رسالة مصرية ثقافية
مرحبا بك أخي الزائر نشكر زيارتك ونتمني انضمامك للمنتدي
زيارتك تسر إدارة المنتدي ومشاركتكك تسعدنا وتساهم معنا بارتفاع الثقافة العامة
بعض المنتديات الفرعية والموضوعات
لا يمكنك الإطلاع عليها إلا بعد التسجيل كعضو في المنتدي
رسالة مصرية ثقافية
مرحبا بك أخي الزائر نشكر زيارتك ونتمني انضمامك للمنتدي
زيارتك تسر إدارة المنتدي ومشاركتكك تسعدنا وتساهم معنا بارتفاع الثقافة العامة
بعض المنتديات الفرعية والموضوعات
لا يمكنك الإطلاع عليها إلا بعد التسجيل كعضو في المنتدي
رسالة مصرية ثقافية
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

رسالة مصرية ثقافية

ثقافية - علمية - دينية - تربوية
 
الرئيسيةرسالة مصريةأحدث الصورالتسجيلدخول

 

 الفصل الثامن - عصر الاكتشافات والمواجهة

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
Eng. Ahmedzoubaa
Admin
Eng. Ahmedzoubaa


عدد المساهمات : 1216
تاريخ التسجيل : 28/08/2010
العمر : 49

الفصل الثامن - عصر الاكتشافات والمواجهة  Empty
مُساهمةموضوع: الفصل الثامن - عصر الاكتشافات والمواجهة    الفصل الثامن - عصر الاكتشافات والمواجهة  Emptyالأربعاء 15 يونيو 2011 - 0:17

المبادرة الأوروبية

لنتمهل قليلاً عند عام 1000 للميلاد، لأن هذا التاريخ ذا معنى خاص عند أهل القرون الوسطى، فضلاً عن أنه رقم مدور يسهل تذكره. مع اقتراب الألفية من نهايتها صار كثير من الناس في أوروبا المسيحية يعتقدون أنها سوف تجلب نهاية العالم ويوم الدينونة، وكان بعضهم في الحقيقة راغبين بقدوم نهاية العالم ومتأهبين لملاقاة خالقهم، إلا أن أكثرهم كانوا يعيشون في عالم ليس فيه ما يبعث على الأمل أو التفاؤل، فقد كانت أوروبا في ذلك الزمان بلاداً فقيرة، ومازالت تحرر نفسها من الشعور بأنها محاصرة من الهون الأفار والفايكنغ والعرب، ولم يكن للقانون والنظام وجود في أراضيها. أما في حوالي 1500 م فكانت الصورة قد بدأت بالتغير، صحيح أن أوروبا كانت فقيرة بالمقاييس الحديثة ولكنها كانت أوفر ثروة بكثير مما كانت عليه قبل خمسة قرون، فكانت مدنها أكبر وأوسع ازدهاراً، والتبادل والتجارة فيما بينها أكثر نشاطاً، والأعمال الفنية والأدبية فيها أكثر وفرة، كما كانت حكوماتها أحدث وأكثر فعالية، ونظرتها للعالم الخارجي نظرة جديدة، وإنه لتكثر فيها الدلائل على الاندفاع والمغامرة والشوق لبلوغ آفاق جديدة.

النهضة

تطلق تسمية النهضة Renaissance أحياناً على ازدهار الفنون والآداب بين القرنين الرابع عشر والسادس عشر، وهي بالأصل كلمة فرنسية معناها البعث أي الولادة من جديد. وقد شعرت جميع البلاد الأوروبية الواقعة إلى الغرب من روسيا بتأثير تلك النهضة بدرجات مختلفة، وساهمت أكثرها فيها بقسط ما، إلا أن مركزها وقلبها الحقيقي إنما كان في إيطاليا، فقد عاشت في مدنها بين عامي 1350 و 1450 أعداد من الأدباء والفنانين والعلماء والشعراء هي أكبر منها في أي بلد آخر، وكانت أوروبا كلها تقصد إيطاليا لكي تتعلم منها وتحاكي الأشياء الجميلة التي برع الإيطاليون في ابتكارها، وكان هؤلاء بدورهم يتطلعون إلى الماضي الكلاسيكي لليونان وروما.

تكمن جذور النهضة في إعادة اكتشاف جزء من ماضي أوروبا كانت قد حجبته الحضارة المسيحية أثناء العصور الوسطى، فقد مجد المصور رافايلو فلاسفة اليونان العظام في لوحاته، وراح الكتاب الإنسانيون يحاكون أسلوب الخطيب والكاتب الروماني شيشرون من أجل أن يضفوا الأناقة والجمال على لغتهم اللاتينية، والحقيقة أنه بعث الآداب الكلاسيكية هو الذي أعطى النهضة اسمها. ولكن يبقى الدليل الأبرز على إنجازات النهضة هو فنها، فقد خلفت لنا في التصوير والنحت والحفر والعمارة والموسيقى والشعر أعداداً هائلة من الإبداعات الجملية التي صاغت أفكار الناس عن معايير الجمال لقرون طويلة. وقد بلغ هذا الفن ذروته في القرن الخامس عشر وأوائل القرن السادس عشر، وهو العصر الذي ظهر فيه عدد من الرجال العظام منهم مايكل أنجلو النحات والمصور المعماري والشاعر، ورافايلو المصور والمعماري، وليوناردو دافنشي المصور والمهندس والمعماري والنحات والعالم. وكان أهل عصر النهضة يعجبون بأمثال هؤلاء من ذوي البراعات العديدة، الذين أعطوا الناس فكرة جديدة عن قدرة الإنسان على الإتقان والتفوق، وبينوا عظمة مواهبه الدنيوية أعظم مما كانت تعلمه الكنيسة. وإن للفنان مايكل أنجلو لوحة تصور خلق آدم أبي البشر، وتراه فيها بصورة بطل عملاق يفوق في قوته وحدة تعبيره خالقه نفسه، الذي يمده بالحياة من خلال سبابته.

كان أدباء النهضة أول من بدأ باستخدام تعبير العصور الوسطى بل العصر الوسيط، لأنهم كانوا يتحدثون عنها في البداية بصيغة المفرد لوصف ما يقع بينهم وبين الماضي الكلاسيكي الذي كانوا واعين لأهميته وعياً كبيراً. إلا أن الحقيقة الأهم في حياة الأوروبيين لم تكن قد تغيرت كثيراً في عام 1500م، وهي أن الدين مازال قلب حضارتهم، بل إنها الآن قد كست نفسها بثوب الدين وتظاهرت للعالم بأشكال دينية أيضاً. إن أول كتاب طبع في أوروبا إنما هو الكتاب المقدس، فكان يطبع في عام 1500م بترجمات ألمانية وإيطالية وفرنسية أما النسخة الإنكليزية فلم تظهر حتى عام 1526م، وكان أعداد الناس الذين يقرؤونه في ذلك الزمان أكبر مما كانت عليه في أي عهد سابق. وبعد سقوط القسطنطينية شعر الكثير من الأوروبيين أنهم المسيحيون الوحيدون في العالم، إذ لم يكونوا يعرفون عن أهل موسكو إلا القليل القليل، فكانت هذه الفكرة تحرك مشاعرهم، وربما كانت تدفعهم إلى اعتبار أوروبا مركز العالم، مثلما كانت أورشليم ذات يوم.

الاكتشافات

يفسر هذا التغير في الأجواء مجيء العصر الذي سمي عصر الاكتشافات، وهي في الحقيقة اكتشافات اقتصرت على الأوروبيين تقريباً منذ القرن الخامس عشر فما بعد. كانت خريطة العالم لبطليموس قد وصلت إلى الغرب في عام 1400م، ثم طبعت ونشرت من جديد في عام 1477 فأعطت الأوروبيين أفكاراً جديدة، ولكن المعلومات التي توافرت في ذلك الحين قد سبقت بطليموس بأشواط بعيدة، خاصة من ناحيتين اثنتين: أولاُ: بسب اكتشاف أراضي في الغرب وراء المحيط الأطلسي لم يكن بطليموس على علم بها. ثانياً: بسبب إمكانية الوصول إلى آسيا عن طريق الدوران بحراً حول أفريقيا. وكان للتقدم التقني في مجالي بناء السفن والملاحة أهمية كبيرة في تلك الاكتشافات، ولكن التقنية وحدها لاتكفي لتفسير روح هذا العصر، فالصينيون كانوا يعرفون البوصلة المغناطيسية منذ زمن بعيد، وكانوا قد بنوا سفن الينك الشراعية العابرة للمحيطات، بينما كانت مراكب الدَّهْو العربية تجوب عرض المحيط الهندي، كما قام سكان جزر المحيط الهادي البعيد برحلات طويلة وغامضة في قوارب الكنو المفتوحة، وكانوا ذوي مهارة كبيرة في شؤون الملاحة. ويبقى السؤال الأساسي: لماذا كان الأوروبيون هم الذين وحدوا الكرة الأرضية من خلال مغامراتهم البرية والبحرية الطويلة، والتي امتدت حتى استكشاف القطبين الشمالي والجنوبي في القرن العشرين؟ لماذا لم يسبقهم العرب أو الصينيون إلى الأمريكيتين؟ في الحقيقة أننا لانستطيع أن نجيب على هذا السؤال بجواب واحد وبسيط، بل كانت هناك عوامل كثيرة تراكمت وتضافرت فيما بينها، ويفضل ألا نعطي أيا منها الدور الحاسم في إنجازاتهم تلك.

من الواضح أن تحسن تصميم السفن وبنائها كان عاملاً هاماً في تحضير أوروبا لدورها العالمي الجديد، كان الأوروبيون يستخدمون القائم الكوثلي (الدفة الخلفية) في عام 1300، كما تحسنت الأشرعة أيضاً فصارت السفن أسهل قيادة وآمن وأسرع. وفي عام 1500م كان المركب الثخين الذي استخدمه بحارة العصور الوسطى في شمال أوروبا قد زال وحل محله مركب صغير ذو ثلاث صواري وأشرعة مختلطة بعضها عرضاني وبعضها طولاني، وهذا هو التصميم الأساسي للسفينة الشراعية التي سوف تسود البحار طوال ثلاثمائة وخمسين سنة. وقد حصلت أيضاً تطورات هامة في الملاحة، فقبل قرون عديدة كان بحارة الفايكنغ البارعون يقومون برحلات طويلة في المحيط بعيداً عن مرأى اليابسة، لأنهم كانوا يعرفون الإبحار على خط عرض ثابت مهتدين بارتفاع الشمس عن الأفق عند منتصف النهار لكي يبقيهم على مسارهم. ثم وصلت البوصلة في القرن الثالث عشر إلى المتوسط وبدأ البحارة باستخدامها ولعلها أتت من الصين، ولكن ما من دليل مباشر على ذلك، وفي عام 1270م تجد أول إشارة لاستخدام الخريطة في سفينة، وقد سهلت الخرائط معرفة الأوروبيين بالجغرافية وانتشار تلك المعرفة بصورة متسارعة خلال القرنين القادمين.

إن لقصة الاكتشافات هذه ناحية أخرى شكلتها مجموعة من الدوافع الجديدة، منها دافع هام هو دافع الربح والأمل بالمكاسب التجارية، إذ كان من المعروف أن الذهب والتوابل تأتي من جنوب الصحراء الكبرى، فربما أمكن اكتشاف مصدرها إذن؟ ثم كان فشل الحملات الصليبية وعودة الإسلام للبزوغ والتقدم في شرق المتوسط والبلقان والهند أيضاً، ولو أنه كان ينسحب في إيبريا، وإن تزايد الخطر العثماني قد حفز أحلام الأوروبيين بإيجاد طريقة للالتفاف حوله أو حلفاء يمكن الاستفادة منهم ضده. ولاتنس أيضاً دافع الحماس الديني والرغبة بالتبشير بالمسيحية، لأن المستكشفين الأوائل كانوا رجالاً من العصور الوسطى يرون العالم بمنظار ديني، فكانوا يأملون بإيجاد الكاهن يوحنا* Prester John ملك إثيوبيا المسيحي، الذي تتحدث عنه الأساطير، فضلاً عن رغبتهم بهداية الناس وضمهم إلى كنيسة المسيح. وكان هناك أخيراً دافع الفضول. ولكن مهما كان الدافع الأقوى في كل حالة من الحالات، فإن النتيجة كانت في المحصلة تزايد اهتمام الأوروبيين الغربيين برحلات المغامرة واستكشاف المحيطات في القرنين الثالث عشر والرابع عشر.

البرتغاليون

كان من أبرز المهتمين بتلك المغامرات الاستكشافية الأمير هنري شقيق ملك البرتغال، وقد سمي لاحقاً هنري الملاح ، ويبدو أن ماء البحر يجري في عروق البرتغاليين، كما هي الحال لدى رجال جنوب غرب إنكلترا. إن ساحل البرتغال بأكمله واقع على المحيط الأطلسي، ومن مرافئه الصغيرة كانوا يرسلون المئات من المراكب من أجل صيد السمك والمتاجرة، وعليها تدرب البحارة الذين نقلوا المستوطنين الأوروبيين الأوائل إلى الأطلسي، وكان أكثرهم من البرتغاليين، وعدد قليل من الإسبانيين الباحثين عن الأراضي في جزيرة ماديرا وأرخبيل الكناري. وحتى في مغامراتهم التجارية كان البرتغاليون مضطرين للتطلع إلى الأطلسي أيضاً، لأن إسبانيا تطوقهم على البر كما أن الجنوبيين والبنادقة كانوا يستأثرون بتجارة المتوسط لأنفسهم ويمنعونهم عنها بشراسة، وقد قاد البرتغاليون حملات صليبية لهم في المغرب ولكن من دون أن يحرزوا تقدماً هاماً فيها.

كانت رعاية الأمير هنري لعمليات الاستكشاف هذه أشبه برعاية الأبحاث العلمية في أيامنا، وقد نظم الحملات نحو الجنوب على امتداد ساحل أفريقيا، ففي عام 1434 م دار البرتغاليون للمرة الأولى حول رأس بوجدور، وبعد عشر سنوات ثبتوا أقدامهم في جزر الآزور، وكانوا قد بلغوا الرأس الأخضر على ساحل أفريقيا. وفي عام 1445م وصلوا إلى السنغال وسرعان مابنوا حصناً فيها، ثم عبروا خط الاستواء في عام 1473م وبلغوا طرف أفريقيا في عام 1487، أي رأس الرجاء الصالح، وكان بانتظارهم غنيمة عظيمة، هي تجارة التوابل عبر المحيط الهندي التي طالما احتكرتها مراكب الدهو العربية، إلا أن وجود تلك التجارة قد مكنهم من الاستفادة من البحارة العرب. وعند نهاية القرن تقريباً كلف ملك البرتغال مواطنه القبطان فاسكودوغاما بإيجاد طريق إلى الهند، فأخذ معه بحاراً عمانياً من شرق أفريقيا، وأبحر صوب الشرق إلى أن رسا بسفينته في كلكتا على الساحل الغربي لشبه القارة، وكان هذا في أيار (مايو) من عام 1498.



عصر الاكتشافات الكبرى


1445

البرتغاليون يرسون في جزر الرأس الأخضر

1455

المرسوم البابوي يعترف باحتكار البرتغاليين لاستكشاف أفريقيا

1460

وفاة الأمير هنري الملاح

1469

ألفونسو الخامس ملك البرتغال يبرم عقد إيجار باحتكار تجارة أفريقيا الغربية مقابل الاستمرار باستكشافها

1479

إسبانيا توافق على أن تتمتع البرتغال بحقوق احتكار التجارة مع غينيا

1481

تأسيس حصن في إلمينا في غانا الحالية كقاعدة لتجارة البرتغال مع أفريقيا

1482

البرتغاليون يصلون إلى الكونغو

1488

بارتولوميو دياز يدور حول رأس الرجاء الصالح

1492

كريستوف كولومبس يصل إلى جزر الهند الغربية

1494

معاهدة توردسيلاز تعطي إسبانيا الحقوق الحصرية بالاستكشاف إلى الغرب من خط شمالي جنوبي عبر الأطلسي، والبرتغال تأخذ حقوقاً مشابهة إلى الشرق من الخط نفسه

1496

أول رحلة استكشاف للإيطالي جون كابوت، بتفويض من هنري السابع ملك إنكلترا

1497

كابوت يصل على نيوفونلند في رحلته الثانية

1498

فاسكو دو غاما يصل إلى كلكتا بعد أن اكتشف الطريق البحرية إلى الهند

1499

الفلورنسي أمريغو فسبوتشي يكتشف أمريكا الجنوبية تحت علم إسبانيا

1500

البرتغالي بيدرو ألفاريز كابرال يكتشف البرازيل

1507

استخدام تسمية أمريكا للدلالة على العالم الجديد

1508

كابوت ينطلق بحثاً عن الممر الشمالي الغربي

1513

بالبوا يعبر مضيق دارين ويصل إلى المحيط الهادي

1519

البرتغاليان فرديناند ماجلان وخوان سيباستيان دل كانوا يبحران غرباً بحثاً عن جزر التوابل

1522

دل كان يعود إلى إسبانيا بعد أن أتم الدوران حول الكرة الأرضية


العالم الجديد

قبل ست سنوات من هذا التاريخ كان البحار الجنوبي كريستوف كولومبس قد خطا خطوة أخرى أعظم من سابقتها، لقد طلب في البداية من ملك البرتغال أن يدعمه في رحلة استكشاف كان يعتقد بناء على جغرافية بطليموس أنها سوف تسمح له ببلوغ قارة آسيا عن طريق الإبحار غرباً عبر المحيط الأطلسي، ولكن الملك لم يستجب لطلبه. ثم نجح في عام 1492 في إقناع الملكة الكاثوليكية إيزابيلا ملكة قشتالة بأن تمنحه دعمها، وهذا ما مكنه أخيراً من أن يستهل رحلته. وبعد 69 يوماً رست سفنه الصغيرة الثلاث في جزر البهاما، وبعد أسبوعين اثنين اكتشف كوبا وسماها هسبنيولا، ثم عاد في العام التالي بحملة أفضل تجهيزاً بكثير واستكشف الجزر التي تعرف منذ ذلك الحين بجزر الهند الغربية الأنتيل. لقد اكتشف كولومبس في الحقيقة العالم الجديد من دون أن يعلم، واستخدمت التسمية للمرة الأولى في عام 1494م، وإن قفزته في الظلام قد بدلت تاريخ العالم. كان البحارة البرتغاليون قد أبحروا بشجاعة ومهارة كبيرتين، ولكن بصورة منظمة حول قارة معروفة ونحو هدف معروف أيضاً، أما كولومبس فقد وقع على قارتين كاملتين لم يكن أحد يعلم بوجودهما من قبل ولا كان أحد ينتظر اكتشافهما، لهذا فقد كانتا جديدتين حقاً. وفي عام 1495 ظهرت أول خريطة تبين اكتشافاته، وكانت كوبا فيها بشكل جزيرة وليس كجزء من بر آسيا، وكان قد جعل رجال طاقمه يقسمون على ذلك، ولكن كولومبس رفض الاعتراف باحتمال وجود قارة جديدة، وظل حتى آخر يوم في حياته متشبثاً بفكرة أنه إنما اكتشف الجزر القريبة من قارة آسيا.

الفصل الثامن - عصر الاكتشافات والمواجهة  Chp8-1

رحلة كولومبوس الرابعة إلى أمريكا بين عام 1502 و 1504

الفصل الثامن - عصر الاكتشافات والمواجهة  Chp8-2

إن لهذه القصة تتمة هامة لابد لنا من ذكرها هنا، ففي عام 1502م انطلق رجل إيطالي في مركب برتغالي من ساحل البرازيل الحالية وأبحر حتى نهر بلات جنوباً، وقد بينت رحلته هذه بصورة جازمة أن ثمة قارة كاملة إلى الجنوب من منطقة الكاريبي حيث تمت أولى الاكتشافات الكبرى. هذا الرجل الإيطالي كان اسمه أمريغو فسبوتشي، وتكريماً له قام عالم جغرافي ألماني بعد خمس سنوات بتسمية القارة الجديدة على اسمه، فصارت تدعى أمريكا. وقد استخدمت هذه التسمية نفسها بعد ذلك للدلالة على القارة الشمالية أيضاً.

وهكذا كان الاستكشاف آخر القوى العديدة والمعقدة التي أدت بالأوروبيين إلى رؤية علاقتهم ببقية العالم بطريقة جديدة، ثم أنهم بعد أن اكتشفوا العالم راحوا يعملون على تغييره وتبديله أيضاً، وكان تدفعهم ثقة عظيمة بأنفسهم تتزايد مع تزايد نجاحاتهم وتراكمها الواحد فوق الآخر.إن الاكتشافات الأخرى التي أحرزوها بحلول عام 1500م قد وضعتهم على عتبة عصر جديد سوف تزداد قوتهم فيه نمواً وتوسعاً حتى بدت وكأنها لاحدود لها. وإن العالم لم يأت إليهم بل إنهم خرجوا وأخذوه بأنفسهم، وقد بلغوا في ذلك نجاحاً أكبر بكثير من أجدادهم الصليبيين. ومن أجل أن نفهم أسباب نجاحهم هذا وطريقة حدوثه ينبغي علينا الآن، أن نلتفت إلى العالم الذي كانوا يكتشفونه ونعرف قصته، وقد كان ذلك العالم أيضاً ثمرة تواريخ طويلة، ولو أن قصتها مختلفة جداً عن قصة المكتشفين والفاتحين.





* زعم بعضهم أنه كان يحكم في الشرق الأقصى وسموه ملك الهند - المترجم

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://resalahmasriyah.mam9.com
Eng. Ahmedzoubaa
Admin
Eng. Ahmedzoubaa


عدد المساهمات : 1216
تاريخ التسجيل : 28/08/2010
العمر : 49

الفصل الثامن - عصر الاكتشافات والمواجهة  Empty
مُساهمةموضوع: رد: الفصل الثامن - عصر الاكتشافات والمواجهة    الفصل الثامن - عصر الاكتشافات والمواجهة  Emptyالأربعاء 15 يونيو 2011 - 0:18

أفريقيا قبل الأزمنة الحديثة

إن الأفارقة والعلماء المختصين بشؤون أفريقيا يسهبون دوماً في الحديث عن أهمية هذه القارة في مرحلة ماقبل التاريخ، والحقيقة أن أكثر الأدلة التي بين يدينا عن حياة البشريات الأولى إنما أتتنا من أفريقيا، وفيها تبدأ قصة الإنسان. فإذا كان أوائل البشر قد ظهروا هناك فعلاً، فإن نسبة كبيرة من الناس اليوم هم بالأصل أفارقة، وإذا لم تنشأ البشرية وتتطور في أي مكان آخر بصورة مستقلة بل انتشرت من تلك القارة، فإننا جميعاً أفارقة في المحصلة. ولكن أفريقيا لم تؤثر فينا بالرغم من ذلك من أية ناحية هامة، وإن ثقافات العالم الكبرى لاتدين لها إلا بالقليل فيما عدا بعض الحالات القليلة في الأمريكيتين الشمالية والجنوبية، وتبقى مساهمة هذه القارة في رأس المال الثقافي للحضارة دون مساهمات القارات الأخرى. وقد انتقل محور ما قبل التاريخ مع قدوم العصرين الباليوليتي الأعلى والنيوليتي مبتعداً عن مهده الأفريقي، ورغم حدوث الكثير من التطورات الهامة في تلك القارة بعد ذلك فإن الحقبة الكبرى التي أثرت فيها تأثيرها الخلاق على بقية العالم كانت قد ولت. لقد كان وادي النيل مهد الحضارة الأفريقية الوحيدة التي كتب لها شأن كبير خارج القارة، ولكن أهميته تظل دون سومر أو بحر ايجة، كما أن ثقافة مصر لم تمتد كثيراً خارج حدودها الجغرافية. فإذا استثنينا مصر وجدنا أن هذه القارة لم تقدم الكثير للعالم طوال الشطر الأعظم من العصور التاريخية وحتى الأزمنة الحديثة جداً فيما عدا مواردها الطبيعية. لقد حلت بشعوب أفريقيا أشياء كثيرة، ولكن القارة نفسها لم تكن مصدر أفكار أو تقنيات غيرت الحياة في بقاع أخرى، بل إن أهم التغيرات التي جرت في تاريخ أفريقيا نفسها قد تمت بفعل قوى أثرت عليها من الخارج.

ولانعلم تماماً لماذا كان دور أفريقيا في الحضارة ضعيفاً، حتى في الأزمنة الباكرة، ولكن يبدو أن تغير المناخ في فترة ماقبل التاريخ كان عاملاً أساسياً جعل الحياة في تلك القارة حياة صعبة وشاقة. لقد بقيت الصحراء الكبرى حتى حوالي 3000 ق.م تأوي حيوانات مثل الفيل وفرس النهر، ولو أنها اختفت فيها منذ زمن بعيد، كما كانت موطناً لشعوب تعيش على رعي البقر والخراف والماعز. وفي تلك الأيام كانت الصحراء والوديان القاحلة التي تراها اليوم سهوباً عشبية خصبة تقطعها وتصرفها أنهار تجري جنوباً حتى نهر النيجر، وشبكة أخرى يبلغ طولها 1200 كم تصب في بحيرة تشاد.

وفي الهضاب التي تنبع منها تلك الأنهار كانت تعيش شعوب تركت لنا سجلاً عن حياتها بشكل رسوم ونقوش في الصخر، وهي مختلفة جداً عن فن الكهوف الذي ظهر في أوروبا في زمن سابق، لأن الكهوف الأوروبية لم تصور إلا حياة الحيوان ونادراً ماصورت البشر. أما الآثار الأفريقية فتشير إلى أن الصحراء الكبرى كانت في ذلك الحين مكان التقاء لشعوب زنجانية، وشعوب أخرى يسميها البعض الشبيهة بالأوروبيةEuropoid وربما كان هؤلاء أجداد البربر فضلاً عن الطوارق وهم من الشعوب الحامية. ويبدو أن إحدى تلك الشعوب قد شقت طريقها من طرابلس الغرب مع خيولها وعرباتها وربما تغلبت على شعوب الرعاة، كما يبدو أنهم ليسوا من العائلة الهندية الأوروبية، إلا أن وجودهم مثل وجود الشعوب الزنجانية في الصحراء الكبرى يثبت أن نباتات أفريقيا كانت فيما مضى مختلفة جداً عنها في الأزمنة اللاحقة، لأن الخيل بحاجة للرعي. ولكن بحلول الأزمنة التاريخية كانت الصحراء الكبرى قد جفت، ومواقع الشعوب المزدهرة قد هجرت والحيوانات قد رحلت.

الشعوب الأفريقية

ثمة صعوبة أخرى في تقييم مكان أفريقيا الصحيح في التاريخ، هي أنها لم تترك إلا القليل من السجلات المدونة، باستثناء مصر. إننا نجد في سجلات الحكومة المصرية بعض الإشارات إلى أجزاء أخرى من القارة، كما تزودنا السجلات الرومانية والبيزنطية بمعلومات أوفر، ولكنها تكاد تكون مقتصرة على شمال أفريقيا والسودان، أما عدا عن هذا فليس لدينا إلا الأساطير وروايات المسافرين، وذلك حتى ظهور الإسلام. وعندما كتب المؤرخ الإغريقي هيرودوتس عن أفريقيا في القرن الخامس ق.م لم يكن لديه أشياء كثيرة يقولها عما يقع خارج مصر، ولم يكن على كل حال قادراً على قراءة سجلات هذا البلد. كانت أفريقيا عنده محددة بنهر النيل، وقد اعتبر أنه يجري جنوباً بصورة موازية للبحر الأحمر تقريباً، ثم ينحني غرباً على طول حدود ليبيا. أما في الجنوب من النيل فكان يعتقد أن هناك الأثيوبيين في الشرق، وفي الغرب صحارى لاسكان فيها، ولم تكن لديه أي معلومات عنها، ولو أنه سمع عن شعب من الأقزام الذين يمارسون السحر. إن وصفه الطبوغرافيا هذا منطقي بالنظر إلى مصادر المعلومات التي كانت متاحة في أيامه، ولكنه في الواقع لم يلم إلا بثلث الحقيقة الإثنية أو ربعها. كان الأثيوبيون مثل السكان القدامى في مصر العليا (الصعيد) ينتمون للشعوب الحامية، التي تشكل واحدة من ثلاثة مجموعات عرقية في أفريقيا، يقول علماء الأنتروبولوجيا الحديثين إنها كانت موجودة عند نهاية العصر الحجري. أما المجموعتان الأخريان فهما أجداد شعب البُشمان الحالي، الذي يقطن الأراضي الشاسعة الممتدة من الصحراء الكبرى حتى رأس الرجاء الصالح في أقصى الجنوب، والمجموعة الزنجانية التي صارت لها السيادة في النهاية على غابات وسط أفريقيا وغربها، ومازال العلماء مختلفين حول أصول مجموعة رابعة هي مجموعة الأقزام، وحول مدى تميزها عن المجموعات الأخرى.

وإذا حكمت على ثقافات الشعوب الحامية والحامية الأولى من خلال ما بقي من أدواتها الحجرية فإنك تجدها الأكثر تقدماً في أفريقيا قبل قدوم الزراعة. وقد بزغت الزراعة بصورة بطيئة إلا في مصر، وسوف تستمر أنماط حياة ماقبل التاريخية المعتمدة على الصيد وجمع الطعام إلى جانب الزراعة حتى الأزمنة الحديثة، ولكن زيادة إنتاج الغذاء أدت بمرور الزمن إلى نمو عدد السكان، وقد غير هذا الأمر أنماط السكان في أفريقيا، فمكنت الزراعة من ظهور المستوطنات الكثيفة في وادي النيل، وكانت هذه هي المقدمة الضرورية لحضارة مصر. كما أن الزراعة قد زادت خلال الألفين الثانية والأولى ق.م من أعداد السكان الزنجانيين إلى الجنوب من الصحراء الكبرى، أي في الأراضي العشبية التي تفصل بين الصحراء والغابات الاستوائية، ويبدو أن الزراعة انتشرت عن طريق امتدادها باتجاه الجنوب وليس عن طريق اكتشافها في أماكن عديدة. وقد وجدت في السهوب مع مرور الزمن محاصيل مغذية ومناسبة لظروفها الاستوائية وتربتها مثل أنواع الدخن –الجاورس- الأرز، بينما ازدهر القمح والشعير في وادي النيل، أما مناطق الغابات فلم يكن بالإمكان استغلالها إلى أن وصلت إليها نباتات أخرى مناسبة لها من جنوب شرقي آسيا ثم من أمريكا، إلا أن هذه التطورات كلها إنما حدثت في حقبة ما بعد الميلاد.

الحديد

لقد زاد قدوم التعدين من تباعد التيارات الثقافية ضمن القارة، يبدو أن النحاس كان يشغل في الصحراء الكبرى في أواخر الألف الثانية ق.م، ويحتمل أن تكون خاماته أخذت من المناجم الواقعة اليوم في موريتانيا والسنغال، وبحلول القرن السادس ق.م كان استخراجه جارياً في كاتانغا. أما الحديد فقد جاء إلى أفريقيا أول ماجاء من شعوب آسيا الغربية عبر مصر عند نهاية الألف الثانية، ولكن سوف يمضي وقت طويل قبل أن يبدأ شغل الحديد هناك، وعندما حدث هذا كان في بعض أنحاء القارة أول مهارة تظهر في التعدين، فالحقيقة أن بعض الأفارقة قد انتقلوا من العصر الحجري إلى عصر الحديد رأساً من دون المرور بعصر البرونز أو النحاس، وقد بدأ صهر الحديد في نيجيريا العليا في القرن الخامس ق.م، وربما أتت تلك التقنيات بالأصل من المدن الفنيقية الواقعة على ساحل شمال أفريقيا عابرة الصحراء الكبرى.

كان للحديد أثر عظيم جداً، ويبدو أن أحد تأثيراته الأولى كان في مجال السياسة، وقد تم أول استغلال للثروات المعدنية في أفريقيا على ما نعلم في مملكة كوش، الواقعة على القسم الأعلى من النيل عند التخوم التي بلغها نشاط المصريين، وهي أول وحدة سياسية مستقلة وصلتنا أخبارها بعد مصر. فبعد أن ضم المصريون منطقة النوبة إلى بلادهم وضعوا حاميات لهم في الإمارة السودانية الواقعة إلى الجنوب منها، إلا أنها أصبحت مملكة مستقلة بحلول عام 1000 ق.م تقريباً، وكانت متأثرة تأثراً عميقاً بالحضارة المصرية. وكان سكانها على الأرجح من العرق الحامي، وكانت عاصمتها في نبتة تحت الشلال الرابع مباشرة. وفي عام 730 ق.م كانت مملكة كوش هذه قد بلغت من القوة ما مكنها من فتح مصر نفسها، وقد حكم خمسة من ملوكها كفراعنة وعرفوا في التاريخ بالسلالة الخامسة والعشرين أو السلالة الحبشية (الأثيوبية)، ولكنهم عجزوا عن إيقاف التراجع في مصر، وعندما هاجمها الأشوريون زالت منها سلالة كوش. وقد استمر تأثير الحضارة المصرية في مملكة كوش، كما غزاها فرعون من السلالة التالية في بداية القرن السادس ق.م، وبعد هذا راح الكوشيون بدورهم يدفعون حدودهم نحو الجنوب، ومن خلال تلك العملية مرت مملكتهم بتغيرين هامين، فقد ازداد الطابع الزنجاني فيها وتظهر لغتها وأدبها ضعف النزعة المصرية، كما بدأ الحديد يلعب دوره في رسم مصائرها. امتدت أراضي كوش إلى مناطق جديدة تحتوي على خام الحديد وعلى الوقود اللازم لصهره أيضاً بكميات كبيرة قياساً إلى التقنيات المعروفة، وكان الكوشيون قد تعلموا فن الصهر من الآشوريين في القرن السابع ق.م، فصارت عاصمتهم مرو مركز التعدين في أفريقيا. وإن الأسلحة الحديدية قد أعطت الكوشيين ميزة على جيرانهم مثل التي كانت للشعوب الشمالية على مصر في الماضي، كما أن الأدوات الحديدية قد وسعت مساحة الأرض القابلة للزراعة، وعلى هذه الإنجازات سوف تبنى ثلاثة قرون من الازدهار والحضارة في السودان، ولو أنها مازالت بعيدة عن العصر التي تتناوله الآن.

قبل الحقبة المسيحية كان شغل الحديد قد انتشر إلى الجنوب من الصحراء الكبرى حتى وسط نيجيريا، وقد استغرق حوالي 1200 سنة لكي يصل إلى السواحل الجنوبية الشرقية، ولاريب أنه ساعد على انتشار الزراعة إلى أنحاء من أفريقيا كانت غير قابلة للزراعة أو لايمكن الوصول إليها، فساعد بالتالي على نمو عدد السكان ولو بصورة وئيدة وغير مباشرة، فحتى عند بداية الحقبة المسيحية كان عدد سكان أفريقيا كلها على الأرجح أقل من عشرين مليوناً، لأن الأفارقة كانوا يميلون للزراعة بصورة متنقلة، فيزيلون النباتات البرية في منطقة ما ويستنفذون تربتها ثم ينتقلون إلى أرض جديدة. كما أنهم لم يكتشفوا المحراث ولا استخدموه إلا بعد زمن طويل، وربما كانت الأمراض التي تصيب الحيوان من الأسباب التي منعتهم من تربية الحيوانات اللازمة لجره، وتكاد تكون مرتفعات أثيوبيا هي المكان الوحيد في أفريقيا الذي كانت تربى فيه الأحصنة.

كان شغل الحديد وتطور تقنيات الزراعة مثل قدوم محاصيل غذائية جديدة من آسيا عند بداية الأزمنة المسيحية، من أولى الأشياء الكثيرة التي استوردتها أفريقيا، والتي مكنت من نمو جماعات سكانية كبيرة بعيداً عن وادي النيل وساحل المتوسط. لقد بقي جنوب أفريقيا يعيش في العصر الحجري حتى وصول الأوروبيين، ولكن حتى هناك مكنت الابتكارات الجديدة للمرة الأولى من التغلب على العوائق والحواجز الهائلة التي طالما وضعها المناخ وطبيعة الأرض والأمراض في طريق الحضارة. وكانت هذه بداية قصة طويلة من استيراد التقنيات من الخارج، وهي قصة تمتد حتى الأزمنة الحديثة عندما جاءت إلى أفريقيا أشياء كثيرة مثل الطب والسدود المولدة للكهرباء ومكيفات الهواء وغيرها. إلا أن أفريقيا الواقعة إلى الجنوب من الصحراء الكبرى قد بقيت لزمن طويل مرتبطة بأسلوب الزراعة المتنقلة، وظلت متأخرة في مجالات صنع الفخار وطحن الحبوب والنقل لأنها لم تعرف العجلة، كما أجزاء كبيرة من القارة لم تتعلم الكتابة حتى الأزمنة الحديثة.

الانقسامات الثقافية الباكرة

ليس بأيدينا مصادر مكتوبة عن أفريقيا ماعدا السجلات التي دونها العرب وأقباط أثيوبيا، ولكن يمكننا أن نميز التيارات الأساسية في تاريخ هذه القارة من دون عناء كبير، ويمكن اليوم تقسيم الخريطة الثقافية لأفريقيا بصورة تقريبية جداً إلى شمال إسلامي وجنوب غير إسلامي، ولاينطبق هذا التقسيم إطلاقاً على انقسام أفريقيا إلى شطر زنجاني وشطر غير زنجاني. وخارج هذا المخطط تقع مرتفعات أثيوبيا التي تسكنها شعوب غير زنجانية تتحدث اللغة الأمهرية. نحن نعلم أن الأثيوبيين أطاحوا بمملكة كوش في حوالي عام 300 ق.م، وفي القرن الرابع الميلادي سوف تصبح أثيوبيا واحدة من أولى الممالك المسيحية في العالم، عندما تنصر حكامها على يد أقباط مصر المسيحيين. ولكن اتصالهم المباشر ببقية العالم المسيحي لم يستمر إلا لبرهة قصيرة بعد ذلك، لأن غزو العرب لمصر قد وضع بينهما حاجزاً من الإسلام، وبقيت أثيوبيا بعد هذا لقرون طويلة الأمة المسيحية الوحيدة في أفريقيا، والمجتمع الوحيد غير المسلم الذي يعرف الكتابة، إلا أن علاقتها بالعالم الخارجي قد بقيت علاقة ضئيلة، حتى خمسة أو ستة قرون مضت.

في تلك الأثناء كانت الجماعات المسيحية المغاربة في شمال أفريقيا، والتي تأسست في الأزمنة الرومانية قد زالت أمام المد الإسلامي، ولم تبق منها أعداد كبيرة إلا في مصر. وانتشر العرب عن طريق الفتوحات العسكرية في كافة الساحل الشمالي، وأسلموا شعوب البربر والمغرب أثناء تقدمهم. أما في الغرب كانت اتصالات قبائل البربر بالشعوب الزنجانية اتصالات قديمة العهد، وهذا ما ربط غرب أفريقيا بعالم المتوسط بعلاقات اقتصادية منذ الألف الثانية ق.م ولو أن العلماء مازالوا مختلفين حول المعنى الحقيقي لهذه العلاقات. وبعد فتوحات العرب في الشمال انتقل الإسلام عبر الصحراء الكبرى عن طريق قوافل المستكشفين والتجار العرب الباحثين عن مصدر الذهب والعبيد، لأن هذه البضائع كان قد بدأت تعرف في الشمال، وبحلول نهاية القرن الحادي عشر كان الإسلام قد ترسخ في وادي النيجر وغرب أفريقيا، وفي الشرق كانت الصومال أيضاً قد أصبحت بلداً مسلماً.

غانا ومالي

كان وصول الإسلام ذا أهمية عظيمة لدى المؤرخين، لأن الرحالة العرب هم الذين تركوا لنا أولى الدلائل المكتوبة المباشرة والمبنية على معاينة حقيقية لأفريقيا السوداء. وقد صدمتهم بعض الأشياء التي شاهدوها، مثل الفتيات في أفريقيا، ولكنهم دونوا أيضاً الكثير من الأشياء المفيدة. ويحدثنا هؤلاء الرحالة عن وحدة سياسية في غرب أفريقيا كانت تحمل اسماً نألفه اليوم أيضاً هي غانا، ويبدو أن غانا كانت مملكة تحكمها سلالة من البربر منذ القرن الرابع، ومن الواضح أنها أصبحت بلداً هاماً منذ أن طردت منها هذه السلالة في القرن الثامن، وقد وصفها أحد الكتاب العرب أرض الذهب. كان الذهب يأتي من أشانتي والسنغال إلى تجار غانا، ثم يمرره هؤلاء بدورهم إلى القوافل العربية التي تشق طريقها نحو الشرق الأدنى، حاملة معها أيضاً الملح والعبيد. وكانت غانا في أوسع نطاق بلغته تمتد من المحيط الأطلسي حتى القسم العلوي من نهر النيجر، ويبدو أنها ازدهرت من القرن الثامن حتى منتصف القرن الحادي عشر الميلاديين، وأن حكومتها كانت تدين لحكامها البربر السابقين الآتين من الشمال، ولكن العلماء مازالوا مختلفين حول مدى هذا الدين. وقد عاد الحكم على كل حال إلى أيدي البربر في القرن الحادي عشر على عهد ملوك من المغرب الإسلامي.

الفصل الثامن - عصر الاكتشافات والمواجهة  Chp8-3

دول غانا ومالي والسونغهاي

وتحطمت غانا في النهاية على يد دولة أخرى هي مالي وهو اسم آخر أحيته دولة حديثة في أفريقيا فكانت هذه واحدة من الدول التي حلت محلها بعد تفككها. كانت مالي مملكة إسلامية وأكبر بكثير من غانا، وقد غطت كافة حوض السنغال، وكان ملكها على درجة كبيرة من الغنى، حتى قيل أنه كان يملك عشرة آلاف حصان في إسطبلاته، وقد سببت ثروته قدراً كبيراً من الإثارة في العالم العربي عندما قام برحلة حج إلى مكة عام 1307م. ولكن هذه الإمبراطورية تفككت بدورها في القرن الخامس عشر، عندما صارت التجارة عبر الصحراء الكبرى تحت سيطرة إمبراطورية أخرى هي إمبراطورية السونغهاي، الذين استمرت سيادتهم حتى نهاية القرن السادس عشر، وفي ذلك الحين كان غرب أفريقيا إلى الجنوب من الصحراء الكبرى بأكمله تقريباً تحت حكم زعماء وملوك مسلمين، ومازال قسم كبير منه كذلك اليوم أيضاً. وقد تم اعتناق أفريقيا السوداء للإسلام من قمة المجتمع نحو قاعدته، واستمرت ممارسات وثنية كثيرة بعد زمن طويل من تحول هذه البلاد الرسمي إلى الإسلام، أما إلى الجنوب من ذلك فلم يتغلغل الإسلام إلا حيث كان العرب على تماس بالمناطق الساحلية، وإن قصة جنوب أفريقيا أصعب منالاً حتى من قصة شمالها.

جنوب أفريقيا

كانت الحركة الأساسية في تاريخ الجنوب عبارة عن هجرات طويلة قامت بها عند بداية الأزمنة المسيحية تقريباً، شعوب تتحدث لغات البانتو. وقد أتى هؤلاء من شرق نيجيريا ثم انتشروا عبر حوض الكونغو وفي القسم الأكبر من أفريقيا الجنوبية، ووضع انتشارهم هذا نمطاً من الاستيطان مازال مستمراً، حتى اليوم، ولو أنه ازداد تعقيداً بالهجرات اللاحقة. وقد بلغ بعض أولئك المهاجرين في النهاية الساحل الشرقي، حيث عادت أفريقيا السوداء للاتصال بالعالم العربي من جديد. وكان التجار الوافدون إلى الساحل من البحر الأحمر والخليج الفارسي منذ القرن الثامن فما بعد يسمون شرق أفريقيا بلاد الزنج ومنها أتت تسمية زنجبار في زمن لاحق، وقد أسسوا المدن الساحلية التي ابتدأت بنشر حياة المدن في هذا الجزء من أفريقيا، وكانوا يشترون الذهب والنحاس والحديد من السكان. وربما وصل تلك البلاد زوار من اندونيسيا أيضاً، لأن بعضهم كان قد استقر في مدغشقر وجلبوا إليها أنواعاً جديدة من النباتات الغذائية من آسيا، أما الاتصالات غير المباشرة بالعالم الخارجي فقد امتدت إلى بلاد أبعد من هذه، إذ وجدت منتجات صينية في شرق أفريقيا، كما قيل أن أغنياء كانتون في القرن الثاني عشر كانوا يملكون أعداداً كبيرة من العبيد الأفارقة.

وليس من المسهل أن نعرف الكثير عن طريقة إدارة ممالك جنوب أفريقيا، فهي لم تكن تعرف الكتابة، لذلك لايمكن أن تكون لها إدارات بل كان ملوكها يحكمونها على الأرجح ضمن حدود التقاليد والعادات المتبعة؛ وكانت بعضها كبيرة ولكن لم تكن فيها ديانة بلغت درجة هامة من التطور. ويحدثنا البرتغاليون عند نهاية القرن الخامس عشر عن إحدى تلك الممالك التي كانت واقعة على القسم السفلي من نهر الكونغو، وتسمى مملكة الباكونغو وقد أرسل حكامها في طلب المبشرين الدينيين، كما أرسلوا سفارة إلى لشبونة ورحبوا بالأوروبيين. وعمد ملكهم باسم ألفونسو الأول في عام 1491، ولكن العلماء مازالوا مختلفين حول ما إذا كان ارتد إلى الوثنية من توه أو عاش ومات كملك مسيحي مثالي، إلا أن عصراً جديداً في ذلك الحين كان يقرع الأبواب، فقبل ثلاث سنوات كانت أنظار البرتغاليين قد وقعت على رأس الرجاء الصالح، وسوف يكون الأوروبيون هم المحرك النهائي لأكثر التطورات الحاسمة في تاريخ أفريقيا.

وسرعان ما ذكر البرتغاليون اكتشاف دولة جديدة كبيرة في شرق أفريقيا تحكم منطقة واسعة من وادي زمبابوه، كانت هذه الدولة تتبع أساليب ثقافة أبكر منها في البلد التي سميت لاحقاً روديسيا، أطلق عليها علماء الآثار اسم الثقافة الأزانية، وقد تركت آثاراً لأعمال متقنة قامت بها في مجال استغلال المناجم وحفر الأقنية وبناء الآبار. وقد ابتدأت هذه الأنشطة استغلال الثروة المعدنية في هذه المنطقة، وهي عملية مازالت مستمرة حتى اليوم، وبفضل توفر الذهب قامت مملكة لابد أن تكون استمرت أربعة قرون على الأقل وتركت آثاراً حتى القرن الخامس عشر على الأرجح، هي الأدلة الوحيدة على وجود أبينة كبير من الحجر في جنوب أفريقيا. وتقع أشهر تلك الآثار في زمبابوه الكبرى حيث كانت توجد عاصمة ملكية ومدفن تعود أبكر أبنيتها إلى القرن الثامن، ولو أن أعظمها قد بنيت على الأرجح في القرن السادس عشر أو السابع عشر.وهي مكونة بالإجمال من حوالي 80 هكتاراً من الحظائر المسيجة يحيط ببعضها أسوار ضخمة وأبراج مشيدة بأحجار مقصوصة ومرصوفة بدقة كبيرة من دون ملاط. وعندما اكتشف الأوروبيون زمبابوه لم يصدقوا أن بإمكان الأفارقة الإتيان بشيء على هذه الدرجة من الإتقان والعظمة مثلما ظن علماء الآثار ذات مرة أن الميقينيين هم الذين بنوا آثار ستونهنج في إنكلترا، ولكن بات من الواضح الآن أنها أعمال أفريقية. إن آثار زمبابوه الكبرى مثلها مثل الأشغال البرونزية الجميلة التي وجدت في بينان، تظهر القدرة الفنية التي تتمتع بها أفريقيا السوداء، ولكنها تظهر حدودها أيضاً.

في عام 1500م كان العرب والمسيحيون قد أتوا بالكتابة وغيرها من تقنيات الحضارة المتقدمة إلى بعض أكثر ثقافات أفريقيا تطوراً، ولكن القسم الأكبر من القارة كان بعد سليماً من أيديهم، ولن تؤثر اتصالاتهم بقسمها الداخلي الواقع إلى الجنوب من الصحراء الكبرى إلا بعد عام 1500 بزمن طويل. إلا أن الاتصالات القائمة كانت منذ ذلك الحين كشفت عن وجهها القبيح، فقد كان النخاسون العرب يعملون منذ قرون في جمع أرتال من الرجال والنساء والأطفال السود من حكامهم الطيعين لكي يسيروا بهم عبيداً إما شمالاً إلى وادي النيل والشرق الأدنى، أو إلى الساحل حيث تنتظرهم قوارب الدهو لتحملهم إلى عمان وفارس والهند بل حتى إلى كانتون. وعلى الساحل الغربي كان البرتغاليون في عام 1441 قد قبضوا على أناس سود وأخذوهم إلى بلادهم، وكانوا يسمونهم مسلمين وهي تسمية غير صحيحة، وبعد عام واحد أقيمت أول سوق للعبيد الأفارقة. وربما كان البرتغاليون قد أخذوا بحلول 1500 حوالي 150.000 عبد أسود من أفريقيا، وإن السجلات الأوروبية التي تسمح لنا بتخمين أعدادهم هي أفضل من السجلات العربية.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://resalahmasriyah.mam9.com
Eng. Ahmedzoubaa
Admin
Eng. Ahmedzoubaa


عدد المساهمات : 1216
تاريخ التسجيل : 28/08/2010
العمر : 49

الفصل الثامن - عصر الاكتشافات والمواجهة  Empty
مُساهمةموضوع: رد: الفصل الثامن - عصر الاكتشافات والمواجهة    الفصل الثامن - عصر الاكتشافات والمواجهة  Emptyالأربعاء 15 يونيو 2011 - 0:18

الأمريكتان قبل وصول الأوروبيين

إن تاريخ الإنسان في الأمريكتين أقصر بكثير منه في أفريقيا، أو في أي قارة أخرى ماعدا أستراليا، فمنذ حوالي ثلاثين ألف سنة عبرت شعوب مغولانية إلى أمريكا الشمالية عن طريق البر آتية من آسيا، وهكذا كان سكان هذه القارة دوماً من المهاجرين، ثم تغلغل هؤلاء نحو الجنوب رويداًَ رويداً على مدى بضعة آلاف من السنين. وتضم الأمريكتان أشكالاً متنوعة وكثيرة من المناخات والبيئات، وتدل الحفريات الأثرية على أن أنماط الحياة التي نتجت عنها كانت أيضاً على درجة كبيرة من التنوع، وكانت مبنية على الفرص المختلفة المتاحة في مجالات الصيد وجمع الطعام وصيد الأسماك. وقد توصل بعض سكان أمريكا الأوائل إلى معرفة الزراعة بصورة مستقلة عن العالم القديم، ولكن العلماء مازالوا مختلفين حول زمان حدوث هذا التطور، ولو أنه قد حدث على كل حال بعد اكتشاف الزراعة في الهلال الخصيب. وقد بدأت زراعة الذرة في المكسيك في حوالي عام 5000 ق.م، ولكنها بحلول عام 2000ق,م كانت قد تطورت في أمريكا الوسطى إلى نبات شبيه بالذرة التي نعرفها اليوم، فصار بالإمكان عندئذٍ أن تنشأ جماعات مستقرة وكبيرة. وإلى الجنوب بدأت تظهر البطاطا والمنيهوت وهو أيضاً جذر نباتي غني بالنشاء في نفس الوقت تقريباً، وبعده بزمن قصير بدأ انتشار الذرة في المكسيك نحو الجنوب. ولكن التغير كان في كل مكان بطيئاً ومتدرجاً، وأبطأ منه في حالة الشرق الأدنى، ولم يتوصل إلى الزراعة في القارة الشمالية قبل وصول الأوروبيون إلا عدد قليل من الأمريكيين، ولو أنهم كانوا متأقلمين تماماً مع حياة الصيد وجمع الطعام. وكان الهنود يعيشون في السهول حياة سعيدة إلى أن جاء الأمريكيون البيض وخربوا مواطنهم، كما تمكن شعب الإسكيمو من البقاء والاستمرار في ظروف قاسية للغاية.

أما في الجنوب فقد أدت الزراعة بمرور الزمن إلى ظهور الحضارة، ولكن الحضارة الأمريكية كانت دوماً مختلفة عن الحضارات الأخرى بسبب انعزالها الطويل عنها. وربما زار بعض أهل بولينزيا وغيرها من جزر المحيط الهادي الساحل الغربي لأمريكا، ولكن لم يبد حتى الآن أي تأثير هام لهم على الثقافة في الأمريكيتين. والحقيقة أن بعد أمريكا من مراكز الحضارة الكبرى كان هو الأمر المميز لتطورها، لقد انتشرت معرفة شغل المعادن من بلاد الرافدين إلى مصر القديمة، كما انتقلت المسيحية من المتوسط إلى الصين عن طريق آسيا الصغرى، ولكن لم يكن ثمة اتصال مستمر بين الأمريكتين وأي من الحضارات الكبرى إلا بعد عام 1492. أما مستوطنات الفايكنغ في غرينلند ولابرادور في القرن التاسع قد اختفت قبل ذلك بزمن طويل، وربما قضى عليها الإسكيمو.

لذلك تتصف حضارات أمريكا بملامح خاصة ومحددة جداً، ولاريب أن أبرز تلك الملامح كاعتمادها على الذرة مثلاً كان سببها الإمكانيات المتوفرة في المناطق التي نشأت فيها وجغرافيتها ومناخها الذين دفعوها باتجاهات معينة دون غيرها. وقد كانت هناك ثلاثة مناطق رئيسية، هي جبال الآندس على الطرف الغربي من أمريكا الجنوبية، على الطرف الغربي من أمريكا الجنوبية، والغابات الاستوائية الكثيفة في أمريكا الوسطى أي في شبه جزيرة يوكاتان وغواتيمالا وهندوراس، ووادي المكسيك في الشمال. وقد كانت آخر حضاراتها حية بعد عندما وصل الأوروبيون الأوائل، لذلك وصلتنا أخبارها من خلال مارواه مكتشفوها عما وجدوه فيها، فضلاً عما تكشفه لنا آثارها الباقية، ومن خلال تلك الصورة يمكننا أيضاً أن نستشف بعض الأمور عن الحضارات السابقة لها.

ثقافة الأولميك

إن أول حضارة أمريكية يعترف بها هي حضارة الأولميك التي ظهرت على الساحل الشرقي للمكسيك، وكانت على درجة كبيرة من الأهمية، يبدو أنها كانت تتمحور حول عدد من المواقع الاحتفالية الهامة ذات الأهرام الكبيرة المبنية من التراب، وقد وجدت فيها تماثيل عملاقة وأغراض صغيرة من حجر اليشب المحفور تمثل أجساماً مختلفة. وكانت حضارة الأولميك ذات طابع فريد جداً، ويبدو أنها سادت قروناً عديدة بعد عام 800 ق.م عبر كافة أمريكا الوسطى حتى السلفادور الحالية جنوباً. ولكنها مازالت تحتفظ بأسرارها الغامضة، وقد ظهرت فجأة ومن دون طور سابق في منطقة المستنقعات والغابات، وهذا ما يعسر تفسيره من الناحية الاقتصادية. فنحن لانعلم كيف نشأت الحضارة من هذه الأرض الشحيحة، بينما احتاجت في البلاد الأخرى إلى وديان الأنهار الكبرى الخصيبة. ولكننا نعلم أن آلهة شعبة الآرتيك، الذي أتى لاحقاً وكان مسيطراً على المكسيك عندما وصل إليها الإسبان، كانت متحدرة من آلهة الأولميك، كما أن حضارة الأولميك قد ابتكرت أشياء كثيرة ظلت لها أهميتها الكبرى في حياة أمريكا الوسطى، مثل صنع التماثيل العملاقة وتخطيط المدن وحفر الأشياء الصغيرة من حجر اليشب. وربما كانت أشكال الكتابة التصويرية الأولى التي ظهرت في أمريكا الوسطى تعود في أصولها إلى أزمنة الأولميك أيضاً، ولو أن أبكر ما بقي منها يعود إلى مابعد زوال ثقافتهم بقرن واحد تقريباً، أي إلى حوالي القرن الرابع ق.م؛ وإن زوالها هذا لايقل غموضاً عن ظهورها. وإذا ابتعدنا أكثر إلى الجنوب أي إلى البيرو، وجدنا فيها ثقافة تسمى ثقافة شافين على اسم موقع احتفالي كبير لها، استمرت أكثر بقليل من حضارة الأولميك في الشمال، وبلغت هي الأخرى مستوىً عالياً في شغل الحجارة، كما انتشرت بقوة ونشاط قبل أن تزول وتتلاشى بصورة غامضة.

الفصل الثامن - عصر الاكتشافات والمواجهة  Chp8-4

منطقة الأولميك

المايا

ورغم أهمية هذا القفزات نحو الحضارة بفضل ما حملته للمستقبل، فإنها في الحقيقة قد حدثت بعد ظهور الحضارة في بلاد أخرى بآلاف السنين، عندما رسا الإسبان في العالم الجديد بعد حوالي ألفي سنة من زوال ثقافة الأولميك وجدوا أكثر أهلها يعملون بالأدوات الحجرية، ولكنهم وجدوا أيضاً مجتمعات حية غنية، وبقايا مجتمعات أخرى سابقة لها، كانت قد أنجزت تحفاً عظيمة في مجال البناء والتنظيم تفوق بكثير ما أنتجته أفريقيا مثلاً بعد تراجع مصر القديمة وانحسارها. من تلك الحضارات كانت حضارة المايا، التي كانت قد تجاوزت ذروتها منذ زمن بعيد عندما وصل الأوروبيون. إن الجزء الأكبر من المنطقة التي ازدهرت فيها حضارة المايا أي شبه جزيرة يوكاتان وهندوراس وغواتيمالا غير ملائم لاستقرار البشر، ويبدو أنه كان دوماً على هذه الصورة، ورغم وجود بعض المناطق الجبلية والمعتدلة فيه فإنه بالإجمال منخفض ومغطى بالغابات الاستوائية التي تعج بالحشرات والحيوانات الشرسة وترتع فيها أشكال وألوان من الأمراض. في هذه البيئة الفظيعة بنى شعب المايا معابد وأهرامات تكاد تعادل في ضخامتها معابد مصر وأهراماتها، والأعجب من هذا أن مواردهم كانت تعتمد على زراعة بدائية تنتزع الأراضي للزراعة عن طريق اقتلاع النباتات البرية وحرقها، وربما كانت هذه في الحقيقة هي الطريقة الأنسب لظروف الغابات الاستوائية وتربتها الخاصة، وهي بالطبع ذات مردود ضعيف. ويبدو أن ثقافات كثيرة في أمريكا الوسطى كانت تشترك بالآلهة نفسها، وكانت هذه مأخوذة من عصور أقدم، كما يبدو أنها أعطت كلها أهمية كبيرة لوضع التقاويم الزمنية وصيانة مواقعها الاحتفالية الكبيرة والعناية بها، ولكن ثقافة المايا تظل أوقع تلك الثقافات أثراً في النفس.

الفصل الثامن - عصر الاكتشافات والمواجهة  Chp8-5

منطقة حضارة المايا

تعود بعض بقايا حضارة المايا إلى الألف الثانية ق.م، ولكن أولى آثارها الهامة تعود لحوالي عام 100 م، أما أبهى مراحل إبداعها فتقع بين عامي 600-900م، ولم تخلف حضارة المايا آثار مدن لأن أهلها كانوا يعيشون في قرى صغيرة، ولكنها تركت لنا معابد وأهرام ومدافن وبلاطات وبقايا من مراكز كبيرة للاحتفالات الدينية. وكانت ديانتهم تسعى لإبهار الناظر وإشعاره بمدى بعده عن الآلهة وبأهمية رجال الدين الذين يرتقون أدراج تلك الأهرام الشاهقة لكي يخاطبوها. ويبدو أن مجتمع المايا في هذه الحقبة الكلاسيكية كانت تحكمه طبقة من المحاربين النبلاء، ومن الكهنة الذين يتناقلون مناصبهم بالوراثة، وكانت الديانة عبارة عن أداء الطقوس والاحتفالات بما يتناسب مع التقويم الموضوع على أساس الأرصاد الفلكية. وقد لفتت هذه الحقيقة أنظار بعض العلماء حتى اعتبروها أفضل دليل على المستوى الرفيع الذي بلغته ثقافة المايا، لأنها كانت ترتكز على معرفة واسعة بالحساب. قد كان المايا يحسبون الأرقام بالعشرينات، وكان لديهم نظام للعد يشبه نظامنا لأن الرمز الواحد فيه قد يدل على قيم مختلفة بحسب موقعه، كما في الأرقام 10, 1 , 0.1, 0.01 وهكذا. وكان لدى زعمائهم الدينيين فكرة عن الزمان أوسع مما نجده عند أي حضارة أخرى على أيامهم، وكانوا يعتقدون أن الماضي يعد بمئات الآلاف من السنين، بل لعلهم توصلوا إلى فكرة أن الزمان ليس له بداية. وقد بقيت لنا ثلاثة من كتبهم، وهي مدونة على ورق مصنوع من لحاء الشجر ومطوي بعضه على بعض، وتتحدث هذه الكتب عن طقوسهم وهي تعطينا فكرة عن ماضيهم، أما بقية القصة فلابد لنا من لملمتها بما بين أيدينا من وسائل، مثل التأريخ بطريقة الكربون المشع، وعلم الآثار، والنقوش الحجرية المحفورة بكتابة تصويرية بدأ العلماء الآن بفك رموزها. وتشير الأدلة المجمعة إلى أن الكتابة كانت تستخدم لأغراض أخرى أيضاً، ولكن لم كتشف أي كتاب عن التأريخ أو عن التنبؤ بالغيب.

لقد أبدع شعب المايا في مجالات خاصة دون غيرها، فقد كان لديهم حرفيون مهرة وكانوا يصدرون مصنوعاتهم الجميلة المحفورة في حجر اليشب إلى أنحاء أمريكا الوسطى، إلا أنهم لم يكتشفوا العجلة قط، ولاعرفوا استخدام القوس في البناء، أما آلهتهم فقد بقيت في مرحلة من الفجاجة البدائية. ولكنهم مع ذلك تمكنوا من تشييد تلك المواقع الكبرى المخصصة للاحتفالات الدينية، وقد بذلوا في سبيلها موارد هائلة من دون أن تكون ثمة فائدة اقتصادية ترتجى منها أو أن تنتج عنها اكتشافات ثانوية في مجال التقنية. وقد بدأت حضارة المايا بالتراجع منذ القرن العاشر، ونحن لانعلم مدى الضغوط التي كانت خاضعة لها، ولكننا نعلم أنها أصيبت بزلزال أو انفجار بركاني كبير أدى إلى هجر الكثير من مواقعها المركزية، ثم غزتها شعوب من سهل المكسيك كانت تستخدم المعادن. وقد هجرت أعظم مراكزها، أي مدينة تشيتشين إبتزا، في القرن الثالث عشر، ويبدو أن مجتمع المايا تفسخ إلى عدد من الدويلات الصغيرة المبعثرة، ولو أن آخر معاقلهم في يوكاتان لم يسقط بيد الإسبان حتى نهاية القرن السابع عشر، إلا أن حضارة المايا قد آلت إلى نهايتها، ولم تخلف للمستقبل أي تقليد أو تقنية هامة، بل إن كل ما تركته هو سلسلة مذهلة من الآثار، ولغة مازال يتحدث بها اليوم مليونا نسمة.

بيرو الإنكا

كانت البيرو عشية وصول الأوروبيين إلى الأمريكتين أكثر مواقع الحضارة تقدماً وتطوراً في نصف الكرة الغربي بلا منازع. وكان أهلها في ذلك الزمان قد تبنوا تقنيات أخذوها عن شعوب سابقة لهم وزادوها تطويراً، فكانوا يستخرجون الذهب والفضة من المناجم ويشتغلونها بمهارة فائقة، وكانوا يستخدمون في زراعتهم معازق ذات شفرات برونزية، ولو لم يكن لديهم محاريث أو حيوانات للجر، وكانوا يشيدون الأبنية بمهارة كبيرة باستخدام كتل صخرية ضخمة ومقصوصة بعناية تامة بحيث يتثبت بعضها ببعض من دون استخدام الملاط. كما أنهم برعوا في حياكة النسيج، ويعتبرهم بعض الدارسين أمهر الشعوب فيها في ذلك العصر، وكان لديهم أيضاً جراحون بارعون قادرون على القيام بعمليات جراحية صعبة وخطيرة على المرضى بعد تخديرهم أو تنويمهم. وكانوا يحتفظون بالسجلات ولكن ليس عن طريق الكتابة بل عن طريق استخدام شيفرة مكونة من عقد يصنعونها في حبال ملونة تسمى كويبو. إلا أن أبرز ملامح مجتمعهم إنما كان تنظيمه العجيب. كان هذا المجتمع قد بناه بالفتوحات شعب يسمى شعب الإنكا، وكان مركزهم في مدينة كوزكو منذ حوالي عام 1200، وترجع اللائحة التقليدية لأباطرة الإنكا إلى هذا التاريخ. ولكنهم صاروا بحلول نهاية القرن الخامس عشر يدعون حكم منطقة تبلغ مساحتها حوالي 720.000 كم2 تمتد من شمال الإكوادور حتى وسط التشيلي، وهو إنجاز هائل بالنظر إلى الصعوبات والعقبات الكثيرة الناجمة عن طبيعة الأرض، ولو أنهم في الحقيقة لم يبدؤوا بالتوسع بصورة سريعة إلا قبل ذلك بحوالي سبعين سنة.

الفصل الثامن - عصر الاكتشافات والمواجهة  Chp8-6

الانكا

كانت هذه الإمبراطورية خاضعة لزعيم الإنكا الذي يحكمها بصورة طاغية مستبدة، ولشعب الإنكا الذي يشكل الطبقة المسيطرة فيها، وكانت أنحاء البلاد تتصل بعضها ببعض بواسطة شبكة من الطرق يبلغ طولها حوالي 16.000 كم وتقطعها سلاسل من السعاة النشاط الذين لاتعيقهم تقلبات الطقس مهما كانت، كما بنيت على امتدادها أماكن استراحة للمسافرين في مهمات رسمية، وجسور معلقة لعبور الممرات الضيقة حيث تقتضي الحاجة. وكان السكان مجمعين في وحدات مكونة من عشر أسر، ولم يكن يسمح لهم بالسفر أو الارتحال عن جماعتهم المحلية، ولكن الإنكا كانوا يهجرون الشعوب المغزوة حديثاً من أراضي أجدادها، ويضعون محلها شعوباً أطوع وأسهل انقياداً لهم من أجل ضمان ولاء الأجزاء الجديدة في إمبراطوريتهم. ولم تكن لديهم ملكية خاصة أو مال، ولم تتعد المتاجرة عندهم مقايضة المصنوعات الحرفية، وكانت الحيوانات البرية تعتبر ملكاً عاماً ويتم اصطيادها بشكل جماعات كبيرة، وقد يؤمن لهم هذا اللحم أحياناً. وكان جهاز الدولة يجمع المنتوجات الزراعية ثم يعيد توزيعها على الناس، ويوزع أيضاً البضائع المصنعة بالمقابل.

الفصل الثامن - عصر الاكتشافات والمواجهة  Chp8-7

من بقايا ماتشو بيتشو

ولاريب أن حياة أهل البيرو العاديين ضمن هذا النظام المهيمن الشديد كانت حياة مملة ورتيبة، بل ربما كانوا يسعدون بأعمال السخرة التي تفرض عليهم أحياناً في المناجم أو في الأشغال العامة لأنها تتيح لهم الخروج من الروتين الصارم لحياتهم اليومية. وحتى حرية الرجل في اختيار زوجته كانت محدودة لأن خياره كان محصوراً بجماعته بالنظر إلى القيود المفروضة على السفر، ولم يكن يقدر على القيام ببيع أو شراء إذا لم تكن ثمة نقود. وكان أولاد زعماء الشعوب المغزوة يؤخذون إلى كوزكو ويربون هناك بحيث يكتسبون النظرة اللازمة لتأييد حكم الإنكا ونصرته، وكان جيش الإنكا جاهزاً دوماً لمعالجة أمر الثورات والتمرد، ولكن حكمهم رغم فعاليته لم يقدر على القضاء على الاستياء بين رعاياهم، وهذا ما اكتشفه الأوروبيون عندما وصلوا، ويبقى مجتمع الإنكا مثالاً بارزاً عن الحكم الشمولي الاستبدادي الذي يخضع الأفراد ويضعهم دوماً في مرتبة دون مرتبة الجماعة. والحقيقة أن هذا الترتيب يصح على أكثر المجتمعات البشرية التي وجدت حتى الأزمنة الحديثة، إلا أن فعالية الإنكا في فرضه كانت عجيبة بالنظر إلى غياب الميزات التقنية التي تتمتع بها الحكومات الحديثة. وقد وجد دوماً أشخاص معجبون بنظام الإنكا، وكان الأوروبيون في القرن السادس عشر يروون لمواطنيهم حكايات فيها مغالاة كبيرة عن مظاهر العدالة والانضباط فيه.

المكسيك

في حوالي 1100 م كان وادي المكسيك وبعض أراضي المايا القديمة خاضعة لشعب يسمى شعب التولتيك، وكانت عاصمتهم تولا مدينة كبيرة ومجهزة بنظام لري مزارعها التي تمدها بالغذاء، وكانوا شعباً من المحاربين، ويبدو أنهم كانوا يعتمدون على استعباد جيرانهم وتسخيرهم من أجل القيام بأشغال البناء الكبرى وصيانتها. ولكن سيطرتهم زالت بعد زمن قصير، وحلت محلها فترة مضطربة انتهت ببزوغ سادة جدد في حوالي عام 1350م. إن هذه الطبقة الحاكمة الجديدة تسمى عادة الأزتيك، ولكن يفضل الآن أن نستخدم تسمية مكسيكا. لقد أسس هؤلاء عاصمتهم على موقع قرية عند طرف بحيرة تيزكوكو، ثم توسعت إمبراطوريتهم خلال القرن ونصف القرن التاليين، خاصة بعد أن ارتقى عرشها زعيم ذو عزم وهمة كبيرين في عام 1429م إلى أن شملت وسط المكسيك برمته. هذه المدينة الباهرة هي تينوكتيتلان، التي أذهلت الإسبان عندما رأوها للمرة الأولى، حتى قالوا أنها تفوق روما والقسطنطينية روعة وفخامة. وكان فيها قناة تجلب لها ماء الشرب من ينابيع في تشابولتيبيك التي تبعد عنها حوالي خمسة كيلو متر، كما أنها مليئة بالمعابد وكانت تشرف عليها أهرام ضخمة شاهقة.

ويبدو أن هذه الأهرام قد بنيت بأيدي الشعوب التي هزمها شعب الأزتيك أي المكسيكا، وبحسب أسالبيها أيضاً. كان الأزتيك يديرون إمبراطورية عسكرية تعتمد على الجزية التي يؤديها لهم رعاياهم، مثل الترتيب الذي فرضه شعب التولتيك من قبلهم؛ ويبدو أنهم كانوا يفتقرون إلى حس الخلق والإبداع، فلا تجد اختراعاً أو ابتكاراً واحداً في حضارة المكسيك أي يمكن أن ينسب بصورة موثوقة إلى ما بعد زمن التولتيك. وكان أعظم المراكز الدينية في المكسيك هو مدينة تيوتيهواكان التي تبعد حوالي ثلاثين كيلومتر عن عاصمة الأزتيك. يبلغ طول مدينة تيوتيهواكان حوالي ثلاثين كيلومتر ونصف وثلاثة كيلو متر عرضاً، وكانت مليئة بالأبنية التي تعود كلها إلى ماقبل عام 600م، كما أنها كانت مسكونة طوال ألف سنة قبل ذلك تقريباً، وربما بلغ عدد سكانها عندما كانت في ذروتها 200.000 نسمة، وقد كانت مركز طقوس دينية تدور حول الأهرام، كما هي الحال في أجزاء أخرى من أمريكا. والحقيقة أن أكثر الأشياء التي بهرت الأوروبيين الأوائل في مجتمع الأزتيك لم تكن من صنع شعب الازتيك على الإطلاق، بل كانت لها جذور عميقة يعود بعضها إلى أزمنة الأولميك، ويصح هذا الأمر على الأرجح على مدينة تيوتيهواكان .

الفصل الثامن - عصر الاكتشافات والمواجهة  Chp8-8

الشارع الرئيسي في تيوتيهواكان

كانت إمبراطورية الأزتيك في طور التوسع بعد عندما وصل الأوروبيون، وقد سحرتهم بغرابتها وإنجازاتها كما أثارت الرعب في نفوسهم.وكانت الدولة مقسمة إلى عشرين عشيرة، وكانت كلها تحت حكم قائد وزعيم ديني منتخبين، وكانت حكومتها تستخدم سجلات مكتوبة بكتابة تصويرية، وتوزع على الناس قوتهم السنوي من الأراضي التي تديرها العشائر مقابل أدائهم لأعمال السخرة والخدمة العسكرية. وكانوا يزرعون القطن ويبدو أن مهارتهم في أمور الزراعة كانت كبيرة، ولم يكونوا يعرفون استخدام العجلة في النقل، ولكن كان لديهم حرفيون بارعون في صنع الفخار والمجوهرات والأقمشة وشغل الريش، كما كانوا ماهرين في شغل النحاس والذهب، ولو أنهم لم يعرفوا معدن الحديد، وكانت أفضل المواد المتوفرة لديهم لصنع الأدوات القاطعة هي حجر السبج البركاني. كانت المهارات الحربية هي الأعلى مقاماً في مجتمع الأزتيك ، وكان البارزون من محاربيهم ينضمون إلى تنظيمات تشبه تنظيمات الفروسية في أوروبا ويقومون بأداء أشكال خاصة من الرقص والطقوس.

لقد افتتن الأوروبيون بفخامة مجتمع الأزتيك ونهبوا ثرواته الطائلة، كما روعتهم قسوته ووحشيته، كانت ديانة الأزتيك تتطلب تقريب الأضاحي البشرية، وكان هذا الأمر يتم بصورة فظيعة تقطع فيها رؤوس الضحايا وتسلخ جلودهم وتنتزع قلوبهم من صدورهم وهم أحياء، ومن المصنوعات الفنية الهامة لدى الأزتيك علبة حجرية تستخدم لإحراق قلوب البشر وتخزينها، ويقال أن 20.000 شخص قد قدموا ضحايا عند تكريس الهرم الكبير في تينوكتيتلان في عام 1489، وكانت أساطير الأزتيك تقول إن الآلهة قد اضطرت للتضحية بنفسها لكي تمنح دماءها غذاء للشمس، فكانت هذه الطقوس المريعة إعادة تمثيل لتلك الأسطورة. ولما كانت الحاجة للأضاحي دائمة فقد كانت دولتهم في حالة من الحرب المستمرة، ولم يكن رعاياهم خاضعين لهم إلا بصورة واهية، وكانت الثورات كثيرة الحدوث، ولكنهم لم يجدوا ضيراً في هذا الأمر لأنه كان مسوغاً لجمع المزيد من السجناء والتضحية بهم. إلا أن هذا الوضع قد جعل تلك الشعوب مستعدة لمساعدة الأوروبيين عندما قدموا وجاهزة للتحالف معهم ضد الأزتيك.

إن جميع الحضارات الأمريكية الكبرى في عصر الفتوحات تشترك فيما بينها بملامح تجعلها تبدو لنا اليوم كئيبة جداً، ونشعر أنها قد بلغت نهايات مسدودة وأنها كانت محدودة بمستواها الضئيل من التقنية والأفكار الدينية والاجتماعية. ورغم أن بعض إنجازاتها الفنية البارزة مثل فن صنع الفخار لدى الأزتيك، فإنها لم تترك أي أثر هام في الحضارات الأخرى، ولاريب أن عزلتها كانت هي السبب الأساسي في ذلك. إن مساهمة الأمريكتين في حياة البشرية لم تتم من خلال ابتكارات ثقافاتها المتطورة، بل من خلال أشياء متواضعة قدمتها من دون أن تقصد، مثل نباتات الذرة والبطاطا والقرع التي اكتشف فلاحوها القدماء طريق زراعة أشكالها الأولى، فأضافوا إلى موارد البشرية أشياء سوف تنتشر انتشاراً واسعاً. لقد كانت حضارات الإنكا والمايا والأزتيك حضارات لامعة تركت لنا آثاراً مازالت تسحر الألباب، ولكنها ليست أكثر من تحف غريبة وجميلة في هامش تاريخ العالم. وإن الأشياء التي بقيت منها اليوم هي ملامح بسيطة ولكنها ثابتة في الحياة اليومية، خاصة في العالم الجديد، مثل الشكولاته، وكعكة الترتية التي تصنع من دقيق الذرة، ولغة المايا التي مازالت تتحدث بها بعض جماعات الفلاحين.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://resalahmasriyah.mam9.com
Eng. Ahmedzoubaa
Admin
Eng. Ahmedzoubaa


عدد المساهمات : 1216
تاريخ التسجيل : 28/08/2010
العمر : 49

الفصل الثامن - عصر الاكتشافات والمواجهة  Empty
مُساهمةموضوع: رد: الفصل الثامن - عصر الاكتشافات والمواجهة    الفصل الثامن - عصر الاكتشافات والمواجهة  Emptyالأربعاء 15 يونيو 2011 - 0:19

بدايات الاستعمار الأوروبي

إن مانسميه اليوم الاستعمار الأوروبي قد ترك أولى آثاره الباقية على الشعوب الأخرى في القارتين أمريكا وأفريقيا. وقد اكتسبت كلمة استعمل أو إمبريالية Imperialism معاني عامة جداً، فهي تستخدم للدلالة على أي نوع من أنواع السيطرة المستمرة، سياسية كانت أو اقتصادية أو حتى ثقافية، التي تمارسها جماعة من البشر بصورة مقصودة أو غير مقصودة على جماعة أخرى. وينبغي على المؤرخين أن ينظروا إلى هذه المجموعة الغامضة من الأفكار بدقة أكبر إذا أرادوا أن يفهموا كيف حدثت الأمور وماهي العوامل التي كانت تؤثر في مراحلها المختلفة. إن أوضح نواحي الاستعمار وأسهلها تقصياً هي قصة الاستيلاء على أراضي الغير في بلاد أجنبية بصورة مباشرة واستملاكها استملاكاً مطلقاً. ويتم هذا الأمر بطرق عديدة، إما عن طريق حكومة قائمة في أوروبا نفسها، أو عن طريق مستوطنين يفدون ويستقرون في أراض يقيم فيها سكان أصليون، وكان الفايكنغ في القرنين التاسع والعاشر أول المستعمرين الأوروبيين من هذا النوع في الأمريكتين أو حتى عن طريق تأسيس وحدات سياسية جديدة يحكمها المستعمرون ويسيطرون عليها مثل الدول الصليبية التي تأسست في بلاد الشام ولم تعمر طويلاً.

لقد أتاح عصر الاكتشافات فرصاً جديدة للفتوحات فيما وراء البحار خاصة أمام الدول ذات المنافذ السهلة إلى المحيط الأطلسي، وكان التوسع على بر أوروبا يشرف في ذلك الحين على نهايته في الشرق الألماني، وكذلك استعادة شبه الجزيرة الإيبرية، أما إحياء الدول الصليبية القديمة فلم يكن إلا أضغاث أحلام بالنظر إلى قوة تقدم العثمانيين. وهكذا كان أهل البرتغال وإسبانيا، وأقل منهم أهل إنكلترا وفرنسا، هم الذين أطلقوا موجة كبيرة من توسيع حكم الأوروبيين ومستوطناتهم فيما وراء البحار، وفي عام 1600م كان الإيبيريون وحدهم قد حققوا إنجازات كبيرة، فكانت للبرتغاليين سلسلة مترامية الأطراف من المرافئ والحصون التي تحرس هيمنتهم التجارية الممتدة من الصين واليابان من جهة، إلى قارة أفريقيا حيث كانت لهم أراضي سوف يستوطنوها ويحولونها إلى مستعمرات زراعية، وحتى البرازيل من جهة أخرى. وكان الإسبان في هذه الأثناء قد ضموا في القارتين الأمريكيتين، نظرياً على الأقل، مساحات شاسعة جداً من الأراضي هي في الحقيقة أوسع أراضي استملكتها مملكة واحدة حتى ذلك الزمان، وهي مملكة قشتالة أما الفرنسيون والبريطانيون فلم يكونوا قد قاموا بعد إلا بمحاولات قليلة للاستكشاف والاستيطان في أمريكا الشمالية، صحيح أن الفرنسيين عينوا نائباً للملك عن كندا ونيوفوندلند ولابرادور في أربعينيات القرن السادس عشر، إلا أن هذا لم يكن في الواقع إلا ادعاء لا أساس له، وكانوا قد ابتدأوا تقليداً راسخاً وناجحاً من القرصنة والسلب والنهب على حساب الإسبان في نصف الكرة الغربي؛ وإن مستوطناتهم الكبرى في أمريكا سوف تأتي في مرحلة لاحقة، مثل مستوطنات الهولنديين.

الإمبراطورية الإسبانية

ابتدأت عملية الاستيطان في جزر المحيط الأطلسي في القرن الرابع عشر، لهذا كان الرجال الذين صنعوا أولى الإمبراطوريات الأوروبية رجالاً من العصور الوسطى، أي أن تفكيرهم قد صيغ في قالب التراث الكلاسيكي لليونان وروما، والأهم منها المسيحية. إن هذا التراث هو الذي صنع الرجال الذين سماهم الإسبان الفاتحينconquistadores والذين تراهم في تسعينيات القرن الخامس عشر مستوطنين جزر الكاريبي أولاً، ثم مستكشفين يقومون بغاراتهم على البر الرئيسي في البلد التي سوف تسمى فيما بعد فنزويلا. وفي عام 1513 عبر بعضهم برزخ بنما، ثم استقروا وراحوا يبنون لهم الأكواخ ويزرعون المحاصيل، فكانت هذه علامة على أنهم ينوون البقاء، وتأسست عندئذٍ في منطقة بنما أول أرض تابعة للقانون الإسباني على البر الرئيسي للقارة. كان المستوطنون قد كثروا في جزر الكاريبي في ذلك الحين، وكانوا قد أتوا بالعبيد من أفريقيا لتشغيلهم في الأعمال المختلفة، ومابرح صغار النبلاء والجنود الإسبان المتلهفون لاستملاك الأراضي والثروات يزدادون انجذاباً نحو الأمريكتين مع وصول المزيد والمزيد من المعلومات عنهما.

كان أشهر أولئك الفاتحين الإسبان ضابطاً تمتزج فيه البطولة بالقرصنة ويدعى هرنان كورتس، انطلق كورتس من كوبا إلى المكسيك في عام 1518، وما إن رسا فيها حتى أحرق قواربه وخرج عن سيطرة رؤسائه، ثم أسس مدينة فيرا كروز وقاد رجاله نحو الداخل حتى الهضبة العالية التي كانت قلب إمبراطورية الأزتيك، ومالبث أن فتحها خلال أشهر قليلة. وبعد بضع سنوات في عام 1531، سار رجل إسباني آخر هو بيزارو وهو مغامر أشد وحشية حتى من كورتس عبر جبال الآندس إلى عاصمة الإنكا حيث قوض نظامهم، وبذلك صارت كل من المكسيك والبيرو تابعة لعرش إسبانيا، وأضيفت إلى الأراضي التي استملكها سابقاً في فنزويلا وأمريكا الوسطى الحاليتين.

وتسربت إلى إسبانيا الأساطير عن الثروات الخيالية في الأمريكتين، وراحت تجتذب الإسبان إلى جزر الهند مثل قوة مغناطيسية لاتقاوم، وكانت تحركهم دوافع عديدة ومتضاربة، أقواها بلاريب هو الرغبة بالاستيلاء على ثروات تلك الحضارة التي أذهلتهم وحملها إلى بلادهم، وسوف يظل الناس زمناً طويلاً يستكشفون أمريكا الجنوبية بلا كلل بحثاً عن المدينة الأسطورية التي كان الإسبان يسموها إلدورادو أي أرض الذهب وعن ثرواتها الطائلة. وكانت لدى الفاتحين دوافع أخرى أيضاً، فقد كان الكثيرون منهم يبحثون عن الأراضي من أجل استملاكها، أو عن العبيد لتشغيلهم في المزارع التي كانوا قد بنوها في الجزر، ولهذا كانوا يعاملون الهنود بلا رحمة ولا شفقة. صحيح أنهم كانوا في بعض الأحيان راغبين في تبشيرهم بإنجيل المسيح، وأن رجال الدين الأسبان قد سعوا لردعهم عن وحشيتهم، إلا أن أولئك المستوطنين كانت تدفعهم موجة الجهاد المسيحي الذي استعاد إسبانيا من المسلمين، ولم تكن تلك بعقيدة تحترم الفروق الثقافية، كما أن الكثيرين منهم روعتهم عادات الأزتيك في التضحية بالبشر، مع أن الناس في أوروبا كانوا يألفون فكرة إحراق من يتبع مذهباً هرطقياً في الديانة المسيحية.

الأمريكيون قديماً وحديثاً

لقد سبب قدوم الإسبان كوارث عظيمة للسكان الأصليين في كل بقعة من بقاع البلاد، ولو أنهم لم يكونوا مسؤولين عنها كلها، إلا إذا قيل إنهم ماكان يجب عليهم أن يذهبوا إلى أمريكا أصلاً، فقد جلبوا معهم أمراضاً، كان أسوأها مرض الجدري، فتكت بالسكان فتكاً مريعاً في الجزر أولاً ثم على البر الرئيسي. وربما أحدثت قوة الإسبان الهائلة صدمة في نفوس الهنود ساهمت في تقويض معنوياتهم، فهم لم يكونوا قد رأوا في حياتهم خيولاً مثلاً، لهذا فقد ذهل الأزتيك عندما وقعت أنظارهم على الأحصنة الستة عشر التي جلبها معه كورتس، ولما شاهدوا الخيالة يترجلون عنها حسبوها وحوشاً عجيبة تشطر أجسادها إلى شطرين.

وسرعان ما نقصت الأيدي العاملة ولم تعد كافية للمستوطنين، فراحوا يستغلون مابقي منها بلا أدنى رحمة، وقد حارب رجال الدين وحشيتهم، ولكنهم لم ينجحوا في حماية الهنود منهم، وكانت الترتيب الشائع أن يمنح مستوطن إسباني خدمات السخرة من جماعة من السكان الأصليين مقابل أن يحكمها ويحميها. ومع ازدياد أعداد الناس الذين قضوا نحبهم ضحية للأمراض والإنهاك ازداد حرص المسؤولين الملكيين والمستوطنين معاً على منع العمال من مغادرة المزارع التي يعملون فيها، فضاق الخناق بذلك عليهم أكثر.ومازالت الكلمة المستخدمة للدلالة على الفلاح في مناطق واسعة من أمريكا الجنوبية حتى اليوم هي كلمة peón، وهي كلمة إسبانية معناها حجر البيدق في الشطرنج، أي أدنى الأحجار قيمة في اللعبة.

وراحت جماعات السكان الأمريكية في الأراضي الإسبانية تنمي أعدادها رويداً رويداً عن طريق التكاثر والهجرة من أوروبا على مدى القرنين التاليين، فكانت النتيجة ظهور عدد من المجتمعات الأمريكية من أصل إيبيري طبقاتها العليا والوسطى من أصل أوروبي ولكنها تحكم سكاناً سوادهم من الهنود. ورغم أن الإسبان والبرتغاليين لم يعارضوا التزاوج مع الهنود – ولاننس أن الإسبان طالما عاشوا في مجتمع متعدد العروق- فقد كان المقام الأعلى في مجتمع المستعمرات للدم الأوروبي، وكلما كان المرء أقرب عرقياً من الأصل الأوروبي كلما ازدادت ثروته وسلطته. وكان الأشخاص المولودين في الأمريكتين من أصل أوروبي يسمون بالإسبانية الكريول، وكانوا هم الحكام والسادة على من بقي من هنود الحضارات القديمة، التي زالت جميع إنجازاتها الباهرة تقريباً، فصار الكثيرون من الهنود يتحدثون شكلاً من أشكال اللغة الإسبانية، كما أصبحوا مسيحيين بالاسم على الأقل.

المؤسسات والحكم

لاتختلف القصة في البرازيل التي استوطنها البرتغاليون كثيراً عن قصة المكسيك والبيرو، عدا عن أن البرازيل لم يكن فيها شيء من الحضارة الأصلية، والفرق الآخر هو أن أعداداً كبيرة من العبيد قد جلبت من أفريقيا للعمل في مزارع السكر، بحيث صارت أهمية التراث الثقافي الأفريقي في البرازيل مساوية لأهمية تراثها الهندي. وكما كان الأمر في المستعمرات الإسبانية، كانت المسيحية في البرازيل واحداً من أبرز مظاهر الحضارة الأوروبية التي زرعت في بيئة غير أوروبية، فأكثر الأبنية القديمة في البرازيل اليوم إنما هي كنائس.

كما أن عناصر أخرى من القارة القديمة قد ضربت جذورها شيئاً فشيئاً في أمريكا الوسطى والجنوبية، فقد اعتبر المستوطنون والحكومات في إسبانيا والبرتغال أن من الطبيعي تطبيق أشكال الحكم التي يعرفونها، مع أنها مبنية على قوانين وتقاليد ومؤسسات تعود إلى الماضي الأوروبي البعيد، وليس لها علاقة منطقية بالمجتمع الأمريكي على الإطلاق، وقد فرضوها فرضاًَ، وبعد أن زالت الإمبراطوريات استمرت في أمريكا الجنوبية الدول المبنية على أسس أوروبية بإدارتها ومحاكمها، مثلما استمرت الهيمنة للغات الأوروبية.

كانت الإمبراطوريتان الإسبانية والبرتغالية في أمريكا تمتدان على مساحات هائلة، ولكن سكانهما كانوا قليلين جداً، فلم يكن هناك إلا عدد قليل من المهاجرين الأوروبيين الذين يستثمرون البلاد، كما أن أعداد الهنود قد هبطت، وربما لم يتجاوز عدد السكان من المجموعتين معاً 10 ملايين نسمة في عام 1600م. وفي عام 1700م كان الإسبان يحكمون، بصورة نظرية على الأقل، منطقة تمتد من نهر بلات في الجنوب حتى نهر كولورادو في الشمال، وتشمل كافة ساحل المحيط الهادي تقريباً من جنوب تشيلي حتى شمال كاليفورنيا، حيث يشهد اسم سان فرنسيسكو على السيادة الإسبانية، كما تضم أراضي أخرى كثيرة إلى الشمال من نهر ريو غرانده فضلاً عن فلوريدا. ولكن عدد السكان في هذه البلاد بقي قليلاً جداً حتى عام 1800م، وكان وجود الإسبان فيها مقتصراً على بعض محطات الإرساليات وبعض الحصون القليلة، ولو أن بعضها سوف يشكل مواقع مدن هامة جداً في أزمنة لاحقة. أما بقية أسبانيا الجديدة فكانت مكونة من المكسيك، وهي غنية بالمستوطنين، ومن الأراضي الواقعة في منطقة البرزخ، وكانت إسبانيا الجديدة هذه تابعة لنائب الملك. ثم كانت هناك تجمعات هامة للسكان ومدن كبيرة في البيرو وبعض الجزر الكاريبية الواسعة، أما جزر الهند فكانت نظرياً ممالك شقيقة لمملكتي قشتالة وأراغون، يحكمها نواب عن الملك، ولكنها كانت في الحقيقة تحكم بدرجة كبيرة من الاستقلال بالطبع، ومع هذا كانت في الوقت نفسه جزءاً من إمبراطورية عالمية ترتبط عن طريق أكابولكو وبنما بجزر الفيليبين وبإسبانيا.

أمريكا الشمالية

لقد بقي الاستيطان الأوروبي لأمريكا الشمالية لزمن طويل ضعيفاً جداً بالقياس إليه في الجنوب، ولكنك إذا نظرت إلى المنطقة الساحلية الشرقية للقارة في عام 1700 وجدتها مليئة بالمستوطنات الإنكليزية، وكانت إحداها مستوطنة فيرجينيا التي سميت على اسم ملكة إنكلترا إليزابيث الأولى، التي لم تتزوج لأن virgin معناها العذراء، وكان هذا أول مكان جرت فيه محاولات لتأسيس مستوطنة في ثمانينيات القرن السادس عشر، ولو أنها كانت محاولات فاشلة. ثم جرت محاولات أخرى في بداية القرن التالي، ولكن جاذبية أمريكا الشمالية من الناحية الاقتصادية ظلت لزمن طويل أضعف بكثير من جاذبية منطقة الكاريبي، والحقيقة أن المستوطنين الإنكليز كانوا في عشرينيات القرن السابع عشر قد بلغوا جزر الهند الغربية نجاحاً أكبر بكثير مما بلغه أبناء عمومتهم على البر الرئيسي.

وأخيراً بلغ استيطان أمريكا الشمالية في القرن السابع عشر مستوى عالياً من النجاح ضمن له أن يستمر ويتطور بصورة متسارعة، حتى صار هناك في عام 1700 حوالي 400.000 شخص من أصول أجنبية أكثرهم بريطانيين يعيشون في أمريكا الشمالية في اثنتي عشرة مستعمرة إنكليزية. وقد أسست أولى المستوطنات الناجحة في جيمستاون الواقعة في ولاية فرجينيا الحالية في عام 1607، وبعد عام واحد بنى المستكشف الفرنسي شامبلان حصناً صغيراً في كيبك، وبعد سنوات قليلة ظهر المستوطنون الهولنديون في موقع مدينة نيويورك الحالية، وكانت أمريكا الشمالية تضم أراضي كثيرة يمكن زراعتها بالأساليب الأوروبية، فراح الإنكليز ينقلون إليها جماعات بأكملها من رجال ونساء وأطفال، وراح هؤلاء يعملون في الزراعة فمنحهم هذا قدراً هاماً من الاستقلال عن بلدهم الأم، مثلما كانت الحال في مستوطنات المدن الإغريقية في العصور القديمة. ثم أتت زراعة التبغ التي ابتدأت في فرجينيا، فكانت هذه سلعة ملائمة للتصدير، وكان التبغ على أهمية عظيمة في التاريخ الباكر لفرجينيا ولمستوطنة ماريلاند التي أتت بعدها أيضاً، بل إنه كان يستخدم بدلاً من المال من أجل حساب الديون. ثم جاءت من بعده محاصيل هامة أخرى مثل القطن والأرز وصبغة النيلة، أمدت كلها المستوطنين بالإيرادات اللازمة لشراء ما يلزمهم من البلد الأم، كما كانت لهم أيضاً موارد أخرى من صيد السمك ومايرتبط به من نشاطات. أما كندا فلم يكن فيها يوماً منتج على هذه الأهمية، وكانت تجارة الفرو فيها ضئيلة، فكان هذا من أسباب البطء الشديد الذي كنت تراه في نمو المستوطنات الفرنسية، والحقيقة أن عدد الفرنسيين في كندا في عام 1661 لم يتجاوز الثلاثة آلاف تقريباً.

لقد سلكت المستعمرات الإنكليزية منذ البداية مناحي خاصة في تطورها بسبب مناخ منطقتها وجغرافيتها، كانت مجموعة المستوطنات الأبعد شمالاً تسمى نيوإنغلند أي إنكلترا الجديدة، وقد تميزت أيضاً من حيث أنها بدأت تجتذب إليها أناساً ذوي آراء دينية خاصة تعكس عادة الأشكال الأكثر تطرفاً من بين العقائد البروتستانتية الكالفينية، فكانت لديهم أفكار متشددة جداً حول السلوك، وكانوا يكرهون الطقوس والشعائر في عبادتهم، مع أنهم كانوا يغالون في فرض أساليبهم في الحديث والسلوك وكأنها طقوس مقدسة وكان هؤلاء يسمون في إنكلترا بيوريتانيين أي طهريين وكان الكثيرون منهم يعتبرون أنفسهم منتمين لكنيسة إنكلترا الرسمية عندما يرحلون إلى أمريكا، ولكنها ينشقون عنها في العادة متى حلوا في العالم الجديد، وصار يفصل بينهم وبين بلدانهم الأصلية حوالي خمسة آلاف كيلو متر من المحيط الأطلسي. كان البيوريتانيين متزمتين للغاية، بل قد يمتعضون إذا ما رأوا المهاجرين الآخرين يحتفلون بالأعياد والمناسبات السعيدة، وقد صارت منطقة نيوانغلند تعرف بالإجمال بأنها مكان الراغبين بالانقطاع عن الأساليب القديمة، بينما كان الأكثر تعلقاً بتقاليد بلدهم القديمة وعاداتها يذهبون إلى المستعمرات الجنوبية مثل فيرجينيا وكارولاينا الشمالية وكارولاينا الجنوبية.

وفي عام 1620 رست مجموعة من المستوطنين البيورتانيين في سفينتهم مايفلاور، وأسسوا لهم مستوطنة بليموث في ماساشوستش، وسرعان ما عرفوا بلقب الآباء المهاجرين، ودخلوا عالم الأساطير. وقد ارتبطت قصتهم أيضاً بتقاليد الحكم الذاتي، ولايعني بالضرورة الديمقراطية، وكان الحكم في ماساشوستس يقع عادة في أيدي حلقة ضيقة جداً من الأثرياء ورجال الدين الكالفينيين، بينما ظهرت أشكال من الحكم ديمقراطية في ولايات أخرى مثل كونكتيكت ورود آيلند. إلا أن قدرة الحكومة في إنكلترا على التحكم بمستوطناتها كانت ضئيلة في كل مكان تقريباً بسبب بعد المسافات في البر كما في البحر، وبفعل الظروف الخاصة في العالم الجديد؛ وسرعان ما أصبح الحكم الذاتي حقيقة قائمة في المستوطنات الأنكلوسكسونية بصرف النظر عن الترتيبات التي كانت قد بنيت على أساسها.

لم تكن أي من مستوطنات أمريكا الشمالية مضطرة للتعامل مع مجتمعات أصلية معقدة وغنية مثل التي كانت في المكسيك والبيرو، لأن هنود أمريكا الشمالية في القرن السابع عشر كانوا بعد على عتبة المرحلة الزراعية في تطورهم، وكانت تقنيتهم نيوليتية على أفضل تقدير. ولكنهم أعطوا نصائح قيمة للمستوطنين البيض، والحقيقة أنهم أنقذوا مستوطني ماساشوستس في أيامهم الأولى من المجاعة بأن قدموا لهم الطعام. والمؤسف أن كرمهم هذا لم يجعل الأوروبيين يحسنون معاملتهم على المدى البعيد، بل راحت مستوطنات البيض تمتد بالتدريج على حساب أراضي صيدهم التقليدية، فابتدأت بذلك مرحلة طويلة من الصراع سوف تنتهي بانقراض الكثير من الشعوب الأصلية انقراضاً تاماً تقريباً، وإن الذين تمكنوا من البقاء إنما أمكنهم ذلك بأن رحلوا نحو الغرب. ولكن بالمقابل قدمت الأمريكتان فرص العيش لآلاف الأوروبيين الفقراء، فقد اجتذبت الألمان والهوغنوت أي البروتستانت الفرنسيين والسويسريين، فصاروا يفدون إليها عند نهاية القرن السابع عشر بعد أن كان الهولنديون قد سبقوهم إليها، وهكذا كانت أمريكا الشمالية منذ عام 1700 بوتقة تنصهر فيها شعوب من أصول عديدة.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://resalahmasriyah.mam9.com
Eng. Ahmedzoubaa
Admin
Eng. Ahmedzoubaa


عدد المساهمات : 1216
تاريخ التسجيل : 28/08/2010
العمر : 49

الفصل الثامن - عصر الاكتشافات والمواجهة  Empty
مُساهمةموضوع: رد: الفصل الثامن - عصر الاكتشافات والمواجهة    الفصل الثامن - عصر الاكتشافات والمواجهة  Emptyالأربعاء 15 يونيو 2011 - 0:20

العالم الآسيوي

لم يقتصر تأثير الأوروبيين في العالم على أفريقيا التي كانوا يستمدون منها العبيد، ولا على الأمريكتين اللتين فتحوهما واستوطنوهما، بل إنه امتد إلى بلاد آسيا أيضاً، ولكنه اتخذ فيها أشكالاً مختلفة عن الفتوحات والاستيطان، ولو أن دوافعهم كانت هي ذاتها، من رغبة بالإثراء وقناعة بتفوقهم الروحي ونزاهة قضيتهم فضلاً عن التسابق المسعور فيما بينهم، ولكن الوضع في آسيا كان مختلفاً من نواح عديدة، فقد كانت آسيا بالأصل مصدراً تقليدياً لبضائع يهتم بها الأوروبيون أيما اهتمام، وهي مما خف وزنه وغلا ثمنه وأبرزها التوابل. كانوا يحصلون على تلك البضائع إما عن طريق شرائها أو عن طريق مقايضتها ببضائع أخرى. ومن ناحية ثانية كانت كثير من البلاد الآسيوية التي يتصل بها الأوروبيون تحت حكم إمبراطوريات وقوى ذات موارد عسكرية كبيرة بينها أسلحة نارية ومدافع، وكانت لديها تقاليد طويلة من الحكم الراسخ، كما كانت لها في بعض الحالات ادعاءات أنها قوى عظمى لابد من احترامها. والناحية الثالثة هي أن بعضها كانت تمتلك إنجازات ثقافية وفنية على مستوى رفيع جعل الأوروبيين يشعرون أمامها شعوراً مزعجاً بالدونية، والحقيقة أن الصين قد ظلت موضع إعجاب مفرط من بعض المفكرين الأوروبيين حتى وقت متقدم من القرن الثامن عشر، وأخيراً كانت أعداد الآسيويين أكبر بكثير من أعداد الأوروبيين، وكان الأوروبيون في آسيا هم الذين يسقطون ضحايا لأمراض جديدة لم يألفوها، لهذا لم يكن استيطانهم لها بالأمر الممكن.

وكانت نتيجة هذا كله أن بعض الأوروبيين من برتغاليين وهولنديين وإنكليز وفرنسيين أسسوا ما يمكن أن نسميه إمبراطوريات تجارية وليست استيطانية. وكانت هذه تتكون من مراكز متفرقة أكثرها مرافئ هامة لتسيير التجارة وحمايتها، فضلاً عن سلسلة من المعاهدات والحقوق والبراءات التي مكنت تجارهم من القيام بأعمالهم، وهذا ما جعل شعوب أكثر الدول الآسيوية غير واعية لوجودهم.

الأوروبيون والصين

كانت الصين هي المثال الأبرز على هذا النمط من النفوذ، فقد قام البرتغاليون فيها بسلسلة من عمليات الاستغلال والقرصنة أثارت حنق الإمبراطورية وأدت إلى طردهم منها في عام 1522، ولكنهم عادوا فنجحوا في تثبيت أقدامهم في ماكاو، من دون أن يسمح لهم بصعود النهر إلى كانتون. وقد استمرت الحال هكذا في بقية عهد المنغ ثم المنشو، وظلت الصين تبدو منيعة وحصينة، وكان فتح شعب المنشو للصين باهظ الثمن من ناحية الأرواح فقد كلف حياة ما يقرب من 25 مليون إنسان، ولكن يبدو أنه أعاد للصين سلطتها الإمبراطورية واستهل مرحلة جديدة من ازدهار الفنون فيها. وكان أعظم أباطرة التشنغ أي المنشو هو الإمبراطور كانغ هسي، الذي حكم بين عامي 1662 و 1722، وقد استهل كانغ هسي مرحلة من الفتوحات سوف تستمر خلال القرن الثامن عشر، فاستولى على فورموزا – تايوان واحتل التيبت وسيطر على المغول، وكانت هذه نقطة تحول هامة، لأن الشعوب البدوية في آسيا الوسطى بدأت عندها بالتراجع أخيراً أمام المستوطنين. أما في الشمال، أي في وادي الآمور، فقد افتتح فصل جديد من فصول التاريخ عندما هدمت الصين موقعاً للروس في عام 1685 وعقدت أول معاهدة لها مع قوة أوروبية من أجل تضمن حدودها. والحقيقة أن علاقات الصين بالعالم الخارجي كانت تتطور بسرعة من دون أن يكون أكثر أهلها واعين لذلك، وفي القرن الثامن عشر عادت الصين فغزت التيبت ممن جديد، كما فرضت حالة التبعية على كل من كوريا والهند الصينية وبورما. أما في الداخل فكان السلام والازدهار قد أثمرا في هذه الأثناء عصراً فضياً من الحضارة الكلاسيكية الناضجة يعتقد بعض العلماء أنها بلغت ذروتها في أواخر عهد المنغ. إلا أن إنتاج التحف الفنية والأدبية قد استمر على عهد المنشو أيضاً، ومنذ عهد كانغ هسي كانت أفران الخزف الإمبراطورية قد بدأت قرناً كاملاً من التقدم التقني في طلاء الأعمال الخزفية نتجت عنه أشكال بديعة من المينا.

إلا أن حضارة المنشو ظلت مع ذلك حضارة نخبة صغيرة وحكراً على الطبقة الحاكمة مثلما كانت الحال في الصين دائماً. كما أنها كانت مزيجاً من النشاط الفني والأدبي والإداري المحافظ إلى أبعد الحدود، فكانت في سعي مستمر لتقليد ومحاكاة ماهو أحسن، ولكن الأحسن هو دوماً ما أنتجته الأجيال السابقة في الماضي. وكانت النتيجة العملية لتلك النزعة واضحة كل الوضوح بحلول القرن الثامن عشر، فرغم كل إنجازاتها التقنية الباكرة لم تصل الصين إلى السيطرة على الطبيعة بصورة تمكنها من مقاومة التدخل الغربي، وأشهر مثلا على ذلك هو البارود، لأن البارود كان معروفاً في الصين قبل أي بلد آخر، ولكن الصينيين لم يكونوا قادرين على صنع أسلحة نارية بجودة أسلحة أوروبا، ولا حتى استخدام الأسلحة التي كان يصنعها لهم الحرفيون الأوروبيون استخداماً فعالاً. كما أن البحارة الصينيين كانوا يعرفون استخدام البوصلة منذ زمن طويل، وكان لديهم تراث قديم في صنع الخرائط أوصلهم إلى وضع أول خريطة ذات شبكة خطوط متصالبة ولكنهم مع ذلك لم يقوموا برحلات الاستكشاف إلا بصورة قصيرة، فلا اندفعوا عبر المحيط مثل الميلانيزيين البدائيين، ولا رسموا له خارطة كما فعل الأوروبيون في زمن لاحق. وكان الصينيون أيضاً يصنعون ساعات ميكانيكية مزودة بالميزان أو الشاكوش الضروري لضبط الوقت قبل أوروبا بحوالي ستة قرون، إلا أن الأوروبيين قد أحضروا معهم إلى الصين تقنية في صنع الساعات وقياس الزمن هي أرقى بكثير مما كان لديهم، ويمكننا أن نسرد أمثلة أخرى لاتحصى عن انتصارات الصين الفكرية التي بقيت دون استثمار عملي فعال.

وهكذا كانت الصين مقيدة في استجابتها للعالم الخارجي، وكان ضعفها هذا نذير شؤم إذا كانت بانتظارها بعد المزيد من الأخطار الكبرى. كان الروس قد ثبتوا أقدامهم في كمتشتكا بحلول عام 1700، وكانوا يوسعون تجارتهم على طرق القوافل، وسرعان ماراحوا يخترقون منطقة ماوراء بحر قزوين. وحتى السلام والازدهار اللذان نعمت بهما الصين سرعان ما ترتب عليها أن تدفع ثمناً لهما، لأنهما سببا زيادة أسرع في عدد السكان، وقد تجاوزت أعداد الصينيين في عام 1800 الثلاثمائة مليون، بل ربما بلغت الأربعمئة مليون.

في ذلك الحين كان انبهار الأوروبيين بحجم الإمبراطورية وأبهتها قد بدأ بالأفول أيضاً، بعد أن بلغ ذروته في القرن السابع عشر على مايبدو. وكان الصينيون قد سمحوا عندئذٍ بتأسيس إرسالية كاثوليكية لليسوعيين في بكين، وقد عاملوا أفرادها معاملة حسنة وكانوا مهتمين بتعلم مهاراتهم في صنع الساعات والعمارة وعلم الفلك. أما اليسوعيون فقد بدؤوا يأملون بقرب تنصير الإمبراطورية، ربما عن طريق هداية الإمبراطور نفسه مثلما حدث لقسطنطين. وقد قدم أفراد البعثة عدداً من التنازلات للكونفوشية، إلا أن البابوية أدانت تصرفهم هذا فكانت تلك نهاية إرساليتهم. وكان هذا دليلاً على أن القيم الأوروبية أقل انفتاحاً لتأثير الصين من قيم الشعوب البربرية الأخرى التي كانت قد قدمت إليها. إلا أن إعجاب الأوروبيين بفنون الصين لم ينقطع، بل إنه تحول إلى مايشبه الهوس في القرن الثامن عشر، وقد استطاع الكثيرون من التجار الأوروبيين خاصة من البريطانيين، أن يستقروا في كانتون من أجل إشباع هذا الطلب على بضائع الصين ومصنوعاتها.

اليابان

لقد ظلت اليابان في هذه الأثناء أكثر حصانة ضد الأوروبيين، في عام 1603 أعيد إحياء لقب الشوغون القديم، وتعرف المرحلة التالية باسم السلام الكبير وقد أحكمت خلالها السياسة قبضتها على الإمبراطور طوال قرنين ونصف القرن كما تغير الشوغونات أيضاً، فبعد أن كانوا أبرز السادة الإقطاعيين أصبحوا بالدرجة الأولى أمراء بالوراثة وبالدرجة الثانية رؤساء نظام اجتماعي متسلسل يمارسون عليه سلطاتهم باسم الإمبراطور وبالنيابة عنه. وكان هذا النظام يسمى نظام باكوفو، أي حكم المعسكر، وكان عماده الأساسي هو سلطة عشيرة توكوغاوا وخاضعين لمراقبتها الدقيقة، وكانوا يعيشون أحياناً في البلاط وأحياناً أخرى في أراضيهم، وعندما يكونون في أراضيهم تظل عائلاتهم مقيمة لدى الشوغون في مدينة ايدو، أي طوكيو الحالية، حيث يمكنه أن يجعل منهم رهائن إذا ما اقتضت الحاجة.

كان المجتمع الياباني مقسماً تقسيماً شديداً إلى طبقات وراثية، فكانت طبقة الساموراي النبيلة مكونة من السادة وأتباعهم، وهم الحكام المحاربون المسيطرون على المجتمع والذين يعطون شكله وقوامه، مثل حال طبقة الإداريين النبلاء في الصين. ولكن العلاقات القديمة التي كانت تربط أولئك الأتباع بالأرض كانت قد زالت بحلول القرن السابع عشر، وصاروا يعيشون في مدن القلاع التابعة لسادتهم. أما الطبقات الأخرى فهي طبقات الفلاحين والحرفيين والتجار، وكانت الطبقة الأخيرة هي الأدنى في السلم الاجتماعي لأن مهنتهم ليست ذات طبيعة منتجة، بالرغم من نشاط تجارة اليابان وحيويتها. وكان الهدف من هذا النظام برمته هو تأمين الثبات كما كان التزام المرء بواجباته يفرض عليه فرضاً، وكان الشوغون الأول هيديوشي قد أشرف بنفسه على حملة كبيرة لجمع السيوف من الطبقات الدنيا إذ لم يكن يجوز لها أن تحمل سلاحاً. وهكذا صار مجتمع اليابان يشدد على كل ما يضمن له الثبات والاستقرار، أي أن يعرف كل امرئ مكانه ومرتبته، وأن ينضبط ويعمل بجد وانتظام ويمارس صنعته بمنتهى الدقة، ويتحمل الشدائد بكل صبر وجلد.

وقد حسب هذا النظام خطأً أن بإمكانه عزل اليابان عن عوامل التغير، ولكنها بقيت زمناً طويلاً معرضة لخطر الانحدار في فوضى داخلية، بسبب وجود أعداد كبيرة من النبلاء والمحاربين المستائين والمهتاجين في القرن السابع عشر. ثم كان هناك خطر خارجي واضح، ألا وهو خطر الأوروبيين، الذين كانوا قد جلبوا إلى اليابان أشياء عديدة سوف يكون لها تأثير عميق في اليابان، وأهمها الأسلحة النارية، كما أنهم جلبوا معهم الدين المسيحي، وقد عوملت المسيحية في البداية بتسامح بل إن اليابانيين رحبوا بها على اعتبار أنها تجتذب التجار من الخارج، والحقيقة أن نسبة اليابانيين المسيحيين بين السكان قد بلغت في بداية القرن السابع عشر أعلى حد لها حتى اليوم، حيث قدر عددهم سرعان ما تجاوز نصف المليون. إلا أن حكام اليابان سرعان ما أدركوا قيمة المسيحية الكبيرة على إحداث الانقلابات، فراحوا عندئذٍ يضطهدونها بوحشية شديدة، وقد قضى هذا الأمر على تجارة البلاد مع أوروبا، فغادرها الإنكليز والإسبان والبرتغاليون خلال عقود قليلة. ومالبثت أن اتخذت خطوات أخرى، فمنع على اليابانيين أن يسافروا إلى الخارج، وأن يعودوا إلى بلادهم إذا كانوا أصلاً خارجها، كما منع بناء السفن الكبيرة، ولم يبق إلا الهولنديين لأنهم وعدوا بعدم التبشير بديانتهم وكانوا مستعدين للتنكر لها، وهم الذي حافظوا على اتصال اليابان الضئيل بأوروبا من خلال محطة تجارية على جزيرة في مرفأ ناغازاكي.

بلد تتغير

لقد زال بذلك خطر أن يستغل الأجانب النزاعات الداخلية في اليابان، ولكن ظروف الاستقرار التي سادت خلال السلام الكبير أدت أيضاً إلى تراجع المهارة العسكرية وتخلف تقنياتها عن عصرها، وعندما عاد الأوروبيون لم تكن قوات اليابان العسكرية بقادرة على مجاراتهم من الناحية التقنية. ثم كان مصاعب أخرى بسبب السلام العام الذي ازدهرت خلاله التجارة الداخلية، فقد أصبح اقتصاد اليابان أكثر اعتماداً على المال، وقد أضعف هذه العلاقات القديمة، كما ظهرت ضغوط اجتماعية جديدة، بينما كان حال التجار في ازدهار مستمر وصار المحاربون بالتدريج معتمدين على أصحاب البنوك. وكانت المدن تنمو أيضاً، ففي عام 1700 كان في كل من أوساكا وكيوتو أكثر من 300.000 نسمة، ربما بلغ عدد السكان في ايدو- طوكيو 800.000، وكان من المحتم أن تترتب على هذا النمو نتائج أخرى كثيرة.

إن هذه التحديات الجديدة التي عجز حكام اليابان عن احتوائها كانت ناشئة من حقيقة أساسية، ألا وهو النمو الاقتصادي، ويبدو أن هذا النمو لنا اليوم بالمنظور التاريخي أهم مواضيع تلك الحقبة وأعمقها أثراً. فقد تضاعف الإنتاج الزراعي لليابان تقريباً بين عامي 1600 و 1850، بينما لم يرتفع عدد السكان إلا بأقل من النصف. ويبدو أنها كانت خطوة ناجحة نحو نمو اقتصادي ثابت، ولو أن أسبابه مازالت موضع أخذ ورد، ولاريب أن إحاطة البحار باليابان كانت عاملاً مساعداً في هذا التطور لأنها حمتها من الغزاة، مثل بدو السهوب الذين طالما ضايقوا الشعوب الأخرى على بر آسيا، كما أن السلام الكبير كان أيضاً ميزة ثانية. وقد حدثت تطورات كثيرة بفضل استخدام طريقة الزراعة المكثفة وتحسن الري واستغلال المحاصيل الجديدة التي أتى بها البرتغاليون بالأصل من الأمريكتين، وكانت حكومة باكوفو تطمح طموحاً كبيراً إلى تنظيم المجتمع وتطويره، ولكن يبدو أن ما سهل النمو الاقتصادي في النهاية إنما كان ضعف سلطتها، لأنها بدلاً من أن تكون ملكية مطلقة صارت أشبه بمجموعة من القوى المتوازنة فيما بينها والمكونة من كبار السادة، وكان هذا النظام قادراً على الاستمرار طالما هو بمنأى عن الغزاة الأجانب الذي قد يخلون بتوازنه. فلم يعرقل طريق النمو الاقتصادي، ولم يحرم المنتجين من الاستفادة من مواردهم واستثمارها، والحقيقة أن حصة طبقة الساموراي الطفيلية من الدخل القومي كانت في انخفاض، بينما كانت حصص العناصر المنتجة في ارتفاع، ويبدو أن دخل الفرد في اليابان ومتوسط العمر المتوقع له كان في عام 1800 قريبين جداً مما كان عليه لدى البريطانيين في ذلك الزمان.

تتميز حقبة توكوغاوا بملامح لافتة في مجال آخر، وكثيراً ماحجبت عن الأنظار تطورات المجتمع التي ذكرناها، فالازدهار الجديد في المدن قد خلق الزبائن للكتب المطبوعة واللوحات الملونة المطبوعة بالخشب والتي سوف تثير إعجاب الفنانين الأوروبيين في زمن لاحق. كما أنه أمن الجماهير لحضور شكل جديد من المسرح هو مسرح كابوكي. ولكن نظام توكوغاوا بالرغم من نجاحه وتألقه كان ضعيفاً على المستوى الاقتصادي العميق، ولعله كان عاجزاً عن الاستمرار طويلاً حتى لولم يتعرض في القرن التاسع عشر إلى الخطر الجديد الذي أتاه من الغرب، فالحقيقة أن علامات الاضطراب كانت بادية عليه في نهاية هذه المرحلة. إلا أن اليابان كانت مع ذلك قد صنعت لنفسها مصيراً تاريخياً فريداً، وسوف يمكنها من أن تواجه الغرب بصورة مختلفة جداً عن الصين الخاضعة لحكم المنشو والهند الخاضعة لحكم المغول.

تراجع الهند المغولية

لقد قدمت الهند للأوروبيين تنازلات أكثر بكثير مما قدمته الصين واليابان، كانت إمبراطورية أكبر واحدة من أقوى الإمبراطوريات في العالم، وكان بلاطه واحداً من أكثر البلاطات فخامة، ولقد ازدرى خليفته الهدايا التي أرسلها له جيمس الأول ملك إنكلترا بعد بضع سنوات. والحقيقة أن إنكلترا كانت في ذلك الزمان بلداً أنهكها الفقر، ولكن مستقبل الهند إنما كان بين أيدي رعاياها. وسوف يتعاقب أباطرة المغول متحدرين من السلالة نفسها مع انقطاعات قليلة حتى منتصف القرن التاسع العشر، إلا أن سلطتهم سوف تتراجع بصورة مستمرة على امتداد فترة طويلة، فقد بلغت الإمبراطورية أوسع امتداد لها على عهد الحكام الثلاثة الذين جاؤوا بعد أكبر من النصف الأول من القرن السابع عشر، ثم أخذت بالتراجع في النصف الثاني منه.

وراح الإمبراطور شاه جهان، وهو حفيد أكبر يضم إليه سلطنات الدكن الواحدة تلو الأخرى، كما حاول بلا جدوى أن يطرد الفرس من قندهار وقد ضعف على عهده مبدأ التسامح الديني، ولكن ليس إلى حد ينال من مكانة الهندوس في خدمة الحكومة، بل إن الإدارة قد بقيت متعددة الأديان. وكانت حياة البلاط في أغره حياة بذخ وترف عجيبين، وقد شيد الإمبراطور فيها أشهر الأبنية الإسلامية قاطبة ألا وهو تاج محل الذي كان مدفناً لأعز زوجاته، وكان تاج محل ذروة البناء بالبناء والأقواس والقباب، الذي يعتبر من أبرز ملامح التراث الإسلامي في فن الهند، كما أنه أعظم صروح الإسلام في هذا البلد.

الفصل الثامن - عصر الاكتشافات والمواجهة  Chp8-9

تاج محل

أما تحت مستوى البلاط فكانت الحياة في الهند المغولية بعيدة جداً عن هذه الصورة، كان على الإداريين المحليين أن يجمعوا المزيد والمزيد من المال للإنفاق على مصاريف قصر شاه جهان وحملاته، وعلى النخب الاجتماعية والعسكرية التي تعيش بصورة طفيلية على القطاعات المنتجة اقتصادياً. وكانت آلة جبي الضرائب الجشعة تعمل دون اعتبار للحاجات المحلية أو الكوارث الطبيعية، وقد تأخذ من الفلاح نصف إنتاجه في بعض الأحيان، من دون أن يستثمر شيء من ذلك بصورة منتجة. وبعد عهد شاه جهان ومتطلباته الكثيرة أصيبت الإمبراطورية بمصيبة أدهى بسبب التعصب الديني لابنه الثالث أورنغ زيب، الذي نحى ثلاثة أخوة له وسجن أباه لكي يرتقي العرش في عام 1658. وقد اجتمعت في أورنغ زيب السلطة المطلقة والريبة بمرؤوسيه وضيق النظرة الدينية، فكان هذا وبالاً على البلاد، وما لبثت أن نشبت الثورات ضد حكم المغول بسبب محاولاته منع الديانة الهندوسية وتدمير معابدها، وبسبب إعادته ضريبة الأعناق على غير المسلمين، كما صار من العسير على الهندوسي أن يترقى في خدمة الإمبراطور، وبات اعتناق الإسلام شرطاً ضرورياً للنجاح، وكانت هذه الأشياء كلها قضاء على قرن كامل من التسامح الديني، وقد أوهنت ماألفته الهند من أخلاص وتعاون بين أهلها.

لقد منعه هذا أيضا من فتح مرتفعات الدكن، وهي القرح الذي قوض إمبراطورية الغول في النهاية، وهكذا بقي شمال الهند وجنوبها منفصلين مثلما كان الأمر على عهد آشوكا. كان قلب المعارضة الهندوسية مكوناً من سكان المرتفعات الذين يسمون المهراتا، وقد لم هؤلاء شملهم في ظل حاكم مستقل في عام 1674، وتحالفوا مع سلاطين الدكن من أجل مقاومة الجيوش المغولية. فنشب بين الطرفين صراع طويل برز من خلاله البطل شيفاغي، الذي أصبح أسطورة في نظر القوميين الهندوس الحديثين، وهو الذي بنى من الأنقاض هوية سياسية مهراتية سرعان ما مكنته من استغلال دافعي الضرائب بوحشية لاتقل عن وحشية المقول من قبله. أما أورنغ زيب فقد ظل يخوض الحملات ضد المهراتا بلا انقطاع حتى موته في عام 1707، فتنازع أولاده الثلاثة عندئذٍ على الخلافة وبدأت الإمبراطورية بالتفسخ من فورها، وكان بانتظارها ورثة أعتى بكثير من الهندوس والأمراء هم الأوروبيون.

قدوم الأوروبيون

كان قد سمح للأوروبيين بأن يؤسسوا لهم مواطئ أقدام ورؤوس جسور من أيام أكبر وكان أولهم البرتغاليين. بعد ذلك نال الإنكليز أول تنازل تجاري لهم على الساحل الغربي في بداية القرن السابع عشر، وفي عام 1639 أسسوا في خليج البنغال وبإذن من الحاكم المحلي مستوطنة في مدارس كانت أول أرض بريطانية في الهند، وهي فورت سان جورج. ومع أنهم استثاروا المتاعب مع أورنغ زيب فقد حصلوا على محطات أخرى في بومباي وكلكوتا قبل نهاية القرن، وقد حافظت سفنهم على السيادة التجارية التي أخذوها البرتغاليين. إلا أن منافساً أوروبياً جديداً كان قد ظهر في الحلبة في عام 1700، إذ أن الشركة الفرنسية للهند الشرقية التي تأسست عام 1664 سرعان ما بنت هي الأخرى مستوطنات لها في شبه القارة.

سوف يتصارع الفرنسيين والإنكليز فيما بينهم طوال قرن كامل، وقد بدأت المشاكل السياسية تعقد أمور التجارة في الأجواء الحرجة التي سببها انحسار سلطة المغول، فلم يعد هناك بد من افتتاح العلاقات مع الإمبراطور ومع خصومه أيضاً، وبحلول عام 1700 كان الإنكليز يعلمون تماماً أن مكاسبهم باتت في خطر. أما الهند فكانت قد انجرفت في تيار من الأحداث الخارجة عن إرادتها، وهذه هي في الحقيقة حقبة التاريخ العالمي. وإنك تجد هذا التأثير العالمي في الأمور الصغيرة كما تجده في الكبيرة، ففي القرن السادس عشر كان البرتغاليون قد جلبوا معهم من أمريكا الفلفل الحار والبطاطا والتبغ، وسرعان ما تبعتها الذرة والأناناس والبباية (نبات ذو ثمر أصفر) وهكذا ترى أن التغير في ثقافة الهند قد وصل حتى إلى غذائها وزراعتها.

يبدو أن قدوم الأوروبيين لم يكن سبب نهاية تلك المرحلة العظيمة للإمبراطورية المغولية، وأن ذلك لم يكن أكثر من صدفة، ولو أن الوافدين الجدد قد عرفوا أن يحصدوا نتائجها. والحقيقة أن أياً من إمبراطوريات الهند لم تستطع أن تحافظ على نفسها لزمن طويل، والسبب الأرجح هو التنوع الكبير في شبه القارة وعجز حكامها عن استقطاب ولاء رعاياهم. ولقد ظلت الهند منقسمة على الدوام إلى مستغلين ومستغَلين، إلى نخب حاكمة تعيش وتثرى على حساب الفلاحين المنتجين، وفي نهاية القرن السابع عشر كانت البلاد جاهزة لزمرة جديدة من الفاتحين.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://resalahmasriyah.mam9.com
 
الفصل الثامن - عصر الاكتشافات والمواجهة
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1
 مواضيع مماثلة
-
» الفصل الثامن - الدولة العثمانية
» الفصل الثالث - أسس عالمنا
» الفصل السابع - صنع أوروبا
» الفصل الحادي عشر - التسارع الكبير
» الفصل الثالث عشر - الشوط الطويل

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
رسالة مصرية ثقافية :: قسم العلوم التربوية والأدبية :: التاريخ العربي :: كتاب تاريخ العالم-
انتقل الى: