه من طبيعة إيمانه وسناء وجهته ما يجعل أي عمل يقبل عليه يتحول في يده إلى عبادة غالية القدر.

وبهذه الصلاحية النفسية رفض الله دعوى أصحاب الذين اغتروا (وقالوا: لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى، تلك أمانيهم قل: هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين، بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن فله أجره عند ربه ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون).

في شئون الحياة ليس للأعمال الصالحة حصر تنتهي عنده ولا رسم تخرج فيه، إنما هو إسلام الوجه لله وإصلاح العمل والبلوغ به حد الكمال المطلوب.


آثار هذا الشمول في النفس والحياة

إن شمول معنى العبادة في الإسلام ـ كما شرحناه ـ له آثار مباركة في النفس والحياة يحسها الإنسان في ذاته، ويلمسها في غيره، ويرى ظلالها في الحياة من حوله، وأبرز هذه الآثار وأعمقها أمران:

الأول: أنه يصبغ حياة المسلم وأعماله فيها بالصبغة الربانية، ويجعله مشدودا إلى الله في كل ما يؤديه للحياة، فهو يقوم به بنية العابد الخاشع، وروح القانت المخبت، وهذا يدفعه إلى الاستكثار من كل عمل نافع، وكل إنتاج صالح، وكل ما ييسر له ولأبناء نوعه الانتفاع بالحياة، على أمثل وجوهها، فإن ذلك يزيد رصيده من الحسنات والقربات عند الله عز وجل، كما يدعوه هذا المعنى إلى إحسان عمله الدنيوي وتجويده وإتقانه، ما دام يقدمه هدية إلى ربه سبحانه، ابتغاء رضوانه وحسن مثوبته.

الثاني: أنه يمنح المسلم وحدة الوجهة، ووحدة الغاية في حياته كلها، فهو يرضي ربا واحدا، في كل ما يأتي ويدع، ويتجه إلى هذا الرب بسعيه كله: الديني والدنيوي، لا انقسام ولا صراع ولا ازدواج في شخصيته ولا في حياته.

إنه ليس ممن يعبدون الله في الليل، ويعبدون "المجتمع" في النهار.

وليس ممن يعبدون الله في المسجد، ويعبدون "الدنيا" أو "المال" في ساحة الحياة.

وليس ممن يعبدون الله في يوم من أيام الأسبوع ثم يعبدون ما سواه ومن سواه سائر أيام الأسبوع.

كلا إنه يعبد الله وحده حيثما كان، وكيفما كان، وفي أي عمل كان فوجه الله لا يفارقه في عمل ولا حال، ولا زمان (ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله).

وبهذا ينصرف همه كله إلى الله، ويجتمع قلبه كله على الله، ولا يتوزع شمل حياته وفكره وإرادته ووجدانه بين شتى الاتجاهات، والتيارات والانقسامات.

إن حياته كلها وحدة لا تتجزأ، منهجه فيها عبادة الله، وغايته رضوان الله، ودليله وحي الله.

يقول المسلم النمساوي الأستاذ محمد أسد في بيان مزية العبادة في الإسلام:

"يختلف إدراك العبادة في الإسلام عما هو في كل دين آخر، إن العبادة في الإسلام ليست محصورة في أعمال من الخشوع الخالص، كالصلاة والصيام مثلا، ولكنها تتناول "كل" حياة الإنسان العملية أيضا، ولذا كانت الغاية من حياتنا على العموم "عبادة الله" فيلزمنا حينئذ ـ ضرورة ـ أن ننظر إلى هذه الحياة في مجموع مظاهرها كلها على أنها تبعة أدبية، متعددة النواحي، وهكذا يجب أن نأتي أعمالنا كلها ـ حتى تلك التي تظهر تافهة ـ على أنها عبادات، وأن نأتيها بوعي، على أنها تؤلف جزءا من ذلك المنهاج العالمي الذي أبدعه الله.. تلك حال ينظر إليها الرجل العادي على أنها مثل أعلى بعيد، ولكن أليس من مقاصد هذا الدين أن تتحقق المثل العليا في الوجود الواقع؟

إن موقف الإسلام في هذا الصدد لا يحتمل التأويل، إنه يعلمنا أولا: أن عبادة الله الدائمة، والمتمثلة في أعمال الحياة الإنسانية المتعددة جميعها، هي معنى الحياة نفسها، ويعلمنا ثانيا: أن بلوغ هذا المقصد بطل مستحيلا ما دمنا نقسم حياتنا قسمين اثنين: حياتنا الروحية، وحياتنا المادية، يجب أن تقترن هاتان الحياتان في وعينا وفي أعمالنا، لتكون (كلا) واحدا متسقا.. إن فكرتنا عن وحدانية الله يجب أن تتجلى في سعينا للتوفيق والتوحيد بين المظاهر المختلفة في حياتنا.

هناك نتيجة منطقية لهذا الاتجاه، هي فرق آخر بين الإسلام وسائر النظم الدينية المعروفة، ذلك أن الإسلام ـ على أنه تعليم ـ لا يكفي بأن يأخذ على عاتقه تحديد الصلات المتعلقة بما وراء الطبيعة فيما بين المرء وخالقه فقط، ولكن يعرض أيضا ـ بمثل هذا التوكيد على الأقل ـ للصلات الدنيوية بين الفرد وبيئته الاجتماعية.

إن الحياة الدنيا لا ينظر إليها على أنها صدقة عادية فارغة، ولا على أنها طيف خيال الآخرة، التي هي آتية لا ريب فيها، من غير أن تكون منطوية على معنى ما، ولكن على أنها وحدة إيجابية تامة في نفسها، والله تعالى "وحدة" لا في جوهره فحسب، بل في الغاية إليه أيضا، من أجل ذلك كان خلقه وحدة، ربما في جوهره، إلا أنه وحدة في الغاية منه بكل تأكيد.

وعبادة الله في أوسع معانيها ـ كما شرحنا آنفا ـ تؤلف في الإسلام معنى الحياة الإنسانية، هذا الإدراك وحده يرينا إمكان بلوغ الإنسان الكمال ـ في إطار حياته الدنيوية الفردية ـ ومن بين سائر النظم الدينية نرى الإسلام ـ وحده ـ يعلن أن الكمال الفردي ممكن في الحياة الدنيا.. إن الإسلام لا يؤجل هذا الكمال إلى ما بعد إماتة الشهوات "الجسدية"، ولا هو يعدنا بسلسلة متلاحقة الحلقات من "تناسخ الأرواح" على مراتب متدرجة ـ كما هي الحال في الهندوكية ـ ولا هو يوافق البوذية التي تقول بأن الكمال والنجاة لا يتمان إلا بعد انعدام النفس الجزئية وانقسام علاقاتها الشعورية من العالم.. كلا، إن الإسلام يؤكد في إعلانه أن الإنسان يستطيع بلوغ الكمال في حياته الدنيا الفردية، وذلك بأن يستفيد استفادة تامة من وجوه الإمكان الدنيوي في حياته هو".

سؤالان وجوابهما

يعن لبعض الناس هنا سؤال يحتاج إلى جواب، وهو: إذا كانت العبادة تشمل الدين كله ـ كما قال ابن تيمية ـ فلماذا عطف القرآن عليها غيرها من أوامر الدين ونواهيه، في مثل قوله تعالى: (واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا وبذي القربى واليتامى والمساكين والجار ذي القربى.. الآية) وقوله على لسان شعيب: (يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره، ولا تنقصوا المكيال والميزان، ويا قوم أوفوا المكيال والميزان بالقسط.. الآية).

فهذه الأشياء المعطوفة على العبادة تدل على أنها غيرها، فإن العطف يقتضي المغايرة، كما هو معلوم، فما تفسير ذلك؟

وسؤال آخر يرد هنا أيضا، وهو: إذا كان الدين كله عبادة، فلماذا قسم العلماء أحكام الشرع إلى "عبادات" و"معاملات"؟

أما السؤال الأول، فجوابه يسير، وهو: أن عطف الخاص على العام مألوف في العربية، ومأنوس لدى البلغاء، وذلك للتنبيه على مزية في الخاص اقتضت إفراده بالذكر، كأنه جنس مستقل، مع دخوله في أفراد العام، كما أن عكسه أيضا معروف، وهو عطف العام على الخاص.

ومن أمثلة ذلك قوله تعالى: (إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذى القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي) فنص على إيتاء ذى القربى مع أنه يدخل في الإحسان، وكذلك خص الفحشاء بالذكر مع دخولها في عموم المنكر وكذلك البغي، وأمثلة ذلك في القرآن كثيرة.

وأما السؤال الثاني، فجوابه: أن تقسيم الفقهاء الأحكام الشرعية العملية إلى عبادات ومعاملات، إنما هو إصلاح منهم، أرادوا به التفريق بين نوعين من الأحكام:

الأول: يضم الصور والكيفيات المحددة التي شرعها الله تعالى، ليتقرب عباده إليه بأدائها، فالشارع هو المنشئ لها والآمر بها، وليس للعباد فيها إلا التلقي والتنفيذ، وتلك هي الشعائر التعبدية التي لا يخلو دين منها، وبها يمتحن الله عباده، وبها تظهر حقيقة العبودية، حيث لا يبدو للعباد فيها حظ شخصي لأول وهلة.

أما النوع الثاني: فهو يشمل الأحكام التي تنظم علاقات الناس بعضهم ببعض في حياتهم ومعايشهم ومبادلاتهم، فهذه العلاقات والنشاطات لم ينشئها الشرع، بل هي موجودة قبله، ومهمة الشارع هنا: أن يعدلها، ويهذبها ويقر الصالح منها، والنافع، ويمنع الفاسد الضار.

وبهذا يتبين لنا أن موقف الشرع من النوع الأول الذي سماه الفقهاء "العبادات" غير موقفه من النوع الثاني الذي سموه "المعاملات" فهو في الأولى منشئ مخترع، وليس من حق غيره أن ينشئ أو يبتدع صورا للعبادة من عند نفسه لم يأذن بها الله، وفيه جاءت بذلك الأحاديث: "من أحدث في ديننا ما ليس منه فهو رد، وكل بدعة ضلالة".

وهو في الثانية مصلح لما أنشأه الناس وأوجدوه فعلا.

وبناء على هذا قرروا أن الأصل في العبادات الحظر والمنع، حتى لا يشرع الناس في الدين ما لم يأذن به الله، أما في العادات والمعاملات فالأصل فيها الإباحة.

وهناك فائدة أخرى لهذا التقسيم، نبه عليها الإمام الشاطبي وغيره، وهي: أن الأصل في جانب العبادات هو التعبد، دون الالتفات إلى المعاني والمقاصد، أما العادات أو المعاملات فالأصل فيها الالتفات إلى ما وراءها من المعاني والحكم والمقاصد.

فإذا أمر الشارع مثلا بذبح الهدي في الحج، فهذا أمر تعبدي لا يجوز تركه، والتصدق بثمن الهدي، لما في ذلك من تعطيل هذه العبادة الشعائرية.

ولكن إذا حث الشارع على ربط الخيل واقتنائها والاهتمام بها لقتال الأعداء، ثم تغير الزمن وأصبح الناس يركبون للحرب الدبابات والمدرعات بدل الخيل، أصبح الاهتمام بهذه الأسلحة الجديدة هو التنفيذ العملي لما جاء من حث على رباط الخيل، بناء على رعاية المعاني والمقاصد التي تفهم من وراء ما جاءت به نصوص الشرع هنا.

فهذا هو سر تقسيم الفقهاء أحكام الفقه إلى عبادات ومعاملات، وهذا هو أثره، وإن كان التزام أحكام الشرع في كل المجالات هو عبادة بالمعنى الشامل الذي بيناه من قبل.

غير أن هذا التقسيم الاصطلاحي الفني الذي هو طابع التأليف العلمي ـ أنشأ فيما بعد، كما ذكر الشهيد سيد قطب ـ آثارا سيئة في التصور، تبعته ـ بعد فترة ـ آثار سيئة في الحياة الإسلامية كلها، إذ جعل يترسب في تصورات الناس: أن صفة "العبادة" إنما هي خاصة بالنوع الأول من النشاط الذي يتناوله "فقه العبادات" بينما أخذت الصفة تبهت بالقياس إلى النوع الثاني من النشاط الذي يتناوله فقه المعاملات.

إن ذلك التقسيم ـ مع مرور الزمن ـ جعل بعض الناس يفهمون أنهم يملكون أن يكونوا "مسلمين" إذا هم أدوا نشاط "العبادات" وفق منهج آخر، لا يتلقونه من الله، ولكن من إله آخر! هو الذي يشرع لهم في شئون الحياة ما لم يأذن به الله!

وهذا وهم كبير، فالإسلام وحدة لا تنفصم، وكل من يفصمه إلى شطرين ـ على هذا النحو ـ فإنما يخرج من هذه الوحدة، أو بتعبير آخر: يخرج من هذا الدين.

ولا ريب أن هذا الانحراف الذي وقع في تصور كثير من المسلمين لحقيقة الإسلام، وحقيقة العبادة فيه، لم يكن مقصودا للفقهاء، ولا هم مسئولون عنه، فإن ما صنعوه من التقسيم هو مقتضى التصنيف والتأليف العلمي كما ذكر المرحوم سيد قطب نفسه، ولم يستطع من ألف في الفقه في عصرنا أن يستغني عن هذا التقسيم أيضا.

على أن هذا التقسيم إنما يأتي إذا كتبوا في الفقه ـ فإذا كتبوا في غيره وجدنا مثل ابن تيمية يصرح بأن العبادة تشمل الدين كله، كما ذكرنا، ووجدنا مثل ابن القيم يدخل الدين كله أيضا في (إياك نعبد) كما سيأتي قريبا في بيانه لمراتب العبودية الخمسين.

شمول العبادة لكيان الإنسان كله

هذا هو المظهر الثاني لشمول العبادة في الإسلام.

فكما شملت العبادة في الإسلام الحياة كلها، استوعبت كذلك كيان الإنسان كله.

فالمسلم يعبد الله بالفكر، ويعبد الله بالقلب، ويعبد الله باللسان، ويعبد الله بالسمع والبصر وسائر الحواس، ويعبد الله ببدنه كله، ويعبد الله ببذل المال، ويعبده ببذل النفس، ويعبده بمفارقة الأهل والوطن.

المسلم يتعبد الله بالفكر، عن طريق التأمل في النفس والآفاق، والتفكر في ملكوت السموات والأرض وما خلق الله من شيء، والتدبر لآيات الله المنزلة وما فيها من هدى وحكمة، والنظر في مصاير الأمم وأحداث التاريخ وما فيها من عظة وعبرة، فهذا كله مما يتقرب به المسلم إلى الله الذي أنزل كتابه إلى الناس (ليتدبروا آياته وليتذكر أولوا الألباب) ودعاهم في محكم كتابه إلى إعمال العقل نظرا وتفكرا وتعلما (وفي الأرض آيات للموقنين وفي أنفسكم أفلا تبصرون) (إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب، الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السموات والأرض: ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار).

وقد ورد عن ابن عباس: تفكر ساعة خير من قيام ليلة.

وقال الرسول صلى الله عليه وسلم: "من سلك طريقا يطلب فيه علما سهل الله له طريقا إلى الجنة".

وقال الشافعي رضي الله عنه: "طلب العلم أفضل من صلاة النافلة" ونص على ذلك أبو حنيفة رضي الله عنه وقال وهب: كنت بين يدي مالك رضي الله عنه فوضعت ألواحي، وقمت أصلي، فقال: ما الذي قمت إليه بأفضل من الذي قمت عنه.

ويتعبد المسلم لله بالقلب عن طريق العواطف الربانية والمشاعر الروحية، مثل: حب الله وخشيته، والرجاء في رحمته والخوف من عقابه، والرضا بقضائه، والصبر على بلائه، والشكر لنعمائه، والحياء منه، والتوكل عليه، والإخلاص له، قال تعالى: (وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء) (قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين. لا شريك له وبذلك أمرت).

ويتعبد المسلم لله باللسان عن طريق الذكر والتلاوة والدعاء والتسبيح والتهليل والتكبير جاء في القرآن الكريم (يأيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكرا كثيرا، وسبحوه بكرة وأصيلا) (واذكر ربك في نفسك تضرعا وخيفة ودون الجهر من القول بالغدو والآصال ولا تكن من الغافلين) وقال عليه الصلاة والسلام: "اقرأوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعا لأصحابه" وقال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم "إن شرائع الإسلام قد كثرت علي فمرني بأمر أتشبث به، فقال: لا يزال لسانك رطبا من ذكر الله".

والذكر نوعان: ذكر ثناء مثل "سبحانك الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر".

وذكر دعاء مثل: "ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين".

وقد جاء من النوعين عن النبي صلى الله عليه وسلم أدعية وأذكار كثيرة، في مختلف المناسبات والأوقات، تجعل المسلم موصول القلب بربه، ورطب اللسان بذكره تعالى: عند النوم واليقظة، وعند الإصباح والإمساء، وعند الأكل والشرب، وعند السفر والأوبة، عند لبس الثوب، وركوب الدابة، وهبة الريح ونزول المطر.. وفي كل حال وكل حين، وقد ألف العلماء في ذلك كتبا شتى.

والذكر المحمود هو ما اجتمع فيه القلب واللسان، ولا خير في ذكر اللسان إذا كان القلب ناسيا غافلا.

ويتعبد المسلم لله ببدنه كله: إما كفا وامتناعا عن ملذات البدن وشهواته، كما في الصيام، وإما حركة وعملا ونشاطا، كما في الصلاة التي يتحرك فيها البدن كله: اللسان والأعضاء، مع العقل والقلب.

ويتعبد المسلم لله ببذل المال الذي هو شقيق الروح، كما في الزكاة والصدقات، وهذا ما يسميه الفقهاء "العبادة المالية" كما سموا الصلاة والصوم "العبادة البدنية" ويعنون بكلمة "البدن" هنا كيان الإنسان كله لا الجسم المادي وحده، فإن النية شرط لكل عبادة، ومحلها القلب بالإجماع وعبادة المجنون والسكران ونحوها لا تصح ولا تقبل (حتى تعلموا ما تقولون).

ويتعبد المسلم لله ببذل مهجته والتضحية بنفسه وبمصالحه المادية العاجلة، ابتغاء مرضاة الله، كما في الدعوة إلى الله، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وجهاد الكفار والمنافقين، لتكون كلمة الله هي العليا، وكلمة الذين كفروا هي السفلى.

ويتعبد المسلم لله بمفارقة الأهل والوطن والضرب في الأرض: إما للحج والعمرة، وإما للهجرة إلى أرض يستطيع فيها المسلم إقامة دينه، وإما للجهاد في سبيل الله، وإما لطلب علم نافع، أو نحو ذلك، مما يبذل فيه المسلم ـ عادة ـ راحة بدنه وحر ماله، ولهذا نعتبر هذا النوع من العبادات "بدنيا وماليا" معا حسب التقسيم الفقهي المتعارف.

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://resalahmasriyah.mam9.com
 
كتاب العبادة - للقرضاوي - الباب الثالث
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1
 مواضيع مماثلة
-
» كتاب العبادة - للشيخ القرضاوي - الباب الأول
» كتاب العبادة - للشيخ القرضاوي - الباب الثاني
» كتاب العبادة - للشيخ القرضاوي - الباب الرابع
» كتاب العبادة - للشيخ القرضاوي - الباب الخامس
» كتاب العبادة - للشيخ القرضاوي - الباب السادس

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
رسالة مصرية ثقافية :: ديني :: كتب دينية-
انتقل الى: