رسالة مصرية ثقافية
مرحبا بك أخي الزائر نشكر زيارتك ونتمني انضمامك للمنتدي
زيارتك تسر إدارة المنتدي ومشاركتكك تسعدنا وتساهم معنا بارتفاع الثقافة العامة
بعض المنتديات الفرعية والموضوعات
لا يمكنك الإطلاع عليها إلا بعد التسجيل كعضو في المنتدي
رسالة مصرية ثقافية
مرحبا بك أخي الزائر نشكر زيارتك ونتمني انضمامك للمنتدي
زيارتك تسر إدارة المنتدي ومشاركتكك تسعدنا وتساهم معنا بارتفاع الثقافة العامة
بعض المنتديات الفرعية والموضوعات
لا يمكنك الإطلاع عليها إلا بعد التسجيل كعضو في المنتدي
رسالة مصرية ثقافية
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

رسالة مصرية ثقافية

ثقافية - علمية - دينية - تربوية
 
الرئيسيةرسالة مصريةأحدث الصورالتسجيلدخول

 

 الفصل التاسع - بدايات الأزمنة الحديثة

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
Eng. Ahmedzoubaa
Admin
Eng. Ahmedzoubaa


عدد المساهمات : 1216
تاريخ التسجيل : 28/08/2010
العمر : 49

الفصل التاسع - بدايات الأزمنة الحديثة  Empty
مُساهمةموضوع: الفصل التاسع - بدايات الأزمنة الحديثة    الفصل التاسع - بدايات الأزمنة الحديثة  Emptyالأربعاء 15 يونيو 2011 - 0:21

العلامات الأولى على التاريخ العالمي

يبدأ التاريخ الحديث في أوروبا، ففيها ظهرت للمرة الأولى تلك القوى التي سوف تضم تاريخ العالم بعضه إلى بعض، وتجعل منه كياناً واحداً عن طريق شبكة هائلة من الأحداث والحركات المتداخلة والمتفاعلة فيما بينها.

وربما كانت العلامة الأولى على هذه التطورات هي معرفة شكل هذا العالم وقاراته، فقد كان الناس عام 1500 يعلمون بوجود القارات كلها، ولو أن أشكالها لم تكن قد اتضحت لهم بعد، وكانت قارة أنتاركتيكا في القطب الجنوبي هي الوحيدة التي جاء اكتشافها متأخراً.

الفصل التاسع - بدايات الأزمنة الحديثة  Antracitca

قارات العالم

وكانت قد بدأت تتشكل في أذهان الأوروبيين ملامح أولى قليلة من التنوع الهائل في هذا العالم الذي بدؤوا للتو باكتشافه، وعن شعوب وثقافات أغرب من أوروبا المسيحية حتى من الإسلام والعالم الأرثوذوكسي.

أما أعداد البشر وتنظيماتهم وتوزعهم في العالم فلم يكن بمقدور أحد أن يعرف عنها شيئاً. والحقيقة أننا مازلنا حتى اليوم غير قادرين على التحدث عن السكان في القرن السادس عشر إلا عن طريق التخمين الحذر. لم تكن الحكومات قد بدأت بجمع الإحصائيات بصورة منظمة بعد، بل كان هناك شعور عام قوي في البلاد الأوروبية ضد إحصاء عدد السكان استمر حتى القرن الثامن عشر إذ كان هذا النوع من الإحصاء دوماً نذيراً برفع الضرائب، كما كانت سوابق ضده في الكتاب المقدس.

إن بين أيدينا أرقاماً كثيرة من عدد السكان في إيطاليا في عام 1500، ومع هذا مازال العلماء يتوصلون عند تقدير مجموع سكانها إلى أعداد متباينة تتراوح بين الخمسة ملايين والعشرة ملايين.

إن الدراسة الشاملة لما بين أيدينا من معلومات تجعلنا نقدر عدد سكان العالم في عام 1500 بحوالي 425 مليون. وكانت آسيا أغنى قارات العالم بعدد السكان، كما كانت الصين تحوي العدد الأكبر منهم بين جميع دول العالم، ومازال كذلك منذ نهاية الإمبراطورية الرومانية، إذ لا يمكن أن يكون عدد سكانها في ذلك الحين أقل من 100 مليون نسمة.

وكانت البلد التالية هي على الأرجح الهند، ولو أن تقديرات عدد سكانها تخمينية إلى حد بعيد، أما أوروبا بما فيها روسيا فربما كان عدد سكانها حوالي ثمانين مليوناً، وفي بعض أجزائها كان عدد السكان في عام 1500 أقل منه عند بداية القرن الرابع عشر، بسبب النكسات الهائلة التي سببها الموت الأسود.

وكانت فرنسا في ذلك الحين أكبر بلد أوروبي، وقد بلغ عدد سكانها حوالي 16 مليون نسمة، كما كانت تمر بطور من النمو السريع، أما أمريكا عندما اكتشفها الأوروبيون فيبدو أن عدد سكانها من هنود وأسكيمو في كل أراضي أمريكا الشمالية الشاسعة لم يتجاوز المليون، فكانت بذلك أوسع منطقة تؤوي نمط الحياة ما قبل الزراعي. ولكن بالمقابل ربما بلغ عدد السكان إلى الجنوب من نهر ريو غرانده حوالي 14 مليون نسمة في عام 1500، منهم حوالي خمسة ملايين في وسط المكسيك.

إلا أننا نستطيع أن نرى الآن أن عدد السكان في البلاد الأوروبية كان في عام 1500 قد بدأ ينمو بصورة جديدة ومتواصلة ومازالت مستمرة حتى اليوم. وكان هذا النمو أسرع بكثير منه في الأزمنة الأبكر، ولو أنه هناك فروقاً كبيرة بين بلد وآخر وبين زمن وآخر، وقد بدأ يغير التوازن بين القارات.

وعندما نصل إلى عام 1800 نجد أن عدد سكان العالم قد بلغ حوالي 900 مليون نسمة، أي مثلي ما كان عليه قبل ثلاثة قرون، وهو ازدياد كبير جداً ولو أنه حصل بصورة بطيئة. وليس من السهل أن نعرف أسباب هذا النمو، ولكن ربما كان السبب الأساسي هو تحسن المناخ والمحاصيل. لقد كان أكثر من خمس هذا العدد من الأوروبيين، أي حوالي 185 مليون نسمة، وهي نسبة أكبر من أي زمن سابق، وكانت هذه السرعة الجديدة في نمو السكان وتجاوزه للعوائق السابقة تياراً سوف يستمر ويصبح تياراً عالمياً في أيامنا هذه.


الثورة في مجال الزراعة

يعود هذا الارتفاع في عدد السكان إلى زيادة كمية الغذاء، ولكن هذه الزيادة ظلت لزمن طويل محصورة بقارة أوروبا ولم تكن واضحة للعيان، وكان طعام الناس متشابهاً بصورة عامة في كافة أنحاء العالم طوال هذه القرون الثلاثة، مثلما كان الأمر طوال تاريخ الحضارة. فكانوا يأكلون دوماً الخبز أو الحبوب المطبوخة، وهي تختلف من بلد لآخر، ومنه القمح والذرة والأرز والجاودار. إن زراعة الحبوب في مساحة معينة من الأرض تعطي مردوداً من الحريرات أفضل من تربية الحيوانات.

ففي العصور الوسطى كان أكل اللحم في بعض البلاد الأوروبية أكثر شيوعاً منه في المناطق الأخرى من العالم، ولكن أكثر الأوروبيين لم يكونوا يتذوقونه إلا نادراً، حتى في عام 1800م. وكانوا ينوعون طعامهم من الحبوب مثل سكان القارات الأخرى بإضافة الكستناء والفاصولياء وغيرها من الخضار، فضلاً عن البيض والسمك.

ولقد ظلت أوروبا تمر بأيام عصيبة حتى القرن الثامن عشر، وحدثت المجاعات في فرنسا في سبعينيات وثمانينيات هذا القرن. أما في الصين وروسيا والهند وبعض أجزاء أفريقيا فإن المجاعات مازالت تحدث حتى اليوم، ولو أنها لم تعد تستمر طويلاً كما في الماضي، إذ صار بالإمكان نقل الغذاء من أنحاء أخرى من العالم بصورة سريعة.

تطور الزراعة في أوروبا

ولكن بالرغم من أوجه الشبه هذه فإن أوروبا في عام 1800 كانت مختلفة اختلافاً جذرياً عن بقية أنحاء العالم، من ناحية أن كمية الغذاء التي تنتجها للفرد الواحد كانت أكبر بكثير منها قبل ثلاثمائة عام.

لو نظر المزارع الأوروبي اليوم إلى أفضل مزارع العصور الوسطى وأوفرها إنتاجاً لوجدها فقيرة بالقياس إلى ما اعتاد إليه، ولوجد مردودها زهيداً جداً بالقياس إلى كمية الجهد التي تبذل فيها، فلم تكن الغلة الناتجة من زراعة الحبوب تزيد عن خمسة أمثال وزنها الأصلي، وكان مردود الهكتار الواحد في عام 1500 ضئيلاً جداً بالقياس إلى مردوده اليوم.

أما أساليب الزراعة فلم تبتعد كثيراً عن أساليبها التقليدية، وباختصار كانت الزراعة في أوروبا العصور الوسطى شبيها بما هي الحال عليه اليوم في بعض أنحاء آسيا وأفريقيا، ولكن التغير كان قادماً وقد بلغ في عام 1800 وتيرة مطردة، وإن التطور الذي حصل في الزراعة في أوروبا خلال هذه القرون الثلاثة قد أحدث انقلاباً في تطور البشرية لامثيل له منذ اختراع الزراعة نفسها.

لطالما تمتعت أوروبا بميزات طبيعية هامة، فأمطارها وفيرة تمكنها من زراعة قسم كبير من أراضيها، والأسماك غزيرة في مياهها الساحلية وتؤمن لها الكثير من الغذاء سهل المنال، وتحت سطحها تكمن كميات كبيرة من الثروات المعدنية، منها أغنى حقول الحديد والفحم في العالم. وحتى قبل استثمار هذه الثروات كان فيها الكثير من الخشب للوقود والبناء.

ومع هذا كان أكثر الأوروبيين في عام 1500 يعيشون بعد على زراعة الكفاف، أي أنهم يزرعون مايكفي حاجاتهم فحسب، وقليل من كان يقدر على إنتاج فائض يبيعه لمن لايعيشون في الريف، وحتى في تلك الحالات القليلة تكون السوق عادة محلية، فرغم المتاجرة بالنبيذ والصوف والجلد وبعض الحبوب كان أكثر الغذاء ينتج في مكان قريب من مكان استهلاكه.

لقد حددت التضاريس الطبيعية الكبرى منذ قرون طويلة أنماط الزراعة في أوروبا، فإذا استثنينا شبه الجزيرة الاسكندينافية، يمكن تقسيم أوروبا تقسيماً بسيطاً إلى منطقتين، إحداهما عبارة عن سهل عريض وطويل، يقابله إلى الجنوب منه امتداد طويل أيضاً من المرتفعات التي تكثر فيها الجبال.

ويمتد هذا السهل الأوروبي الواسع من دون جبال أو مرتفعات عالية لمسافة تزيد عن 4000كم، وهو يبدأ بالسهول الشاسعة في روسيا، ثم يمتد نحو الغرب فيضيق قليلاً إلى الجنوب من بحر البلطيق وفي بولندا وغرب ألمانيا، ثم يعود ليتسع من جديد حول مرتفعات الأردين والمسيف الأوسط في فرنسا، ويستدق ثانية منتهياً عند جبال البيريه. وتشكل إنكلترا أيضاً قسما منه على الطرف الآخر من بحر الشمال، حيث يستدق عند سفوح جبال ويلز واسكتلندا.

إن هذا السهل الواسع هو أرض زراعة الحبوب في أوروبا في العصور الحديثة، ولطالما أمنت الحبوب للأوروبيين طعامهم وشرابهم، فالجعة تصنع من الشعير، والمشروبات التي تقطر من الحبوب مثل الويسكي والفودكا هي المشروبات الكحولية التقليدية في هذه المنطقة. وهي منطقة ذات حدود واضحة، ففي روسيا تحدها من الشمال الغابات الصنوبرية ثم البحر في الغرب، أما من الجنوب فتحدها جبال الكربات والألب والمسيف الأوسط والبيريه.

إلى الجنوب من هذه الجبال تكون الأرض عادة مرتفعة ماعدا بعض وديان الأنهار، وأهمها الدانوب والرون والبو والإبرو، وتزرع الحبوب أيضاً على نطاق واسع في بعض أجزاء هذه المنطقة، مثل وادي الدانوب وسهل قشتالة العالي، بينما تستخدم أراضيها المرتفعة عادة لتربية الحيوانات ورعيها. وهي تتميز بأنها أرض الكرمة، ومشروباتها الكحولية هي النبيذ وغيره مما يشتق من هذه النبتة. وأخيراً تقع أرض الزيتون والزيت حول سواحل المتوسط، وتضم قسماً كبيراً في إسبانيا.

ويمكننا أيضاً أن نقسم أوروبا إلى شطرين شرقي وغربي، باتخاذ نهر الألب في السهل الشمالي نقطة فاصلة بينهما، وبرسم خط من مصبه إلى رأس بحر الأدرياتيك، فالحقيقة أن التاريخ كثيراً ما سلك طرقاً مختلفة على طرفي هذا الخط. وهو ينطبق تقريباً على خط درجة الصفر المئوية، أي الخط الواصل بين المناطق التي تبلغ الحرارة فيها درجة الصفر في شهر كانون الثاني (يناير).

فالغرب تأتيه تيارات الهواء والماء التي تسمى تيار الخليج، لذلك يبقى أدفأ من الشرق، الذي تكتسحه جبهات الهواء البارد القادمة من القطب الشمالي ومن بر آسيا، إن بحر آزوف مثلاً يقع على نفس خط العرض الذي تقع عليه مدينة ليون الفرنسية، ولكنه كثيراً ما يتجمد في الشتاء بينما يتابع نهر الرون في مدينة ليون تدفقه. ولقد أدى هذا التباين بين الشطرين إلى اختلافات كبيرة في حياة الأوروبيين في كل منهما، وفي وسائل تحصيلهم لمعيشتهم.

من هذه الفروق اختلاف أنواع الحبوب التي كانت تزرع في كل شطر، ففي أوروبا الشرقية بقي نبات الجاودار شديد التحمل هو النوع المعتاد من الحبوب لاستهلاك الإنسان، بينما كان القمح والذرة التي أتت من أمريكا في القرن السادس عشر أكثر شيوعاً في الغرب.

ولكن هناك فرقاً هاماً آخر، هو أن أكثر الفلاحين إلى الغرب من نهر الألب كانوا في عام 1800 إما أحراراً يمتلكون قطعاً صغيرة من الأرض، أو مستأجرين يدفعون آجار الأرض نقداً أو عيناً، أما في الشرق فقد ظلوا عادة حتى في هذا التاريخ المتأخر عبيداً مرتبطين بأرض العزبة التي يعيشون فيها، وغير قادرين على مغادرتها إلا بإذن. وقد أصبح هذا الفرق أوضح بكثير بعد القرن السابع عشر، عندما ازداد ترسخ عبودية الأرض في الشرق بينما كانت تلفظ أنفاسها الأخيرة في الغرب.

وكانت هناك أيضاً فروق محلية أكثر تحديداً بين المناطق المختلفة في شرق أوروبا وغربها، وسببها اختلاف الزراعة وتربية الحيوان باختلاف الظروف من تربة ومناخ وخبرة وأسواق محلية. وبالتدريج أدت هذه الأمور إلى التخصص، الذي كانت له آثار بعيدة المدى، فمنذ القرن السادس عشر مثلاً كانت الحبوب المزروعة في الأراضي الواقعة إلى الجنوب من بحر البلطيق تشحن إلى أوروبا الغربية، وقد أدى هذا إلى نمو صناعة الشحن ومكاسب جديدة لمدة رابطة الهانزا، وهي مدن ألمانية قديمة كانت تشكل سلسلة من الموانئ البحرية ، ومنذ القرن الخامس عشر كانت مقاطعة أنكليا الشرقية في إنكلترا متخصصة بزراعة الشعير وتربية الخراف، بينما كان وادي نهر التايمز ينتج القمح، وكانت المقاطعات الشمالية والغربية تربي البقر.

حتى أشكال الحيوانات وصفاتها كانت تختلف باختلاف المناطق، فقد كان خروف المرينوس، والذي انتشر فيما بعد في كافة أنحاء العالم، مناسباً للمراعي الجافة في إسبانيا، وكان يبدو أشبه بالماعز بالقياس إلى خراف إنكلترا، ولكنه كان يعطي في الحقيقة أفضل أنواع الصوف. أما الخراف التي تربى في مراعي إنكلترا الأكثر خضرة فكان صوفها أخشن ولكنها أغنى باللحم.

وكانت هذه الاختلافات سبب تباين مستويات الحياة بين بلد وآخر، وقد كان الأجانب يلاحظون أن الفلاحين والحرفيين الإنكليز في القرن السابع عشر يرتدون ملابس من الصوف، بينما ظل زملاءهم في القارة الأوروبية زمناً طويلاً يرتدون الملابس الخشنة المصنوعة من نبات الكتان.

يمكننا أن نسرد الكثير من أمثال هذه الفروق، وهي فروق هامة، ولكن هدفنا هو التأكيد على النقطة الأساسية المتمثلة بأن الزراعة في أوروبا كانت في عام 1500 قد بلغت درجة كبيرة من التنوع، ولو بدت لنا مختلفة بمعاييرنا الحديثة. وإن هذا التنوع ليدل في الوقت نفسه على البدايات الأولى لتحول كبير آت، هو ماكان يسمى بالثورة الزراعية، وكان هذا تحولاً ثورياً بحق، قد بدل أحوال العالم، ولو أنه حدث بصورة بطيئة ومتدرجة.

أما سبب حدوثه في أوروبا بالذات فمازال لغزاً كبيراً، وربما كان السبب الأساسي هو التراكم البطيء للثروة والموارد التي ظهرت في المدن خاصة، وهو تراكم كان جارياً منذ القرن الثاني عشر، ولكن الغريب أن شيئاً مثل هذا لم يحدث في الصين مثلاً، مع أن المدن فيها قد نمت نمواً كبيراً أيضاً، كما استخدم فيها المجهود البشري المكثف والضروري لزراعة الأرز، فضلاً عن الأسمدة الطبيعية، كانت الفضلات البشرية تسمى تربة الليل، وكانت تزال من المدن بموجب عقود معينة، فكانت ذات منفعة كبيرة في الصين وفي أوروبا العصور الوسطى.

أساليب جديدة

كان تحسن الزراعة ينطوي دوماً على درجة من التخصص، فلم يعد المزارع الواحد يحاول أن يزرع كل شيء، بل صار يركز على الأشياء التي يستطيع أداءها بأفضل صورة ويشتري حاجاته الأخرى من مصدر آخر.

وكان هذا دائماً مترافقاً بتحسن أساليب الزراعة، مثل المناوبة بين المحاصيل أي زرعها في حقول مختلفة من العام لآخر من أجل إراحة التربة وتحسينها بدلاً من استنفاذها، وزراعة المحاصيل الجديدة ومن أهمها البطاطا والذرة الآتية من أمريكا، ومعالجة التربة بطرق جديدة مثل الكلس، واستخدام أشكال جديدة من محاصيل مألوفة مثل أنواع الشعب الخاصة بالرعي، واللجوء إلى أساليب جديدة للعناية بالتربة مثل حفر الأقنية لتصريف المياه وبناء الأسيجة، وابتكار الآلات الجديدة ولو أن هذه كانت أبطأ من التطورات الأخرى، أو تبني أساليب بسيطة مثل تطويق أراضي كانت في السابق مشاعاً وجعلها ملكاً لرجل واحد وتخصيصها بالتالي لمصلحته، هذه الأشياء كلها أدت في النهاية إلى تأمين مردود أكبر من الأرض، وبالتالي إلى غذاء أوفر ولباس أرخص.

لقد ظهرت بعض هذه التغيرات أولاً في إيطاليا ومنطقة الفلاندر، منطقة واسعة تمتد بين فرنسا وبلجيكا الحاليتين، في القرنين الرابع عشر والخامس عشر، ثم بلغت أقصى مداها في البلاد الواطئة هولندا، ومنها انتشرت إلى إنكلترا في القرنين السادس عشر والسابع عشر.

وكان من نتائجها الأولى تطويق الأراضي من أجل تربية الغنم، وضم شرائط الأرض المتفرقة التابعة لمالك واحد بعضها إلى بعض في حقول متراصة، وتصريف الأراضي خاصة في منطقة الفنز بشرق إنكلترا، واستصلاح أراضي جديدة في المستنقعات أو من البحر كما فعل الهولنديون.

وقد وضع هذا أسس تقدم تقني هائل في زراعة إنكلترا، التي أضحت في القرن الثامن عشر أفضل زراعة في العالم كله، فقد كثرت عندئذٍ الأنواع الجديدة من الحيوانات والمحاصيل، وظهرت أولى الابتكارات الهامة في الآلات منذ اختراع المحراث ذي العجلات، مثل المثقاب الميكانيكي وآلات تسوية التربة التي تجرها الأحصنة وآلات درس الحبوب، وكان الزوار يأتون من كافة أنحاء أوروبا لرؤية الزراعة في إنكلترا، وقد انتشرت أساليبها الجديدة إلى القارة، خاصة إلى ألمانيا والشرق.

كانت التربة في الشرق أفقر، لذلك كان تحسينها أمراً أشد أهمية، ومع هذا فقد تشبث أصحاب الأراضي تشبثاً شديداً بأحد التقاليد القديمة، كان أهم ما يحتاجونه لتحسين الإنتاجية في أوروبا الشرقية هو المجهود البشري، لهذا كنت تراهم يقاومون كل محاولة لإزالة النظام القديم القائم على العزبة. وكانت العبودية المرتبطة بالأرض قد زالت في إنكلترا بحلول عام 1500، وحل محلها العمل مقابل أجر، أما في ألمانيا وبولندا وروسيا فقد صارت العبودية أكثر شيوعاً خلال القرنين التاليين، وكان النبلاء في شرق بروسيا يستغلون جهد عبيدهم بأقصى طريقة ممكنة، ويوثقون ربطهم بالعزبة عن طريق القوانين من أجل ضمان استمرار هذا الاستغلال.

وفي عام 1800 لم يكن الفلاح الذي يعيش في مزرعة بشرق ألمانيا قادراً على مغادرتها أو على الزواج إلا بإذن، ولم يكن يستطيع العناية بحديقته الصغيرة إلا بعد أن ينهي عمله لدى سيده.ولم يكن يقتصر العمل على الحقل، بل قد يضطر أولاده ونساؤه للعمل في البيت خدمة للسيد أيضاً.

وأما في روسيا فكانت الأوضاع أقسى حتى من هذا، وسوف تزداد مع الوقت سوءً على سوء، ولم يكن تحسن الزراعة بالطبع السبب الوحيد لاختفاء عبودية الأرض في الغرب واستمرارها في الشرق، بل كان واحداً من أسباب عديدة.

لقد كان من المناسب لصاحب العزبة أن يضيق الخناق على عبيد الأرض لديه بمطالبه من أجل تحسين مردود مزرعته، وكانت النتيجة في بعض المناطق خاصة في بولندا، أن وضع الفلاحين قد انحدر إلى مرتبة قريبة من مرتبة العبودية المحض.

صحيح أن التطور يجر البؤس عادة على أفراد كثيرين، ولكن من الصعب أن ننكر أن التأثيرات العامة والبعيدة الأمد لهذا التطور كانت بالمحصلة تأثيرات جيدة. ورغم أننا مازلنا نجد الكثير من الجياع في أوروبا في عام 1800، فإن أعدادهم في بعض البلاد كان أقل بكثير منها قبل قرون ثلاثة.

وتشكل هذه التطورات منعطفاً تاريخياً هاماً، لأن الزراعة كانت عماد الاقتصاد ومحركه، فإذا استثنينا الثروات المعدنية ومنتجات الأسماك وجدنا أن أكثر المصنوعات والتجارة إنما كانت تعتمد على ما تنتجه الأرض من نبات وحيوان، مثل الجلد لصناعة الأحذية، والصوف لصناعة القماش، والعنب والشعير لصناعة الخمر والجعة.

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://resalahmasriyah.mam9.com
Eng. Ahmedzoubaa
Admin
Eng. Ahmedzoubaa


عدد المساهمات : 1216
تاريخ التسجيل : 28/08/2010
العمر : 49

الفصل التاسع - بدايات الأزمنة الحديثة  Empty
مُساهمةموضوع: رد: الفصل التاسع - بدايات الأزمنة الحديثة    الفصل التاسع - بدايات الأزمنة الحديثة  Emptyالأربعاء 15 يونيو 2011 - 0:22

الحكام والرعايا

في عام 1500 كانت أوروبا الواقعة خارج أراضي العثمانيين كلها مسيحية تقريباً، وكان في الشرق ثمة خط يقسم العالم المسيحي إلى شطرين، ينتهي عنده العالم الكاثوليكي التابع لروما وتبدأ المسيحية الأرثوذوكسية، وكانت هناك مناطق على الحدود بين هذين الشطرين في هنغاريا وأوكرانيا ويوغسلافيا السابقة تختلط فيها هاتان الطائفتان، وكنت تجد الأسقفيات الكاثوليكية حتى مدينة فلنيس في ليتوانيا ونهر الدنيستر شرقاً.

أما الأوروبيون الخاضعون لحكم الأتراك المسلمين فكانوا ينتمون عادة إلى إحدى الكنائس الأرثوذوكسية، وسوف يزداد تقدم الإسلام ضمن أوروبا تحت حكم العثمانيين عن طريق اعتناق شعوب البلقان له خلال القرون القليلة التالية، ولكن بالمقابل سوف يزول المسلمون الكثيرون الذين كانوا يعيشون تحت حكم الإسبان في عام 1500.

وكنت تجد اليهود في جميع البلاد الأوروبية تقريباً، وكانت أعدادهم قليلة في بعضها، بينما كان هناك الكثيرون منهم في المناطق الحدودية في بولندا وروسيا، حيث فروا من الاضطهاد على أوروبا الغربية خلال العصور الوسطى، ويسمح لنا هذا الوصف أن نقول أن أوروبا كانت في ذلك الحين هي نفسها العالم المسيحي، أي الجزء من العالم الذي لايسكنه إلا المسيحيون.

أما وصف أوروبا من الناحيتين السياسية والقانونية فهو أمر صعب بكثير، كانت كل من إسبانيا والبرتغال وإنكلترا وفرنسا في عام 1500 تشب الدول الحالية المقابلة لها، وقد ساعدها أن لكل منها حدوداً طبيعية واضحة، فقد كانت شبه الجزيرة الإيبرية منعزلة بفضل جبال البيريه والمحيط الأطلسي والبحر المتوسط، ومنذ هزيمة المسلمين، لم يعد من السهل على الغرباء أن يتدخلوا فيها، ولكنها لم تكن تشكل كياناً سياسياً واحداً، لأن البرتغال كان لها ملكها الخاص، وإسبانيا كانت من الناحية القانونية منقسمة إلى مملكتي قشتالة وأراغون ولكل منهما قوانينها وأعرافها ولو أنهما متحدتان تحت حكم الملكين نفسيهما، كما كانت هناك في الشمال مملكة صغيرة مستقل هي مملكة نافار.

وإذا انتقلت إلى الجزر البريطانية، وجدت أن إنكلترا كانت تسيطر على جزيرة بريطانيا تقريباً، لأن ملوكها كانوا قد فتحوا منطقة ويلز الواقعة إلى الغرب منها منذ زمن طويل، ولكن بقيت لها جارة مستقلة في الشمال هي اسكتلندا، وقد اشتركت المملكتان بملك واحد منذ عام 1603، ولكنهما لم تنضما في دولة واحدة هي بريطانيا الكبرى حتى عام 1707، وحتى عندئذٍ بقيت الكثير من قوانينهما مختلفة.

أما جزيرة إيرلندا فقد كان الإنكليز قد فتحوها وضموها إليهم ووضعوها تحت حكم نائب للملك حتى القرن الثامن عشر، وقد ظل ملوك إنكلترا في ذلك الزمان يلقبون أنفسهم ملوكاً على فرنسا، ولو أن هذا اللقب صار بالياً ومن قبيل التبجح، صحيح أن إنكلترا كانت تحتفظ ببقعة صغيرة من الأرض حول مدينة كاليه في شمال فرنسا في عام 1500، ولكن ملوك فرناس كانوا هم السادة الفعليون على الجزء الأكبر من فرنسا الحالية.

ومع هذا لم تكن بعض المناطق الشرقية قد صارت تحت حكمهم بعد، خصوصاً برغنديا وسافوا والإلزاس واللورين، وحتى ضمن فرنسا نفسها كانت هناك بعض الجيوب الصغيرة الخاضعة لحكام أجانب، وأبرزها أفينون التي كان يحكمها البابا.

حكم السلالات

لم يكن الناس قد ابتكروا تعبير الشؤون الدولية بعد في عام 1500، ولكنهم لو استخدموه لكان مبنياً حتماً على مبدأ الأسرة الحاكمة ومصالحها، فقد كانت العلاقات بين الحكام الأوروبيين تتحدد بالدرجة الأولى بصراعات الأسر فيما بينها، من أجل توسيع ميراثها من الأراضي وتدعيمه وحمايته، مثلما كان الأمر منذ قرون عديدة، وكان لأكثر الحكام ادعاءات بأراض في بلاد أخرى عن طريق المصاهرة أو التحدر من عائلة ما.

وكان أكثر رجال الدولة يرون أوروبا بصورة فسيفساء مكونة من الأملاك الشخصية والعائلية، تنتمي قطع الأرض فيها لحكام مختلفين، وبالتالي لواحدة من السلالات الملكية الكبرى، تماماً كما تنتمي المزارع والبيوت في أجزاء مختلفة من البلد الواحد إلى المالك نفسه. وكان المبدأ السائد هو السعي نحو مصالح الأسر الحاكمة وليس مصالح السكان في منطقة معينة، فكان هذا هو المحور الذي تدور حوله السياسة في أوروبا.

وتبرز في هذه القصة اثنتان أو ثلاث من الأسر الكبرى، كانت إحداها تيودر الويلزية، وأول من ارتقى عرش إنكلترا منها هو هنري السابع في عام 1485، كما حاول ابنه هنري الثامن أن ينال عرش الإمبراطورية الرومانية المقدسة بعد سنوات قليلة، ولكن الحقيقة أن ملوك إنكلترا لم يكن لهم بالإجمال وزن كبير في القرن السادس عشر، إلا عندما يتخاصم حكام آخرون فيما بينهم ويطلبون مساعدتهم أو حيادهم.

كانت أسرة فالوا الفرنسية أكثر أهمية منهم، وهي التي كانت تحكم فرنسا منذ القرن الرابع عشر، وطردت الإنكليز تقريباً بعد صراع طويل، وكان أعظم بكثير من أسرة تيودور، وقد استمرت حتى عام 1589، عندما أخذ عرش فرنسا سلالة بوربون الناجحة، التي ترتبط بهم بروابط المصاهرة، إلا أن الأسرة التي كان بهاؤها يفوق كلاً من الفالوا والتيودور في عام 1500 إنما هي أسرة هابسبرغ النمساوية التي سوف تدوم أيضاً زمناً طويلاً بعد زوالهما.

تشكل تقلبات سلالة الهابسبرغ قصة السياسة في أوروبا، حتى عام 1918 بعد أن حكمت النمسا طوال ستة قرون، وقد أصبح أحد أفرادها في عام 1438 حاكماً على ما سمي في ذلك الحين الإمبراطورية الرومانية المقدسة للأمة الألمانية، ثم صارت تسمى الإمبراطورية الرومانية المقدسة، أو باختصار الإمبراطورية، وكان هذه استمراراً بعيداً لإمبراطورية شارلمان، التي كانت بدورها إحياء لفكرة أقدم منها.

الفصل التاسع - بدايات الأزمنة الحديثة  Holy-roman

الإمبراطورية الرومانية المقدسة

كان جزء كبير من الإمبراطورية واقعاً خارج ألمانيا، ولكن الإمبراطور كان ينتخبه عدد من الأمراء الألمان ومنذ القرن الرابع عشر فما بعد، صاروا يختارون أحياناً رجلاً من أسرة هابسبرغ. وقد استمر العمل بهذا الترتيب مع انقطاع واحد قصير منذ عام 1438-1806، عندما زالت الإمبراطورية الرومانية المقدسة وجاءت بدلاً منها الإمبراطورية النمساوية، ولهذا ظل الهابسبرغ يستخدمون لقب إمبراطور.

فإذا عدت إلى عام 1500 وجدت أن الإمبراطور مكسيميليان كان رأس عائلة الهابسبرغ، وأن زوجته الأولى كانت ابنة دوق برغنديا، وهو واحد من أثرى حكام العصور الوسطى ولم يكن له من ولد يخلفه. لقد سبب موت الدوق اضطرابات كبيرة وزاد خريطة أوروبا تعقيداً، لأن أجزاء تركته قد انتقلت إلى أيد كثيرة مختلفة، ولم يتم هذا إلا بعد نزاعات ومشاكل كثيرة.

والحقيقة أننا نستطيع أن نرى الكثير من أحداث القرن السادس عشر بصورة نزاع طويل بين أسرتي فالوا وهابسبرغ حول ميراث برغنديا، خاصة مقاطعاتها الغنية في الأراضي الواطئة أي التي تقابل تقريباً اليوم هولندا وبلجيكا الحاليتين.

في عام 1519 أصبح ملك إسبانيا وهو من أسرة هابسبرغ رأس الإمبراطورية الرومانية المقدسة، فضم إمبراطورية إسبانيا الهائلة إلى أراضي الهابسبرغ القديمة، وبدا أن أسرته باتت على طريقها نحو تشكيل ملكية عالمية، هذا الملك هو شارلكان أو شارل الخامس، وهو أول رجل قيل عنه بحق أنه كان يحكم إمبراطورية لاتغرب عنها الشمس.

لقد انضمت أسرتا هابسبرغ وفالوا إلى أسر أخرى في الصراع على إيطاليا، باحثة عن حلفاء وأتباع فيها بين عشرات الدول الأساسية التي كانت شبه الجزيرة مقسمة إليها. كانت بعض الدول جمهوريات أرستقراطية، وأشهرها البندقية التي كانت لها أملاك في قبرص وكريت وجزر بحر ايجه، بينما كان بعضها الآخر ممالك في الحقيقة سواء اعترفت بذلك أم لم تعترف مثل فلورنسا التي كانت جمهورية بالاسم ولكنها في يد أسرة من المصرفيين السابقين هي أسرة مديتشي.

ولم تكن تلك التعقيدات الوحيدة في إيطاليا، فقد كانت أكثر الدول الإيطالية ضمن الإمبراطورية الرومانية المقدسة، ولكن بعضها كانت خارجها، ومن هذه الأخيرة ثلاث دول على درجة كبيرة من الأهمية هي البندقية، ومملكة نابولي، والدول البابوية التي كان يحكمها البابا كحاكم دنيوي مثل أي أمير آخر في دولته.

الإمبراطورية وأوروبا الشرقية

ولكن خريطة إيطاليا على تعقيدها كانت بسيطة جداً بالقياس إلى خريطة ألمانيا وأوروبا الوسطى، كانت ألمانيا قلب الإمبراطورية الرومانية المقدسة، وقد سعى الهابسبرغ جاهدين لتحويل الإمبراطورية إلى دولة ملكية مركزية، ولكنهم لم ينجحوا في هذا قط.

كان دستورها في فوضى عارمة، وكان يفترض فيه أن يقدم الجهاز اللازم لإدارة شؤون حوالي أربعمائة من الدول والدويلات والوجهاء بصورة سلسلة، فقد كان هناك مثلاً أمراء هم أتباع إقطاعيون للإمبراطور وأهمهم الأمراء السبعة الذين ينتخبوه، ولكنهم لم يكونوا خاضعين له من أي ناحية أخرى، كما كانت هناك عشرات المدن الإمبراطورية المستقلة، وأراضي أسرة هابسبرغ في النمسا وخمسون أميراً تابعاً للكنيسة يحكمون في أراضيهم مثل الحكام الدنيويين، ومئات من النبلاء الصغار هم الفرسان الإمبراطوريون، الذي لايخضعون للإمبراطور كأتباع إقطاعيين، وأراضي في بوهيميا في جمهورية التشيك الحالية وسيلزيا في بولندا الحالية، تتبع في الحقيقة لعرش هنغاريا وهو خارج الإمبراطورية، وغير ذلك الكثير.

لقد كانت هذه فوضى رهيبة، ولكن الناس كانون يقبلون بها كوضع طبيعي، ولما كان على شارلكان أن يحكم أيضاً إسبانيا وممتلكاتها الهائلة خارج أوروبا فلم يكن ثمة أمل في السيطرة الحقيقية على الأمور.

كان بعض الألمان يعيشون خارج حدود الإمبراطورية، في مملكة بروسيا مثلاً، أما على ساحل بحر البلطيق فكانوا مختلطين بالسويديين والبولنديين، وعلى الطرف الآخر من البحر كانت السويد مملكة مستقلة تضم فنلندا الحالية، وكانت الدنمرك والنرويج تحت حاكم واحد.

وإذا عدت إلى القارة نفسها وجدت أن مملكة ليتوانيا الكبيرة كانت تمتد في غير انتظام مغطية جزءً كبيراً من بولندا الحالية وأوكرانيا وغليسيا الواقعة بينهم، أما روسيا إلى الشرق منها فكانت في طور التوسع، ولكنها لم تكن تغطي بعد إلى النصف الشمالي من روسيا الحالية إلى الغرب من جبال الأورال، ولم يكن قيصرها يعتبر واحداً من حكام أوروبا.

وأخيراً تجد في أوروبا الوسطى مملكة مسيحية مستقلة وكبيرة أخرى هي هنغاريا، الواقعة بين الإمبراطورية والعثمانيين في وادي الدانوب، وكانت بعض أراضيها داخل حدود الإمبراطورية وبعضها خارجها.

اتجاهات جديدة في الحكم

إن الرجال والنساء الذين كانوا يحكمون الوحدات السياسية التي تشكل هذه الفسيفساء المتنوعة من الممالك والأملاك والأمم في القرن السادس عشر لم يعتبروا أنهم أتوا بشيء جديد، وكثيراً ماكانوا يتصرفون بطرق تبدو لنا من أساليب العصور الوسطى، أو أننا لانتوقعها في من الحكام الحديثين.

فقد ظل ملوك فرنسا ينطلقون لغزو إيطاليا تدفعهم روح الفروسية القديمة، بينما حضر ملك إنكلترا هنري الثامن في عام 1520 إلى لقاء دبلوماسي باهر في منطقة فلاندر كان أشبه باحتفالات العصور الوسطى بما يتخللها من مسابقات ومبارزات بالسيوف.

وكان الملوك يحاربون في أغلب الأحيان لمصلحة أسرتهم وليس لمصالح الشعب الذي يحكمونه، وإذا نزلت السلم الاجتماعي إلى مستوى النبلاء، وجدتهم يدافعون عن أنفسهم عندما يشعرون أن الملوك يعتدون على استقلالهم وكرامتهم اللذين طالما تمتعوا بها بحكم العرف والعادة. أما الهيئات التمثيلية التي تعود للعصور الوسطى، ومنها البرلمان الإنكليزي، فكان أمامها هي أيضاً حياة طويلة بعد في بعض دول أوروبا.

ولكن التغيرات السياسية الكبيرة كانت قادمة، فالترتيبات الإقطاعية القديمة التي كانت تحكم أوروبا كلها تقريباً لم تعد لها عندئذٍ أهمية كبيرة إلى الغرب من نهر الراين، وفي بعض البلاد إلى الشرق منه أيضاً.

وكانت هذه العملية قد ابتدأت منذ زمن بعيد في العصور الوسطى، إذ أن المدن لم تكن يوماً جزءً من المجتمع الإقطاعي، وقد نمت نمواً كبيراً في الحجم والأهمية منذ عام 1100، وازدادت أعداد التجار الذين يعيشون فيها، وكان هؤلاء متمتعين بالاستقلال كما كانت ثرواتهم أكبر من ثروات أكثر النبلاء.

إن هذه الضغوط التي كانت تفعل فعلها في المجتمع التقليدي لم تغيره إلى بصورة بطيئة جداً، كما أنها كانت عوامل معقدة جداً، ولكن منذ عام 1500 كانت الترتيبات الإقطاعية وحدها قاصرة عن وصف المجتمع، ولو أنها لم تكن قد زالت تماماً حتى في عام 1800 حيث كان الملوك من ناحية أخرى قد ضاقوا ذرعاً بالأساليب القديمة رغم نزعتهم المحافظة القوية، وكانوا يرغبون في أن يحكموا رعاياهم أن يفرضوا عليهم الضرائب دون أن يتدخل أحد.

فراحوا يستخدمون المحامين لابتكار طرق جديدة لتقويض الترتيبات القديمة، والجنود المحترفين لسحق أتباعهم إذا تمردوا، والموظفين المدنيين لضمان عمل الحكومة ولو عصاهم الوجهاء المحليون، وقد ضعف اهتمامهم بواجباتهم نحو الوجهاء الآخرين بمرور الزمن، فتراهم مثلاً يعاملون رأس الإمبراطورية الرومانية المقدسة رغم مكانته النظرية مثل أي أمير آخر يعمل على تعزيز مصالح سلالته، أي كما كانوا يفعلون هم أنفسهم تماماً.

إن تنافس الملوك فيما بينهم قد جعلهم يسعون لإحكام قبضتهم على أراضيهم، وزاد من توقهم لتحطيم العراقيل القديمة أمام سلطتهم، وقد ساعد هذا الأمر بالتدريج في نشوء مفهوم جديد احتاج الناس زمناً طويلاً كي يقبلوا به، هو مفهوم السيادة.

وجوهر مفهوم السيادة هذا كما هو الحال اليوم، هو ألا توجد ضمن أرض معينة إلا سلطة واحدة لوضع القوانين، وقد بدأت هذه الفكرة بالانتشار في القرن السادس عشر، فكان يقال أنه لايحق لأي إنسان ولو كان الإمبراطور أو البابا نفسه، أن يتدخل بين الحاكم ذي السيادة وبين رعاياه، سواء كان ذلك الحاكم أميراً بمفرده أن مجموعة من الأشخاص، مثل مجلس شيوخ البندقية، كما أنه لايجوز أن تكون هناك قوانين غير الذي يضعها الحاكم ذو السيادة.

سوف يمر وقت طويل قبل أن تصبح هذه الفكرة مقبولة بصورة كاملة وفي كل مكان، وكان من الصعب على الناس أن يقبلوا بصلاحية الحاكم في أن يفعل أي شيء ولو كان معارضاًَ لقوانين الله مثلاً، ولكن هذه الفكرة أضحت مقبولة في أكثر أنحاء أوروبا في عام 1800، ولو استمرت آثار قليلة من الأفكار الأقدم.

وهكذا كان الملوك والأمراء يزدادون قوة وسلطة، إلى أن نشأ أخيراً ما يسمى بالملكية المطلقة، وكان أول مثلا كبير عليها هو إسبانيا، كان شارلكان لقد خلف لابنه فيليب الثاني الجزء الإسباني من أراضي الهابسبرغ عندما تخلى عن العرض في عام 1556، وكان الحكم على عهد هذا الأخير نظرياً على الأقل حكماً مركزياً إلى درجة عجيبة، فكان كل قرار هام تقريباً يحسم من قبل الملك نفسه.

الفصل التاسع - بدايات الأزمنة الحديثة  PhilipII

فيليب الثاني

كان فيليب قد بنى لنفسه بناءً هائلاً هو عبارة عن قصر ودير يسمى قصر الإسكوريال بالقرب من مدريد، وقد تراكمت فيه الأوراق الرسمية إذ راح يحاول أن يدير إمبراطوريته العالمية بصورة شخصية، وأن يراقب بنفسه كل شاردة وواردة.

ولكن هذا الأمر كان حلماً بعيد المنال، لأن الحكومات في القرن السادس عشر لم تكن تمتلك وسائل الاتصال ولا القوات اللازمة بحيث يستطيع مركز واحد أن يحكم أراضي تمتد من البيرو إلى البلاد الواطئة،.

إلا أن إسبانيا في عهد الهابسبرغ على كل حال كانت مثالاً بارزاً عن طموحات الملكية المطلقة في القرن السادس عشر، ولو أنها لم تنجح في تطبيقها عملياً، ولقد كان من بين طموحاتها أيضاً هدف جديد، هو أن تضمن انتماء رعاياها إلى ديانة واحدة، وكان موضوع التماثل الديني هذا موضوعاً جديداً لم يشغل بال الملوك في العصور الوسطى، ولكنه بات في عام 1600 أمراً يهم الحكومات في كافة أنحاء أوروبا، والسبب وراء هذا التطور هو الثورة الدينية الهامة جداً التي حدثت في القرن السابق، وهي أبرز العلامات على ظهور أوروبا الحديثة.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://resalahmasriyah.mam9.com
Eng. Ahmedzoubaa
Admin
Eng. Ahmedzoubaa


عدد المساهمات : 1216
تاريخ التسجيل : 28/08/2010
العمر : 49

الفصل التاسع - بدايات الأزمنة الحديثة  Empty
مُساهمةموضوع: رد: الفصل التاسع - بدايات الأزمنة الحديثة    الفصل التاسع - بدايات الأزمنة الحديثة  Emptyالأربعاء 15 يونيو 2011 - 0:22

الكنائس

في عام 1500 كانت هناك كنيسة واحدة تضم شمل أوروبا وتعطيها هويتها المميزة لها، إلا أن هذه الحقيقة مالبثت أن تبدلت خلال خمسين عاماً بفعل الإنقلاب الكبير الذي سمي لاحقاً بالإصلاح البروتستانتي.

ويمكننا أن نعتبر هذا التبدل نهاية العصور الوسطى وبداية حقبة جديدة في الحضارة الأوروبية، كما سوف تكون له أيضاً أهمية بارزة في تاريخ العالم، لم يكن هذا الإصلاح متوقعاً، وهذه هي حال الكثير من التغيرات الكبرى، ولو علم الرجال الذين ابتدأوه بشيء من نتائجه الأخيرة لروعتهم.

لقد كان أولئك رجالاً ذو عقليات من العصور الوسطى، ولكنهم حطموا تقليداً قديماً من احترام السلطة الدينية يعود إلى ألف عام مضت، فقضوا بذلك على وحدة المسيحية التي كانوا يؤمنون بها إيماناً عميقاً، كما خلقوا صراعات سياسية جديدة، مع أنهم كانوا يظنون أنهم لايهتمون إلا للأمور الروحية.

ونستطيع اليوم أن نرى أيضاً أنهم كانوا يتخذون أولى الخطوات وأهمها نحو مزيد من حرية السلوك للفرد، ومزيد من التسامح مع الآراء المختلفة، ومزيد من الانفصال بين الناحيتين الدنيوية والدينية للحياة، ولو أنهم في الحقيقة لم يرغبوا بشيء من هذا أو حتى يتوقعوه، ولقد أطلقوا باختصار الشيء الكثير من التاريخ الحديث.

من الناحية النظرية، كانت أوروبا كلها مسيحية منذ أن تم تنصير البرابرة في عصور الظلام، ولاتجد لهذه القاعدة إلا استثناءات قليلة في إسبانيا، حيث كان الملوك المسيحيون في عام 1500 يحكمون عدداً هاماً من الرعايا غير المسيحيين، كما كن هناك في بعض البلاد أعداد قليلة من اليهود يعيشون منفصلين عن المسيحيين في أحيائهم الخاصة الغيتو وكانوا خاضعين للضرائب وغير متمتعين عادة بنفس الحماية التي يتمتع بها المسيحيون.

فعدا عن هذه الحالات الخاصة كان جميع الأوروبيين مسحيين، بل إن أوروبا والمسيحية كانتا كلمتين مترادفتين تقريباً في العصور الوسطى، كان الدين هو الرابطة الوحيدة التي تجمع أوروبا، وكان العالم المسيحي كياناً واحداً غير منقسم يجمعه معتقد واحد وأعمال الكنيسة، التي كانت المؤسسة القانونية الوحيدة الشاملة للقارة برمتها.

كانت قوانين الكنيسة سارية في جميع البلاد عن طريق محاكم قائمة إلى جانب النظام العلمانية وبصورة منفصلة عنه، وكانت كل الجامعات تحت إدارة رجال الكنيسة وإشرافهم. وأخيراً كان الناس في جميع البلاد يتلقون نفس الأسرار المقدسة، وكانت هذه تفرض عليهم نمطاً واحداً من الأحداث الكبرى التي يمرون بها خلال حياتهم من ولادة وزواج وموت.

المصلحون

بالرغم من مكانة الكنيسة التي لاينازعها عليها أحد فإنها كانت دوماً عرضة للكثير من الانتقاد، ولم يكن هذا بالأمر الجديد، فالشرور التي كان الناس يستنكرونها في بداية القرن السادس عشر كانت موضع شجب وانتقاد منذ العصور الوسطى، ومنها جهل رجال الدين وسوء استخدامهم لسلطتهم من أجل مكاسبهم الشخصية، وحياتهم المادية البعيدة عن الأمور الروحية.

ولطالما هاجم هذه العلل رجال الدين أنفسهم، ولطالما هزأ الكتاب وسخروا من الكهنة الذين يفضلون الشراب وملاحقة الفتيات على الاهتمام بواجباتهم الروحية، فكانوا يقارنون الكهنة الفقراء المخلصين لرعيتهم والمتفانين في خدمتها، وبين رؤسائهم الأثرياء المنغمسين في ملذات الحياة. إلا أن هذه الهجمات على رجال الدين لم تكن تعني أن الناس يرغبون بهجر الكنيسة نفسها، أو أنهم يشككون بجوهر الديانة المسيحية.

كان رجال الدين يحاولون منذ زمن بعيد أن يرتبوا أمور بيتهم، وبمرور القرن الخامس عشر صار بعض المنتقدين ومنهم الكثير من الكهنة، يقولون بضرورة العودة إلى الكتاب المقدس لكي يرشد الناس إلى الحياة المسيحية الصالحة، بما أن الكثيرين من رجال الدين قد انحرفوا عنها.

كان هؤلاء عادة يتهمون بالهرطقة، وكانت الكنيسة تمتلك أسلحة قوية لمعالجة أمرهم، ومنهم العالم ويكليف من جامعة أوكسفورد والتشيكي جون هوس الذي أعدم حرقاً، وكانوا يتمتعون بدعم شعبي قوي، ويعتمدون على الشعور القومي لدى مواطنيهم بأن البابوية مؤسسة أجنبية غاشمة.

كما أن بعض الهراطقة كانوا يعتمدون على استياء الناس من الظلم الاجتماعي، ولاننس أن الكتاب المقدس يتطرق كثيراً إلى هذا الموضوع. وقد طاردت السلطات منتقدي الكنيسة من أتباع ويكليف وهوس هذين وضايقتهم، ولكن لم يكونوا هم الذين قوضوا الكنيسة,

لم تكن الكنيسة قد خسرت بعد شيئاً من قوتها وسلطتها القديمتين في عام 1500، بالرغم من التزايد المفاجئ لانتقاداتها، بل استمرت بلعب دورها المحوري على كافة مستويات المجتمع، فكانت تشرف على الأحداث السياسية في حياة الفرد من المهد إلى اللحد وتقولبها في أنماط مألوفة وثابتة.

وكان الدين يتخلل الحياة اليومية إلى حد بعيد ويرتبط بها ارتباطاً لاتفصم عراه، ففي أكثر القرى والمدن الصغيرة مثلاً لم يكن ثمة بناء عام غير الكنيسة، فليس من الغريب إذاً أن يجتمع الناس فيها لإدارة شؤونهم الجماعية، ولكن أيضاً للتسلية والاحتفال والرقص في أيام الأعياد.

ولم يكن تدخل رجال الدين في الشؤون الدنيوية مفيداً دوماً للكنيسة، لأن الأساقفة الذين كانوا يلعبون دوراً بارزاً في شؤون حكامهم كانوا معرضين لخطر الانشغال عن العناية برعيتهم، فالكاردينال الكبير ولسي مثلاً الذين كان رئيس أساقفة يورك ومحظياً لدى ملك إنكلترا هنري الثامن، لم يزر أبرشيته إلا عندما أرسله إليها الملك مخزياً بعد أن خسر حظوته لديه وسلطته.

وكان البابوات أنفسهم شديدي الحرص على مكانتهم كحكام دنيويين، ولما كان العرش البابوي والإدارة البابوي أيضاً قد صارا بأيدي الإيطاليين فإن الأجانب قد شعروا بهذا الأمر بصورة أكثر حدة.

وكانت الكنيسة تعاني أيضاً منذ زمن طويل من مشكلة أخرى، هي استلام الفرد الواحد لمناصب عديدة وقبض ما تقدمه له من رواتب من دون أن يقوم بواجباته نحوها، ويبدو أن الكنيسة قد عجزت عن معالجة هذه المشكلة. ومن أسبابها أن المال لم يكن كافياً، بالرغم من الأبهة التي كان يعيش فيها الكثيرون من الأساقفة ورؤساء الأديرة، وبالرغم من الترف والبذخ في البلاط البابوي بروما. ويروى عن أحد البابوات أنه قال "بما أن الله قد أعطانا البابوية فلنستمتع بها"، فبسبب قلة المال كانت الوظائف توزع على رجال الدين مكافأة لهم على خدماتهم.

وسبب الفقر مصاعب أخرى أيضاً، لقد وصل البابا سيكستس الرابع إلى درجة رهن التاج البابوي، ولم يكن من المألوف أن يبلغ البابوات هذا الحد، ولكن الشكاوى من استخدام السلطتين القانونية والروحية من أجل زيادة مدخول البابوية كانت شكاوى قديمة، وكان سببها البعيد هو الحاجة لإيجاد مصادر جديدة للمال.

كان المال قليلاً في الأبرشيات أيضاً، فصار الكهنة أشد صرامة في جمع الضريبة التي تترتب على أبناء أبرشيتهم، وهي نسبة من منتجاتهم الزراعية تساوي عادة العشر أو 1/12. وقد أدى هذا إلى الاستياء والمقاومة بين الناس، فصار رجال الكنيسة يهددونهم بالحرمان من الأسرار المقدسة ما لم يدفعوا ما يترتب عليهم، وكان هذا تهديداً خطيراً في عصر يؤمن فيه الناس أنه قد يؤدي بهم إلى نار جهنم الأبدية.

وأخيراً كان الفقر من أسباب جهل رجال الدين، ولو أنه لم يكن السبب الوحيد، صحيح أن مستوى التعليم بينهم قد تحسن منذ القرن الثاني عشر خاصة بفضل الجامعات، إلا أن الكثيرين من الكهنة في عام 1500 لم يكونوا أقل جهلاً وإيماناً بالخرافات من أبناء أبرشيتهم.

وفي هذه الأجواء بدأت البابوية بتشييد كاتدرائية جديدة كبيرة في روما، هي كاتدرائية القديس بطرس التي مازالت قائمة هناك، فكان عليها أن تجد طرقاً جديدة لجمع المال، ومن هذه الطرق أنها أرسلت أعداداً أكبر من الباعة المتجولين الذين يبيعون صكوك الغفران. وكان هؤلاء وعاظاً يأخذون من الناس مساهمة مالية لبناء الكاتدرائية، ويعطونهم بالمقابل ضماناً من البابا باختصار المدة التي سوف يقضونها في المطهر، وهو المسكن الذي كان يعتقد أن النفس تتطهر فيه من أشرار العالم وخطاياهم قبل أن تنتقل إلى السماء.

لوثر

كانت تلك هي الشرارة غير المتوقعة التي أشعلت الثورة الدينية، في عام 1517 كان الراهب الألماني مارتن لوثر قد قرر أن يحتج على صكوك الغفران وعلى عدد من ممارسات البابوية الأخرى، ولما كان عالماً من الطراز القديم فقد سار على التقليد السائد بأن علق حججه المؤلفة من خمسة وتسعين بنداً على باب كنيسة القلعة في مدينة فيتنبرغ للنقاش العلني، حيث أنه كان أستاذاً في جامعة تلك المدينة.

وهنا بدأت حركة الإصلاح البروتستانتي، وسرعان ما ترجمت حججه من اللغة اللاتينية التي كتبها بها إلى اللغة الألمانية، فانتشرت في ألمانيا انتشار النار في الهشيم، وأمنت لها الطباعة جمهوراً أوسع مما حظيت به الانتقادات السابقة للبابوية.

كان لوثر يساهم في صنع تاريخ العالم من دون أن يعلم، وكان يتمتع بالمزاج الملائم لهذه المهمة الكبرى، كان سكسونياً ابن فلاح، كما كان رجلاً مندفعاً وانفعالياً، وقد أصبح راهباً في سن الحادية والعشرين بعد انقلاب نفسي عنيف سببته صاعقة من البرق أصابته وهو يسير على الطريق العام، لقد غلب عليه عندئذٍ شعور بالهلع وبأنه إنسان مذنب وأنه لو مات من الصاعقة لما كان جديراً إلا بالجحيم، وصار فجأة على يقين من أن الله يحبه وأنه سوف ينقذه.

ويشبه هذا التحول في سرعته وعنفه تحول القديس بولس عندما كان في طريقه إلى دمشق، وعندما قدم لوثر بأنه غير جدير بأن يكون كاهناً، وقد آمن فيما بعد بأن الشيطان قد ظهر له، بل إنه رماه بمحبرة كانت أمامه، ولكن طبيعة لوثر كانت في الوقت نفسه صلبة لاتلين إذا ما اقتنع أنه على حق، وهذا ما يفسر تأثيره الكبير، وربما كانت ألمانيا بالأصل ناضجة لتقبل أفكار مثل أفكاره، ولكن لولاه لما سلكت حركة الإصلاح الطريق التي سلكتها.

كان هناك في ألمانيا حقد وضغينة شديدان ضد البابوية الإيطالية ينتظران أن يأتي أحد ليحركهما ويستغلهما. وقد تحول لوثر إلى الكتابة والوعظ بإرادة صلبة عندما حاول رئيس أساقفة ألمانيا في ماينز أن يسكته، كما تخلى عنه زملاؤه الرهبان، إلا أن جامعته وقفت إلى جانبه، وكذلك حاكم سكسونيا أي الولاية التي كان يعيش فيها.

وفي النهاية قسمت كتاباته الألمان إلى فريقين، فريق صار يسمى باللوثريين مع أن لوثر سمي في البداية هوسيا، أي من أتباع هوس*، وفريق المؤيدين للبابا والإمبراطور. وقد جاءه الدعم من رجال الدين المستهجنين لتعاليم رجال دين روما وممارساتهم، ولكن أيضاً من أناس بسطاء يحملون المظالم ضد جباة الضرائب ومحاكم الكنيسة، ومن أمراء جشعين طامعين بثروة الكنيسة ومن أشخاص آخرين وقفوا إلى جانبه لسبب بسيط هو أن خصومهم التقليديين قد وقفوا ضده.

لقد وضع لوثر في النهاية آراءه بصورة مجموعة من العقائد اللاهوتية، أي بيانات حول الإيمان يجب على المسيحي أن يتمسك بها لكي يضمن أنه مسيحي حقاً وأنه سوف ينقذ من الجحيم بعد الموت. قال لوثر إن الكنيسة نفسها وحتى الأسرار المقدسة ليست حتمية من أجل الخلاص، وإن الإنسان يمكنه تحقيق الخلاص إذا هو آمن بيسوع المسيح.

وكانت هذه التعاليم على درجة كبيرة من الأهمية، لأنها تعلم أن الخلاص ممكن في المحصلة من دون الكنيسة، وبالاعتماد على علاقة الفرد الشخصية بالله. ولقد قيل أن لوثر أزاح البابا عن عرشه ونصب محله الكتاب المقدس، أي كلمة الله التي يمكن لكل مؤمن أن يسترشد بها من دون الحاجة لوساطة الكنيسة.

إن هذه النظرة التي تشدد تشديداً كبيراً على الضمير الفردي كانت نظرة ثورية، وليس من الغريب أن يكون لوثر قد حرم من الكنيسة، إلا أنه استمر بالتعليم والوعظ وراح يكسب المزيد والمزيد من الدعم.

البروتستانتية والإصلاح المضاد

إن الصراعات السياسية التي أثارتها تعاليم لوثر بين حكام ألمانيا قد اندلعت بشكل سلسلة من الحروب والثورات، وبعد مرحلة طويلة من الاضطراب كان لابد من الوصول إلى تسوية عامة، فعقد صلح أوغسبرغ عام 1555، أي بعد تسع سنوات من وفاة لوثر، واتفق فيه على أن تقسم ألمانيا بين الكاثوليك والبروتستانت، وكانت هذه الكلمة قد صارت مستخدمة بعد توقيع احتجاج Protestation ضد البابوية في عام 1529، فكان حاكم كل دولة يقرر الديانة التي تتبع لها ولايته.

وبهذا أضيفت زمرة جديدة من الانقسامات إلى بلد كانت بالأصل مقسمة، وكان الإمبراطور شارلكان مضطراً للقبول بهذا الترتيب لأنه الطريقة الوحيدة القادرة على تأمين السلام في ألمانيا، مع أنه كان قد كافح المصلحين، وللمرة الأولى اعترف الأمراء ورجال الكنيسة بوجود أكثر من مصدر واحد للسلطة الدينية، وبوجود أكثر من كنيسة رسمية واحدة ضمن المسيحية الغربية.

وكانت قد بدأت تطورات أخرى كان لوثر نفسه يستنكرها، هي تقسم البروتستانتية، إذ راح المزيد والمزيد من الناس يتخذون لأنفسهم آراء خاصة في المسائل الدينية، وسرعان ماظهر بروتستانتيون آخرون لايشاركون لوثر آراءه، وكان أهمهم الفرنسي جون كلفين الذي ظهر في سويسرا.

لقد انشق كلفين عن الكاثوليكية وراح يبشر في ثلاثينيات القرن السادس عشر، وقد نجح نجاحاً كبيراً في جنيف، كما أسس فيها دول ثيوقراطية أي أنها تحت حكم الأتقياء الورعين من أتباعه الكلفينيين.

كانت جنيف مكان شديد التزمت، وكان الهرطقة تعاقب فيها بالموت، ولم يكن هذا بالأمر الغريب في تلك الأيام، ولكن جنيف كانت تتميز بأنها تفرض عقوبة الموت، كما فعل كلفين على الرجل الذي يذهب مع امرأة متزوجة أو المرأة التي تذهب مع رجل متزوج.

إلا أن الكلفينية نجحت نجاحاً كبيراً أيضاً في فرنسا والبلاد الواطئة واسكتلندا، بينما لم تنتشر اللوثرية في البداية خارج ألمانيا التي ولدت فيها إلا في اسكندينافيا. وكانت النتيجة على كل حال مزيداً من الانقسام، بحيث صارت هناك الآن أوروبات ثلاث، اثنتان منها بروتستانتية وواحدة كاثوليكية، عدا عن عدد من الطوائف البروتستانتية الصغيرة.

وسوف تلعب البروتستانتية دوراً هاماً في مستقبل إنكلترا أيضاً، كانت إنكلترا تعيش الكثير من الظروف المناهضة للبابوية التي رأيناها في بلاد أخرى، وكان فيها فوق هذا عامل شخصي جداً، هو رغبة ملكها هنري الثامن بالتخلص من ملكته، لأنه لم تحمل له بابن يرث العرش من بعده. ولكن هنري كان في الحقيقة ابناً مخلصاً للكنيسة، بل إنه قد كتب كتاباً ضد لوثر أكسبه استحسان البابا الذي سماه حامي حمى الإيمان وهو لقب مازالت سليلته تحمله حتى اليوم.

ولقد كان من الممكن جداً أن يتم له ما أراد عن طريق أن يلغي البابا زواجه من هذه الملكة، لولا أنها كانت عمة للإمبراطور شارلكان، الذي تحتاج الكنيسة إلى دعمه ضد الهراطقة الألمان، لهذا ماكانت الكنيسة لتساعده، فتخاصم هنري مع البابا وانشقت إنكلترا عن ولائها لروما واستولى الملك على أراضي الأديرة في إنكلترا، وكان بعض الإنكليز يرجون أن تصبح إنكلترا لوثرية ولكن هذا لم يحصل.

إن هذه النجاحات الكبيرة التي أحرزتها البروتستانتية قد أجبرت كنيسة روما على أن تبدل نفسها من نواحٍ عديدة، وكان الكاثوليك يتمنون أن تعود الأمور إلى سابق عهدها، ولكنهم كانوا يدركون أنهم باتوا الآن مضطرين للعيش بين أشخاص مختلفين عنهم ويدعون أنهم هم أيضاً مسيحيون.

لذلك صارت كاثوليكية روما أكثر تصلباً، أو يمكننا أن نقول أنها صارت أكثر انضباطاً وتنظيماً، وهذا ما يسمى الإصلاح المضاد. وكانت هناك قوى عديدة ساهمت في هذه الحركة، ولكن أهمها كان المجمع المسكوني العام للكنيسة، الذي افتتح في مدينة ترانتو بشمال إيطاليا عام 1545، وظل يعقد جلساته حتى عام 1563.

لقد أعاد مجمع ترانتو تعريف جزء كبير من عقيدة الكنيسة، كما وضع تعاليم جديدة لتدريب الكهنة وثبت سلطة البابا، وقد وجدت حركة الإصلاح المضاد نصيراً بارزاً لها هو الإسباني أغناطيوس لويولا، الذي أسس جماعة جديدة لخدمة البابوية هي جمعية يسوع أو اليسوعيون.

فقد أقرت جمعية اليسوعيين في عام 1540، وكانت مرتبطة بالبابا شخصياً بيمين خاص من الطاعة، وكان اليسوعيون يدربون بعناية كبيرة بحيث يصبحون جيشاً مكوناً من نخبة المعلمين والمبشرين، وكان لويولا مهتماً اهتماماً خاصاً بتنصير البلاد الوثنية المكتشفة حديثاً. وكانوا أكثر الرجال تمثيلاً للروح المحاربة المتصلبة المميزة لحركة الإصلاح المضاد. وكانت هذه الروح موافقة لمزاج لويولا، إذ أنه كان جندياً وكان يعتبر جمعيته تنظيماً عسكرياً، والحقيقة أن اليسوعيين كانوا يسمون أحياناً ميليشيا الكنيسة.

ولم تكن جمعيتهم هذه هي السلاح الوحيد في الترسانة الجديدة للكنيسة، بل كانت هناك أيضاً محاكم التفتيش، وهي المؤسسة التي وضعت في العصور الوسطى لملاحقة الهرطقة ثم أصبحت محكمة الاستئناف الأخيرة في قضايا الهرطقة في عام 1542، فضلاً عن قائمة الكتب الممنوعة والتي وضعت للمرة الأولى في عام 1557.

الدين والحرب

لقد قسمت حركتا الإصلاح والإصلاح المضاد الأوروبيين بصورة مريرة، ولم يتأثر العالم الأرثوذوكسي في الشرق كثيراً، إلا أن جميع أنحاء أوروبا التي كانت كاثوليكية في السابق قد مرت بأكثر من قرن من الصراعات الدينية والصراعات السياسية التي سممها موضوع الدين. وقد نجحت بعض البلاد في اضطهاد أقلياتها حتى قضت على وجودها تماماً، مثل إسبانيا وإلى حد بعيد إيطاليا أيضاً، فبقيت بذلك قلاعاً منيعة للإصلاح المضاد.

وكان الحكام في العادة يتخذون القرارات بأنفسهم فيقبل رعاياهم بقراراتهم، وقد يحاول الأجانب التدخل أحياناً، ولكن إنكلترا البروتستانتية كانت محمية بفضل قنالها، فكان الخطر عليها أقل منه على ألمانيا وفرنسا.

إلا أن الدين لم يكن السبب الوحيد في الحروب التي عرفت بالحروب الدينية والتي خربت جزءً كبيراً من أوروبا بين عامي 1550 و 1648، فقد كان هناك أحياناً كما هي الحال في فرنسا مثلاً صراع على السلطة بين الأسر الأرستقراطية الكبيرة التي ارتبطت بهذا الحزب الديني أو ذاك.

وكان المنتصر الأخير في فرنسا رجلاً من أسرة بروتستانتية هو الملك هنري الرابع، الذي تمكن من الوصول إلى العرش عن طريق اعتناق الكاثوليكية، وهكذا ظلت الملكية الفرنسية كاثوليكية، ولو أن الكثيرين من الهغنوت أي الفرنسيين البروتستانت قد ظلوا يتمتعون بحقوق خاصة، كما سمح لهم بالاحتفاظ بمدن محصنة لحماية أنفسهم وحقوقهم.

كانت البلاد الواطئة تحت حكم إسبانيا، وقد نشبت فيها ثورة بدأها النبلاء المحليون الراغبون بمزيد من الحكم الذاتي، ثم تغيرت طبيعة تلك الثورة شيئاً فشيئاً بتأثير الدين، وفي النهاية شعر الزعماء الأرستقراطيون في المقاطعات الجنوبية، أي بلجيكا الحالية، أن من الأفضل لهم أن يظلوا كاثوليكاً وتحت حكم إسبانيا.

أما المقاطعات الشمالية، والتي تقابل تقريباً مملكة الأراضي الواطئة هولندا الحالية، فقد دخلت في حظيرة البروتستانتية، مع أنها كانت تحوي مجموعة سكانية كاثوليكية كبيرة، وبعد صراع طويل يسموه الهولنديون حرب الثمانين عاماً ظهرت في أوروبا دولة جديدة هي المقاطعات المتحدة، التي كانت اتحاداً فيدرالياً صغيراً من الجمهوريات الصغيرة بقيادة هولندا، وكان تطبق مبدأ التسامح الديني.

إن أبشع استغلال للدين من أجل الأهداف السياسية قد حدث في ألمانيا، فالصراعات الدينية التي سويت في أوغسبرغ عادت فاندلعت من جديد في القرن السابع عشر، عندما حاول إمبراطور من أسرة هابسبرغ مشبع بمبادئ الإصلاح المضاد أن يدفع الكاثوليكية على حساب البروتستانتية، فنتج عن ذلك حرب الثلاثين عاماً الفظيعة، التي استعرت نارها بصورة متقطعة بين عامي 1618 و1648، والتي ضاعت فيها المسائل الدينية في خضم السياسة والمجازر. وقد تحالف في إحدى مراحلها كاردينال فرنسي من كنيسة روما مع ملك السويد البروتستانتي من أجل أن يسحق مصالح أسرة هابسبرغ الكاثوليكية. وفي هذه الأثناء كانت الجيوش تذرع أنحاء ألمانيا مخلفة البؤس والدمار في كل مكان وناشرة الأمراض والمجاعة، وقد فقدت بعض المناطق سكانها، كما أن بعض المدن التي كانت مزدهرة قد اختفت تماماً.

ولم يكن هناك بد من تسوية جديدة في النهاية، فكان صلح فستفاليا الذي أنهى الحرب في عام 1648 وافتتح حقبة جديدة، لقد ظل موضوع الدين حتى في ذلك الحين سبباً مشروعاً للاقتتال بين الدول، وعذراً كافياً لكي يقتل الإنسان جاره أو يعذبه إذا ما انحرف عن جادة الصواب، إلا أن رجال الدولة قد صاروا بالإجمال أكثر اهتماماً بأمور أخرى في تعاملهم بعضهم مع بعض، وصار العالم أكثر تحضراًَ بقليل، عندما عادوا يهتمون بشؤون التجارة والأراضي وابتعدوا عن أمور الدين,

وكانت أوروبا في ذلك الحين أي في النصف الثاني من القرن السابع عشر، مقسمة إلى دول أكثر لاتقبل رسمياً إلا ديانة واحدة هي الديانة السائدة فيها، ولكن بعضها كانت فيها درجة لابأس بها من التسامح، خاصة في إنكلترا والمقاطعات المتحدة.

الفصل التاسع - بدايات الأزمنة الحديثة  Habsburg






* يان هوس 1370-1415 مصلح تشيكي دانه مجمع كونستانس وأعدم حرقاً، انتشر مذهبه في بوهيميا ومورافيا وتلاشى بعد 1433 . المنجد في الأعلام.

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://resalahmasriyah.mam9.com
Eng. Ahmedzoubaa
Admin
Eng. Ahmedzoubaa


عدد المساهمات : 1216
تاريخ التسجيل : 28/08/2010
العمر : 49

الفصل التاسع - بدايات الأزمنة الحديثة  Empty
مُساهمةموضوع: رد: الفصل التاسع - بدايات الأزمنة الحديثة    الفصل التاسع - بدايات الأزمنة الحديثة  Emptyالأربعاء 15 يونيو 2011 - 0:23

عالم جديد من القوى العظمى

لقد تغيرت طبيعة الحكم في الدول الأوروبية رويداً رويداً في اتجاهات مختلفة، وسوف ننظر هنا في حالات ثلاث منها، هي فرنسا والمقاطعات المتحدة وإنكلترا، كان أنجح الحكام الأوروبيين وأبرزهم قاطبة في تمثيل الملكية المركزية المطلقة هو لويس الرابع عشر، الذي حكم فرنسا في عام 1660 حتى عام 1715 كان قد ورث العرش منذ عام 1643 وهو في الخامسة من عمره، فكان عليه أن ينتظر حتى يبلغ السن القانونية، وما أن استلم زمام الحكم حتى دفع ادعاءات الملكية إلى مراتب لم يبلغها أحد من معاصريه، فانتهت على عهده المتاعب التي كان يسببها النبلاء الفرنسيون، كما أنه صادر الميزات التي كسبها الهغنوت البروتستانت الفرنسيون وقد مكنته الضرائب العالية وكثرة الرجال النسبية في فرنسا من إكساب الجيش قوة لاسابق لها، ومن القيام بسلسلة ناجحة من الفتوحات، أقله خلال النصف الأول من حكمه.

الفصل التاسع - بدايات الأزمنة الحديثة  Louis_14_debout_gd

لويس الرابع عشر

أما في المقاطعات المتحدة الهولندية وإنكلترا فقد سلكت التطورات مناحي خاصة ومتميزة جداً، لم يكن لدى الهولنديين قدر كبير من الحكم المركزي القوي، وكان هذا الأمر ضاراً بالبلاد، لأن المنافسات بين المقاطعات المختلفة كثيراً ما عرقلت تعاونها فيما بينها، من أجل مقاومة الضغوط الخارجية. وكان هذا الضعف ثمن الحرية الواسعة التي كانوا يتمتعون بها، والتي لم يكن لها من مثيل في أي بلد آخر.

كان جوهر هذه الحرية هو الدفاع عن استقلال مجموعات حاكمة صغيرة نسبياً من المواطنين الأغنياء المسيطرين على الحكم في كل دولة، وأهمها تجار أمستردام، عاصمة مقاطعة هولندا، ومركز الحياة التجارية في البلاد. ولكن حرص الأغنياء على حماية حرية المقاطعات قد أمن في الوقت نفسه حرية للمواطن العادي أيضاً، لأن نظرتهم إلى الأمور كانت في العادة مشابهة لنظرة أكثرية رعاياهم، ولأن مصالحهم الاقتصادية كانت موافقة لمصالح المواطنين الأفقر، فالجميع كانوا يعانون مثلاً إذا ساءت الأشغال في أمستردام، وليس الأغنياء وحدهم ولأنهم كانوا حريصين جداً على حريتهم في المتاجرة وكسب المال.

وقد نجحوا نجاحاً بارزاً خلال القرن السابع عشر، رغم اضطرارهم للصراع الشديد ضد لويس الرابع عشر الذي كان يبغض اتجاهاتهم الجمهورية ولكنه يحب أزهار التوليب التي يزرعوها ويشتريها منهم بالملايين كل عام، إلا أن الهولنديين أضحوا في القرن الثامن عشر على عتبة مرحلة من التراجع والانحسار، وكان من أسبابها تلك الضغوط التي فرضتها عليهم أوضاعهم المذكورة، ولن يكونوا بعدها أبداً قوة عالمية هامة كما كانوا في المائة سنة السابقة.

وأما قصة إنكلترا فهي قصة مختلفة كل الاختلاف، كان يلوح في البداية أن أسرة تيودور قد تبني لنفسها ملكية مركزية قوية مثل ملكيات أوروبا، فقد كانت تقاليدها الملكية الوطنية هي الأقدم في أوروبا، كما كان الشعور القومي في إنكلترا أكثر تطوراً منه في البلاد الأخرى.

والحقيقة أن هذا الأمر قد سهل على هنري الثامن أن يقوم بعملية تأميم الكنيسة في إنكلترا، بحيث اندمجت فيها البروتستانتية بالشعور القومي اندماجاً لاتجد مثيلاً له في ألمانيا. إلا أن هنري اعتمد أيضاً في وضع القوانين الجديدة اللازمة على مؤسسة قديمة في إنكلترا، ألا وهي البرلمان، وسوف يكون لهذا الخيار أهمية كبيرة في المستقبل. ولم يكن البرلمان الإنكليزي وحيداً من نوعه في أوروبا، بل كانت هناك هيئات شبيهة في دول أخرى، ولكنها انهارت جميعاً خلال القرون القليلة التالية أمام متطلبات الملكية المطلقة، بينما راح هو يزداد قوة على قوة.

ومن سخرية القدر أن هذه التطورات إنما تمت عن يد سلالة التيودور التي ما كانت لتتمنى شيئاً من هذا القبيل، فعندما طلب هنري من البرلمان أن يقر القوانين المتعلقة بمصير الكنيسة، كان يعترف ضمناً بأن للبرلمان حق التشريع في أمر على هذه الدرجة من الأهمية، ولهذا صار من الصعب جداً على الملوك من بعده أن ينصرفوا في أمور تمس المصلحة الوطنية من دون دعم البرلمان.

والعامل الآخر الذي لعب دوره في تدعيم سلطة البرلمان هو الشك والقلق المحيطان بموضوع الخلافة، إذ أن جميع أولاد هنري لم تكن لهم ذرية، إن حكم الملكة إليزابيث الأولى يعتبر عصراً عظيماً وكان عظيماً بالفعل، إلا أن الملكة كانت تعيش في قلق وخوف دائمين من أن تفقد عرشها ورأسها أيضاً، لذلك قطعت رأس منافستها ماري ملكة الاسكتلنديين لقد كانت الأوضاع ضدها في أوروبا، وكان ثمة أشخاص آخرون يدعون الحق بالعرش وقد ينالون الدعم من الخارج، لذلك كانت إليزابيث حريصة على ألا تعادي رعاياها، فمكنتهم من أن يعبروا أن يعبروا عن أنفسهم خلال البرلمان الذي كان يقر الضرائب، وشيئاً فشيئاً صار من الواضح أن الملكية لايمكنها أن تفرض الضرائب دون موافقة البرلمان على الأهداف التي تجبى تلك الضرائب من أجلها.

كان الملكة إليزابيث تتمتع بشعبية كبيرة، وكانت تسمى تحبباً Good Queen Bess، وكانت بارعة في التعامل مع الناس فاستطاعت أن تخفي الكثير من تلك المتاعب، أما خليفتاها، أي أول ملكين من سلالة ستيوارت، فلم يتمتعا بتلك المزايا، وكان جيمس الأول رجلاً اسكتلندياً لايحب الأساليب التي اعتاد عليها الإنكليز على عهد التيودور أو لايفهمها، وقد انهارت على عهديها علاقات التاج بالبرلمان.

ثم اندلعت في منتصف القرن السابع عشر حرب أهلية كبيرة بينت أخيراً بصورة حاسمة أن إنكلترا لن تتطور نحو الحكم المطلق السائد في القارة مع أنها مرت بفترة من الزمن أضحت فيها جمهورية تحت حكم رجل يتمتع بسلطات ديكتاتورية هو السيد الحامي أوليفر كرومويل، وقد تثبت انتصار الملكية الدستورية، أي المحدودة، في عام 1688 عندما حصلت ثورة بيضاء تقريباً هي الثورة المجيدة، فأزاحت عن العرش جيمس الثاني آخر ملوك الستيوارت، الذي كان يعتقد أنه يحاول عكس التيار السائد منذ قرن ونصف القرن من أجل أن يعيد توطيد الكاثوليكية في إنكلترا.

بعد ذلك صارت إنكلترا تحكم في الحقيقة من قبل ملاك الأراضي المهيمنين على البرلمان، وكما كانت مصالح الأغنياء الحاكمين في الجمهورية الهولندية موافقة لمصالح الكثيرين من الناس، كذلك كان حكام إنكلترا يرعون المصالح الوطنية بصورة جيدة.

كانت الزراعة هي القطاع الأهم في إنكلترا، لذلك فإن ما يناسب صاحب الأرض والمزارع كان في العادة مناسباً للبلاد أيضاً، كما أن مصالح الفئات الأخرى كالمصرفيين والتجار مثلاً لم تهمل؛ مع أنهم كانوا يتذمرون من سياسات الحكومة إلا أنها كانت عادة تأخذ آراءهم بعين الاعتبار.

وبالتدريج صار الإنكليز المتعلمون وغير المتعلمين على حد سواء يشعرون بوجود ارتباط طبيعي بين المزايا الجلية التي يتمتعون بها، من حرية شخصية ومساواة أمام القانون وبروتستانتية وحماية من الملكية المطلقة من جهة، وبين نمو ثروات البلاد من جهة أخرى، ورغم حصول الكثير من النكسات بعد عام 1660 فإن أكثر الإنكليز كانوا مرتاحين ومؤيدين للدستور ولفكرة الملكية المحدودة.

منذ القرن الثامن عشر كان الكثيرون من الأوروبيين معجبين بإنكلترا، أولاً لأنها ليست ملكية استبدادية، بل خاضعة لحكم ممثلين منتخبين وأرستقراطيين، ولو أن أصحاب الأراضي كانوا هم الذين يختارون أولئك الممثلين. وثانياً لأن الإنكليز كانوا يتمتعون بحريات أكبر بكثير في حياتهم الخاصة، فلم يكن من الشائع أن يسجن الأشخاص من دون محاكمة، ولا أن تدخل بيوتهم وتفتش من دون مذكرة قاضي.

صحيح أن الطبقات كانت هامة جداً في المجتمع الإنكليزي، ولكن النبلاء الكبار قد يمثلون للمحاكمة إذا ما ارتكبوا جرماً، مثلهم مثل أي إنسان آخر، هذه الأشياء التي كان الأوروبيون يستغربونها ويعجبون بها كان سببها هي أيضاً أن إنكلترا يحكمها أصحاب الأراضي الذين يعتقدون أن أفضل طريقة لحماية أنفسهم هي أن يدعموا امتيازاتهم بقوانين لايمكن أن يغيرها إلا البرلمان.

وهكذا صار الحكم الدستوري مرتبطاً بواحدة من القوى العظمى كحقيقة إيديولجية في الحياة الدولية.

مواضيع جديدة في العلاقات الدولية

منذ القرن السابع عشر كانت مواضيع النزاع بين الدول الأوروبية قد بدأت بالتغير قليلاً، لقد كان جوهر الصراعات الكبيرة بين سلالة الهابسبرغ من جهة، وسلالتي الفالوا ثم البوربون في فرنسا من جهة أخرى، هو الهيمنة على إيطاليا ثم على ألمانيا.

وقد زاد الدين الأمور تعقيداً في الحالة الثانية، حيث صار الأمراء البروتستانتيون يتطلعون إلى حماية فرنسا الكاثوليكية ضد أباطرة الهابسبرغ الكاثوليك. كما تداخلت هذه الصراعات كلها بالصراع بين الإنكليز والإسبان، الذي ازداد حدة بسبب الدين، والذي غذته المنافسة بين الاثنين في العالم الجديد والخوف من سيطرة إسبانيا على الأراضي الواطئة، فضلاً عن الثورة الهولندية.

كانت هذه الصراعات في البداية إذاً صراعات بين السلالات ومقتصرة على القارة الأوروبية، ولكنها اكتسبت قبل عام 1700 بعداً جغرافياً أوسع وبعداً إيديلوجياً جديداً أيضاً، ويبدو الآن أن البعد الجغرافي ذا أهمية خاصة، لأن الحروب التي خيضت بين عامي 1500 و 1800 قد امتدت إلى كافة أنحاء الكرة الأرضية، وبلغت بقاعاً تبعد آلاف الأميال عن البلاد التجارية، وإن أكبر الحروب العالمية التي جرت في الأزمنة القديمة لتبدو ضئيلة جداً بالقياس إلى نطاق هذه الحروب الجديدة.

وكان تلك أيضاً بداية عصر طويل، استمر على الأقل حتى عام 1917 صارت فيه الصراعات بين الأوروبيين ترسم مصائر الملايين من أبناء الشعوب السوداء والسمراء والصفراء التي لم تكن قد سمعت يوماً بباريس أو بلندن.

ولاريب أن بعض أسباب هذا التطور قد باتت الآن واضحة، مثل سيطرة الأوروبيين المتزايدة على البحار، ونشاطهم الاقتصادي في كافة أنحاء العالم، والمزايا التقنية التي صاروا يتمتعون بها على غير الأوروبيين. لقد مكنتهم هذه الأمور من اختراع كيانات جديدة، هي الإمبراطوريات الممتدة عبر المحيطات والمعتمدة على الاتصالات البحرية، وكان من المحتم أن يؤدي هذا إلى صراعات بين تلك الأمم الأوروبية الضارية في كل ركن من أركان الأرض.

تعود جذور هذه الصراعات بالدرجة الأولى إلى نمو التجارة، التي كانت كما قال وزير فرنسي للويس الرابع عشر " سبب نزاع دائم في الحرب وفي السلم بين أمم أوروبا" فطوال قرنين تقريباً راحت كل من إسبانيا والبرتغال والمقاطعات المتحدة وإنكلترا وفرنسا ترسل سفنها وتبني حصونها من أجل الحفاظ على تجارتها مع البلاد التي استملكتها، أو مع الشعوب التي كانت أول من تاجر معها من بين أهل أوروبا. وإن سواحل هذه البلاد الأوروبية قد منحتها مصائر مختلفة عن مصائر دول أوروبا الوسطى البعيدة عن البحر وعن دول البحر المتوسط، وكان العالم الجديد في الأمريكيتين هو المسرح الأساسي للمنافسات فيما بينها إلا أنه لم يكن بالمسرح الوحيد.

إمبراطوريات المحيطات

كان البرتغاليون والإسبان أول من بدأ ببناء الإمبراطوريات عبر المحيطات، وقد اتفقوا فيما بينهم على اقتسام كل أرض جديدة يكتشفوها في أي بقعة من بقاع العالم من دون أن يستشيروا أحداً، ولو أن البابا قد سمح لهم فيما بعد بضم أي أرض ليست ملكاً لأمير مسيحي.

وقد عقدوا في عام 1494 اتفاقية رسمت خطاً شمالياً جنوبياً على بعد 370 فرسخاً إلى الغرب من جزر الآزور الواقعة في المحيط الأطلسي، وكان الفرسخ يساوي عادة حوالي خمسة كيلومترات، ونص عل أن كل ما يقع على الغرب من هذا الخط سوف يكون لإسبانيا، وكل ما يقع إلى الشرق منه سوف يكون للبرتغال، وهكذا ضمت البرتغال إليها البرازيل لأنها واقعة في الطرف الشرقي، فكانت هي الجزء الوحيد الذي استملكته من العالم الجديد.

ثم عقدوا في عام 1529 اتفاقية ثانية رسمت خطاً جديداً يقع على بعد 297.5 فرسخاً إلى الشرق من جزر ملوك البرتغالية (إندونيسيا الحالية) وأعطت جميع الأراضي الواقعة على طرف المحيط الهادي من هذا الخط لإسبانيا، وجميع الأراضي الواقعة إلى الغرب منه للبرتغال ماعدا جزر الفيليبين التي احتفظت بها إسبانيا فكانت النتيجة الإجمالية لهاتين الاتفاقيتين أن العالم الجديد المؤلف من الأمريكتين قد صار لإسبانيا، بينما آلت الهند والمحيط الهندي وجزر التوابل إلى البرتغال.

ويعكس هذان العالمان إلى حد ما نوعين مختلفين من التوسع الإمبراطوري، فقد اتخذ الأوروبيون أمريكا منذ البداية أرضاً للاستيطان، مع اهتمامهم بالمتاجرة معها وبمنتوجاتها الفريدة، بينما كانت إمبراطورية البرتغال بالدرجة الأولى إمبراطورية تجارية وليست استيطانية باستثناء ساحل البرازيل.

واستمرت الأمور على هذه الصورة لزمن طويل، فكان الأوروبيون يذهبون إلى الأمريكتين بأعداد متزايدة طوال قرون ثلاثة، ولكن قليلون منهم من استقروا في آسيا وإندونيسيا، وحتى الذين استقروا كانوا في العادة مزارعين أو مقيمين إقامة طويلة ولكنهم راغبون بالعودة إلى بلادهم ذات يوم بعد أن يجمعوا ثرواتهم، لهذا لم يكن صراع الأوروبيين في الشرق الأقصى وفي الطرق الأفريقية المؤدية إليه صراعاً على الأراضي، بل على المرافئ والمحطات التي كانوا يتاجرون فيها مع أهل البلاد الأصليين، وكان لابد لهم من احترام الحكام المحليين الذين سمحوا لهم بتأسيس محطاتهم تلك، ولم يكن التوسع الأوروبي في آسيا في مراحله الأولى عادة عن طريق الغزو بل عن طريق الدبلوماسية والتفاوض.

كان الشرق في القرن السادس عشر خاضعاً لهيمنة البرتغاليين، وكان ملكهم قد منح نفسه لقباً فخماً هو "سيد الفتوحات والملاحة التجارية في الحبشة وبلاد العرب وفارس والهند" وإلى الجنوب من جزر الرأس الأخضر كابوفرده كانوا يحتكرون التجارة حتى المحيط الهندي ومنه إلى جزر التوابل.

فكانوا يحملون البضائع بين بلاد آسيا، مثل السجاد الفارسي إلى الهند، وكبش القرنفل من جزر ملوك إلى الصين، والقماش الهندي إلى سيام (تايلاند) وقد تغلبوا على منافسيهم العرب من قواعدهم عند مدخل البحر الأحمر والخليج الفارسي. وكان هذا كله يرتكز على قوتهم البحرية وعنايتهم الكبيرة بعلاقاتهم الدبلوماسية بالحكام المحليين، فوضعوا بذلك نمطاً سار عليه الأوروبيون في المحيط الهادي وآسيا طوال القرنين التاليين.

إلا أن البرتغاليين فقدوا هيمنتهم هذه عند نهاية القرن السادس عشر عندما أزاحهم الهولنديون وأسسوا شركة للهند الشرقية في عام 1602 بهدف الحلول محلهم في تجارة التوابل مع أوروبا وهي غنيمة ثمينة، وقد نجحوا في مسعاهم هذا بمهارة وقسوة كبيرتين، وما إن أزاحوا البرتغاليين حتى راحوا يقاتلون الإنكليز بشراسة لإبعادهم عن جزر التوابل، ونجحوا في هذا الأمر أيضاً نجاحاً كبيراً، وهكذا كانوا في عام 1700 قد بسطوا هيمنتهم على كافة إندونيسيا الحالية.

وفي هذه الأثناء كان قد ظهر عدد من المحطات الإنكليزية المتفرقة حول سواحل الهند، تمتد من غجرات حتى كلكوتا، بينما احتفظ البرتغاليون ببعض محطاتهم الأقدم في شبه القارة، وكان للفرنسيين والدنمركيين أيضاً مواطئ أقدام فيها.

ويمكنك ملاحظة الاهتمام المتزايد للأوروبيين بشؤون الأراضي الواقعة خارج قارتهم من خلال محطات زمنية ثلاث. فإذا بدأت بمعاهدات السلام التي عقدت كما رأيت في فستفاليا في عام 1648 لم تجد فيها كلمة واحدة عن الشؤون غير الأوروبية. ولكن بعد أقل من ثلاثين سنة أي في عام 1667 كانت معاهدة بريدا بين الإنكليز والهولنديين الفرنسيين مهتمة بالشؤون الخارجية (خارج أوروبا) مثل اهتمامها الشؤون الداخلية (داخل أوروبا)، وكانت تلك نهاية الحرب الثانية من حروب بحرية ثلاث بين إنكلترا والمقاطعات المتحدة حول التجارة.

وبعد سبعين سنة من ذلك أي في عام 1739، خاضت المملكة المتحدة وإسبانيا حرباً حول مسألة لاعلاقة لها بأوروبا، هي حرب أذن جنكيز، فكانت تلك أول حرب تنشب بين دولتين أوروبيتين بسبب مسألة خارجية، ويمكننا اعتبارها خاتمة مرحلة مابرحت أهمية الشؤون البعيدة تنمو فيها حتى أصبحت مساوية في نظر الدبلوماسيين لأهمية الشؤون الأوروبية المألوفة.

لقد حدثت حرب أذن جنكيز لأن البحارة الإنكليز كانوا يحاولون منذ عقود عديدة أن يخترقوا التجارة مع المستوطنات الإسبانية، وأن ينالوا منها أكثر مما يحق لهم بحسب المعاهدات المعقودة، فكانت الأساطيل الإسبانية تحاول القبض عليهم، وعندما تنجح في ذلك كان تعاملهم معاملة قاسية وهكذا فقد القبطان جنكيز أذنه على زعمه، وكان النزاع يدور حول غنيمة ثمينة، هي الحق ببيع البضائع لسكان الإمبراطورية الإسبانية.

كان الإسبان يرغبون بالاحتفاظ باحتكارهم لتلك التجارة، ولكن حاجتهم لدعم مصالح الهابسبرغ في أوروبا كانت دوماً تعيقهم عن إحراز هذه الغاية وتضطرهم لإبقاء قواهم مقسمة، فلم تكن إسبانيا قادرة على التخلي عن إمبراطوريتها عن المستوطنات لأنها معتمدة على مواردها، وفي الوقت نفسه، لم تكن قادرة على الحد من ثرواتها في المشاكل المكلفة التي كانت سلالة الهابسبرغ متورطة بها في أوروبا.



التنافس بين الإمبراطوريتين الإنكليزية والفرنسية

لقد كانت أوضاع الإنكليز أفضل من الإسبان، صحيح أنهم كانوا متورطين في أوروبا ولكن تورطهم لم يبلغ تلك الدرجة من العمق، ثم إن إنكلترا قد اتحدت باسكتلندا في عام 1707، فأصبحت بذلك الجزيرة كلها دولة واحدة، ولم تعد تخشى أن تغزى عبر حدودها البرية.

وكان مرسوم الوحدة في ذلك العام معلماً هاماً لا من الناحية الدستورية فقط، بل أيضاً لأنه مرحلة هامة في النزاع الطويل بين إنكلترا وفرنسا، الذي صار الآن متداخلاً بالمشاكل بين إنكلترا وإسبانيا.

عندما حدثت الثورة المجيدة كما ذكرنا في عام 1688، وأزاحت الملك جيمس الثاني عن العرش، وكان آخر ملوك الستيوارت في إنكلترا، حل محله ويليام الهولندي (ويليام أوف أورانج) وزوجته الملكة ماري ستيوارت ابنة الملك السابق، فصارت إنكلترا عندئذٍ تساند الهولنديين ضد لويس الرابع عشر بعد أن كان هؤلاء أعداءها اللدودين منذ سنوات قليلة فحسب.

ثم اندلعت بعد ذلك حروب عديدة كانت أهمها هي حرب الخلافة الإسبانية فقد مات ملك إسبانيا، وهو من سلالة هابسبرغ في عام 1701 من دون أن يخلف وريثاً للعرش، وكان لكل من فرنسا والنمسا ادعاءات بتاج إسبانيا، وهو بلاريب غنيمة كبيرة، وكانت فرنسا مثل إسبانيا مضطرة للقتال في أوروبا كما في البحر، حيث كان لويس الرابع عشر في حالة حرب ضد تحالف ترأسه ملكية هابسبرغ.

لقد انتهت حرب الخلافة الإسبانية في عام 1713 بصلح أوترخت الذي قسم الخلافة الإسبانية، فأخذت أسرة هابسبرغ النمساوية الأراضي الواطئة، بينما سمح لأمير فرنسي بأن يصبح ملكاً على إسبانيا وإمبراطوريتها بشرط ألا يتحد تاج إسبانيا بتاج فرنسا أبداً.

وفي نفس الصلح كسبت المملكة المتحدة الكثير من الجزر الكاريبية الفرنسية، وكانت قد بدأت بأخذها من منافسيها منذ خمسينيات القرن السابع عشر، عندما استولى كرومويل على جمايكا من الإسبان بالإضافة إلى جزء جديد من أمريكا الشمالية كئيب ولكنه هام استراتيجياً هو أكاديا، التي سميت الآن نوفا سكوتيا أي اسكتلندا الجديدة، كما كسب البريطانيون الحق بالمتاجرة مع المستوطنات الإسبانية عن طريق إرسال سفينة واحدة في العام إلى بورتوبلو، فكان هذا تنازلاً سوف يستخدمونه مثل إسفين لفتح التجارة بصورة أوسع.

وقد أدى هذا في عام 1739 إلى حرب أذن جنكيز التي سرعان ماتورطت فيها فرنسا وبروسيا من طرف والنمسا وبريطانيا من الطرف الآخر، وقد تحارب البريطانيون والفرنسيون في الهند، حيث كانت شركة الهند الشرقية الفرنسية في أربعينيات القرن الثامن عشر تتدخل في السياسة المحلية تدخلاً حثيثاً من أجل أن تحاول التغلب على منافسيها والتفوق عليهم.

وكان الفرنسيون قد وسعوا نشاطاتهم كثيراً في أمريكا الشمالية أيضاً، حيث أسسوا مرافئ قرب مصب نهر الميسيسيبي، وهو مدخل شبكة الأنهار الهائلة المسيطرة في وسط القارة، وكانت إحدى حملاتهم في بداية القرن الثامن عشر قد اندفعت ضمن هذه المنطقة من الجنوب، بينما نزلت إليها حملات أخرى آتية من منطقة البحيرات الكبرى في الشمال.

شعر المستوطنون البريطانيون المقيمون على الساحل الشرقي حينذاك أنهم باتوا بين فكي كماشة هائلة، وأن الفرنسيين يبغون أن يعزلوهم ويمنعوهم من الامتداد نحو الداخل، ولكن الفرنسيين لم يستقروا في الحقيقة في وادي الميسيسيبي، ولم تكن لهم أراضي ثابتة في الداخل. إلا أنهم كانوا قد بنوا عدداً من الحصون في نقاط إستراتيجية هامة، فكانت هذه بدايات مدن سوف تظهر في المستقبل، مثل سانت لويس في عام 1862، وممفيس في نفس العام، ودوترويت في عام 1701، ونيوأورليانز في عام 1718، كما أنهم سلحوا الهنود وشجعوهم على محاربة البريطانيين، وكان من الواضح أنهم لن يتخلوا عن المناطق الداخلية من دون صراع.

ولم يتوقف القتال في الهند وأمريكا قط رغم عقد صلح صوري جديد في أوروبا في عام 1748، وكانت إسبانيا قد أضحت الآن قوة ثانوية، وقد اندلعت عام 1756 حرب جديدة بين فرنسا وإنكلترا وكان النزاع فيها يدور حول كل من الهند وكندا. وتسمى هذه الحرب حرب السبع سنوات لأن الصلح عقد من جديد في عام 1763، وقد حسم فيها مصير الهند وكندا، كما حسم في الوقت نفسه مصير الأراضي التي كانت بروسيا حليفة البريطانيين والنمسا حليفة الفرنسيين تتنازعان عليها في ألمانيا.

وبلغت الحرب ذروتها بالنسبة لبريطانيا على عهد حكومة كان يرأسها ويسيطر عليها ويليام بت ، الذي يحق له أن يقول أنه أول رجل دولة بريطاني ألم إلماماً تاماً بإمكانيات السلطة الإمبراطورية.

لقد قال بت في ألمانيا أنه يريد كسب كندا عن طريق حمل حلفائه على تطويق الفرنسيين فيها ومنعهم من التوسع، وقد نجح ذلك بالفعل، وكان بعض الإنكليز يرجون أن يأتي الصلح أشد قسوة، ولكنه على كل حال قد ضم كندا إلى بريطانيا، كما جعل الهند آمنة لعمل شركة الهند الشرقية البريطانية. وصارت هناك سلسلة من الجزر البريطانية أضيفت إليها الآن جزر جديدة تطوق البحر الكاريبي بالكامل تقريباً، الذي تكاثرت فيها المستوطنات البريطانية في جمايكا وهندوراس وساحل بليزه.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://resalahmasriyah.mam9.com
Eng. Ahmedzoubaa
Admin
Eng. Ahmedzoubaa


عدد المساهمات : 1216
تاريخ التسجيل : 28/08/2010
العمر : 49

الفصل التاسع - بدايات الأزمنة الحديثة  Empty
مُساهمةموضوع: رد: الفصل التاسع - بدايات الأزمنة الحديثة    الفصل التاسع - بدايات الأزمنة الحديثة  Emptyالأربعاء 15 يونيو 2011 - 0:23

أوروبتان

بينما كانت الخصومة في الغرب بين أوروبا الكاثوليكية وأوروبا البروتستانتية قد توسعت بسرعة إلى صراعات عالمية تعدت مجال السلالات ومصالحها، كانت مجموعة مختلفة وجديدة من العوامل قد دخلت في حسابات الدبلوماسيين في أوروبا الشرقية.

كانت أوروبا الشرقية منطقة شاسعة ليس لها شكل أو قوام واضح، وكانت منذ قرون طويلة ساحة اقتتال بين الشعوب التوتونية والسلافية، كما كانت في الوقت نفسه منطقة مجابهة بين ثقافات أجنبية عديدة، فكان العثمانيون يضغطون عليها من الجنوب، وكان ملوك السويد الراغبون بتوسيع أراضيهم إلى الجنوب من بحر البلطيق يتدخلون في شؤونها خلال القرن السابع عشر.

ولكنها مرت بتطورات ثلاث أعطتها بالتدريج طابعاً خاصاً ومميزاً لها، أول تلك التطورات هو زيادة امتداد عبودية الأرض فيها، وترسخها في السهول الشمالية لشرق ألمانيا وبولندا وروسيا وفي وادي نهر الدانوب، وثانيها القضاء على المعالم السياسية القديمة التي تعود للعصور الوسطى، مثل جمعية فرسان التوتون ومملكتي بولندا وهنغاريا، أما ثالثها فهو بزوغ ثلاث من القوى العظمى المعتمدة على السلالات الملكية وهيمنتها في المنطقة ألا وهي بروسيا الهوهنزولرن، ونمسا الهابسبرغ، وروسيا الرومانوف.

لم تكن بروسيا في عام 1500 إلا دوقية صغيرة على بحر البلطيق خاضعة لملوك بولندا، وقد استولى عليها في القرن السادس عشر سلسلة من الحكام العسكريين من براندنبرغ، وهي إحدى الدول التي كان حكامها ينتخبون رأس الإمبراطورية الرومانية المقدسة، ثم راحوا يوسعون أراضيهم بصورة مطردة.

وصارت هذه الدولة تعرف بأنها تحوي أفضل جيش في أوروبا وأفضل خدمة مدنية فيها، لقد صد حكامها السويديين في القرن السابع عشر، وعرف أحدهم في القرن الثامن عشر بفريدريك الكبير، الذي كان أول من تحدى هيمنة الهابسبرغ من بين الأمراء الألمان، وقد ابتدأ صراعاً مع النمسا استمر حتى وقت متقدم من القرن التالي، ولو أنه كان صراعاً متقطعاً.

أما النمسا أو بالأصح ملكية هابسبرغ، فقد واجهت تحدي الفرنسيين في إيطاليا أولاً، ثم تحدي الفرنسيين والبروسيين على التوالي في ألمانيا، وأخيراً أبعدتها معاهدة أوترشت عن إسبانيا وإمبراطوريتها. لذلك حصرت طموحاتها بالتدريج بأوروبا الوسطى والشرقية، وقد حازت على مكاسب كبيرة مع تفسخ بولندا وتراجع الإمبراطورية العثمانية.

وأما روسيا فقد نالت هي الأخرى مكاسب كبيرة، وكان بزوغها هو التغير الأهم من بين التغيرات التي طرأت على الشرق إطلاقاً، ولسوف تصبح في عام 1800 أكبر قوة عسكرية في أوروبا، وهو تطور ماكان ليخطر ببال إنسان في عام 1500.

لقد بقي قلب الإمبراطورية الروسية الجديدة هي إمارة موسكوفيا القديمة، وكان أمراء موسكوفيا حكاماً أوتوقراطيين مطلقين، ولقد سار الحكم في روسيا على تقاليدهم هذه وعلى تقاليد التتار، وليس على التقاليد الأكثر جمهورية في نوفغورود مثلاً؛ وكان الأمر على درجة كبيرة من الأهمية.

كما انتقلت إلى موسكو بطريركية الكنيسة الأرثوذوكسية، أي رئاستها، من موقعها القديم في فلاديمير وألقت الكنيسة بوزنها في كفة أمراء موسكوفيا.

يذكر القارئ أن إيفان الثالث وخلفاءه قد ضموا أراضي شاسعة، وقد أضيفت إليها أراضي جديدة في النصف الأول من القرن السابع عشر، خاصة سيبيريا، ولقد بدلت هذه التوسعات الخريطة تبديلاً هائلاً، ولكنها لم تؤثر كثيراً في أوروبا، لأن موسكوفيا كانت بعيدة جداً وكان الاتصال بها ضئيلاً للغاية.

ورغم تقاليد الحكم المطلق فيها فقد كانت في القرن السابع عشر في حالة من الفوضى، لأن الحكم المطلق بحاجة إلى حاكم قوي، لقد استلمت العرش في عام 1613 سلالة جديدة من سلالة الرومانوف، إلا أن التحسينات التي أتت بها كانت بطيئة جداً.

ولكن في عام 1682 ارتقى العرش حاكم فذ مصمم على توسيع إمبراطوريته فوق اتساعها، وعلى تبني أساليب أوروبا الغربية ألا وهو بطرس الكبير، مازالت أعظم الصروح التي خلفه هي مدينة سانت بطرسبرغ، التي أسسها في خليج فنلندا، والتي ظلت عاصمة روسيا منذ عام 1715 حتى عام 1918، وكانت هذه المدينة رمزاً لعملية التغريب التي قام بها بطرس، أي تحديث بلاده عن طريق استعارة أفكار الغرب، إذ أنه كان أول المصلحين الاستبداديين الكثيرين الذين تطلعوا إلى الغرب بحثاً عن طرق للتغلب على تخلف بلادهم.

الفصل التاسع - بدايات الأزمنة الحديثة  Saint_Petersburg_In_Europe

موقع مدينة سانت بطرسبرغ أوروبا

كما أنه أحكم قبضة روسيا على ساحل البلطيق، وقضى على خطر السويديين، الذين ظلوا يهددون البلاد طوال القرن السابع عشر، وانتزع منهم كلاً من لاتفيا وإستونيا وكاريليا. إلا أن نجاحه كان أقل بكثير مما كان يأمل، وقد عجز عن الاحتفاظ بآزوف، وهي أول منفذ لروسيا على البحر في الجنوب، إذ استردها العثمانيون بعد سنوات قليلة.

كانت روسيا في الداخل بلداً محافظاً جداً، وقد بقيت كذلك لزمن طويل، ورغم أهمية التجارة في الأيام العظيمة لكييف روس ونوفغورود فقد ظلت طبقة التجار فيها صغيرة وظلت مدنها قليلة. وكانت أكثر الحرف تمارس فيها على مستوى بسيط من قبل الفلاحين، وليس من قبل أشخاص مختصين كما في الغرب، وكان السواد الأعظم من سكانها فلاحين.

وكانت التجارة المحلية كثيرة، ولكنها تعتمد على المقايضة، وقد جرت بعض المحاولات المقصودة لتشجيع التصنيع، كما في عهد بطرس الكبير، إلا أنها لم تغير المجتمع مثلما غيره قدوم الصناعة في أوروبا الغربية، ولم تعط طبقة وسطى جديدة بين طبقتي النبلاء والفلاحين مكونة من التجار والمصنعين الأغنياء الساعين لتأمين مصالحهم الخاصة، بل بقيت الصناعة مرتبطة بالنظام الحاكم، فكانت الدولة هي التي تقرر أن تفتتح منجماً أو تؤسس مصنعاً، وليس رجال الأعمال المستقلون؛ وقد جعل هذا الأمر روسيا مختلفة جداً عن أوروبا الغربية.

وربما كان الأمر الأكثر لفتاً للأنظار هو اعتماد روسيا الكبير على عبودية الأرض، حتى بالقياس إلى بقية أوروبا الشرقية، فمع اقتراب عام 1800 كان العدد المطلق أي الكلي لعبيد الأرض في ازدياد مضطرد، وكذلك نسبتهم إلى بقية أفراد المجتمع الروسي، وقد بلغت هذه النسبة في ذلك الحين حوالي الثلثين، وكانت السلطات القانونية التي بأيدي ملاك عبيد الأرض هؤلاء في ازدياد أيضاً.

لقد بلغ التباين بين أوروبا الشرقية أوروبا الغربية أشد درجاته حدة في روسيا، بالرغم من الحياة المتغربة السطحية التي كنت تراها في البلاط وبين الطبقة الأرستقراطية في العاصمة الجديدة بطرسبرغ، التي ابتناها بطرس على بحر البلطيق ومنحها لبلاده نافذة على الغرب، والتي لم تكن في الحقيقة بأكثر من ذلك.

وبالرغم من قوة روسيا الكبيرة ومن محاولات بعض خلفاء بطرس لتحديثها في القرن الثامن عشر، فقد بقيت قلب منطقة هائلة تضم أيضاً جزءً كبيراً من ألمانيا الشرقية وأوروبا الوسطى وبولندا، تراكمت فيها قرون متطاولة من التجارب التاريخية التي أنتجت اقتصاديات وحكومات وثقافات بعيدة كل البعد عن مقابلاتها في الغرب.

وكانت روسيا نفسها بتقاليدها البيزنطية والتترية هي المثال الأقصى على ذلك، فهي لم تمر لا بحركة النهضة ولا بحركة الإصلاح البروتستانتي، وسوف تفوتها بعد تجارب تاريخية كبيرة جعلت الغرب يتباعد عنها أكثر فأكثر مع تسارع وتيرة التحديث بعد عام 1700، وكانت عبودية الأرض هي العلامة الدالة على هذا التباعد.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://resalahmasriyah.mam9.com
 
الفصل التاسع - بدايات الأزمنة الحديثة
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
رسالة مصرية ثقافية :: قسم العلوم التربوية والأدبية :: التاريخ العربي :: كتاب تاريخ العالم-
انتقل الى: