رسالة مصرية ثقافية
مرحبا بك أخي الزائر نشكر زيارتك ونتمني انضمامك للمنتدي
زيارتك تسر إدارة المنتدي ومشاركتكك تسعدنا وتساهم معنا بارتفاع الثقافة العامة
بعض المنتديات الفرعية والموضوعات
لا يمكنك الإطلاع عليها إلا بعد التسجيل كعضو في المنتدي
رسالة مصرية ثقافية
مرحبا بك أخي الزائر نشكر زيارتك ونتمني انضمامك للمنتدي
زيارتك تسر إدارة المنتدي ومشاركتكك تسعدنا وتساهم معنا بارتفاع الثقافة العامة
بعض المنتديات الفرعية والموضوعات
لا يمكنك الإطلاع عليها إلا بعد التسجيل كعضو في المنتدي
رسالة مصرية ثقافية
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

رسالة مصرية ثقافية

ثقافية - علمية - دينية - تربوية
 
الرئيسيةرسالة مصريةأحدث الصورالتسجيلدخول

 

 الفصل السادس - عالم آخر، التقاليد الكبرى في آسيا

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
Eng. Ahmedzoubaa
Admin
Eng. Ahmedzoubaa


عدد المساهمات : 1216
تاريخ التسجيل : 28/08/2010
العمر : 49

الفصل السادس - عالم آخر، التقاليد الكبرى في آسيا  Empty
مُساهمةموضوع: الفصل السادس - عالم آخر، التقاليد الكبرى في آسيا    الفصل السادس - عالم آخر، التقاليد الكبرى في آسيا  Emptyالثلاثاء 14 يونيو 2011 - 23:49

هند الموريا

صحيح أن النمط الديني لتاريخ الهند كان قد وضع بحلول نهاية الحقبة الفيدية، إلا أنه ظل مرناً وقد حدثت فيه تطورات جديدة، فحركة الرهبنة مثلاً وهي اختراع يعود للأزمة الفيدية، قد أدت إلى تجارب الزهد والتنسك فضلاً عن التأمل الفلسفي. كما أن ثمة ديانة جديدة على درجة كبيرة من النجاح نشأت كرد فعل ضد شكلية الديانة البرهمنية هي الديانة اليانية، التي ابتكرها معلم من القرن السادس، أوصى بأشياء عديدة منها احترام حياة الحيوان، وهذا ما جعل الزراعة وتربية الحيوان أمراً مستحيلاً، لذلك مال اليانيون إلى ممارسة التجارة فصارت جماعتهم من أغنى الجماعات في الهند.

الفصل السادس - عالم آخر، التقاليد الكبرى في آسيا  Chp6-1

إمبراطورية الموريا

البوذية



إلا أن أكثر الأنظمة تجديداً على الإطلاق إنما كانت تعاليم البوذا، ويعني هذا الاسم الذي أطلق عليه ”المستنير” أو ”الواعي” أما اسمه الأصلي فهو سدهارتا غوتاما، وهو لم يكن برهمنا بل أميراً من الطبقة المحاربة عاش في بداية القرن السادس قبل الميلاد. تربى سدهارتا تربية نبيلة في سعة من العيش في دولة على الطرف الشمالي من سهل الغانج، ولكنه وجد حياته غير مرضية فترك مسكنه، وقضى سبع سنوات في التنسك وإماتة الجسد قبل أن يبدأ بالوعظ والتعليم. وقد وضع عقيدة متقشفة وأخلاقية الهدف منها التحرر من العذاب عن طريق الوصول إلى حالات أعلى من الوعي، فقد علم بوذا تلاميذه أن يكبحوا متطلبات الجسد أو ينبذوها بحيث لا يمنع شيء روحهم من بلوغ حالة النرفانا المباركة، أي التوحد بالحقيقة النهائية أو الإلوهية التي كان يؤمن أنها كامنة وراء الحياة، فمن خلال إماتة الذات على هذه الصورة كان بإمكان الإنسان أن يتحرر من دورة البعث والتقمص التي لا تنتهي، وهي نمط الوجود الذي كان يقول به الدين على أيامه، وكذلك الهندوسية من بعده.


يبدو أن بوذا كان يتمتع بقدرات عملية وتنظيمية كبيرة، ونزاهة أخلاقية لا غبار عليها، وشخصية سرعان ما جعلت منه معلماً محبوباً وناجحاً، وقد تجنب الديانة البرهمنية ولم يعارضها، وإن ظهور جماعات من الرهبان البوذيين قد أمن لعمله بيئة من المؤسسات التي سوف تستمر من بعده، كما أنه منح دوراً للذين لم ترضهم الممارسات التقليدية، خاصة النساء وأتباع الطبقات الدنيا، إذ لم تكن الطبقات تعني شيئاً في نظره. إلا أن ما صار يعرف بالبوذية، أي الديانة التي طورها أتباعه بناء على تعاليمه، قد لا تعكس نظرته الشخصية، لأن أفكاره كانت بسيطة لا تؤمن بالطقوس ولا بإله. وسرعان ما مرت عقيدته بتطور قد يعتبره البعض تشويهاً لها، وضمت الكثير من المعتقدات والممارسات التي كانت موجودة قبلها مثل جميع الديانات الكبرى، إلا أن هذا التطور قد ساعدها على الاحتفاظ بشعبية كبيرة، وسوف تمتد بعد موت غوتاما بقرون، وقد مات في حوالي 483 ق.م لتصبح أكثر الديانات انتشاراً في آسيا، وقوة عظيمة في تاريخ العالم، وهي أول ديانة عالمية امتدت خارج المجتمع التي ولدت فيه.


منذ كان بوذا على قيد الحياة كانت قد اكتملت الخطوط الأساسية لنمط الحضارة الهندية التي مازالت حية اليوم متمتعة بقدرة عظيمة على تمثل الثقافات الأخرى واستيعابها، وهذه حقيقة هامة جداً تميز الهند عن بقية العالم. إن أولى التقارير التي أتتنا من شاهد عيان عن حضارة الهند الباكرة تعود للعصر الهلنستي، بعد حوالي قرنين من موت بوذا، وهذا الشاهد هو رجل إغريقي اسمه ميغاستينيس أرسله الملك السلوقي سفيراً إلى الهند في حوالي عام 300 ق.م، وهو يخبرنا عن الهند الواقعة وراء نهر الهندوس، والتي لم يبلغها جيش الاسكندر قط، لأن ميغاستينيس هذا قد سافر حتى البنغال وأوريسا وقابل الكثيرين من الهنود واستجوبهم. صحيح أنه كان يروي قصصاً مختلفة عن أناس يعيشون على الروائح بدلاً من الطعام والشراب، وعن عمالقة ذوي عين واحدة في وسط الجبين، وآخرين ذوي أقدام ضخمة يستخدمونها للاحتماء من الشمس، وعن أقزام وأناس بلا فم، ولكنه يصف أيضاً الهند على عهد حاكم عظيم هو جندرة كبتا مؤسس السلالة التي تسمى سلالة الموريا، ونحن نعرف أشياء أخرى عن جندرة كبتا هذا من خلال مصادر أخرى. ويقول بعضهم إنه استلهم الفتح عندما رأى في شبابه الإسكندر الكبير أثناء غزوه للهند، وقد بنى على كل حال دولة شملت واديي الهندوس والغانج الكبيرين فضلاً عن القسم الأكبر من أفغانستان التي أخذها السلوقيين، وبلوشستان وكانت عاصمتها في باتنا. ويبدو من رواية ميغاستينيس أن شعوبها كانت منقسمة منذ ذلك الحين إلى تقليدين دينيين، أحدهما الديانة البرهمنية القديمة التي كانت أصل الهندوسية، والأخرى على ما يبدو هي البوذية. أما جندرة كبتا فيقال إنه قضى الأيام الأخيرة من حياته معتزلاً مع أتباع الديانة اليانية قرب ميسور حيث مارس طقوس تجويع النفس حتى الموت.







آشوكا



لقد خلف جندرة كبتا ابنه الذي زاد الإمبراطورية اتساعاً باتجاه الجنوب، إلا أن الرجل الذي أكمل هذه العملية إنما هو آشوكا، ثالث أباطرة الموريا، الذي حكم رقعة واسعة لن تعرف الهند أكبر منها تحت حكم واحد حتى تبلغ فيه السلطة البريطانية ذروتها في القرن التاسع عشر. وعلى عهد آشوكا –أيضاً- تبدأ بالظهور وثائق غنية عن الهند، لأنه ترك الكثير من النقوش والسجلات والقرارات والرسائل رعاياه. وتشير هذه الوثائق إلى التأثيرين الفارسي والهلنستي، إذ إن الهند كانت في ذلك الحين أكثر اتصالاً بالعالم الخارجي من الصين، كما أنه خلف في قندهار بأفغانستان كتابات محفورة باللغتين اليونانية والآرامية، وقندهار واحدة من المدن الكثيرة التي سميت على اسم الإسكندر الكبير.


كانت هذه أكثر الحكومات تنظيماً حتى ذلك الزمان، والأهم من هذا هو أن الهند على عهد آشوكا كان قد ترسخ فيها نظام الطبقات المغلقة ترسخاً متيناً، كان آشوكا يحكم البلاد من خلال الإدارة، وكان يساعدها على ما يبدو جهاز كبير من الشرطة السرية أو المخابرات الداخلية. وكان هذا الجهاز يقوم بالواجبات التي نتوقعها منه مثل جبي الضرائب، والحفاظ على الأمن والنظام والإشراف على الري، كما كانت عليه أيضاً مهمة الترويج لمجموعة من المعتقدات، أي ما يمكن أن نسميه أيديولوجية. كان آشوكا بوذياً، ويقال إنه اعتنق البوذية بعد أن شهد معركة دامية رهيبة أثارت الاشمئزاز في نفسه، وقد نصب الكثير من الأعمدة التي ترمز للوصل بين السماء والأرض وعليها نقش رسالته. ولم تكن تلك الرسالة بوذية فقط بل يمكن تلخيصها بكلمة داما Dhamma، وهي مشتقة من كلمة سنسكريتية تعني ”القانون الكوني”، وتوصي بالتسامح الديني واللاعنف واحترام الإلوهية في جميع البشر. والحقيقة أنها أفكار مذهلة بتطورها بالنسبة إلى ذلك الزمان، وكثيراً ما يعتز بها الهنود اليوم رغم أنها تعود لعصر بعيد، ولم توضع تلك المبادئ كقوانين أو مراسيم يجب إطاعتها وتنفيذها، بل يبدو أنها كانت جزءاً من محاولة آشوكا لتسهيل حكم هذه المجموعة الهائلة، والمتقلقلة من الشعوب والعقائد واللغات. تقول إحدى نقوشه ”إن الناس جميعاً أولادي”، ولاريب أن الحكم يسهل كثيراً إذا ما اتفق الناس على هذا، ويلاحظ أن آشوكا لم يبدأ بنصب تلك العواميد إلا قرب نهاية حكمه، بعد عام 260ق.م تقريباً أي عندما كانت فتوحاته قد اكتملت.


لقد قام آشوكا أيضاً بمجموعة من الأشغال العامة التي كان الغرض منها منفعة رعاياه، فبنى خزانات المياه، وحفر الآبار، وجعل محطات للاستراحة على مسافات منتظمة على طول طرق الإمبراطورية، كما زرع أشجار تين البنغال لتؤمن الفيء للمسافرين. إلا أن هذه الأشياء كلها لم تساعد كثيراً في التغلب على انقسامات الهند، بل يبدو على العكس أن ملامحها الدينية قد تعمقت وترسخت في أزمنة الموريا. لقد سارت أفكار الدين وآدابه خطوة أخرى نحو تبلور الديانة الهندوسية عندما بدأت قصيدتا المهابهاراتا والرامايانا تأخذان شكلهما النهائي، وهما ملحمتان كبيرتان ترويان قصص الآلهة والشياطين والمغامرات التاريخية الجريئة، وقد أضيفت إلى ملحمة المهابهاراتا "أغنية الرب" "باغاد غيتا"، التي سوف تصبح النص الجوهري للديانة الهندوسية وسوف تحظى بمكانة تساوي مكانة العهد الجديد في الديانة المسيحية. كما ازدهرت في أزمنة الموريا عبادات أخرى أكثر شعبية وأقرب إلى الخرافة، منها عبادة كرشنا، أكثر آلهة الهند شعبية، وهي عبادة مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالباغافاد غيتا لأن هذه القصيدة تدور حول شخصية كرشنا. وازدهرت البوذية أيضاً على عهد آشوكا، وربما بفضل تأييده ودعمه لها، فقد بلغ به حماسه أنه أرسل البعثات التبشيرية إلى أصقاع الأرض، ومنها بعثات إلى مصر ومقدونيا لم تحرز نجاحاً كبيراً، بينما أفلحت غيرها في بورما وسيلان (سيريلانكا)، والحقيقة أن البوذية مازالت هي الديانة السائدة في سريلانكا منذ ذلك الحين.


وسرعان ما راحت إمبراطورية الموريا تتفكك بعد موت آشوكا، وليس سبب هذا التفكك واضحاً ولكن ربما كان أبسط تفسير له هو أنها اتسعت كثيراً حتى باتت أكبر من مواردها. فقد كانت بالأساس دولة تعيش بصورة طفيلية على زراعة محدودة، وغير قادرة على التوسع الكبير مثل كافة الإمبراطوريات القديمة، ولاريب أن إدارتها كانت بدائية ينخرها الفساد والمحسوبية لأنها لم تكن تملك نظاماً عقلانياً لتوظيف الناس والرقابة عليهم. أما مجتمع الهند فقد كان على كل حال مستقلاً إلى حد كبير عن الأنظمة السياسية، ويسير بحسب ترتيبات العائلة والطبقة، ولم يكن الهندي العادي يهتم كثيراً بما يحدث فوق هذين المستويين، ولم تكن إمبراطوريات الهند تحظى بولاء رعاياها إلا عندما تؤمن لهم النظام والعيش الكريم، مثلها مثل إمبراطوريات الصين.


تعتمد الاستمرارية الطويلة في تاريخ الهند إذاً على الدين والطبقة الاجتماعية والعائلة، كما أن الاقتصاد لم يتغير كثيراً، والحقيقة أن حياة الفلاح الهندي لم تعرف تبدلاً هاماً بين أزمنة الموريا ووصول الأوروبيين في القرن السادس عشر، وربما كان هذا أمراً طبيعياً بالنظر إلى مناخ الهند والروتين الذي فرضه عليها. وبالرغم من هذا فقد حدثت بعض التطورات الهامة، منها نمو التجارة التي أمنت للحكومة دخلاً من رسومها، وربما كان هذا سبب العناية ببناء الطرق، كما ترافق نمو التجارة بنمو الجمعيات التجارية والحرفية، التي بلغ من شأنها أن بعضها اعتبرت خطراً على سلطة الملك، وكانت التجارة الخارجية مع أفريقيا، والإمبراطورية الرومانية تنمو باستمرار أيضاً.





الهند الهندوسية




اغتيل آخر أباطرة الموريا في حوالي 184 ق.م، ثم تفكك تاريخ الهند فصارت قصته مشوشة جداً طوال خمسمائة سنة تقريباً، ولكن تبرز من خلال هذا التشويش بعض الخطوط القليلة، أهمها سلسلة من الغزوات أتت من الشمال الغربي. كان البلخيون أحفاداً للإغريق خلفهم الإسكندر الكبير على أعالي نهر جيحون، حيث بنوا لأنفسهم مملكة مستقلة بين الهند والدولة السلوقية في القرن الثالث ق.م، وسرعان ما اجتذبتهم الهند، فاندفعوا إلى وادي الهندوس في القرن الأول ق.م، ثم تبعتهم شعوب أخرى استقرت في البنجاب في أزمنة مختلفة، ومنها الفرثيون والسقيتيون. ومن أكثر تلك الشعوب الغازية غموضاً وإثارة للاهتمام شعب الكوشانا، الذين أتوا من حدود الصين البعيدة، يبدو أن اهتمام الكوشانا كان دوماً مركزاً على آسيا الوسطى، إلا أنهم حكموا إمبراطورية امتدت في يوم من الأيام من السهوب حتى بيناريس على نهر الغانج. وكانوا بوذيين متحمسين لديانتهم، وفي أيامهم ابتدأ نحت تماثيل بوذا بأسلوب يظهر فيه التأثير الإغريقي عادة، وكان هذا من علامات انتقال البوذية إلى أرض الواقع لتصبح ديانة مثل كل الديانات، إلا أن تغيرات كثيرة كانت تجري في الوقت نفسه، والحقيقة أن جميع ديانات الهند وطوائفها كانت تتفاعل فيما بينها.


وفي النهاية زال شعب الكوشانا هم بدورهم، وعادت الهند لتتمزق من جديد وتتحول إلى عدد من الممالك المشتتة. ولم تستعد وحدتها السياسية إلا حين أسست إمبراطورية جديدة هي إمبراطورية الكبتا في عام 320 م. ولكننا نستطيع أن نميز ضمن فوضى القرون السابقة لها، أي عندما كانت الإمبراطورية الرومانية في ذروتها، سلسلة متصلة من الغزوات الآتية من ناحية الشمال الغربي، لقد أولئك الوافدون الجدد بتأثيرات جديدة، ويحتمل أن تكون المسيحية ظهرت في القرن الأول الميلادي، إلا أنهم لم يزعزعوا قط تقاليد الهند الدائمة التي ما برحت تزداد قوة ومتانة. كما أنهم لم يتغلغلوا في الجنوب، والحقيقة أن الجنوب لن يتحد سياسياً بالشمال بعد عهد الموريا حتى قدوم الحكم البريطاني. وسوف يبقى سهل الدكن أكثر منطقة حافظت فيها الهندوسية على طبيعتها وثباتها، وعلى حكامها من العرق الدراويدي غير الآري، وسوف تظل عالماً آخر بعيداً عن شمال الهند الهندوسي، رغم اشتراكهما بالدين والمعتقدات شكلياً. أما أنماط الحياة في الهند فلم تتأثر بقدوم الحكام ورحيلهم الدائمين لا في الشمال ولا في الجنوب، بل كان أكثر الهنود يعيشون في ذلك الزمان في قرى مكتفية بذاتها وغير متأثرة بما يجري خارجها مثل حالها اليوم. وكانت موجات الغزاة القادمة من وراء الجبال تتوالى، فيبرز منهم بين الحين والحين فاتح كبير يجمع شمل البلاد، ولكنها لاتلبث أن تعود فتتفكك بعد زمن يقصر أو يطول إلى ممالك مبنية حول المراكز والجماعات المحلية القديمة، وكانت هذه تستمر على مدى القرون مهما عصفت بها الرياح من وقت لآخر.




عدل سابقا من قبل Admin-ahmed في الثلاثاء 14 يونيو 2011 - 23:52 عدل 1 مرات
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://resalahmasriyah.mam9.com
Eng. Ahmedzoubaa
Admin
Eng. Ahmedzoubaa


عدد المساهمات : 1216
تاريخ التسجيل : 28/08/2010
العمر : 49

الفصل السادس - عالم آخر، التقاليد الكبرى في آسيا  Empty
مُساهمةموضوع: رد: الفصل السادس - عالم آخر، التقاليد الكبرى في آسيا    الفصل السادس - عالم آخر، التقاليد الكبرى في آسيا  Emptyالثلاثاء 14 يونيو 2011 - 23:53

الكبتا



كانت عاصمة أول إمبراطور من أباطرة الكبتا في مدينة باتنا، التي كانت عاصمة الموريا من قبل، وقد حكمت سلالته شمال الهند موحداً من وادي الغانج، وحققت السلام والحصانة في وجه الغزوات حتى صار الهنود في عصور لاحقة يعتبرون عصر الكبتا عصراً ذهبياً من السلام والحكم الصالح، ومرحلة كلاسيكية أعطت فيها الفنون ثمارها للمرة الأولى. والحقيقة أن أولى المعابد الحجرية الكثيرة والغنية بالتماثيل إنما تعود إلى عصر الكبتا، وأهميتها في تاريخ الفن والعمارة في الهند تقابلها في أوروبا أهمية الكاتدرائيات القوطية التي بنيت في العصور الوسطى. كما ازدهر في عهدهم الأدب، وبدأت تقاليد الدراما الهندية الشعبية المبنية على قصص مأخوذة من الملاحم السنسكريتية الكبرى، والتي مازالت لها شعبيتها الكبيرة بين رواد السينما في الهند وحتى اليوم. وكان ذلك أيضاً عصر المعرفة والتطور الفلسفي، ففي القرن الخامس اخترع علماء الحساب الهنود النظام العشري، وهو اختراع ذو أهمية عظيمة جداً للبشرية، وسوف ينقله العرب بعد ذلك إلى الغرب على أيام الخلافات.

لقد حدثت على عهد الكبتا تطورات دينية هامة هي استمرار لعملية ابتدأت منذ زمن بعيد، حتى بزغت منها في النهاية الديانة الهندوسية الكلاسيكية. نحن نعلم أن الترتيبات الاجتماعية المعقدة للهندوسية، والتي مازالت هامة للغاية في تشكيل الحياة في الهند اليوم، والمعتقدات المرتبطة بها أيضاً كانت راسخة تماماً بعد عهد الكبتا، ولو أننا لانعلم على وجه الدقة متى اتخذت تلك الترتيبات شكلها الثابت. وتعود جذور الهندوسية إلى ماضٍ سحيق، ربما كان سابقاً للغزوات الآرية، لأن ثمة آلهة كانت تعبد منذ حضارات وادي الهندوس القديمة وربما كانت أشكالاً سابقة أو ”أجداداً” للإله الهندوسي شيفا، إلا أن الهندوسية قد خرجت من القالب البرهمني والفيدي القديم الذي كان يطوقها.

الفصل السادس - عالم آخر، التقاليد الكبرى في آسيا  Chp6-2

إمبراطورية الكبتا


انتشار البوذية




حياة غوتاما

حوالي عام 563-483 ق.م


المجلس يشير إلى أول انشقاقات كبرى ضمن البوذية
حوالي عام 370 ق.م


الإمبراطور آشوكا يعتنق البوذية
عام 255 ق.م


اتخاذ البوذية ديانة في سيلان
حوالي عام 240 ق.م


التاريخ التقليدي لوصول المبشرين البوذيين إلى الصين
عام 61 م

المجلس البوذي في كشمير يضع النصوص الأساسية لبوذية مهيانا.
حوالي120 م

كانيشكا ملك الكوشانا يروج للبوذية في قندهار والبنجاب والسند
حوالي 120-162 م

البوذية تتغلغل في إندونيسيا
حوالي 200 م


البوذية تتغلغل في بورما
حوالي 400-500 م


البوذية تصل إلى اليابان
حوالي 550 م

البوذية تصل إلى الصين
عام 844 م


البوذية تقبل في تايلند
حوالي 1300 م




العقيدة والمجتمع



كان المجتمع في أزمنة الكبتا يشبه المجتمع الهندوسي اللاحق إلى حد كبير، وكان أساسه نظام الطبقات المغلقة، الذي تطور الآن وتجاوز تقسيم الطبقات الأربع السابق الذي كان سائداً في المجتمع الفيدي. كما أن العقيدة الدينية تغيرت هي الأخرى، والحقيقة أنه من الصعب وصف الديانة الهندوسية، لأنها ليست عبارة عن عقائد أو نصوص يجب على المرء الإيمان بها، ولا هي ناحية منفصلة أو متميزة من الحياة، بل هي طريقة في النظر إلى العالم المرئي واللامرئي معاً ككيان واحد والعيش فيه. وإذا كان ثمة مبدأ عملي محوري في الهندوسية فهو أن يعيش المرء حياته بحسب موقعه في النظام الذي يضم الأشياء كلها. إن أكثر الهنود اليوم فلاحون مثلما كانوا دائماً، وقد لا يعني الدين عندهم إلا السعي لنيل رضا الآلهة بوسائل خرافية يؤدوها لها في المعبد القريب، بالإضافة إلى احترام طبقتهم الاجتماعية وما تفرضه عليهم من قيود في الحياة العملية، والاشتراك بالاحتفالات الشعبية الكبرى التي مازلنا نرى ما يشبهها في قرى الهند حتى اليوم، حيث تصنع عربات عملاقة ذات عجلات وتحفر عليها صور ملونة للشياطين والآلهة والإلهات والوحوش وتجر عبر الشوارع، وكانت أيضاً ثمة عبادات تختص بالآلهة والإلهات الكبرى مثل شيفا وكرشنا. ولكن كان يوجد في الوقت نفسه شكل من الهندوسية الفلسفية الصرف والبعيدة كل البعد عن فجاجة القرابين الحيوانية وعبادة الصور التي استمرت على المستوى الشعبي مثلما بقي الناس في ديانات أخرى قروناً طويلة يصلون بصورة يشوبها الكثير من السحر والخرافة، كان أكثر أشكال الهندوسية تطوراً يسمى الفيدانتا، وهي عقيدة مجردة تشدد على لاحقيقية العالم المادي الملموس مثل بعض أشكال البوذية، وتعلم أن على الإنسان السعي للتحرر منه عن طريق معرفة الحقيقة أي البرهما. وهكذا كان في الهندوسية عقائد ترضي جميع حاجات الناس على اختلافها.


إلا أن تطبيق الهندوسية على مستوى الحياة اليومية كان ينزع إلى الشدة والقسوة، فقد كانت هناك عادة تزويج الأطفال، كما ابتدأت عادة جديدة تسمى ”السوتية” التي تكره فيها النساء الأرامل على الاستسلام لكي يحرقن حتى الموت على محرق أزواجهن المتوفين، وتدل هاتان العادتان وعلامات كثيرة غيرها في القرنين الخامس والسادس على أن مرتبة المرأة في المجتمع كانت تتدنى باستمرار، كان البراهمة في الأزمنة الباكرة يسمحون للنساء بتعلم الكتابات الفيدية، أما الآن فقد صارت هذه محظورة عليهن.


والبوذية أيضاً كانت تمر بتطورات هامة استمرت قروناً طويلة قبل أزمنة الكبتا وبعدها، وفلم يعد بوذا معلماً كبيراً، بل صار نموذجاً ومثالاً للمخلصين الذين يسمون البوذيساتفا، وهم رجال تنازلوا عن هدف إفناء الذات من أجل أن يبقوا في العالم ويعلموا الناس طريق الخلاص. وكان أهم التغيرات هو ظهور ما يسمى ببوذية مهايانا "أو الوسيلة الكبرى” التي كان لها شكل بسيط يتمثل بعبادة بوذا نفسه كمخلص إلهي وتظاهر من تظاهرات بوذا السماوي الواحد العظيم. وقد اكتسبت هذه العبادة الشعبية أوسع بكثير من طقوس إماتة الجسد والتقشف الشديدة التي علمها غوتاما( بوذا). كان بوذا قد منع عبادة الأوثان، ولكن منذ القرن الأول فيما بعد، صارت تصنع له أعداد متزايدة من الصور وراح المؤمنون يعبدونها في المعابد، وفي النهاية أضحت بوذية مهايانا هي الشكل المسيطر من هذه الديانة، فازدهرت في نيبال والتبت والصين واليابان، بينما تمكن التقليد الأقدم من الحفاظ على نفسه في إندونيسيا وماليزيا.


لقد تقاربت ديانتا الهند الكبريان قليلاً في تطورهما، لأن بوذا صار يعتبر إلهاً تقريباً، ولو أنه إله غامض، وكان هذا شبيهاً بفكرة الهندوس عن الروح الكامنة في جوهر الأشياء كلها. كما صارت هاتان الديانتان كلتاهما تدعوان إلى التأمل والسلبية وأداء الواجبات المعروفة والتوافق مع مخطط الأشياء، وليس إلى محاولة تغيير العالم عن طريق هداية الناس أو العمل الحثيث. وكانت الهندوسية والبوذية ملائمتين للنظرة إلى الزمن على أنه دورات متكررة بلا نهاية لا يملك الأفراد سبيلاً إلى كسر طوقها، ولاريب أن هذا الفرق قد وضع حضارة الهند على مسار مختلف حتى على المستوى الدنيوي. وقد فرضت المؤسسات الاجتماعية في الهند وبالأخص نظام الطبقات المنغلقة أعباء اقتصادية كبيرة، لأن هامش الموهبة الفردية والمبادرة يضيق كثيراً عندما يتحدد دوره الاقتصادي بحسب ولادته. والحقيقة أن طموح الناس جميعاً كان ضيقاً ما خلا طموح المحارب، وطموح المحارب لا يشبع عادة إلا بأساليب هدامة.



الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://resalahmasriyah.mam9.com
Eng. Ahmedzoubaa
Admin
Eng. Ahmedzoubaa


عدد المساهمات : 1216
تاريخ التسجيل : 28/08/2010
العمر : 49

الفصل السادس - عالم آخر، التقاليد الكبرى في آسيا  Empty
مُساهمةموضوع: رد: الفصل السادس - عالم آخر، التقاليد الكبرى في آسيا    الفصل السادس - عالم آخر، التقاليد الكبرى في آسيا  Emptyالثلاثاء 14 يونيو 2011 - 23:54

الهند الإسلامية



في حوالي عام 500 م كانت ثمة علامات تدل على أن الكبتا كانوا يفقدون سيطرتهم على الأمور، ولم يمض زمن طويل حتى تفككت الهند من جديد إلى إمارات صغيرة، وسرعان ما عاد الغزاة لمضايقتها من الشمال الغربي، ولكنهم كانوا في هذه المرة فرعاً من الهون، وقد نجحوا بالقضاء على البوذية في أفغانستان إلا أنهم لم يخلفوا أثراً دائماً في وادي الهندوس. ثم جاء العرب وفتحوا البنجاب لفترة من الزمن دون أن يتركوا فيها تأثيراً ملموساً، إلا أن قدومهم كان بداية قصة الإسلام في الهند.

ثم جاءت موجة ثانية من المسلمين في القرن الحادي عشر أقوى من موجة العرب، وكانت مكونة من شعوب تركية تنوي البقاء، فبنوا خلال عقود قليلة حكماً إسلامياً شمل كافة وادي الغانج وكان مركزهم في دلهي. وكان بعض الأتراك متلهفين لنشر دينهم فاضطهدوا الهندوسية ودمروا معابدها، ولكنه لم يستمروا طويلاً بدورهم، ففي عام 1398 نهب تيمور لنك مدينة دلهي، وكانت تلك نهاية السلاطين الأتراك، وهم أول مسلمين حكموا جزءاً كبيراً من الهند. إلا أن الإسلام كان قد ترسخ في شبه القارة، وسوف يشكل تحدياً لقدرتها على تمثل الثقافات الأجنبية لم تعرف مثله من قبل. ومع الإسلام أتت تأثيرات أخرى أيضاً فمنذ ذلك الحين صارت ثقافات البلاط في الهند متأثرة بصورة قوية بالأساليب والعادات الفارسية.




أول أباطرة المغول



إن الرجل الذي أعاد إحياء الإمبراطورية الإسلامية في الهند هو بابر، كان بابر ينتسب بأبيه إلى تيمور لنك وبأمه إلى جنكيز خان، فكان في عروقه دم مغولي، وسوف تسمى الإمبراطورية التي أنشأها الإمبراطورية المغولية، ولو أنه لم يستخدم هذه التسمية. كان بابر يعتبر نفسه منتمياً للتقاليد الفارسية، وقد نشأ من أحفاد تيمور الذين استقروا في فارس وكانوا في الحقيقة أتراكاً أكثر منهم مغول. وكان يحب الشعر الفارسي وفن البستنة الذي يهواه الفرس، وقد أدخل إلى كابل العنب والبطيخ الأصفر والموز وقصب السكر، وكان أيضاً مغرماً بجمع الكتب وعلى درجة عالية من الثقافة، وكان شاعراً كتب سيرة ذاتية جميلة ورواية من أربعين صفحة عن هندستان في زمن فتحه لها، دون فيها عاداتها وبنية طبقاتها الاجتماعية فضلاً عن حياتها البرية وأزهارها. كان بابر قبل كل شيء مقاتلاً بارزاً بدأ حياته العسكرية بركوب الخيل إلى جانب والده في المعارك عندما كان في سن العاشرة، وقد كشف عن معدنه عندما استولى على سمرقند وله من العمر أربعة عشر سنة في عام 1497. وكانت قاعدته في كابل، وفي عام 1525 دعاه بعض أمراء الهند المسلمين المستائين من حكم الهندوس والمنشقين عليهم، فاكتسح البنجاب كما أرادوا، وتابع مسيره فاحتل دلهي وقتل سلطانها في المعركة، ولكنه سرعان ما انقلب على الأمراء الذين دعوه، ثم أخضع الأمراء الهندوس بعد أن استغلوا الصراعات بين الحكام المسلمين، وعندما مات في عام 1530 كان يحكم إمبراطورية تمتد من كابل إلى حدود بيهار، وقد دفن في كابل بناء على رغبته.

الفصل السادس - عالم آخر، التقاليد الكبرى في آسيا  Chp6-3

إمبراطورية المغول بحدودها الأوسعأما حفيده أكبر فقد زاد من بعده الإمبراطورية اتساعاً على اتساع، وقد بهر به الأوروبيون فسموه المغولي الكبير، كان أكبر مقاتلاً شجاعاً، وقد صارع ذات مرة نمراً بمفرده وقتله بسيفه، وكان منذ صباه يحب ركوب فيلته المقاتلة ويؤثر الصيد على الدروس، ولهذا كان أمياً تقريباً بعكس جميع أباطرة المغول، ولكنه حافظ على التقاليد الجميلة لسلالته في تقدير الثقافة والفنون وجمع الكتب واللوحات، وكان لديه في بلاطه زمرة من الرسامين الذين يعملون تحت رعايته، وقد بلغت الهندسة وفن التصوير عند المغول ذروتهما في عهده.


لقد حكم أكبر من عام 1555 إلى 1605 ويوافق حكمه الطويل هذا بالتقريب حكم الملكة إليزابيث في انكلترا وأبدى براعة كبيرة في معالجة أمر الفروق الدينية بين رعاياه، فمن أول أعماله عندما ابتدأ الحكم أنه تزوج أميرة من شعب الراجبوت الهندوسي، وكان قبل ذلك قد سمح للنساء الهندوسيات في حريمه بممارسة ديانتهن. وسرعان ما ألغى ضريبة الأعناق التي فرضها أسلافه على غير المسلمين، كما كان يدير شؤونه المالية وزير هندوسي، وقد أظهر أيضاً رأفة واسعة نحو الأمراء الهندوس المهزومين، وكانت زوجته الهندوسية ابنة أكبر ملوك راجبتانا، وهو حاكم المنطقة التي تسمى جيبور اليوم، أي أن الزواج قد لعب في دبلوماسيته دور المصالحة أيضاً. وإن الانطباع العام الذي يتركه في النفس حكم أكبر هو انطباع بالتسامح الرشيد، وكان هذا كفيلاً بتسهيل الحكم في تلك الإمبراطورية ذات التنوع العظيم.

عندما مات أكبر كانت سلالته أرسخ من أي سلالة حكمت الهند قبلها، خاصة بعد أن فرضت ضريبة جديدة على الأرض أمنت المال اللازم للقيام بأود الإمبراطورية من دون الحاجة للمزيد من الفتوحات، بل يبدو أنها أدت إلى زيادة في الإنتاج الزراعي، وسوف تستمر بعض التجديدات الإدارية التي تمت على عهد إمبراطورية المغول حتى زمن متقدم من وجود البريطانيين في الهند. ويبدو أن الطبقة الحاكمة المسلمة كانت تلطف من عدائها للهندوسية، مع أن هذه الديانة قد تعتبر عبادة أوثان في نظر الإسلام، كما ظهرت لغة مشتركة بين أفراد الديانتين هي لغة الأردو أي لغة المعسكر، التي استخدمها الفاتحون المسلمون لمخاطبة رعاياهم الهندوس، وهي لغة ذات بنية هندية ومفردات تركية وفارسية. وهي من الأشياء الأخرى التي استمرت حتى القرن العشرين، فقد كانت لغة التخاطب في الجيش الهندي تحت حكم البريطانيين ومازالت مستخدمة بشكل واسع حتى اليوم. ولكن حكم أكبر قد عرف أيضاً بداية حدث نذير سوف يكون له شأن كبير... لقد كانت موانئ الهند الغربية تتاجر عبر البحر المتوسط -منذ أيام الرومان- وفي القرن السادس عشر بدأت أولى اتصالاتها المنتظمة بالطرف الأطلسي من أوروبا أيضاً، وكان البرتغاليون أيضاً أول الأوروبيين الذين وصلوا إلى الهند، وقد ظهروا على ساحل ملابار قبل عام 1500 بقليل، ثم انتقلوا ببطء حول خليج البنغال في النصف الثاني من القرن السادس عشر، وأسسوا لهم هناك محطات للمتاجرة. وقد دعا أكبر بعضهم لإرسال بعثات من علماء دينهم إلى بلاطه كي يتجادلوا مع علماء الدين المسلمين، ووصل ثلاثة منهم بالفعل في عام 1580. وفي يوم 31 كانون أول (ديسمبر) من عام 1600، أي في آخر يوم من القرن السادس عشر، أسس بعض رعايا الملكة إليزابيث الأولى أول شركة إنكليزية للهند الشرقية في لندن، وقد مرت ثلاث سنوات أخرى قبل أن يصل أول المبشرين الإنكليز إلى بلاد أكبر. ولم تكن حقبة البريطانيين قد أتت بعد، إلا أن هذه الحدث كان معلماً هاماً في تاريخ الهند وتاريخ إنكلترا معاً، منذ ذلك الحين، سوف يفد الأوروبيون إلى شبه القارة بأعداد متزايدة، ولن تقدر على تجاهلهم بعد ذلك أبداً.




الصين الإمبراطورية



كانت توجد وراء حدود الإمبراطورية الرومانية بلاد كثيرة غريبة لا يعلم الرومان عنها الشيء الكثير، إلا أن أكثر تلك البلاد غموضاً إنما هي الصين، فالرومان لم يتصلوا بها إلا اتصالاً واهياً وغير مباشر عن طريق التجارة، ومنها كان يأتي الحرير لهذا كان الرومان يسمونها serica أي ذات الحرير. إن عزلة الصين الطويلة قد أمنت لثقافتها قروناً طويلة من المناعة، ورغم أن علاقاتها بشعوب آسيا الوسطى كانت وثيقة ومعقدة فإنها منذ توحدت لم يعد لديها على حدودها دول كبرى يتوجب عليها إقامة علاقات معها. وقد ازدادت عزلتها مع تحول مركز ثقل الحضارة الأوروبية إلى الغرب والشمال، وظهور حاجز بينهما مكون من الدول الوريثة للتركة الهلنستية، أي بيزنطة وفارس الساسانية ثم الإسلام.

ولهذه الأسباب بقيت الصين بعيدة، فلم تصل إليها التيارات التي كانت تغير الأجزاء الأخرى من البر الأوروبي الآسيوي، بل ظلت بمنأى عن الاضطرابات التي حلت بغيرها من الحضارات الكبرى. وحتى عندما أتى الإسلام كان تأثيره فيها أقل من غيرها. وكانت الصين تتمتع أيضاً بقدرة عظيمة على امتصاص التأثيرات الأجنبية التي تفد إليها، وتعتمد قدرة التمثل هذه على ثقافة نخبة إدارية استمرت قروناً طويلة بالرغم من تبدل السلالات والإمبراطوريات، وهي التي وضعت الصين على مسارها الثابت. كانت هذه الإدارة تحتفظ بسجلات مكتوبة منذ أبكر الأزمان، وقد زودتنا سجلاتها بوثائق لا مثيل لها وغنية بالحقائق الموثوقة، ولو أنها من اختيار أقلية صغيرة تعكس اهتماماتها، ولهذا فنحن ندين بقسط كبير من معرفتنا بالصين إلى كتبتها. ويشدد التاريخ الذي سجله أولئك الكتبة على الاستمرارية والسلاسة في مرور الأحداث، وهو أمر طبيعي في بلد هائل المساحة لأن إدارته لا يمكن أن تنجح إلا إذا تحقق لها التجانس والانتظام. إلا أن هذه السجلات تغفل أشياء كثيرة، فحتى في الأزمنة التاريخية يصعب علينا أن نعرف كيف كانت الأكثرية العظمى من أهل الصين تعيش حياتها وماذا كانت همومها الحقيقية.

ومن الأسهل قليلاً أن نتحدث عن تاريخ هذه الدولة. يتكون العمود الفقري لتاريخ الصين بعد نهاية مرحلة الدول المتحاربة من صعود السلالات المختلفة وهبوطها، ويمكننا أن نجد تواريخ محددة لهذه السلالات، إلا أن استخدام تلك التواريخ قد يكون مضللاً لأن الأمور لا تنقلب فجأة بين عام وآخر، بل قد تحتاج السلالة عقوداً عديدة لكي تبسط سلطتها الفعلية على الإمبراطورية كلها، وقد يستغرق فقدانها لسلطتها زماناً أطول، والحقيقة أنه لابد من تجاوز الحدود بين السلالات عند الحديث عن تطور الأحداث. لقد أبقينا هذا التحفظ في بالنا يبقى الحديث عن تاريخ الصين بحسب سلالاتها طريقة مفيدة تمكننا من تقسيمه إلى عدد من المراحل الكبرى التي تمتد حتى القرن العشرين، إن أولى المراحل التي يهمنا أمرها هما مرحلتا التسين والهان.


الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://resalahmasriyah.mam9.com
Eng. Ahmedzoubaa
Admin
Eng. Ahmedzoubaa


عدد المساهمات : 1216
تاريخ التسجيل : 28/08/2010
العمر : 49

الفصل السادس - عالم آخر، التقاليد الكبرى في آسيا  Empty
مُساهمةموضوع: رد: الفصل السادس - عالم آخر، التقاليد الكبرى في آسيا    الفصل السادس - عالم آخر، التقاليد الكبرى في آسيا  Emptyالثلاثاء 14 يونيو 2011 - 23:55

التسين




لقد أتت سلالة التسين من دولة في الغرب ظل بعض الصينيين يعتبرونها بربرية حتى القرن الرابع ق.م، وتذكرنا قصتهم هذه بقصة صعود مقدونيا في العالم الإغريقي، لاسيما أنهما قد حدثتا في زمنين متقاربين. وقد ازدهرت سلالة التسين، وربما ساهم في هذا الازدهار عملية إصلاح جذرية للقانون قام بها وزير من وزرائهم في حوالي عام 350 ق.م، وربما كان من أسباب نجاحهم أيضاً أنهم استخدموا سلاحاً جديداً هو السيف الحديدي الطويل. وقد احتلوا مقاطعة تسيشوان ثم صاروا مملكة في عام 325 ق.م، وكانت ذروة نجاحاتهم انتصارهم على آخر خصم لهم في عام 221 ق.م، وتوحيد الصين للمرة الأولى في إمبراطورية واحدة تحت حكم سلالتهم التي سميت البلاد على اسمها. لقد كان هذا الإنجاز إنجازاً عظيماً، ويمكننا أن نعتبر الصين منذ ذلك الحين مركزاً لحضارة واحدة واعية لهويتها المميزة. وكان هناك قبل ذلك علامات تدل على أن الأمور سوف تتطور في هذا الاتجاه، فالحقيقة أن بعض أجزاء الصين كانت عند نهاية مرحلة الدول المتحاربة تتشابه فيما بينها بصورة واضحة تعادل الفروق التي بينها، وعندما جاءت سلالة التسين وحققت للبلاد وحدتها السياسية من خلال قرن كامل من الفتوحات، كانت تلك نتيجة طبيعية للاندماج الثقافي الذي كان جارياً. بل إن بعض الناس يقولون بإمكانية الشعور بوجود القومية الصينية قبل عام 221 ق.م فإذا كان هذا صحيحاً فلا ريب أنه قد سهل امتداد الفتوحات، إلا أن سلالة التسين قد أطيح بها بعد أقل من عشرين سنة وحلت محلها سلالة جديدة.





الهان



قبل أن نتحدث عن حكومات الصين في تلك الأزمنة الباكرة، يجب ألا يغيب عن بالنا أن حدودها تبقى تخمينية وأن سلطتها الفعلية ربما كانت أضيق وأضعف مما توحي به المعلومات المتوفرة. ولكن الصين ظلت على كل حال أكثر من أربعمائة سنة أي من عام 206 ق.م إلى 220م، تحت حكم أباطرة من سلالتين تحملان الاسم نفسه، هما سلالتا الهان. لقد توقف حكم سلالة الهان السابقة لفترة قصيرة من 9-23 م ولم تحل سلالة الهان اللاحقة محلها فوراً، ولكن يمكننا مع هذا اعتبار هاتين الحقبتين كياناً واحداً ، ولو أن بعض الأباطرة كانوا أكثر نشاطاً وفعالية من بعضهم الآخر. إن رسم حدود إمبراطورية الهان على الخريطة هو أمر تخميني جداً، ومن المؤكد أنهم لم يحققوا سيطرتهم على المنطقة كلها بل إنها كانت أضعف حتى من سلطة الرومان على إمبراطوريتهم في ذلك الحين. كما أن الحضارة الصينية لم تتخلل أرض الصين الحالية مثلما تخللت الحضارة الهلنستية أوروبا الغربية والمتوسط والشرق الأدنى، فلم يتم توحيد الكتابة الصينية حتى عهد التسين أي مباشرة قبل أزمنة الهان، وكان القسم الأكبر من المنطقة الخاضعة سياسياً للهان يعيش فيه مجتمع قبلي لم ”يتصيّن”، أي يكتسب نمط الحياة الصيني، إلا عدد قليل من زعمائه خاصة في الجنوب، ولم تكن هناك بعد روابط قوية على مستوى الحياة اليومية يمكنها أن تساهم في تعزيز النظام وتوطيده.


الفصل السادس - عالم آخر، التقاليد الكبرى في آسيا  Chp6-4


إمبراطورية الهان


إلا أن أباطرة الهان قد تمكنوا من بسط ادعاءات الصين بالسيطرة السياسية على رقعة أوسع من أي سلالة قبلهم، وكانت إمبراطوريتهم في أكبر امتداد لها تعادل حجم الإمبراطورية الرومانية أقل من الناحية النظرية. وقد تميز الإمبراطور وو تي الإمبراطور العسكري الذي حكم بين 141-87 ق.م بكثرة ضمه للأراضي، فعلى عهده ضمت إلى الإمبراطورية مساحة كبيرة من آسيا الوسطى هي حوض نهر تاريم فضلاً عن جنوب منشوري، الواقعة شمالي السور العظيم، وقسم كبير من جنوب شرق ساحل الصين. لقد أخضعت أيضاً الشعوب التايلندية المقيمة في وادي نهر الميكونغ، كما قبلت أنام في فييتنام بسيادة الهان. وفي مرحلة لاحقة تم طرد شعوب مغولية تسمى الهسيونغ نو من شمال صحراء غوبي، فكانت تلك بداية مسير طويل لهم جعل منهم قوة لها وزنها في تاريخ العالم، وقد عرفوا باسم الهون.


لقد زاد هذا التوسع اتصالات الصين بالأجزاء الأخرى من العالم، ولكن اتصالها بمنطقة البحر المتوسط بقي اتصالاً غير مباشر، لأن أكثر تجارة الصين كانت عن طريق البر، وكانت أكثر بضائعها رواجاً هي الحرير، الذي كان تحمله القوافل إلى الغرب منذ حوالي عام 100 ق.م، على طول الطريق المسمى طريق الحرير عبر آسيا الوسطى. وربما كانت الاتصالات الجديدة بالخيالة البدو المقيمين في الصحارى هي سبب ظهور الأحصنة البرونزية الجميلة التي ابتدأ سبكها منذ أزمنة الهان.






الديانة في الصين




وبالرغم من توسع اتصالات الصين على هذه الصورة فقد بقيت معزولة عن التأثيرات الخارجية، فلا تجد فيها ما يشبه مثلاً تأثير اليهودية والمسيحية على الحضارة الإغريقية الرومانية، صحيح أن الإسلام تغلغل في تركستان وفي زوايا الإمبراطورية وازدهر فيها إلا أنه لم يصل إلى داخلها. وربما كان التحدي الوحيد لتقاليدها هو الديانة البوذية، التي وصلت إليها على ما يبدو خلال القرن الأول الميلادي عبر الطرق التجارية الآتية من آسيا الوسطى، ولعلها أهم ثقافة استوردتها الصين قبل القرن التاسع عشر. كانت البوذية في جوهرها أقرب ديانة إلى الصين من أي ديانة أخرى قبل المسيحية، لأنها تشدد على الابتعاد عن هذا العالم وليس على أداء الإنسان لواجباته نحو مجتمعه، وربما كان الذين دفعوها إلى الصين هم شعب الكوشانا، لأنهم نشروها في آسيا الوسطى ومن هناك انتقلت إلى شمال الصين خاصة في شكل بوذية مهايانا. ويظهر بوذا هنا بصورة المخلص الذي يستطيع المؤمن أن يتطلع إلى عونه ومساعدته، ولاريب أن هذه الصورة كانت مريحة ومطمئنة في أزمنة الاضطراب والتفكك الاجتماعي. والحقيقة أن في البوذية ما يناسب جميع الناس على اختلافهم، ففيها الخرافة للبسطاء وفيها الأفكار الفلسفية التي تحفز أذهان المثقفين، فضلاً عن أنها تتمتع بأسلوب فني جذاب وجميل.


وانتشرت البوذية رويداً رويداً من قمة المجتمع إلى قاعدته، وراح الطلاب والرهبان يتنقلون بين الصين والهند بحثاً عن تعاليمها، وقد بلغت أعظم انتصارات لها بين القرنين السادس والتاسع، ولكنها كانت في الوقت نفسه تمر بتحولات وتغيرات كثيرة، وقد تطورت في بعض الأحيان إلى شيء مختلف تماما ً عن تعاليم غوتاما الأصلية (أي بوذا). لقد صارت البوذية في كل مكان مزيجاً من المعتقدات المتضاربة والمتناقضة، إلا أنها مرت في الصين بتطورات خاصة، وظهرت فيها طوائف جديدة إحداها حركة التأمل التي عرفت لاحقاً باسمها الياباني زن، وكانت العزوبية عقيدة أساسية في التعاليم البوذية الكلاسيكية، ولكن الصينيين كانوا ينفرون من هذه الفكرة لأن استمرار العائلة وعبادة الأجداد كانا يحظيان بمكانة كبيرة لديهم، وهذا ما دفع بعض رجال الدين البوذيين في الصين إلى التخلي عن مبدأ العزوبية.


لقد ساهمت الدولة في تنظيم شؤون البوذية، فحددت عدد الرهبان والأديرة من أجل منع ثرواتهم من الهروب من نظام الضرائب، ولكن هذا الأمر كان صعب التحقيق. وقد حدثت من وقت لآخر موجات اضطهاد كانت أسوأها في القرن التاسع، وقد منعت خلالها جميع الديانات الأجنبية وتقول المصادر الرسمية أن أكثر من 4600 دير قد دمر وأكثر من ربع مليون راهب وراهبة بوذيين قد خسروا ميزة إعفائهم من الضرائب، بينما كانت الكونفوشية تعيد إحكام قبضتها على المثقفين. وكانت تلك بداية انحسار البوذية في الصين، ولم تبلغ من بعدها مثل تلك القوة قط، والحقيقة أن البوذية لم تبدل الحضارة الصينية، بل أمدتها ببعض العناصر الجديدة وحسب.


لم تؤثر البوذية إذاً على المعتقدات الدينية التي كان أكثر أهل الصين يعيشون بحسبها، كما أن الديانة التقليدية لم تقف منها ولا من غيرها من العقائد موقفاً متشدداً، ولم تكن الدولة تقدم على الاضطهاد إلا عندما يشكل دين جديد خطراً على البنية السياسية أو الاجتماعية. أما الواجبات التي تفرضها التقاليد الصينية فهي تنحصر بأن يقوم الأشخاص المناسبون بأداء طقوس القرابين وبعادة توقير الأجداد، وقد ثبتت الكونفوشية هذه النزعة المتساهلة، وكان مثقفو الصين على درجة عالية من التسامح وأعجب الأوروبيون بهذا الأمر إعجاباً كبيراً، كما أصدر أحد الأباطرة في زمن لاحق على عهد التانغ مرسوماً يسمح بالتبشير بالمسيحية التي وصلت إلى الصين عن طريق المبشرين النساطرة ، وقد يتوقع المرء من هذا أن تزدهر في الصين الأفكار الجديدة الوافدة من الخارج، ولكن الحقيقة أنها لم تزدهر. صحيح أن انهيار المجتمع التقليدي واضطرابه خلال أفول سلالة الهان وما بعده قد دفع الناس إلى البحث عن عقائد ومعتقدات جديدة، مثل ما حدث أثناء انهيار الإمبراطورية الرومانية إلا أن المستفيد من هذا التدهور إنما كان العقائد الشعبية والديانة الطاوية، التي تطورت فصارت مزيجاً من علاج الأمراض عن طريق الإيمان ومن الخرافة والأفكار البوذية.





الحضارة الصينية



بالرغم من تلك التأثيرات الأجنبية إذاً، كان المثقفون الصينيون في أزمنة الهان يعتبرون بلدهم مركز العالم ومقر الحضارة الحقة، ولاريب أن هذه الثقة بحضارتهم هي من أسباب لامبالاتهم بما كان يجري في البلاد الأخرى، إلا أن هناك أسباباً غير هذه، منها بُعد أرض الصين عن الحضارات الأخرى، الذي كان دوماً عاملاً هاماً أمن للصين الحماية من تخريب القوى الخارجية، ولكنه في الوقت نفسه جعل تجاربها الثقافية ضيقة ومحدودة وحكامها قليلي الاهتمام بالعالم الخارجي. كما أن الصين كانت مكتفية بذاتها من الناحيتين الاقتصادية والتقنية، فهي غنية بالموارد الطبيعية كما كانت زراعتها وتقنيتها في عصر الهان قادرتين على استغلال بيئتها استغلالاً ناجحاً، والحقيقة أنه لم يكن هناك في العلام بلد أكثر منها تطوراً. إن آخر الأشياء الجديدة التي أتتها من الخارج قبل الأزمنة الحديثة إنما هو نبات الأرز، وقد دخلها في عصور قديمة جداً إما من جنوب شرقي آسيا أو من الهند.

وأتت حقبة الهان بمزيد من التطورات والابتكارات، فقد صنع علماء الهان أول بوصلة مغناطيسية وكان لها قرص مدرج وإبرة ولكنها لم تكن تستخدم للإبحار بل لتوجيه المعابد توجيهاً صحيحاً عند بناءها. كما ابتكروا أول طريقة لرسم الخرائط على أساس شبكة من الخطوط المتقاطعة، واخترعوا آلات لتسجيل الزلازل وأدوات للحرفيين لقياس سماكة الأشياء ذات تدريجات عشرية. إلا أنك عندما تستعرض اليوم ابتكارات تلك المرحلة فإن أكثر ما يبهرك بينها هو اكتشاف الصينيين لطريقة صنع الورق، التي أعلن عنها في ورشات الإمبراطور في عام 105 للميلاد وسوف تكون أهمية هذا الاختراع عظيمة جداً للجنس البشري بأكمله، ولو أن طريقة صنعه لم تصل إلى الغرب إلا بعد قرون عديدة. لقد كان الورق أرخص من ورق البردي والرق، ولو أنه أسرع بلاء من الأخير كما أنه أسهل صنعاً.

وقد تحسن النقل أيضاً خلال أزمنة الهان وتحسنت معه المواصلات، فظهرت في القرن الأول ق.م الدفة المثبتة بمؤخرة السفينة لتوجيهها بدلاً من المجداف الكبير المتدلي من أحد طرفيها، ولم تعرف السفن الأوربية هذه الدفعة إلا بعد حوالي اثني عشر قرناً، وعلى عهد سلالة الهان السابقة ظهرت أيضاً عدة الحصان التي تغطي صدره، فصار بالإمكان جر أحمال أثقل بكثير من السابق. وبعد نهاية السلالة بقليل سوف يبدأ الصينيون باستعمال الركاب، وهو اختراع ذو أهمية كبيرة في الحرب لأنه يعطي الفارس مقداراً أكبر من الأمان والسيطرة على فرسه، أما النشابية، وهي قوس مثبتة على هيكل خشبي ذي أخاديد تستخدم لتوجيه السهام، فقد اخترعت على عهد الهان، وكانت انجازاً تقنياً هاماً جداً لأنها أقوى من أقواس البرابرة وأكثر دقة منها، وكان البرابرة عاجزين عن تقليدها إذ لم يكن أحد غير الصينيين يعرف طريق صنع الأقفال البرونزية اللازمة لها.

إن هذه الاختراعات كلها شواهد على غنى حضارة الهان، وقد كانت تلك بداية حقبة مجيدة، لأن علوم الصينيين ورياضياتهم سوف تنتج خلال الألف سنة التالية فيضاً من الأفكار الجديدة هو أغزر بكثير مما ظهر في أوروبا. ويبدو أن حياة الحكام والأغنياء في الصين على عهد الهان كانت حياة رائعة، وأنها عرفت الكثير من الأشياء المبتكرة الجميلة والمصنوعة من الحرير والخشب الملون، ولو أن أكثرها قد هلكت. وعندما ابتدأ إحراق القصور خلال العقود المضطربة الأخيرة من عمر السلالة ضاعت مجموعات فنية لاتقدر بثمن. ولكن بالرغم من هذا بقي مقدار كبير من المصنوعات الجميلة لأن الهان كانوا يدفنون الأغنياء والنبلاء مع الكثير من مقتنياتهم أو مع نماذج لها، وقد تم مؤخراً اكتشاف هام لبدلات متقنة الصنع من حجر اليشب دفن فيها أميرة وأمير من سلالة الهان. وتجد على عهد سلالة الهان اللاحقة أن المصنوعات البرونزية، وبالأخص تماثيل الأحصنة، تدل على تطور جديد في فن سبك البرونز، وهو واحد من أقدم الفنون في الصين، كما كان الخزافون يبتكرون أصنافاً جديدة من الميناء الملونة لأعمالهم الخزفية البديعة.

يدل الفن في عهد الهان إذاً على أن الحضارة الصينية كانت تنظر إلى الماضي وليس إلى المستقبل، وإن هذه الحقيقة لتصح على حياة الفكر أيضاً، فعلى عهد الهان ابتدأ العلماء بتدوين تواريخ السلالات، عندما وضع سو ما تشين أعظم مؤرخي الصين كتابه ”سجلات تاريخية”، وهو عمل يقدره المختصون بهذه الأمور تقديراً عالياً. إلا أن أهم التطورات التي حصلت في أزمنة الهان إنما هو ترسيخ العقيدة الكونفوشية كإيديولوجية رسمية للدولة، وكان هذا انتصاراً لتعاليم ذلك الرجل الحكيم أو ما اعتبر تعاليمه، لقد أراد العلماء أن يصلحوا الأضرار الجسيمة التي حلت بالصين ومكتباتها منذ عهد التسين، إذ كانوا قد تعرضوا لأزمة بشعة وإهانة عميقة في عام 213 ق.م عندما انقلب الإمبراطور على منتقدي نظامه العسكري الاستبدادي، فأحرق الكتب جميعها ولم يبق إلا على الأعمال المفيدة في العرافة (التنبؤ بالغيب) والطب والزراعة والكتب التي تمجد السلالة، وقد هلك أكثر من أربعمائة عالم في ذلك الاضطهاد. أما الآن فقد أعاد الهان اكتشاف النصوص الكونفوشية التي ضاعت على عهد التسين. كان أباطرة الهان راغبين بمصالحة المثقفين إذاً، ولو أن جوهر هذا التحول ليس واضحاً، فأعادوا منصب الأستذة في الدراسات الكونفوشية، وأمروا بتقديم القرابين بانتظام لكونفوشيوس في كافة المدارس الحكومية، وبدؤوا يتقبلون المتقدمين للخدمة المدنية على أساس الامتحان في الأعمال الكونفوشية الكلاسيكية. وقد أدت هذه الأمور كلها إلى تحويل العقيدة الكونفوشية إلى عقيدة رسمية ذات عمر مديد، وضعت نصوصها الأساسية بعد عام 200ق.م بقليل، وظلت من بعدها تتمثل العناصر الفكرية من مدارس أخرى، ولكن مبادئها الأخلاقية بقيت منذ ذلك الحين هي المسيطرة في الفلسفة التي سوف تشكل حكام الصين في المستقبل. وفي عام 58 م أمر بتقديم القرابين لكونفوشيوس في كافة المدارس الحكومية، وأخيراً باتت المناصب الرسمية على عهد التانغ محصورة بالذين تدربوا على تعاليمه، وقد مدت الكونفوشية حكام الصين طوال أكثر من ألف سنة بمجموعة من المبادئ الأخلاقية وبثقافة أدبية تكتسب بالاستظهار العنيد، فنشأت بهذا طبقة إدارية هي من أكثر الإدارات التي عرفها العالم حتى اليوم فعالية وتجانساً إيديولجياً.

إلا أن تأييد العلماء لم يكن كافياً لضمان استمرار سلالة الهان، لأنها واجهت تحديات داخلية وخارجية شديدة، كان أخطرها ثورات الفلاحين المتتالية، إذ تزايد عدد السكان فصار الكثيرون من الفلاحين بلا أرض وغير قادرين على إيجاد المال اللازم لدفع الضرائب وتأمين الطعام، وفي الوقت نفسه عاد البرابرة يهاجمون البلاد من الخارج، وراح القادة المهيمنين على الجيش يغتصبون السلطة في الأراضي التي يسيطرون عليها. أما البرابرة الذين سمح لهم بدخول الحدود على أمل تعليمهم أساليب الحياة الصينية فقد انقلبوا على الذين أدخلوهم أصلاً، وفي عام 221 م تخلى آخر أباطرة الهان عن عرشه لابن أكبر القادة العسكريين، فعادت الصين لتتفكك من جديد.

لقد ضاع الكثير من تراث ثقافة الهان البديعة وخرب خلال القرنين الرابع والخامس عندما عاد البرابرة لمضايقة الحدود، وتفككت الصين مرة ثانية إلى مجموعة من الممالك كان بعضها تحت حكم سلالات بربرية، ولكن قدرة الصين العجيبة على امتصاص الثقافات الأجنبية تظهر بوضوح حتى خلال هذه الأزمة الكبيرة.

واجتذبت أساليب الحياة في الصين البرابرة رويداً رويداً، فخسروا هويتهم واتخذوا لباس الصينيين ولغتهم، وأصبحوا شعباً جديداً من شعوب هذا البلد، والحقيقة أن مكانة الحضارة الصينية بين شعوب آسيا الوسطى كانت عظيمة، وكان جيرانها غير المتحضرين يميلون إلى اعتبارها مركز العالم وقمة الثقافة، مثلما كانت الشعوب الجرمانية في الغرب تنظر إلى روما، بل إن أحد حكام التتر قد فرض عادات الصين ولباسها على شعبه فرضاً بمرسوم أصدره في عام 500م. إلا أن خطر آسيا الوسطى ظل قائماً وراء الحدود، كما ظهرت في القرن الخامس أول إمبراطورية مغولية في منغوليا. ولكن وحدة الصين لم تكن في خطر كبير عندما استلمت سلالة التانغ الشمالية التفويض السماوي في عام 618، ولم يكن الانقسام والغزوات البربرية قد خربت أسس حضارتها التي دخلت عصرها الكلاسيكي.

كانت ثقافة الصين في عهد التانغ مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بمؤسساتها، وكان الصينيون يعتبرون أن العائلة والدولة هما المصدران الوحيدان للسلطة، ولم تتعرض هاتان المؤسستان لتحد يذكر لأن الصين لم تعرف كيانات مثل الكنيسة أو النقابات التي ظهرت في أوروبا حيث أثارت الأسئلة حول مواضيع الحق والحكم وأعطت ثمارها الغنية. لقد كانت الملامح الأساسية للدولة الصينية قائمة منذ عهد التانغ، وسوف تستمر حتى القرن العشرين وتستمر معها نظرتها ومواقفها المميزة لها، وكان لجهود الهان الكبيرة في تماسك الدولة وتدعيمها دور كبير في صنع تلك المواقف، أما منصب الإمبراطور كحامل للتفويض السماوي فقد كان راسخاً منذ أيام التسين، والحقيقة أن مكانته لم تتزعزع رغم تبدل السلالات، لأن تلك التبدلات كانت تفسر دوماً بانتقال التفويض السماوي إلى أيدٍ جديدة ، بل إن السلطة الكامنة في مكانة الإمبراطور كانت تنمو بصورة مستمرة. فبعد أن كان في البدء زعيماً إقطاعياً كبيراً سلطته امتداد لسلطة العائلة أو العزبة تطور رويداً رويداً حتى صار حاكماً يرأس دولة مركزية ذات طبقة إدارية كبيرة، وكان هذا التطور قد ابتدأ منذ زمن بعيد، فلو لم تكن الدولة قوية لما تمكنت من تنظيم تلك الأعداد الكبيرة من البشر على عهد أول أباطرة التسين من أجل ربط أجزاء السور العظيم وبناء حاجز متصل منها ضد البرابرة يربو طوله على 2000 كم، وتقول الأسطورة إن هذا الإنجاز قد كلف حياة مليون شخص، وقد تمكن أباطرة الهان من فرض احتكارهم لسك النقود ووحدوا العملة، وعلى عهدهم تم تأسيس الخدمة المدنية أيضاً.


الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://resalahmasriyah.mam9.com
Eng. Ahmedzoubaa
Admin
Eng. Ahmedzoubaa


عدد المساهمات : 1216
تاريخ التسجيل : 28/08/2010
العمر : 49

الفصل السادس - عالم آخر، التقاليد الكبرى في آسيا  Empty
مُساهمةموضوع: رد: الفصل السادس - عالم آخر، التقاليد الكبرى في آسيا    الفصل السادس - عالم آخر، التقاليد الكبرى في آسيا  Emptyالثلاثاء 14 يونيو 2011 - 23:56

البيروقراطية



كان توسع الأراضي قد اقتضى توسيع الإدارة أيضاً، وقد استمرت تلك الإدارة الموسعة رغم مرور البلاد بفترات كثيرة من التفكك، وهذا دليل على قوتها، وبقيت حتى النهاية واحدة من أبرز مؤسسات إمبراطورية الصين وأصدقها تعبيراً عنها. وعندما انهارت سلالات الصين وحلت محلها دويلات صغيرة متنافسة خسرت البلاد الوحدة التي كانت قد حققتها، وكانت لطبقتها الإدارية الكفء الفضل في انتشالها من حقبة التراجع تلك وإعادتها إلى سبيل النهوض والتقدم، وقد ضمن هذا الجهاز أُصُر البلاد عن طريق الإيديولوجية فضلاً عن الإدارة، لأن موظفيه كانوا يدربون على الأعمال الكونفوشية الكلاسيكية ويمتحنون فيها، فضمنوا بذلك اقتران الثقافتين الأدبية والسياسية في الصين بصورة لا مثيل لها في أي بلد آخر.


إن الشيء الوحيد الذي كان يميز أفراد هذه الطبقة الإدارية عن سائر أفراد المجتمع من حيث المبدأ إنما هو تعليمهم، وهو أشبه بحيازة شهادة جامعية في أيامنا، وكان أكثرهم يأتون بالأصل من طبقة النبلاء أصحاب الأراضي، ولكنهم ينفصلون عن هذه الطبقة، ومتى انتخبوا لمنصبهم عن طريق الامتحان صاروا يتمتعون بمكانة لا تعلو عليها إلا مكانة عائلة الإمبراطور، فضلاً عن المزايا المادية والاجتماعية الكثيرة. وكان يتوجب عليهم القيام بمهمتين أساسيتين كل سنة، هما جمع بيانات عدد السكان وسجلات الأراضي التي يعتمد عليها نظام جبي الضرائب في الصين، أما مهامهم الأخرى فهي قانونية وذات طبيعة رقابية، إذ كانت الشؤون المحلية تترك بيد نبلاء المقاطعة تحت إشراف حوالي ألفي حاكم مقاطعة من الطبقة الإدارية. وكان كل حاكم يعيش في مجمع رسمي هو السراي، مع موظفيه وسعاته وخدمه وخدم بيته من حوله، وكانوا يخضعون لجهاز دولة يقوم بمراقبتهم وتوجيههم ورفع التقارير عن أعمالهم، وقد حكمت هذه الإدارة عندما كانت في أقصى اتساع لها منطقة أكبر بكثير من الإمبراطورية الرومانية.


كانت هذه البنية تتمتع بقوة محافظة عظيمة، وقد ضمن نظام الامتحانات أن تنفذ سلطة الحكومة بحسب مبادئ مثالية متفق عليها، وكان من الصعب جداً على رجل لا يمتلك بعض الثروة أن يقوم بأود نفسه خلال الدراسات الطويلة اللازمة لتحضير الامتحان، إذ إن الكتابة بالأشكال التقليدية وحدها تحتاج إلى سنوات طويلة لإتقانها، ورغم هذا فإن مبدأ التنافس قد ضمن ألا تبقى المواهب محصورة تماماً بعائلات النبلاء الغنية والقديمة، لذلك كان الطبقة الحاكمة في الصين تستمد أفرادها من ذوي الجدارة ولو بصورة محدودة. وكانت تحدث حالات من الفساد وشراء المناصب من وقت لآخر، ولكن علامات التراجع هذه لاتظهر في السجلات عادة إلا في المراحل الأخيرة من حكم السلالة، وكان إداريو الإمبراطورية في أكثر الحالات يبدون استقلالاً واضحاً عن خلفيتهم، وكانوا نظرياً رجال الإمبراطور، ولم يكن يسمح لهم بأن يمتلكوا أراض في المقاطعة التي يخدمون فيها، أو يخدموا في مقاطعتهم، أو يكون لهم أقرباء في نفس الفرع من الحكومة. ولم يكونوا يمثلون طبقة ما، بل كانوا نخبة منها تجند بصورة مستقلة وتتجدد وتترقى عن طريق المنافسة، وهم الذين جعلوا الدولة حقيقة واقعية، وكان بعضهم يرتقون هذا التسلسل الهرمي حتى أعلى مستوياته فيصبحون مستشارين للإمبراطور، ولم يكن ينافسهم في الأهمية إلا الخصيان الذين يعملون في البلاط. فكثيراً ما كان الإمبراطور يؤمنون لهؤلاء على سلطات كبيرة لأنهم غير قادرين على تأسيس عائلات، وكانوا هؤلاء هم القوة السياسية الوحيدة الناجية من قيود العالم الرسمي.


ولم يكن هناك في الصين ثمة تمييز بين الحكومة والمجتمع كما في أوروبا، بل كان الرجل الواحد يجمع أدواراً عديدة مثل الإداري والعالم والنبيل، بينما كانت هذه الأدوار في أوروبا تتوزع على أفراد مختصين في الحكومة وفي سلطات المجتمع غير الرسمية. وفضلاً عن ذلك كان جمع الأدوار في الصين يتم ضمن إطار من الإيديولوجية هي من المجتمع بمنزلة القلب من الجسد، ولا تكاد تجد مثل هذا الترتيب إلا في الإسلام. ولم يكن الحفاظ على القيم الكونفوشية بالأمر اليسير، لأنه لا يلبى بالكلام وحده، لقد حافظت الإدارة على تلك القيم عن طريق ممارستها سيطرة أدبية تشبه السيطرة المديدة التي كانت لرجال الدين في الغرب، ولم يكن في الصين كنيسة تنافس الدولة، وكانت مبادئها محافظة إلى أبعد الحدود، ومهمتها الملحة هي الحفاظ على النظام القائم وعلى تماسك المجتمع، وقد تقوم ببعض الأشغال العامة الكبرى بين الحين والآخر، وأما معاييرها السائدة فهي الانتظام وترسيخ المبادئ ذاتها في كافة أنحاء تلك الإمبراطورية الهائلة والمتنوعة، والتي يتميز فيها حكام المقاطعات عن الشعب الذي تحت رعايتهم من كل ناحية حتى من ناحية اللغة، والحقيقة أنها قد نجحت في بلوغ هذه الأهداف نجاحاً باهراً.


كانت كل سلالة تمر بدورة الصعود حتى الأفول، وتبدأ فترة التراجع عادة بعجز السلالة عن حماية حدودها من الغزوات البربرية الجديدة الآتية من الخارج، وبالضيق والمجاعة وثورات الفلاحين في الداخل، فتؤدي هذه كلها إلى تعطل نظام جبي الضرائب وتداعي القانون والأمن أيضاً، فيظهر عندئذٍ قادة عسكريون محليون يديرون ممالك صغيرة على حسابهم. ولكن هذه الفترات من الفوضى لم تعد بعد القرن العاشر تخرج عن السيطرة إلى حد يجعل الناس يشكون بالمبدأ الأساسي، وهو أن الصين يجب أن يحكمها الإمبراطور كبلد واحدة، صحيح أن الصين في أواخر عهد السونغ انقسمت إلى دولة شمالية يحكمها البرابرة ودولة جنوبية يحكمها الصينيون، ولكنها لم تتفكك قط إلى وحدات صغيرة حتى القرن العشرين.





الاستمرارية



لذلك فإن السجلات التاريخية أقل تفككاً وتشويشاً مما قد نخالها للوهلة الأولى، والحقيقة أن أشياء كثيرة استمرت طوال ألف سنة من دون انقطاع يذكر، بالرغم من مرور فترات من الهيجان والغزو بين وقت وآخر، ومع أن الحكام والسلالات كانوا يتبدلون، فقد بقيت للعرش الإمبراطوري مهابته، ولو أن انتداب السماء كان يسحب من الرجل أو السلالة التي تحمله في مرحلة ما. وبقيت مكانة الخدمة المدنية بالأخص رفيعة لايرقى إليها الشك، ولما كان أفرادها يختارون دوماً بناء على جدارتهم وموهبتهم فلم يكن لها من نظير في العالم كله من حيث فعاليتها وبراعتها. لقد أعاد أباطرة السوي والتانغ امتحانات الدخول التي استهلها الهان، ومن خلال تلك الامتحانات ضمنت الإدارة لنفسها قالباً فكرياً محافظاًَ جداً، ومن أن هذا الأمر قد شكل عقبة كبيرة على المدى البعيد، فقد أعطى المثقفين في الصين نظرة للعالم استمرت بلا تغيير حتى قرن مضى، ويدل هذا على أنها ظلت قادرة على تلبية حاجات الصين لزمن طويل.

لقد عمق نظام الامتحان الهوة بين النخبة الحاكمة المتعلمة والجماهير غير المتعلمة، ومع تقدم الإمبراطورية بالعمر على مدى القرون الطويلة طرأت على بنيتها الاجتماعية تغيرات عديدة، فكان هناك بالإجمال تراجع مستمر في أهمية الأرستقراطية ولكن ليس في ثروتها، وصارت مضطرة للتنازل عن سلطاتها السياسية والإدارية للموظفين المدنيين المحترفين. كما كانت هناك أعداد متزايدة من التجار لابد من أخذهم بالحسبان مع تطور التجارة وتوسع المدن وازدياد عدد سكانها، ثم إن بعض العقائد الجديدة المختلفة عن العقيدة الكونفوشية الرسمية للإداريين والنبلاء كانت تحظى بالأهمية بين حين وآخر، بل إن بعض كبار المجتمع أيضاً قد تحولوا إلى الطاوية والبوذية عندما انهارت سلالة الهان فسنحت الفرصة للأخيرة بالتغلغل في الصين. وكانت بوذية مهايانا أشد خطراً من أي قوة أيديولوجية قبل المسيحية، لأنها تدعو إلى نبذ القيم الدنيوية على العكس من الكونفوشية، وهي لم تستأصل على نحو كامل قط بالرغم من الاضطهاد الذي أصابها على عهد التانغ، وكانت هجماتهم عليها في الأرجح لأسباب مالية وليست إيديولوجية. ولكن الكونفوشية وجدت نفسها مضطرة للتصالح مع البوذية بعد الضرر المادي الكبير الذي ألحقته بها، ولا تجد في الحقيقة ديانة أجنبية غيرها كان لها مثل ذاك الأثر القوي في حكام الصين إلى أن جاءت الماركسية، حتى إن بعض الأباطرة كانوا بوذيين.

أما الفلاح فكانت حياته بعيدة جداً عن تأثير تلك الأفكار الدينية والفلسفية، كان يعيش حياته بين براثن الحروب والمجاعات، لذلك تراه يتحول إلى السحر والخرافة. وإن القدر الزهيد الذي نعرفه عن حياته ليشير إلى أنها كانت قاسية لاتحتمل بل رهيبة في بعض الأحيان.

وقد ظهرت ثورات الفلاحين أولاً على عهد الهان، ثم صارت حقيقة راسخة في تاريخ الصين تعود لتتكرر على نحو منتظم مثل تعاقب السلالات، وكان الإداريون يقمعون الفلاحين إما لحساب الحكومة الإمبراطورية التي تحاول جمع الضرائب لتمويل حملاتها في الخارج، أو لحساب مصالحهم الخاصة كمضاربين بالحبوب، ولهذا كان الفلاحون يلتجئون إلى الجمعيات السرية، وهي موضوع آخر يتكرر في الصين. وكانت ثوراتهم تأخذ عادة أشكالاً دينية، وتجد فيها جميعاً خطاً مستمراً يظهر بأشكال عديدة، ويرى العالم دوماً منقسماً إلى صنفين من الناس، صنف الأخيار وصنف الأشرار، صنف الصالحين وصنف الآثمين، ويؤمن مع ذلك بقدوم عصر من السعادة والعدل بعد هذا الصراع المديد، وكان هذا الخطر، يهدد بنية المجتمع أحياناً، ولكن نادراً ما كتب للفلاحين النجاح لزمان طويل.

كان التغير في مجتمع الصين يسير إذاً على نحو بطيء جداً، ورغم جميع الابتكارات الثقافية والإدارية لم تتبدل حياة الناس في أسلوبها أو مظهرها بصورة كبيرة على مدى القرون، وكان قدوم السلالات ورحيلها يعزى إلى مفهوم انتداب السماء، ورغم إنجازاتها الفكرية الكبيرة تبدو حضارة الصين في مراحلها الباكرة منطوية على ذاتها ومكتفية بذاتها ومستقرة إلى حد الجمود. إلا أن التغيرات كانت تحدث بالفعل، ولو ببطء شديد، من تلك التغيرات النمو المتزايد للتجارة والمدن، فقد صارت الدولة تستغني عن سخرة الفلاح وتلجأ بدلاً منها إلى فرض الضرائب على هذه الموارد التجارية الجديدة. كما أن السلالات المختلفة راحت توسع السور العظيم الذي ابتدأته سلالة الهان وتعيد أحياناً بناء أجزاء منه، وإنه مايزال حتى اليوم مشهداً عجيباً يذهل الناظرين، وهو أعظم بكثير من التحصينات الدفاعية التي بناها الرومان على حدودهم. وقبل بدء حقبة التانغ مباشرة اكتمل أيضاً بناء نظام كبير من الأقنية يربط وادي اليانغ تسي كيانغ بوادي النهر الأصفر في الشمال، وبمدينة هانغ تشو (خنسة) في الجنوب. وقد استخدم الملايين من العمال في هذا المشروع وغيره من مشاريع الري الكبرى، وهي أعمال تضاهي في ضخامتها أهرام مصر وكاتدرائيات أوروبا الكبرى التي شيدت في العصور الوسطى.




قصة السلالات اللاحقة



كانت الحضارة الصينية قد حققت إنجازات باهرة عندما ولجت مرحلة نضج جديدة في عام 618 م، وإن طريقة لوصف تطورها خلال الألف سنة التالية هي نفسها التي اتبعناها في وصف القرون الثمانية المنصرمة، أي ضمن الإطار الشكلي المكون من تعاقب السلالات. بعد نهاية عصر الهان حلت الفوضى بأرض الصين وأدت إلى تمزقها طوال ثلاثمائة وخمسين سنة، ثم جاءها قائد عسكري يمتزج في عروقه الدم الصيني بالدم البربري فأعاد توحيدها في عام 581 م، وأسس سلالة السوي التي لم تدم أكثر من ثلاثين عاماً تقريباً، ومالبث أن استولى على العرش قائد عسكري آخر متحدر من أصول مختلطة أيضاً، فاستهل سلالة التانغ التي استعادت الصين على عهدها وحدتها لثلاثة قرون ونصف القرن تقريباً، ثم مرت مرحلة ثانية من الفوضى، ولكنها هذه المرة لم تستمر إلا خمسين عاماً، قبل أن ترتقي إلى العرش الإمبراطوري سلالة السونغ في عام 960م. ورغم أن السونغ ضيعوا سيطرتهم على شمال الصين عندما انتزعته منهم شعوب من منشوريا في القرن الثاني عشر، فقد بقوا متمسكين بالجنوب حتى عام 1279 م، وفي ذلك العام جاء قبلاي خان حفيد جنكيز خان فأتم فتح المغول للصين، واتخذ اسماً صينياً لسلالته هو يوان، وقد حكم خلفاؤه البلاد من العاصمة الجديدة بكين حتى عام 1368م، عندما حلت محلهم سلالة أسسها ثائر صيني من العامة هي سلالة المنغ التي استمرت حتى عام 1644م.

إن ثمة خطوطاً هامة تمتد عبر هذه المراحل المتعاقب من النظام والفوضى، وأحد تلك الخطوط هو تاريخ السكان، لقد تحولت الكتلة السكانية نحو الجنوب أثناء مرحلة التانغ، ومنذ ذلك الحين صار أكثر الصينيين يعيشون في وادي نهر اليانغ تسي كيانغ بدلاً من سهل النهر الأصفر القديم. وكانوا يؤمنون غذاءهم عن طريق تدمير غابات الجنوب واستغلال الأراضي الجديدة من أجل زراعة الأرز، كما توفرت محاصيل جديدة أيضاً. وقد سمحت هذه التطورات بنمو في عدد السكان تسارع أكثر على عهدي المغول والمنغ، وربما تضاعف عدد السكان خلال القرنين التاليين من 80 مليوناً في القرن الرابع عشر حتى صار عدد رعايا الإمبراطورية حوالي 160 مليوناً في عام 1600م وكان هذا عدداً هائلاً بالقياس إلى أعداد السكان في البلاد الأخرى.

مع تزايد عدد السكان صارت كل الأراضي القابلة للزراعة مسكونة، وصارت تزرع بصورة تزداد كثافة، وتنقسم إلى بقع أصغر فأصغر، كما ازدادت أعداد الفلاحين الذين لا يملكون أرضاً. وكان المنفذ الوحيد من فك المجاعة هو الثورة، وعندما تبلغ الثورة مبلغاً من الشدة والنجاح فقد تحظى بدعم النبلاء والإداريين، سواء كان ذلك بدافع الحذر منها أو بالتعاطف معها وعندئذٍ تكون نهاية السلالة على الأبواب. تقول التعاليم الكونفوشية إن الثورة خطأ إذا كان الحاكم ملكاً بحق، ولكنها تقول أيضاً إن الحكومة التي تسبب ثورة الشعب وتعجز عن السيطرة عليها يتوجب استبدالها، لأنها تكون بحكم ذلك حكومة غير شرعية. وعلى هذه الصورة ظل ضغط السكان قوة محركة أساسية في تاريخ الصين لقرون طويلة، ولو أنها لم تكن تتبدى للسلطات إلا بصورة مقنعة وغير مباشرة، أي عندما تدفع المجاعة الناس إلى الثورة. ثم إن الصين عرفت خطراً آخراً أوضح من هذا كان يهاجمها من الخارج، لقد كانت الصين قوة عالمية كبرى فكرت بيزنطة بالتحالف معها، كما أنها أرسلت جيوشاً لمحاربة العرب واستقبلت سفراء من هارون الرشيد، ولكن مشكلتها كانت في الأساس مثل مشكلة روما، أي وجود حدود طويلة للغاية يقبع وراءها البرابرة. وقد ضعف نفوذ سلالة التانغ على هؤلاء البرابرة عندما خضعت آسيا الوسطى للإسلام، كما وجد أباطرة التانغ اللاحقون مثل أباطرة الرومان من قبلهم، أن الاعتماد على الجيش قد يكون أمراً خطيراً. وحدثت على عهدهم المئات من الثورات العسكرية، ومهما كانت تلك الثورات قصيرة فإنها كانت تخلف آثاراً مضاعفة، لأنها تمزق الإدارة وتخرب ترتيبات الري التي يعتمد عليها إنتاج الغذاء، فتقوض بالتالي السلام والأمن في الداخل.

وعجز التانغ في النهاية عن حماية حدودهم من الغزوات، كما حلت بهم اضطرابات كبيرة في الداخل، فانهاروا في القرن العاشر، وتفككت الصين من جديد في فوضى سياسية عارمة، ولكن إدارتها ومؤسساتها الاجتماعية تمكنت من تسيير الأمور في البلاد عبر هذه الفوضى بفضل استمراريتها وقدرتها العجيبة على التعافي. والحقيقة أنه كلما تبدلت سلالة من السلالات كان ورثة سلطتها ولو أتوا من الخارج يتكلون على الإداريين القلائل الشاغلين لمناصبهم، فكان هؤلاء يضعون في خدمة كل حكومة القيم الثابتة للنظام الكونفوشي. وعلى هذه الصورة سهلت تعاليم كونفوشيوس تغيير السلالة من دون المساس بالقيم والبنية العميقة للمجتمع، وكان محتماً على السلالة الجديدة أن تعتمد على الإداريين، وأن تستمدهم من طبقة النبلاء أيضاً، ولكن الإداريون بدورهم قادرين على تسيير الأمور إلا بما يرضي الوجهاء المحليين عندما تكون الحكومة المركزية ضعيفة.


الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://resalahmasriyah.mam9.com
Eng. Ahmedzoubaa
Admin
Eng. Ahmedzoubaa


عدد المساهمات : 1216
تاريخ التسجيل : 28/08/2010
العمر : 49

الفصل السادس - عالم آخر، التقاليد الكبرى في آسيا  Empty
مُساهمةموضوع: رد: الفصل السادس - عالم آخر، التقاليد الكبرى في آسيا    الفصل السادس - عالم آخر، التقاليد الكبرى في آسيا  Emptyالثلاثاء 14 يونيو 2011 - 23:57

الصين الكلاسيكية



إلا أن هذا التمزق المتكرر لم يمنع حكام الصين وحكماءها وحرفييها من الوصول بحضارتهم إلى ذروتها خلال الألف سنة التي جاءت بعد استهلال عهد التانغ (618)م. ويعتبر البعض أن العصر الكلاسيكي للصين كان في القرنين السابع والثامن، أي على عهد التانغ أنفسهم، بينما يراه البعض الآخر في عهد سلالة السونغ التي أتت بعدهم. وتعكس حضارة التانغ تأثير اتصالات الصين بالعالم الخارجي، خاصة بآسيا الوسطى، وكانت العاصمة عندئذٍ في مدينة شانغ آن الواقعة على نهاية طريق الحرير في مقاطعة شنسي الغربية، ويعني اسم شانغ آن " السلام المديد"، وإليها كان يأتي الفرس والعرب وشعوب آسيا الوسطى، فجعلوها واحدة من أكثر المدن عالمية على الأرض. وكانت فيها كنائس نسطورية ومعابد زرادشتية ومساجد إسلامية، وتدل الأشياء الباقية منها على أنها ربما كانت أفخم وأروع عاصمة في أيامها، كما تبين مصنوعاتها تذوق الصينيين للأساليب الفنية الأجنبية، فقد كانوا يقلدون أشغال الفضة الإيرانية مثلاً، وتجد فيها أيضاً الكثير من التماثيل الفخارية للخيالة والجمال المحملة بالبضائع، وهي صورة حية لحياة آسيا الوسطى تدور في شوارع شانغ آن، التي كانت أشبه ما تكون بمستودع تجاري كبير. وكثيراً ما كانت تلك التماثيل تلون بطلاء الميناء المنوعة الجديدة التي ابتكرها خزافو التانغ والتي قلدها الحرفيون الآخرون حتى في اليابان وبلاد الرافدين. إن هذه الحرف اليدوية وتلك الحركة التجارية النشيطة قد شجعها وجود البلاط، وتكشف لك الرسوم التي وجدت في المدافن شيئاً من حياة أرستقراطية البلاط. فترى الرجال مسترخيين في الصيد يصحبهم خدامهم الآتين من آسيا الوسطى، بينما تظهر النساء بتعابير وجه خاوية وملابس فاخرة، وخادماتهن يحملن لهن المراوح وعلب التجميل وحكاكات الظهر وسواها من أدوات المخدع، وكانت السيدات الكبيرات في عصر التانغ يفضلن موضات آسيا الوسطى التي أخذتها من خادماتهن البيتيات.

الفصل السادس - عالم آخر، التقاليد الكبرى في آسيا  Chp6-5


بلاد التانغ

إلا أن تاريخ المرأة في الصين يبقى أمراً غامضاً مثل نواح كثيرة في تاريخ هذا البلد الذي لاتكاد وثائقه تهتم إلا بالثقافة الرسمية، كان حياة النساء على الأرجح حياة شاقة، ولا تسمع عنهن الكثير حتى في الأدب ماعدا بعض القصائد وقصص الحب الحزينة. ويفترض أنهن يشكلن حوالي نصف عدد السكان، أو ربما أقل من النصف بقليل، لأن العائلات الفقيرة كانت تعرض طفلاتها للموت في الأزمنة العصيبة. وتدل هذه الحقيقة دلالة قوية على المنزلة المتدنية للمرأة في الصين حتى الأزمنة الحديثة، ثم أن هناك عادة أخرى هي عادة ربط قدمي البنت ومنعما من النمو لأنهم كانوا يحبون القدم الصغيرة عند المرأة، وكان هذه العادة تسبب تشوهات قبيحة قد تجعل السيدة النبيلة عاجزة عن المشي، وكانت النساء الصينيات معرضات للقمع الشديد حتى بالقياس إلى الشعوب البربرية ذات العادات الوحشية، وقد استمر هذا القمع حتى القرن العشرين، وكانت الفلاحات يقمن بالجزء الأكبر من العمل الشاق في الحقول، وحتى نساء الطبقات العليا لم يكن يتمتعن بقدر كبير من الحرية.نأأ

ولانذكر الثقافة الرسمية في الصين سكان المدن أيضاً، وهم يشكلون حوالي عشرة بالمئة من سكان البلاد، لقد كانت بعض مدن الصين أكبر المدن في العالم، ويقال إن شانغ آن كانت تضم مائتي مليون نسمة عندما كانت عاصمة للتانغ، ولم يكن في أوروبا كلها مدينة بمثل هذا الحجم، أما كانتون وبكين المعاصرتان لها فكانتا أكبر حتى من هذا وكانت المجتمعات التي تعيش في هذه المدن الضخمة تزداد تعقيداً وتطوراً بصورة مستمرة، وقد أمن تطورها البيئة اللازمة لازدهار التجارة. والحقيقة أن أول عملة ورقية قد صدرت في الصين في عام 650 م، وولد هذا الازدهار في التجارة حاجات جديدة منها الحاجة للأدب، الذي تطور وخرج عن قيود النماذج الكلاسيكية وصار يكتب بأسلوب عامي أيسر بكثير من اللغة الكلاسيكية المعقدة. وهكذا انتجت حياة المدن رويداً رويداً ثقافة بديلة عن الثقافة الرسمية، ولما كانت مكتوبة فهي تتيح لك أن ترى للمرة الأولى شيئاً عن الحياة غير الرسمية في الصين. وقد مكن اختراع الورق من إشباع الحاجة الشعبية المتزايدة، وفي عام 700م جاء أيضاً اختراع الطباعة، التي تعود أصولها إلى صنع الأختام الحجرية في عهد سلالة الهان. وبعد ذلك صارت الطباعة تتم باستخدام كليشيهات خشبية، ثم ظهرت الحروف المتحركة في القرن الحادي عشر ميلادي، وسرعان ماراحت الكتب تطبع وتنشر في الصين بأعداد كبيرة، وذلك قبل أن تظهر في أي بلد آخر بزمن طويل.

عندما نشبت الثورة في عام 756 م تمزقت ثقافة شانغ آن، ولم تتعاف من بعدها قط، وقبل سنتين كانت قد تأسست أكاديمية إمبراطورية للآداب، ولن تظهر مؤسسة شبيهة بها في أوروبا إلا بعد حوالي تسعمائة سنة، أما في عصر السونغ فقد ظهر المزيد من الأعمال الخزفية البديعة، وتتميز أشكالها الأولية، أي في المرحلة الشمالية من تاريخ السونغ، بالأسلوب التقليدي المزخرف والملون، بينما صار حرفيو الجنوب يفضلون الأشكال البسيطة ذات اللون الواحد. واللافت أنهم ارتبطوا بتقليد قديم آخر هو الأشكال التي ابتكرها سباكو البرونز الكبار في العصور الأبكر، أما في التصوير فقد بلغ على عهد السونغ ذرى أعلى حتى من فن الخزف العظيم، وكان موضوعه الأسمى هو تصوير الطبيعة. إلا أن أكثر ما يبهرنا في حقبة السونغ إنما هو التبدل السريع والعجيب الذي جرى خلالها في مجال الاقتصاد.




لغز حقبة السونغ



يمكننا أن نعزو هذا التطور جزئياً إلى الابتكارات التقنية التي تمت في هذه المرحلة مثل البارود والحروف الطباعية المتحركة والقائم الخلفي للسفينة، والتي تعود كلها إلى حقبة السونغ، وقد كانت هذه الأشياء في الوقت نفسه نتيجة وسبباً للفورة الاقتصادية الكبيرة التي جرت بين القرنين العاشر والثالث عشر، والتي أدت إلى انتقال مركز ثقل الاقتصاد نحو الجنوب ونشوء موانئ جديدة مثل كانتون وفوتشو. ويبدو أن هذا النمو الاقتصادي قد أمن لأكثر الصينيين ارتفاعاً حقيقياً في دخولهم ولفترة طويلة بالرغم من استمرار زيادة أعدادهم، وهي حقيقة مذهلة لأنها أول مرة يتمكن فيها النمو الاقتصادي من تجاوز نمو عدد السكان قبل الأزمنة الحديثة. ولاريب بأن هذا التطور قد هيأ لظهوره اكتشاف واعتماد نوع جديد من الأرز يسمح بتنمية محصولين اثنين في السنة إذا كانت الأرض مروية بشكل جيد، ومحصول واحد من الأراضي المرتفعة التي لا تروى إلا في الربيع. ويبدو من ناحية أخرى أن إنتاج الحديد قد ارتفع ارتفاعاً مفاجئاً أيضاً، إذ تشير إحدى الدراسات إلى أن الصين كانت بعد عام 1066 بسنوات قليلة تنتج كمية من الحديد تعادل تقريباً كل ما كانت تنتجه أوروبا برمتها بعد ذلك بستة قرون، كما أن إنتاج الأقمشة قد عرف هو الآخر تطوراً سريعاً خاصة بعد استخدام أجهزة الغزل التي تعمل بالطاقة المائية، والحقيقة أنه يجوز لنا أن نعتبر هذه الظاهرة التي جرت على عهد السونغ ظاهرة تصنيع واضحة ومتميزة. أما لماذا حدثت ولماذا لم تستمر بعد ذلك فهما سؤالان مازال النقاش حولهما محتدماً.

لقد كان هناك بلا شك دخل جديد في الاقتصاد على عهد السونغ بفضل استثمارات الحكومة في الأشغال العامة، وخاصة في قطاع المواصلات. ولاريب أيضاً أن فترات الراحة الطويلة من الغزوات الأجنبية ومن الفوضى الداخلية قد ساعدت هي الأخرى، ولو أن غياب الفوضى قد يكون نتيجة للنمو الاقتصادي مثلما هو سبب له. ويبدو أن تفسير هذه الظاهرة يكمن في توسع الأسواق ونهوض اقتصاد مالي يدين للعوامل المذكورة سابقاً، ولكنه يرتكز بالأساس على ارتفاع الإنتاجية الزراعية. فطالما كانت هذه الإنتاجية أكبر من زيادة عدد السكان كانت الأمور تسير على مايرام. وقد توفر رأس المال اللازم لتشغيل المزيد من الأيدي العاملة ولاستغلال التقنية عن طريق الاستثمار في الآلات، وارتفعت الدخول ارتفاعاً حقيقياً. إلا أن هذا التوسع الاقتصادي لم يستمر، ومن الصعب أن نعرف السبب، فيبدو أن الدخول الحقيقية المتوسطة في الصين ظلت ثابتة طوال خمسة قرون تقريباً وأن نمو الإنتاجية كان يجاري نمو السكان من دون أي يسبقه، ثم بدأت الدخول بالهبوط، وما برحت تهبط حتى صار الفلاح الصيني في بداية القرن العشرين أشبه ما يكون برجل تغمره المياه حتى عنقه وتكفي أضعف الموجات لإغراقه




الفصل السادس - عالم آخر، التقاليد الكبرى في آسيا  Chp6-6


أراضي أسرة السونغ

ولم تتطور الصين بعد النجاحات التي أحرزتها على أيام السونغ لتعطي مجتمعاً دينامياً وتقدمياً، فبالرغم من اختراع الطباعة بقيت جماهيرها أمية حتى القرن العشرين، ولم تنتج المدن الكبيرة في الإمبراطورية رغم ضخامتها ونشاطها التجاري الواسع لا الحرية والحصانات التي حمت الناس والأفكار في أوروبا، ولا الحياة الثقافية والفكرية التي قلبت الحضارة الأوروبية في النهاية، والشيء الأهم هو أنها لم تحفز كما يبدو على الشك الفعال بالنتظام السائد. حتى في مجال التقنية الذي حققت فيه الصين إنجازات كثيرة وسريعة تجد فجوة كبيرة بين خصب أفكارها وضعف قدرتها على إحداث التغيرات الجذرية. لطالما أظهر الصينيون قدرة عظيمة على الابتكار، ولكن منذ أن انتهت أزمنة الدجو صار ارتفاع الإنتاج يعتمد على توسيع الأراضي الزراعية وإدخال المحاصيل الجديدة وليس على التطور التقني. لقد كانت التحف الفنية تسبك من البرونز منذ الألف الثانية ق.م. كما كان الصينيون يسبكون الحديد قبل الأوروبيين بألف وخمسمائة سنة، ولكنهم لم يكتشفوا الإمكانيات الهندسية لتقاليد التعدين القديمة هذه حتى عندما ارتفع إنتاج الحديد لديهم ارتفاعه المذهل. وكانوا يحرقون ما سماه ماركو بولو نوعاً من الحجر الأسود عندما رحل إلى هناك قرب نهاية القرن الثالث عشر، وما هو إلا الفحم، ولكنهم لم يخترعوا المحرك البخاري، وكان بحارتهم يعرفون البوصلة المغناطيسية منذ أزمنة السونغ وقد أرسلوا حملاتهم البحرية إلى أندونيسيا والخليج الفارسي وعدن وشرق أفريقيا في القرن الخامس عشر، إلا أن الهدف منها كان إبهار تلك البلاد بقوة الصين، وليس جمع المعلومات والخبرات من أجل القيام بالمزيد من الرحلات الاستكشافية الأبعد، وسرعان ما أحجموا عن حملاتهم تلك على كل حال.

ويمكننا أن نسرد حالات أخرى كثيرة مثل هذه تشير كلها إلى الفكرة ذاتها، ربما كان السبب هو نجاح الحضارة الصينية في سعيها نحو أهداف مختلفة، ألا وهي ضمان الاستمرارية ومنع التغير الجذري، فالإدارة والنظام الاجتماعي لم يكونا يشجعان المبتكر، وحتى عائلات التجار كانت تكتفي أثناء فترات الازدهار بالاندماج ضمن الطبقة الإدارية. وكان الصينيون فخورين بتقاليدهم الكونفوشية ومطمئنين إلى الموارد الغنية لبلادهم وبعيدين عن العالم الخارجي، لذلك كان من الصعب عليهم أن يتعلموا منه، ولكن هذا لا يعني أنهم لم يكونوا متسامحين، فلطالما مارس عندهم اليهود والمسيحيين النساطرة والفرس والزرادشتيون والعرب المسلمون دياناتهم بحرية، بل إن هؤلاء الأخيرين قد نجحوا في هداية بعض الصينيين فخلقوا في الصين أقلية مسلمة مازالت مستمرة حتى اليوم، وقد كثرت الاتصالات بالغرب أيضاً على عهد المغول، إلا أن هذا التسامح الرسمي لم يؤد قط إلى جعل ثقافة الصين واسعة التقبل للتأثيرات الأجنبية.




الصين المغولية



في نهاية القرن الثالث عشر كان المغول قد اكتسحوا الصين كلها، إلا أنها فتنتهم وأسرتهم مثلما أسرت جميع فاتحيها من قبلهم، ولو أن ضربتهم الأولى كانت ضربة قاسية جداً، إذ ربما قتل حوالي ثلاثين مليون إنسان خلال فتحهم لها، أي أكثر من ربع عدد سكانها في عام 1200م. وعلى عهد قبلاي وهو آخر الخانات الكبار، نقلت الإمبراطورية المغولية مركزها من السهوب إلى بكين، ويمكننا اعتبارها منذ ذلك الحين إمبراطورية صينية لا مغولية، كما اتخذ قبلاي لقباً سلالياً في عام 1271، وانقطع عن نمط حياة السهوب التي طالما تشبث بها قومه، وخفف من ريبته بالحضارة وإنجازاتها. وسوف يمضي حياته كلها في الصين تقريباً، ولو أن معرفته باللغة الصينية ظلت ضعيفة. وقد استسلم أتباعه لثقافة الصين رويداً رويداً، بالرغم من ارتيابهم بطبقة الإداريين العلماء في البداية، والحقيقة أن الصين قد غيرت المغول بأكثر مما غيروها هم، وهكذا نشأت الإمبراطورية الرائعة التي تحدث عنها ماركو بولو بإعجاب كبير.

إلا أن المغول قد سعوا للبقاء منفصلين عن أهل البلاد الأصليين، فمنعوهم من تعلم المغولية ومن التزاوج بهم ولم يسمحوا لهم بحمل السلاح، وكانوا يفضلون استخدام الأجانب بدلاً من الصينيين في الإدارة كلما وجدوا إلى ذلك سبيلاً، وهو أسلوب تجد نظيراً له في الخانيات الغربية للإمبراطورية المغولية، فقد عمل ماركو بولو ثلاث سنوات في إدارة الخان الكبير، وكان رئيس المكتب الإمبراطوري لعلم الفلك نسطورياً، وكان المسلمون من مقاطعة ما وراء النهر جيحون يديرون مقاطعة يونان. كما أن المغول علقوا نظام الامتحان الرسمي لبضع سنوات، وربما كان مسلكهم هذا بسبب استمرار عداوة الصينيين للمغول خاصة في الجنوب. إلا أن إنجازات المغول كانت باهرة حقاً، وإن توحيد الصين قد أبرز من جديد قوتها العسكرية والدبلوماسية الكبرى، ولم يكن فتح الجنوب التابع لسلالة السونغ بالأمر اليسير، ولكنه عندما اكتمل في عام 1279 ضاعف موارد قبلاي بأكثر من مثلين، فجمع هذا أسطولاً ضخماً وراح يعيد بناء دائرة نفوذ الصين في آسيا، فغزا فيتنام في الجنوب واستولى على هانوي ثلاث مرات، كما احتلت بورما لفترة من الزمن بعد موته. ولكن الحقيقة أن هذه الفتوحات لم تدم زمناً طويلاً، إذ لم تبق هذه البلاد تحت الاحتلال بل صارت تدفع الجزية بدلاً من ذلك.

وكان النجاح في جزيرة جاوه بإندونيسيا محدوداً أيضاً، فرغم أن سفن الصين قد رست فيها وأخذت العاصمة في عام 1292، فإنها عجزت عن الاحتفاظ بها، وكانت اليابان هي البلد الوحيدة التي فشلت محاولات المغول لغزوها فشلاً تاماً. أما التجارة البحرية مع الهند وشبه الجزيرة العربية والخليج الفارسي التي ابتدأت على عهد السونغ فقد ازدادت تطوراً وازدهاراً.

ولما كان نظام المغول قد عجز عن الاستمرار فلا يمكننا في المحصلة أن نعده نظاماً ناجحاً، ولكن لابد لنا من ذكر بعض مناقبه، والحقيقة أنه قد أتى بتطورات إيجابية كثيرة خلال قرن واحد أو أكثر بقليل. فقد ازدهرت التجارة الخارجية ازدهاراً لا سابق له، ويقول ماركو بولو أن الخان الكبير كان يطعم بهباته السخية فقراء بكين، ونحن نعلم أنها كانت مدينة كبيرة. وتروق لنظرة الإنسان الحديث أيضاً معالجة المغول لأمور الدين، فهم في الحقيقة لم يعرقلوا سبيل أحد في التبشير بدينه ماعدا المسلمين، فشجعوا الطاوية والبوذية، وأعفوا الأديرة البوذية مثلاً من الضرائب، واقتضى هذا بالطبع فرض ضرائب أشد على غيرهم كما هي الحال دوماً حين تؤيد الدولة ديناً ما، فكان الفلاحون يدفعون ثمن التبشير الديني. إلا أن القرن الرابع عشر قد شهد سلسلة من الكوارث الطبيعية التي حلت بالإمبراطورية، وأثقل عبؤها من عبء الضرائب التي كان الشعب يرزح تحتها، فما لبثت أن اندلعت مودة جديدة من الثورات في الأرياف، وإن هي إلا العلامة الدالة على تراجع السلالة. وعادت الجمعيات السرية للظهور، واجتذبت إحداها وهي جمعية العمامات الحمر تأييد النبلاء والإداريين معاً، فاستولى أحد قادتها وهو راهب يدعى تشو يان تشانغ على نانكينغ في عام 1356م، وطرد المغول من بكين بعد اثنتي عشر سنة فابتدأت عندئذٍ حقبة المنغ.


الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://resalahmasriyah.mam9.com
Eng. Ahmedzoubaa
Admin
Eng. Ahmedzoubaa


عدد المساهمات : 1216
تاريخ التسجيل : 28/08/2010
العمر : 49

الفصل السادس - عالم آخر، التقاليد الكبرى في آسيا  Empty
مُساهمةموضوع: رد: الفصل السادس - عالم آخر، التقاليد الكبرى في آسيا    الفصل السادس - عالم آخر، التقاليد الكبرى في آسيا  Emptyالأربعاء 15 يونيو 2011 - 0:00

أراضي حكم المنغ



وتراجعت سلالة المنغ في هذه الأثناء، وكان الدليل على ذلك هو تتابع عدد من الأباطرة الذين كانوا في الحقيقة سجناء في قصورهم، بينما راح المحظيون والأمراء يتنازعون على الاستمتاع بأملاك الإمبراطور. وقد عجز المنغ عن الحفاظ على أطراف الإمبراطورية إلا في كوريا، حيث صدوا اليابانيين عند نهاية القرن السادس عشر، فخرجت الهند الصينية من دائرة نفوذ الصين، وأفلتت منطقة التيبت من قبضتها أيضاً، وفي عام 1544 عاد المغول فأحرقوا ضواحي بكين. وفي القرن التالي تعرض المنغ لخطر شعب آت من شمال السور العظيم هو شعب المنشو، الذي كان يعيش في مقاطعة سميت لاحقاً منشوريا على اسمهم، وعندما راح هؤلاء يتدخلون في مشاكل الصين الداخلية كانت تلك نهاية المنغ. وفي عام 1644 ارتقت سلالة منشورية هي التشنغ العرش وسوف يبقى أباطرتها على العرش حتى القرن العشرين.


الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://resalahmasriyah.mam9.com
Eng. Ahmedzoubaa
Admin
Eng. Ahmedzoubaa


عدد المساهمات : 1216
تاريخ التسجيل : 28/08/2010
العمر : 49

الفصل السادس - عالم آخر، التقاليد الكبرى في آسيا  Empty
مُساهمةموضوع: رد: الفصل السادس - عالم آخر، التقاليد الكبرى في آسيا    الفصل السادس - عالم آخر، التقاليد الكبرى في آسيا  Emptyالأربعاء 15 يونيو 2011 - 0:03

دائرة النفوذ الصيني واليابان



إن ذلك التقلب المتكرر في سلطة إمبراطورية الصين لم ينل في الحقيقة من نفوذ حضارتها وثقافتها الدائم في تلك المنطقة الكبيرة من شرق آسيا، بل كانت الصين دوماً هي القوة العظمى فيها، وطوال القسم الأكبر من التاريخ المسجل كان ثلث البشرية كلها تقريباً يعيش في هذه المنطقة الهائلة، وإن السيادة المستمرة لثقافة الصين فيها لحقيقة فائقة الأهمية في تاريخ العالم. وهذه المنطقة على درجة كبيرة جداً من التنوع من ناحية المناخ وطبيعة الأرض، ومن الصعب تصنيفها، فبورما مثلاً مع أنها من نواح عديدة جزء من العالم الهندي، يسكنها شعب لغته من نفس عائلة اللغة الصينية، ومثلها لغة التايلنديين والفيتناميين، أما إلى الشرق، فإنك تجد في اللغات آثاراً من مجموعة اللغات الطائية، وهي لغات غير صينية تتحدث بها الشعوب التركية، بالرغم من التأثير الواضح للصين في كل من اليابان وكوريا. والمنطقة برمتها مكتظة بالسكان عموماً، ومن أسباب ذلك قدرتها على إنتاج محصولين في السنة بالمجهود البشري المكثف في مناخ يغلب فيه الحر والرطوبة، ولهذا فهي على درجة كبيرة من الغنى من ناحية العادات والثقافات، إلا أن جميع شعوب شرق آسيا تتشابه فيما بينها من ناحية كدها ونشاطها وإقدامها، والاستعداد الكبير عند أفرادها للخضوع للجماعة.

كانت علاقات الصين الرسمية بجيرانها تتأرجح مع تأرجح قوتها العسكرية، لقد رسخت سلالة السوي سيطرتها على شمال فيتنام (آنام) وقامت بفتوحات في التيبت وأركعت الفرع الشرقي من الشعوب التركية. ثم اضطر أباطرة التانغ لمعالجة أمر الأتراك من جديد، ولكنهم أيضاً تابعوا دفع حدود الإمبراطورية نحو الغرب فوصلوا حتى جبال البامير واحتلوا حوض التاريم. وعلى عهدهم أصبحت كوريا دولة تابعة للصين وسار قائد عسكري كوري على رأس جيش عبر جبال البامير لكي يمنع اتصال العرب بأهل التيبت، ولكن حملته هذه انتهت بكارثة على يد العرب في تالاس في عام 751م.

وكانت هذه نقطة تحول هامة أفلت من بعدها قوة الصين العسكرية في آسيا الوسطى، وكان هذا هو السبب الأساسي الذي مكن الإسلام من ترسيخ قدميه هناك. وكان السونغ أقل نجاحاً من أسلافهم في معالجة أمر جيرانهم البرابرة، بل إنهم في الحقيقة قد اضطروا لدفع الجزية لبعضهم، كما أنهم عجزوا عن استعادة أنام. وأخيراً استطاع شعب منشوري أن ينتزع شمال الصين من قبضتهم، وتمكن المغول من إعادة بناء وحدة الإمبراطورية، إلا أن المشكلة العويصة التي واجهت إمبراطورية الصين لم تكن معالجة أمور جيرانها التابعين لها، بل كانت في الحقيقة قدوم شعب بربري من مكان بعيد جداً، ففي عام 1557 أسست حفنة من البرتغاليين أول مستوطنة أوروبية دائمة في الصين، وسوف يبقون هناك لزمن طويل.




اليابان



ي نفس الوقت تقريباً نجح برتغاليون آخرون في دخول اليابان، وهي أهم البلاد ذات الثقافة المتميزة ضمن نطاق الحضارة الصينية، وأكثرها غموضاً في خيال الشعوب الآسيوية. ولما كانت اليابان بلداً مؤلفاً من عدد من الجزر فقد أمن لها البحر الحماية، والحقيقة أنها لم تغز بنجاح قط. كما ساهم البحر في إطعام شعبها، وقد بقي السمك يشكل القسم الأكبر من الغذاء البروتيني في اليابان حتى وقت قريب، وبفضل البحر استطاعت اليابان دوماً أن تأخذ من العالم الخارجي ما تريد وتترك ما لاتريد، وكان اليابانيون شعباً بحاراً برع في القرصنة وصيد السمك مثل الإنكليز في القسم الغربي في إنكلترا، ولكن ليس في المغامرات البعيدة.

إن أقرب أجزاء بر آسيا إلى اليابان هو كوريا، وقد كان لدى اليابانيين دوماً حساسية كبيرة نحو هذا البلد، كان اليابانيون يحتلون أراضي في كوريا في القرن الثامن الميلادي، كما سيطروا عليها طوال قسم كبير من القرن العشرين، إلا أن السيادة الإسمية عليها إنما كانت في أكثر الأحيان للصين. وكانت الصين أيضاً أكثر قوة أجنبية تهتم اليابان لها وتحسب حسابها، وكان تأثيرها في اليابان عميقاً جداً منذ الأزمنة السحيقة القدم، صحيح أن لغتيهما مختلفتان، إلا أن الشعبين الياباني والصيني كليهما مغولانيان، ولو أن هناك بعض أفراد من العرق القوقازي (الأبيض) في شمال جزر اليابان، وهو أحفاد الآينو الأصلي. كما أن تقنية البرونز قد انتقلت من الصين إلى اليابان منذ عصور ما قبل التاريخ، وعندما انهارت سلالة الهان في الصين صار اليابانيون أكثر اهتماماً بكوريا، فتزايدت اتصالاتهم بحضارة البر الكبرى تزايداً سريعاً. وانتقلت من الصين إلى اليابان أشياء كثيرة، مثل لقب إمبراطور الذي يطلق على حاكم اليابان، والعقيدة الكونفوشية، والبوذية ومعرفة شغل معدن الحديد، كما جاء الخزافون الصينيون إلى اليابان منذ زمن باكر، فبنوا فيها الأفران وتزاوجوا مع أهل البلاد، ومن هنا نشأ قسم كبير من إنجازات اليابان الفنية اللاحقة. وكيفت الكتابة الصينية لتدوين اللغة اليابانية، وبدأ الحكم في اليابان يظهر فيه بعض آثار الصين ففي القرنين السادس والسابع، أي عندما كان تأثير الصين في أوجه، قام رجال الدولة المصلحون في اليابان بجهود كبيرة لكي يقيموا فيها حكومة مركزية ذات طبقة إدارية على شاكلة إدارة الين، مبينة على الجدارة وليس على الوراثة، وإمبراطوراً يكون حاكماً حقيقياً وليس مجرد رئيس لأهم العشائر وأكثرها توقيراً.

قد يلوح من هذه الأمور كلها أن اليابان أخذت من الخارج جميع الأشياء التي جعلت منها أمة متحضرة، خاصة إذا تذكرنا روعة الصين وإشعاعها على أيام التانغ، والأدلة الكثيرة على التأثير البوذي في الفن الياباني، ولكن الحقيقة أن الأمر لم يكن على هذا الشكل، بل إن جذور حضارة اليابان ونظام حكمها إنما نشأت من صلب ذاتها.

وتروي أولى سجلات اليابان التاريخية التي جمعت في القرن الثامن كيف قامت الآلهة بصنع أرض اليابان وشعبها، ولكن أول تقسيم زمني موثوق يأتينا من مصادر صينية وكورية تعود إلى ما قبل ذلك بثلاثة قرون، وهو يبين أن حكومة اليابان كانت منذ بداية القرن الخامس متمحورة حول شخص الإمبراطور. كانوا يعتقدون أن الإمبراطور متحد من آلهة الشمس، وكان يتمتع بالسيادة العامة على عائلة اليابان الكبرى من أرض أجداده، الواقعة فيما سيصبح لاحقاً مقاطعة ياماتو. وكانت تلك العائلة الوطنية منظمة ضمن عشائر، وهي الوحدات الأساسية في المجتمع الياباني مثلما كان الأمر في المجتمع الصيني الأبكر. وكانت بعض العشائر تصعد أحياناً حتى تبلغ من القوة ما ليس للأخريات، وذلك عن طريق التأثير في الأباطرة أو حتى السيطرة عليهم، إلا أن السلالة الإمبراطورية قد استمرت بلا انقطاع ولو باللجوء إلى أسلوب التبني في بعض الحالات والحقيقة أن الإمبراطور الحالي إنما يرجع بأصل سلالته إلى الإمبراطور الأول، وهو ادعاء ذو دلالة كبيرة على ما للاستمرارية من أهمية في اليابان.

لقد مرت بين عامي 500 و 1500 مرحلتان هامتان سيطرت في كل منهما على اليابان عشيرة واحدة بمفردها، ففي القرن الثامن بلغت عشيرة فوجيوار القمة، وسيطرت طوال قرنين أو ثلاثة بعد ذلك على الأباطرة بصورة وثيقة عن طريق المصاهرة وما يترتب عليها من علاقات. وكانت عاصمة الإمبراطورية خلال حقبة فوجيوارا في هيان، أي كيوتو الحالية، وهناك كان الإمبراطور يعيش ويؤدي واجباته الشعائرية والدينية الشاقة، ولكن سلطة الفوجيوارا قد أفلت، فراحت العشائر المختلفة تتناحر فيما بينها إلى أن قبض على زمام الأمور في عام 1185 قائد عسكري كفؤ لا يعرف الرحمة هو ميناموتو يوريتومو. وكانت تلك بداية سيادة عشيرة ميناموتو التي تعرف عادة بحقبة الكاماكورا على أسم المقاطعة التي كانت تقع فيها أكثر أراضيها ولكن عشيرة ميناموتو انهارت هي الأخرى في القرن الرابع عشر، ومالبثت اليابان أن تفسخت وتدهورت في سلسلة من الحروب الأهلية العنيفة والدامية التي استمرت حتى القرن السادس عشر.


الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://resalahmasriyah.mam9.com
Eng. Ahmedzoubaa
Admin
Eng. Ahmedzoubaa


عدد المساهمات : 1216
تاريخ التسجيل : 28/08/2010
العمر : 49

الفصل السادس - عالم آخر، التقاليد الكبرى في آسيا  Empty
مُساهمةموضوع: رد: الفصل السادس - عالم آخر، التقاليد الكبرى في آسيا    الفصل السادس - عالم آخر، التقاليد الكبرى في آسيا  Emptyالأربعاء 15 يونيو 2011 - 0:04

الشوغونية



قد لاتستدعي هذه التطورات اهتماماً كبيراً للوهلة الأولى، وهي تبدو أشبه بصراعات النبلاء والعائلات الكبرى في أوروبا خلال القرون الوسطى، ولكن الحقيقة أن هذا كان عصراً هاماً نحت فيه اليابان في تطورها مناحي خاصة جداً. فرغم بعض المحاولات التي جرت عند بداية عهد الفوجيوارا من أجل خلق إدارة مبنية على الجدارة، مابرحت سيادة الإمبراطورة تضمحل باستمرار، بينما ظل النبلاء متشبثين بما بلغوه من سلطة ونفوذ. وقد منع هذا الأمر الاهتمام بالمصالح الأخرى، فتجمد مجتمع اليابان وتوقف عن التطور، وصارت المناصب وراثية، كما منحت حقوق فرض الضرائب الإمبراطورية للذين يتمتعون برضا عشيرة الفيوجوارا. وإن كسف الأباطرة هذا قد اكتمل في مرحلة الكاماكورا (1185-1333)م، عندما انتقل الحكم الفعلي إلى القائد العام لسلالة ميناموتو كان يلقب بالشوغان ويحكم شكلياً باسم الإمبراطور، ولكن الحقيقة أن حكمه كان مستقلاً ولمصلحة عشيرته هو، التي لم تكن أراضيها في منطقة هيان حيث يعيش الإمبراطور بل في منطقة كاماكورا. وما برحت الأمور تتطور باطراد من تآكل سلطة الإمبراطور إلى تآكل فكرة السلطة المركزية أصلاً، وكان هذا التطور مختلفاً جداً عما حدث في الصين، ولطالما انتهى ذلك بالفوضى والحرب الأهلية بين الزعماء.

ولولا الحماية التي يؤمنها البحر لكانت هذه الاضطرابات خطيرة جداً على البلاد بل ربما لما كانت قد حصلت أصلاً لذلك لم تعان اليابان من مشاكل الغزو الخارجي، وكانت مشكلتها الوطنية الوحيدة هي السيطرة على البرابرة الآينو. ولم يكن المجتمع الياباني في ذلك الزمن على درجة من التطور تدفع الناس للمطالبة بحكومة أكثر مركزية، بل يبدو أن أكثر اليابانيين كانوا راضين بقبول سلطة العشيرة والعائلة وعبادتهم الوطنية، أي العبادة الشنتوية.

من الملامح الأخرى الهامة لذلك العصر النمو الكبير للروح العسكرية فيه، إذ بلغت فيه القيم العسكرية من ولاء وجلد على الشدائد وشجاعة أعلى مراتب التوقير والتمجيد. ومن أسباب هذا التطور أن النبلاء الأصغر ونبلاء الريف قد أصبحوا أكثر استقلالاً مع اقتراب حقبة الفيوجوارا من نهايتها، كما ساهمت في ترسيخه الحروب الأهلية التي كان المحاربون فيها يلتزمون بخدمة سادتهم كأتباع لهم. إن هذا الأمر شبيه بما كان يحدث في أوروبا في نفس الوقت تقريباً، أي طريقة تنظيم المجتمع التي سميت إقطاعية، ولكن على نطاق أوسع بكثير، وقد برزت اليابان رويداً رويداً طبقة جديدة ذات مكانة سامية لاتعلو عليها إلا مكانة النبلاء الكبار هي طبقة الساموراي، الذين كانت قيمهم ومثلهم الفروسية دوماً مصدر وحي وإلهام للقوميين اليابانيين، وكثيراً ما ساهمت أيضاً في طبع مجتمع اليابان بطابع عنيف جداً.

إن هذا الإجلال الكبير للمحارب كان يرافقه شعور متزايد لدى اليابانيين بأنهم شعب متفوق لا يقهر عسكرياً، وتدين هذه النظرة إلى نجاحهم في صد محاولتين قام بهما المغول لغزو بلادهم، كانت أولاهما في عام 1274 م والثانية في 1281م. وقد جرت في هاتين الغزوتين عمليات حربية هائلة واستخدمت فيهما أسلحة قوية ومتطورة، واستفاد المغول من التقنية الصينية واستعملوا المنجنيق لرمي قنابل تنفجر في الهواء. والحقيقة أن الغزوة الثانية قد قضت عليها عاصفة دمرت أسطول المغول هي عاصفة الكاميكاز أي الريح الإلهية التي رأى فيها اليابانيون يد عونٍ من السماء امتدت لنجدة بلادهم.

أما وضع الفلاح الياباني العادي خلال هذه التطورات فكان يسير من سيء إلى أسوأ، فلا الاقتصاد نما، ولا الزراعة تطورت من الناحية التقنية، ولا المدن اتسعت كما حدث في الصين. صحيح أن اليابان تمكنت ببطء من زراعة كمية أكثر من الغذاء، إلا أن السبب كان زيادة حجم الأملاك الزراعية وبالتالي حجم الأراضي المزروعة، وليس تطور التقنية. وكان الفلاح يدفع ضرائب باهظة، وهي تذهب في العادة لسيده الذي منحته الشوغونية حق فرضها، وكان يزرع الأرز وهو ما يشكل القسم الأكبر من غذاء اليابان. ثم تفاقمت الأحوال بسرعة في القرن الخامس عشر، فانتشرت الأوبئة والمجاعات، وراح الفلاحون يتكتلون في جماعات وتحالفات لحماية أنفسهم تحت زعامة المحاربين العاطلين عن العمل، ونجم عن هذا الأمر حركات الثورة والعصيان.

ولكن هذا الفقر كان هو الأساس الذي قامت به حضارة اليابان البديعة، لقد كان بهاء تلك الحضارة على عهد الفوجيوارا محصوراً بحلقة البلاط الإمبراطوري، ولكنه امتد بعد ذلك إلى كافة الطبقة الحاكمة. ونبذت اليابان رويداً رويداً الثقافة الصينية أو أعادت صياغتها حسب حاجاتها الخاصة، فظهر أول أدب ياباني وولدت دراما النو، وهي مزيج فريد من الشعر والتمثيل الإيمائي والموسيقى يؤدى بملابس وأقنعة مشغولة بعناية وإتقان. واللافت أن بعض أشهر الكتب اليابانية قد كتبتها سيدات من بلاط هيان، إذ يبدو أن الكتابة اليابانية كانت تعتبر أمراً يليق بالنساء لأنهن غير قادرات على الإتيان بالأعمال الجدية، بينما كان على الرجال أن يستمروا باستخدام اللغة الصينية في تناول أمور الفنون والمعرفة الراقية، مثلما ظل المثقفون في أوروبا يستخدمون اللاتينية لغة للعلم.

لقد أثمرت هذه الثقافة أعمالاً فنية هي من أروع ما صنعته يد الإنسان على الإطلاق، وكان الفنانون اليابانيون يشددون دوماً على التناسب والبساطة والكمال في إتقان الصنعة، وقد تجلى هذا في الخزف والتصوير شغل المينا والحرير، وفضلاً عن الفنون التي تميز اليابان من تنسيق الزهور وتصميم الحدائق الطبيعية وصنع السيوف الجميلة، وكان الفنانون الكبار يحظون بشهرة وتقدير عظيمين. كما أن هذه الفنون كلها قد بلغت في اليابان مرتبة عالية من الإتقان في أكثر مراحل تاريخها اضطراباً وفوضى، وبالرغم من الضرر الاجتماعي والاقتصادي الذي جرته على البلاد نزاعاتها الأهلية.

إن بعض تلك الأشياء الجميلة التي كان يصنعها اليابانيون قد بدأت تجد طريقها إلى الأسواق في الخارج، فكانت الصين في القرن الخامس عشر زبوناً هاماً، كما لعب الرهبان البوذيون دوراً كبيراً في تجارتها مع اليابان. وكان لابد لهذا الأمر من أن ينبه اهتمام الناس، فصاروا يرغبون بمعرفة المزيد عن إمبراطورية الجزر البعيدة التي تأتي منها تلك التحف الثمينة، وكان الأوروبيون من بين أولئك الفضوليين، وإن أول الذين وصلوا منهم هم البرتغاليون في عام 1543م على الأرجح، وسرعان ما تبعهم آخرون. ولم تكن ظروف اليابان الداخلية في ذلك الحين تشكل أي عقبة في طريقهم، ففي عام 1570 م فتح زعيم ياباني كان قد اعتنق المسيحية قرية ناغازاكي الصغيرة للبرتغاليين، لقد أتى هؤلاء الدخلاء بديانتهم إذاً كما أتوا بالأسلحة النارية التي ألهبت ولع اليابانيين بالاقتتال فيما بينهم وذكت أواره. وقد تبنى اليابانيون هذه الأسلحة بشغف كبير ينبئ بما سيأتون به في المستقبل، أي بعملية التحديث الرشيدة والمدروسة التي سوف ينهضون بما بعد قرنين ونصف القرن، وهي أعظم عملية تحديث من نوعها قام بها شعب خارج أوروبا.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://resalahmasriyah.mam9.com
 
الفصل السادس - عالم آخر، التقاليد الكبرى في آسيا
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
رسالة مصرية ثقافية :: قسم العلوم التربوية والأدبية :: التاريخ العربي :: كتاب تاريخ العالم-
انتقل الى: