رسالة مصرية ثقافية
مرحبا بك أخي الزائر نشكر زيارتك ونتمني انضمامك للمنتدي
زيارتك تسر إدارة المنتدي ومشاركتكك تسعدنا وتساهم معنا بارتفاع الثقافة العامة
بعض المنتديات الفرعية والموضوعات
لا يمكنك الإطلاع عليها إلا بعد التسجيل كعضو في المنتدي
رسالة مصرية ثقافية
مرحبا بك أخي الزائر نشكر زيارتك ونتمني انضمامك للمنتدي
زيارتك تسر إدارة المنتدي ومشاركتكك تسعدنا وتساهم معنا بارتفاع الثقافة العامة
بعض المنتديات الفرعية والموضوعات
لا يمكنك الإطلاع عليها إلا بعد التسجيل كعضو في المنتدي
رسالة مصرية ثقافية
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

رسالة مصرية ثقافية

ثقافية - علمية - دينية - تربوية
 
الرئيسيةرسالة مصريةأحدث الصورالتسجيلدخول

 

 الفصل الخامس - نزاعات الحضارات

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
Eng. Ahmedzoubaa
Admin
Eng. Ahmedzoubaa


عدد المساهمات : 1216
تاريخ التسجيل : 28/08/2010
العمر : 49

الفصل الخامس - نزاعات الحضارات  Empty
مُساهمةموضوع: الفصل الخامس - نزاعات الحضارات    الفصل الخامس - نزاعات الحضارات  Emptyالثلاثاء 14 يونيو 2011 - 8:17

بدايات بيزنطية



استمرت الإمبراطورية الرومانية التي أسسها قسطنطين ألفاً ومائة عام من بعده في القسطنطينية، وظل حكامها دوماً يسمون أنفسهم روماناً، وهذا هو أيضاً الاسم الذي كان أعداؤهم يطلقونه عليهم، وقد حكموا نصف العالم المسيحي أي قسمه الذي يقع في منطقة المتوسط والشرق الأدنى. وإنك عندما تنظر اليوم إلى تاريخ هذه الإمبراطورية تجد أسباباً كثيرة دفعت الشطرين الغربي والشرقي إلى التباعد واتخاذ طريقين منفصلين، ولكن لم يكن بإمكان أحد أن يرى هذا الاحتمال في البداية، وهو لم يصبح أمراً عادياً إلا بعد أن حدثت خطوات تدريجية كثيرة. لقد تحولت في البداية اهتمامات الحكومة في القرن الثالث نحو الشرق رويداً رويداً، وزاد هذا من أهمية المقاطعات الشرقية والناطقة باليونانية التي كانت فيها أكبر الجماعات المسيحية، كما اتخذ قسطنطين قرارات هامة بأن تكون الإمبراطورية مسيحية وبأن تبنى عاصمة جديدة على مضيق البوسفور في بيزنطة، ولو أنه لم يسكن هناك قط، وكان هذا قراراً حاسماً. ثم انهارت الإمبراطورية الغربية في القرن الخامس فكانت تلك خطوة حاسمة أخرى باعدت بين شطري الإمبراطورية، ومن بعدها لم يعد هناك رجعة. وصارت الإمبراطورية الشرقية مضطرة للتفاهم مع البرابرة المنتصرين في الغرب بأفضل شروط ممكنة، وربما كان هذا هو الأمر الوحيد الذي حافظ على وهم أن الإمبراطورية مازالت موحدة.






يوستينيانس



بالرغم من ذلك جاء إلى العرش في عام 527 م إمبراطور هو يوستينيانس الذي ظل يأخذ وحدة الإمبراطورية مأخذ الجد وحاول مرة أخرى أن يحكمها ككيان واحد؛ ولكنه في النهاية ساهم هو أيضاً في زيادة الانفصال، ويعتقد أكثر الناس أن قصة الإمبراطورية البيزنطية المتميزة إنما تبدأ به. كان يوستينيانس رجلاً بغيضاً للغاية، فقد كان خداعاً وجحوداً وشكاكاً وبخيلاً، ولكنه كان في الوقت نفسه طموحاً ومغامراً وشجاعاً، وكان يؤمن إيماناً تاماً بأسلوب الحياة الرومانية وبالإمبراطورية كحامية للحضارة والديانة الحق. لقد سحق بلا رحمة الأخطار التي كانت تهدد سلطته في الداخل، كما استعاد بعض الأراضي الرومانية في الغرب لفترة قصيرة، فطرد الأوستروغوط (أي القوط الشرقيين) من روما نفسها وحرر إيطاليا لفترة من الزمن، كما هزم الفيزيغوط في إسبانيا وأعاد حكم الإمبراطورية إلى قرطبة واستعاد جزر كورسيكا وسردينية وصقلية. ولكن ثمن هذا التحرير كان باهظاً، ففي الأزمنة اللاحقة حين كان الناس ينظرون إلى الماضي ويلومون البرابرة على تخريب إيطاليا إنما كانوا في الحقيقة يفجعون لما فعلته بها جيوش يوستينيانس. لقد كان نجاحه نجاحاً مؤقتاً على كل حال، لأن الإمبراطورية كانت تحارب دوماً على جبهتين، وقد استنزفت منها حملاتها المكلفة ضد الفرس كل من الرجال والمال، وعند نهاية حكم يوستينيانس كان البرابرة في تراقيا يفصلون من جديد شرق الإمبراطورية عن غربها، والحقيقة أن افتراق مصيري الشرق والغرب كان مستمراً لا تقطعه إلا هدنات قصيرة.

كانت مساهمة يوستينيانس في الانفصال النهائي مساهمة هامة، ورغم أنه كان يفتخر بأنه يتحدث اللاتينية ومعجباً بالماضي الروماني فقد ساهم أكثر من أي إمبراطور آخر في جعل بيزنطة مركز ثقافة سياسية متميزة. ومن مظاهر ذلك عملية الإصلاح الكبرى التي أجراها على قانونها المعقد والمشوش، والذي كان يعود في بعض أصوله إلى أيام الجمهورية الباكرة، فأمن لها بذلك مجموعة جديدة من الاجتهادات القضائية والمتماسكة، وهي عملية لم تستغرق أكثر من خمس سنوات ولكنها سوف تشكل تاريخ بيزنطة ثم تاريخ أوروبا لقرون طويلة. وقد تبدو هذه خطوة محافظة، إلا أنها كانت في الحقيقة بداية طرق جديدة، وقد صار القانون الروماني الذي وضعه يوستينيانس نافذاً في الشرق من فوره، كما أنه بدأ يصبح مقبولاً في القرن الحادي عشر كأساس للاجتهادات القضائية السليمة في أوروبا الغربية أيضاً. وكانت تسيطر عليه بصورة قوية النظرة إلى القانون كشيء يصنعه الحكام لا كشيء تتناقله الأجيال بحكم العادة كما في التقاليد الجرمانية، وقد راق هذا الأمر لأمراء كثيرين من بعده، ولو أنه لم يرق دوماً لشعوبهم.

واتخذ يوستينيانس قرارات أخرى أضعفت التقاليد القديمة، فعندما فتحت إيطاليا اختار أن يجعل رافينا عاصمة للإمبراطورية بدلاً من روما، كما أنه ألغى أكاديمية أثينا التي كانت مستمرة منذ عصر مؤسسها أفلاطون، إذ أنه كان مصمماً على أن يكون إمبراطوراً مسيحياً، أو على الأقل أن يحكم إمبراطورية مسيحية الطابع، وقد صادر الكثير من الحريات الخاصة التي كان اليهود يتمتعون بها كما تدخل في تقويمهم وعبادتهم وشجع ملوك البرابرة على اضطهادهم، وكان هذا ابتعاداً عن تقليد التسامح الهلنستي الروماني القديم في أمور الدين. وتنطبق هذه المعاملة على بعض المسيحيين أيضاً، لأن يوستينيانس منح دعمه وتأييده الكاملين لرجال الدين الأرثوذوكس الذي عقدوا عددا ً من المجامع الهامة حكموا فيها على بعض العقائد بأنها هرطقة وأدانوها بناء على ذلك، وأدى هذا إلى مضايقة الجماعات التي تسير على تلك العقائد، مثل أقباط مصر ونساطرة شرق سورية الذين اضطروا للجوء إلى فارس، أما الذين لم يهربوا فقد ظلوا يغذون من شعورهم بالظلم والمرارة، وسوف يكلف هذا الإمبراطورية ثمناً باهظاً على المدى البعيد.

الفصل الخامس - نزاعات الحضارات  Chp5-1

الإمبراطورية الرومانية عند وفاة يوستنيانس سنة 565 ميلادية

ولم يستطع يوستينيانس ضم الكنيستين اللاتينية الغربية التي صارت تتطلع لقيادة بابا روما والأرثوذوكسية الشرقية كما كان يرجو، وكانت هذه عقبة أيديولوجية أمام أية محاولة لإعادة توحيد الإمبراطورية القديمة. وما كانت الكنيسة الغربية لتقبل بالسيادة الدينية التي ادعاها الإمبراطور حتى في أمور العقيدة، وهي ناحية أهم بكثير مما يبدو للوهلة الأولى، وقد دخل يوستينيانس باندفاع كبير في مناقشات لاهوتية لا تهمنا كثيراً في هذه الأيام ولكنها لم تكن مجرد هواية. أما الكنيسة الغربية فكانت تؤكد دوماً أنه مهما كان واجب الناس نحو حكامهم الدنيويين فإن الكنيسة وحدها هي التي تقول لهم ما هو واجبهم النهائي، لأنهم إنما يدينون به لله، ولهذا سوف تضطر الكنيسة والدولة في الغرب أن تعيشا جنباً إلى جنب، أحياناً بصورة ودية وأحياناً في صراع، أحياناً تسيطر هذه على تلك وأحياناً أخرى تسيطر تلك على هذه، ومن هذا التوتر سوف تنشأ الحرية. أما الكنائس الشرقية فكانت تقول إن السلطتين الروحية والدنيوية ملك للإمبراطور نفسه، الذي له الكلمة الفصل في كل شيء لأنه نائب الله على الأرض. وسوف تنتقل هذه النظرة للحكم في النهاية إلى الحكم الأوتوقراطي لقياصرة روسيا، وكلمة أوتوقراط هي لقب يوناني من ألقاب الإمبراطور وتشكل مصير روسيا التاريخي في المستقبل.



الفصل الخامس - نزاعات الحضارات  Chp5-2

لوحة تمثل الإمبراطور يوستينيانس



ولم ينعكس الاتجاه نحو الحكم الأوتوقرطي منذ أيام يوستينيانس قط، رغم حصول بعض التنازلات وظهور بعض نقاط الضعف أحياناً، فطغت الصفات الشرقية على هذا المنصب الذي كان ذات يوم منصب القاضي الأول في الجمهورية الرومانية، وصار الأباطرة البيزنطيون يعاملون باحترام مهيب مثل ملوك الفرس من قبلهم، وكان ظهورهم للناس يحاط بالاحتفالات المعقدة وعلامات التبجيل المفرطة، بل كان الناس يسجدون أمامهم توقيراً لهم. ويركز الفن البيزنطي على هذه الناحية، فقد كان فناً دينياً تماماً في أشكاله ومواضيعه، وهو يصور الأباطرة على أنهم وكلاء لله على الأرض وتجسيد لقوته الإلهية، كما يصور المسيح بصورة الملك الظفر وليس بصورة المخلص المعذب المهان الذي تراه في الفن الكاثوليكي، وقد كان هذا الأسلوب متأثراً بالفن الآسيوي فضلاً عن فن روما القديمة. ويظهر الأباطرة في صورهم ورؤوسهم محاطة بهالة مثل التي تراها حول رؤوس آخر الأباطرة قبل العصر المسيحي والتي أخذوها عن الإله الشمس، وهي تظهر في صور بعض الحكام الساسانيين أيضاً.

وكان من الطبيعي أن تتأثر بيزنطة بالثقافة الشرقية، لأن الكثير من مقاطعات الإمبراطورية تقع في آسيا، وقد صارت أكثر اعتماداً عليها بعد عام 600 عندما لم تبق لها أراضي كثيرة في أوروبا. وكان على الإداريين أن يتحدثوا اليونانية، ولكن الإمبراطورية كانت متعددة الأعراق وكان الترقي فيها متاحاً للجميع بصرف النظر عن أصولهم الإثنية مثلما كان الأمر في أيامها الماضية، فكان الأباطرة يأتون من سوريا والأناضول والبلقان، وكان يوستينيانس نفسه من مقاطعة إليريا* ومتحدراً من أصول قوطية. صحيح أن مدن آسيا الصغرى قد تتحدث اللغة اليونانية إلا أن هذا الأمر لا ينطبق على الريف، ومع مرور الزمن سيطرت أسماء العائلات الآتية من الأناضول على السياسة والإدارة البيزنطية، فكان هذا مصدراً آخر من مصادر التأثير الآسيوي، وإذا تذكرنا أيضاً الحركة الدائمة عبر الحدود بين بيزنطة وجيرانها الآسيويين وجدنا من الطبيعي أن تبتعد بمرور القرون عن المسيحية الغربية وعن ميراثها الهليني كذلك.





* منطقة قديمة في شمال غربي شبه جزية البلقان على ساحل الأدرياتيك




الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://resalahmasriyah.mam9.com
Eng. Ahmedzoubaa
Admin
Eng. Ahmedzoubaa


عدد المساهمات : 1216
تاريخ التسجيل : 28/08/2010
العمر : 49

الفصل الخامس - نزاعات الحضارات  Empty
مُساهمةموضوع: رد: الفصل الخامس - نزاعات الحضارات    الفصل الخامس - نزاعات الحضارات  Emptyالثلاثاء 14 يونيو 2011 - 8:18

الدين والدولة



كان قلب بيزنطة هو دورها المسيحي وأسلوبها الخاصة في التعبير عنه، وكان هذا الدور جزءاً أساسياً من عملية الخلاص المتاحة للبشر، وقد انعكس في كل ما كانت تفعله؛ ولكن لأفعالها في الوقت نفسه أبعاداً أخرى في مجال الدعاية والعلاقات العامة، ومن المستحيل في العادة أن نعرف ما إذا كانت الأولوية للاعتبارات الدنيوية أو غير الدنيوية. لقد استخدم يوستينيانس المسيحية ورجال الكنيسة كفرع من فروع الدبلوماسية، فكان يقف عراباً في عمادة أطفال الأمراء البرابرة، ويرسل المبشرين لتنصير سواهم. كما ساهمت ثروات القسطنطينية وغناها، وكذلك ثروات أجزاء أخرى من الإمبراطورية أثناء حكمه، في إبهار جيرانها، وما زال أعظم صرح فيها هو الباسيليقا التي بناها، أي كنيسة الحكمة المقدسة أو القديسة صوفيا، وقد عُدّت هذه الكنيسة طوال قرون من أعظم بناء في العالم المسيحي، ولو أن قبتها الضخمة انهارت ذات مرة أثناء حكم يوستينيانس وكانت أهبة الوسط الإمبراطوري تستعرض فيها أثناء العبادة بين الذهب والحرير المدلى وإشعاع فسيفسائها ورخامها البديعين.

لقد عاشت الإمبراطورية الشرقية عمراً طويلاً ومرت خلال هذا العمر بتغيرات كثيرة، ولكن سكانها ظلوا يدعون أن لا شيء تغير فيها على الإطلاق، وبقي أباطرتها يحملون لقب أغسطس حتى النهاية. والحقيقة أن جوهرها الديني لم يتغير بل بقيت مسيحية ضمن تقاليد خاصة هي التقاليد التي تسمى أرثوذوكسية، ومن هذه التقاليد نشأت الكنائس الحالية في اليونان وقبرص، وكذلك في روسيا وبلغاريا وغيرها من البلاد السلافية. وكانت الأرثوذوكسية مختلفة من نواح كثيرة عن المسيحية الكاثوليكية التي صارت لها السيادة في أوروبا الغربية، فلم يكن هناك في الكنيسة الأرثوذوكسية مثلاً رجل له سلطة مثل سلطة بابا روما، بل كان الإمبراطور في الحقيقة يعين بطريرك القسطنطينية، وهو الزعيم المعترف به للكنيسة الشرقية بعد القرن السابع، وبالمقابل كان البطريرك يقدم مباركة الكنيسة عند تتويج الإمبراطور. وكثيراً ما كانوا رجال الدين العاديين يتزوجون، بينما صار رجال الدين في الكنيسة الغربية عزاباً، لهذا لم يشكل الكهنة في البلاد الأرثوذوكسية مجتمعاً منفصلاً كما حصل في أوروبا الغربية. إلا أن رهبان الكنيسة اليونانية كانواً عزاباً، وهنا يكمن فرق آخر، لأن الرهبنة المسيحية التي بدأت في مصر في القرن الثالث عندما انسحب القديسون للمرة الأولى إلى الصحراء من أجل الصلاة والتأمل وضبط النفس ضد المغريات الدنيوية، قد بقيت أقرب إلى أنماطها الأصلية في الأرثوذوكسية منها في أشكالها الغربية، التي صارت تبتكر أساليب جديدة في إعطاء الرهبان أدواراً عملية واجتماعية عدا عن أدوارهم الروحية والفردية.

ثم أن التقاليد الأرثوذوكسية اليونانية كانت مضطرة لمعالجة منازعات ومناقشات لاهوتية بصورة أكبر من كنيسة روما في القرون الأولى، ويعكس هذا وجود تقاليد دينية مختلفة ضمن العالم الهلنستي القديم. كانت البطريركيات أي كبرى الأسقفيات الأربع الأساسية هي بطريركيات القسطنطينية وأورشليم وأنطاكية والإسكندرية، وكانت كل منها تمثل شيئاً مختلفاً قليلاً عن الأخريات، فكان لابد من لمصالحها المحلية وتقاليدها الثقافية هي أن تعبر عن نفسها في النزاعات اللاهوتية، وكانت هذه واحدة من القوى الفاعلة طوال قرنين أو ثلاثة كثر فيها الانشقاق والانفصال. وفي الوقت نفسه خرجت أنطاكية والإسكندرية والقدس من نطاق سيطرة الإمبراطورية، أخذتها الجيوش العربية فأعطى هذا أهمية لا سابق لها للتقاليد الأرثوذوكسية اليونانية التي تسير عليها بطريركية القسطنطينية بين الكنائس الشرقية.

لقد خضعت بعض النزاعات لقرارات وتوضيحات المجامع العامة، المسكونية للكنيسة كلها، إلا أن الانقسام بين روما والقسطنطينية استمر طوال الوقت بل توسع. وقد عقد آخر مجمع عام اعترفت به كل من الكنيستين الكاثوليكية اللاتينية والأرثوذوكسية اليونانية في عام 787م، وكان الفرق بين المسيحية الغربية والشرقية عندئذٍ واضحاً جداً، حتى في أكثر معانيه تحديداً وحرفية. ومازالت الكنائس الأرثوذوكسية حتى اليوم تبدو بصورة مختلفة جداً عن الكنائس الغربية سواء كانت رومانية أو أنغليكانية، ومن أوضح تلك الفروق المكان الذي يخصص لصور القديسين ومريم العذراء ويسوع المسيح في الكنائس الأرثوذوكسية، إذ إن هذه الأيقونات تعرض على حجاب خاص وفي المقامات من أجل أن يقوم الناس بتبجيلها، وهي ليست مجرد زينة بل إن الغرض منها هو المساعدة في تركيز التعبد والتعاليم الدينية، أي أنها كما يقال نقطة التقاء بين السماء والأرض. فليس من الغريب إذاً أن يؤدي هذا إلى التشديد على رسم الأيقونات وصنعها من الفسيفساء في الفن البيزنطي ثم في الفن السلافي من بعده، وبالتالي إلى إبداع أعظم التحف في هذين التقليدين. لقد كانت شعبية الأيقونات راسخة منذ القرن السادس، ولكنها ظلت سبباً للخلاف المرير أحياناً، فقط ظهرت حركة "تحطيم الأيقونات" وكانت عاملاً آخر في ابتعاد المسيحية الأرثوذوكسية اليونانية عن المسيحية اللاتينية إلى أن قررت السلطة الإمبراطورية أن تؤيد الأيقونات بحزم في القرن التاسع. صحيح أن الانقطاع الرسمي بين الكنيستين لم يحدث حتى عام 1054، إلا أن المسيحية كانت عملياً في حالة انشقاق قبل ذلك بقرون عديدة، وكان من المحتم أن يسرع هذا الانشقاق التباعد الثقافي والسياسي بين الشرق والغرب بمرور الزمن.




إعادة صنع الشرق الأدنى



في عام 500 م وبعده بقرون عديدة كانت الحضارات والثقافات على حواف الإمبراطوريتين الغربية والشرقية في حالة من الصراع والتفاعل في الوقت نفسه، ويصح هذا الوصف بالأخص في الشرق الأدنى أكثر منه على أي مكان آخر في العالم. إن الصراعات التي ابتدأت في ذلك الحين سوف تستمر قروناً طويلة، وقد لخص مؤرخ إنكليزي كبير إحدى مراحل هذا الصراع ” النزاع العالمي”، وهو اعتراف واجب بعظمة المواضيع التي كان النزاع يدور حولها. ولكن رغم التغيرات العميقة التي حلت بالمنطقة كان سكانها يشتركون بأشياء كثيرة فيما بينهم، كانت الإمبراطوريات الكبرى في إيران تهاجم الغرب منذ ألف سنة قبل عام 500ق.م، ولم تتخلل ذلك إلا هدنات قصيرة، إلا أن الحروب قد تقرب بين الحضارات أحياناً، وكان هناك في الشرق الأدنى تقليدان ثقافيان مميزان ولكن تأثيرهما متداخلان إلى درجة أنه لا يمكن فصل تاريخهما. فمن خلال الإسكندر وخلفائه كان الأخمينيون قد نقلوا إلى روما أفكار وأساليب ملكية إلهية تعود جذورها إلى بلاد الرافدين القديمة، ومن روما استمرت هذه الأفكار لتزدهر في بيزنطة، وقد سحرت فارس وروما كل منهما الأخرى كما ساهمت كل منهما في تدمير الأخرى في النهاية. ولكن روما نفسها كانت قد تغيرت، فصارت إمبراطورية مركزها القسطنطينية ومحصورة فعلياً بمصر وفلسطين وسوريا والأناضول واليونان وقسم كبير في البلقان حتى نهر الدانوب، وكانت هي القوة العظمى الممثلة للمسيحية في الشرق الأدنى.


الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://resalahmasriyah.mam9.com
Eng. Ahmedzoubaa
Admin
Eng. Ahmedzoubaa


عدد المساهمات : 1216
تاريخ التسجيل : 28/08/2010
العمر : 49

الفصل الخامس - نزاعات الحضارات  Empty
مُساهمةموضوع: رد: الفصل الخامس - نزاعات الحضارات    الفصل الخامس - نزاعات الحضارات  Emptyالثلاثاء 14 يونيو 2011 - 8:18

فارس وبيزنطة



كانت فارس هي القوى الكبرى الثانية في الشرق الأدنى في عام 500 م، وكانت مثل بيزنطة وريثة تقاليد تعود للأخمينيين وقبلهم أيضاً إلى بلاد الرافدين القديمة، وكانت إمبراطوريتها على وشك استعادة أراضيها للمرة الأخيرة عن طريق فتوحاتها التي امتدت من أرمينيا إلى اليمن، وربما ازدادت عداوة حكامها نحو الإمبراطورية الرومانية عندما أصبحت هذه مسيحية، وكان الفرس المسيحيون يتمتعون بالتسامح من الناحية النظرية، إلا أن خطر خيانتهم لبلادهم أثناء الحروب المستمرة مع روما قد جعل من معاهدة السلام التي عقدت في القرن الخامس والتي نصت على التسامح حبراً على ورق. وكان ثمة جماعة من المسيحيين تسمى النساطرة لا ينطبق عليها هذا الوصف، إذ كان الفرس متسامحين تجاههم بالفعل لأنهم مضطهدون من قبل البيزنطيين، وبالتالي فقد اعتبرهم الساسانيون مخلصين لهم من الناحية السياسية، وعلى هذه الصورة كان الدين يقسم المنطقة ويضعف عالميتها السابقة.

وحول هذين المركزين الكبيرين للحضارة كانت تتجمع دول ودويلات أصغر تابعة لهما ولكنها أقل منهما تطوراً، ووراءها كانت تمتد أراضي البرابرة. كان بين جيران بيزنطة في الشرق بعض القواعد المسيحية مثل مملكة أرمينيا، ووراءها تقع الهند، وهي مركز آخر للحضارة ولكنها بعيدة جداً ولا يمكن اختراقها وراء جبال أفغانستان وسهول نهر الهندوس. وفي شبه الجزيرة العربية كانت توجد ممالك صغيرة على درجة من الحضارة وقبائل من البدو الرحل، أما خلف نهر جيحون، آمودريا، فكانت تعيش الشعوب البدوية في آسيا الوسطى، وإلى الشمال من بيزنطة ظهرت مجموعة جديدة من القبائل هي القبائل السلافية التي استقرت على طول القسم السفلي من الدانوب، وإلى الغرب منها كانت الشعوب الجرمانية.

كان أغلب الحروب المتكررة بين بيزنطة وفارس في القرن السادس بلا نتيجة حاسمة، ولكن يمكننا اعتبارها الشوط الأخير في صراع الشرق والغرب الذي ابتدأه الإغريق والفرس قبل ذلك بألف عام، والذي بلغ ذروته عند بداية القرن السابع في آخر حرب عالمية في العالم القديم، وربما كان الدمار الذي سببته هو الضربة التي قضت على الحضارة المدنية الهلنستية في الشرق الأدنى. كان يحكم فارس في ذلك الحين كسرى الثاني، وهو آخر الملوك الساسانيين العظام، وكانت الإمبراطورية البيزنطية ضعيفة لأنها كانت قد خسرت إيطاليا كما أن شعوب السلاف والأفار القادمة من منطقة الفولغا قد بدأت بالتدفق إلى البلقان. ويبدو أن الفرصة قد سنحت لكسرى عندما قتل المتمردون إمبراطوراً بيزنطياً كفأً، فغزت جيوش الفرس أرمينية وكبدوقية وسوريا وخربت مدنها ونهبت أورشليم في عام 615 آخذة معها عود صليب المسيح الذي كان أشهر كنوزها. وفي العام التالي غزت مصر، وبعد عام آخر كانت طلائعها الأمامية على بعد ميل واحد من القسطنطينية، بل إنهم ركبوا البحر فغاروا على قبرص وانتزعوا رودس من الإمبراطورية، وبدا أنهم قد استعادوا إمبراطورية داريوس بينما كانت بيزنطة تخسر آخر ممتلكاتها في إسبانيا على الطرف الآخر من المتوسط. كانت تلك أحلك لحظة في صراع الرومان الطويل مع فارس، ولكن جاء لإنقاذها إمبراطور عسكري جديد هو هرقل – هيراكليوس- المتحدر من أصل أرمني والذي كان قد ارتقى العرش قبل بضع سنوات. لقد كشف هرقل عن كفاءته، فاستخدم القوة البحرية لإنقاذ القسطنطينية في عام 626 م عندما عجز الأفار عن نقل جيش حلفائهم الفرس لمساعدتهم في الهجوم على المدينة، وفي العام التالي اقتحم آشور وبلاد الرافدين وهي قلب النزاع في إستراتيجية الشرق الأدنى منذ القدم، وتمرد جيش الفرس فاغتيل كسرى، وعقد خليفته الصلح مع البيزنطيين. وانتهت بذلك الأيام العظيمة لقوة الساسانيين، واسترجع عود الصليب أو ما قيل أنه عود الصليب إلى أورشليم، وانتهى أخيراً الصراع الطويل بين فارس وروما، وكان مركز تاريخ العالم على وشك التحول إلى صراع آخر.


الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://resalahmasriyah.mam9.com
Eng. Ahmedzoubaa
Admin
Eng. Ahmedzoubaa


عدد المساهمات : 1216
تاريخ التسجيل : 28/08/2010
العمر : 49

الفصل الخامس - نزاعات الحضارات  Empty
مُساهمةموضوع: رد: الفصل الخامس - نزاعات الحضارات    الفصل الخامس - نزاعات الحضارات  Emptyالثلاثاء 14 يونيو 2011 - 8:19

ديانة عالمية جديدة: الإسلام



لقد انهار الساسانيون في النهاية لأن أعداءهم كانوا كثر، وكان عام 610 قد أتى بنذير شؤم لهم لأنه العام الذي هزمت فيه قوة عربية جيشاً فارسياً للمرة الأولى. وبقي ملوك الفرس قروناً عديدة غير مهتمين بالأعداء الواقعين إلى جنوبهم، إلا أن الضربات القاضية إنما أتتهم من الجنوب، من قيظ شبه الجزيرة العربية وصخورها. ولم تكن شبه الجزيرة دوماً على هذه الصورة، ففي بداية الحقبة المسيحية كانت فيها أراضي مروية ونشأت فيها ممالك صغيرة تتاجر عبر موانئها مع الهند والخليج الفارسي وشرق أفريقيا حاملة الصمغ والتوابل إلى مصر، ومنها كانت هذه البضائع تنتقل إلى أنحاء المتوسط. وقد ازدهرت تلك الممالك وكانت مستقلة عن الإمبراطوريتين الرومانية والفارسية الكبريين اللتين لم تخترقا شبه الجزيرة بصورة عميقة قط، إلا أن نظام الري قد انهار ولا نعلم الأسباب، فصارت الأرض صحراء مجدبة، وارتحلت القبائل من مدن جنوب شبه الجزيرة نحو الشمال وعادة شعوبها إلى حياة البداوة والرعي، ومنها نشأت جيوش ديانة عالمية جديدة.

إن ديانة الإسلام التي أسسها النبي محمد هي المنافس الوحيد للمسيحية كديانة عالمية في حيويتها وسعة مداها الجغرافي، وقد نشأت بالأصل من نفس جذور المسيحية، أي من الثقافات القبلية للشعوب السامية في الشرق الأدنى، كما أنها قريبة من المسيحية ومن مصدرها أي اليهودية في التشديد على أنه لا يوجد إلا إله واحد هو الله، وليس التوحيد هو الشيء الوحيد الذي تشترك به هذه الديانات الثلاث، إذ يقول المسلمون أنهم يعبدون نفس الإله الذي يعبده اليهود والمسيحيون ولكن بطريقة مختلفة.




النبي محمد



تبدأ قصة الإسلام في مكان لم نذكره بعد في تاريخنا هذا، فقد ولد محمد في مكة بشبه الجزيرة العربية لوالدين فقيرين ينتميان إلى عشيرة صغيرة من قبيلة بدوية هامة في حوالي عام 570م، وسرعان ما تيتم. ولا نعرف كيف كبر وتربى، ولكننا نعلم أن ذلك قد حدث في مكان على درجة من الأهمية، لأن مكة كانت واحة ومركزاً للحج، وكان العرب يأتون إليها من أماكن بعيدة لتبجيل حجر نيزكي أسود هو الكعبة التي كانت مركزاً للديانة الوثنية. كان بعض العرب في تلك الأيام يهوداً وبعضهم مسيحيين، ولكن أكثرهم كانوا يؤمنون بتعدد الآلهة ويعبدون آلهة الطبيعة والأرواح المختلفة، إلا أن الواحات مثل مكة التي كانت القوافل تأتي إليها، والموانئ الصغيرة التي بقيت على اتصال بالعالم الخارجي، كانت تجتذب بعض الغرباء والأجانب، وكان بعضهم قد جلب معه معرفة ديانات أرقى إلى شبه الجزيرة في أيام محمد، وكان العرب يعبدون الإله الذي يسمونه الله والذي يعبده المسيحيين واليهود.يبدو أن محمداً قد أرقته علامات تدل على اضطرابات كبيرة حلت بشعبه، لأن التجارة ونمو السكان والتأثيرات الأجنبية كانت قد بدأت تخرب ترتيباتهم التقليدية والقبلية. إذ كانت المجتمعات العربي القديمة مجتمعات رعوية منظمة حول روابط القربى، وكان النسب والسن هما اللذان يضفيان الاحترام على الإنسان وليس المال. أما الآن فلم تعد الثروة ملازمة دوماً لشرف النسب والتقدم بالسن، وكانت هذه مشكلة اجتماعية وأخلاقية كبيرة. وبدأ محمد يتفكر في سبل الله المتاحة للإنسان، وذات يوم بينما كان يتأمل في غار خارج مكة سمع صوتاً يطلب منه أن يضع رؤية جديدة لكلمة الله، وظل محمد يتحدث كنبي طوال ثلاث وعشرين سنة، ثم دون أتباعه تلك الأقوال التي جمعت بعد وفاته فأصبحت واحداً من أعظم الكتب في تاريخ العالم، ألا وهو القرآن. وهكذا سوف يصبح المسلمون أمة لها كتابها مثل اليهود والمسيحيين الذين يعتزون بكتبهم المقدسة
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://resalahmasriyah.mam9.com
Eng. Ahmedzoubaa
Admin
Eng. Ahmedzoubaa


عدد المساهمات : 1216
تاريخ التسجيل : 28/08/2010
العمر : 49

الفصل الخامس - نزاعات الحضارات  Empty
مُساهمةموضوع: رد: الفصل الخامس - نزاعات الحضارات    الفصل الخامس - نزاعات الحضارات  Emptyالثلاثاء 14 يونيو 2011 - 8:20

ديانة جديدة



لقد وضع القرآن بالدرجة الأولى أساس الديانة التي تسمى الإسلام، وهي مجموعة من المبادئ التي تجمع أخوة المؤمنين اليوم في كافة أنحاء العالم. وتعني كلمة ”إسلام” التسليم أو الرضوخ لأمر الله، وكان محمد يرى في نفسه الأداة التي أوصل الله من خلالها وصيته إلى الناس، وقد علم المسلمين أن هذه الوصية ابتدأت في الماضي بأنبياء إسرائيل الكبار، وبيسوع أيضاً والذين كانوا جميعهم أنبياء حقيقيين، ولكنه صار على ثقة بأنه هو آخر الأنبياء وبأن الله أوصل من خلاله رسالته الأخيرة إلى البشرية. لقد وضعت تلك الرسالة معتقداً وشريعة في السلوك لمواجهة حاجات شعب محمد نفسه، ولكنها سوف تثبت تقبلها الواسع لدى شعوب أخرى أيضاً، وكان جوهرها هو التشديد على ألا يعبد إله إلا الله، أي أن الإسلام دين توحيدي بلا مهادنة، ومن اعتراضات المسلمين على المسيحية اعتقادهم أنها تؤمن بتعدد الآلهة لأنها أعطت ليسوع والروح القدس نفس الأهمية التي تعطيها لله الأب، وفرض الإسلام أيضاً سلسلة من الشعائر الدينية الضرورية أهمها الصلاة بصورة منتظمة وتجنب الدنس، وهذا ما يحتاجه المرء لتأمين خلاصه.

كان الإسلام عقيدة بسيطة ولكنها ثورية في الوقت نفسه، وقد بشر بأن الذين ظلوا متعلقين بالآلهة القديمة للمجتمع العربي سوف يكون مآلهم الجحيم، وما كان لهذا المعتقد أن يكسبه شعبية بين العرب غير المسلمين، كما أدى تشديده الكبير على أهمية الأخوة بين المؤمنين إلى انقلاب حقيقي لأنه كان تجاوزاً للولاء القبلي، والحقيقة أن بعض أقرباء محمد أنفسهم قد انقلبوا عليه فغادر مكة في عام 622م ومعه حوالي مائتين من أتباعه واتجه شمالاً إلى واحة أخرى تبعد حوالي 400 كم، وسوف تسمى المدينة أي "مدينة الرسول". فنظم هناك جماعة جديدة، وصارت الآيات تركز على الأمور اليومية والعملية مثل الطعام والشراب والزواج والحرب، وعلى هذا المبادئ سوف يبنى الإسلام كحضارة متميزة. لقد كانت هذه الهجرة إذاً نقطة التحول في قصة الإسلام الأولى، واعتبرت منذ ذلك الحين بداية التقويم الإسلامي الذي ما زال مستخدماً في كافة أنحاء العالم، وكان هذا انفصالاً عن المجتمع البدوي التقليدي ولو لم يظهر تأثيره الكامل في البداية؛ لأن محمداً كان في الحقيقة يؤسس مجتمعاً من نوع جديد.

ومات محمد في عام 632 م ، وورث سلطة تفسير تعاليمه رجل يلقب بالخليفة، كان جميع الخلفاء الأوائل أقرباء لمحمد بالدم أو بالمصاهرة، وعلى عهدهم هزمت قبائل جنوب شبه الجزيرة، وسرعان ما انتشر القتال إلى الشمال، إلى غرب سوريا وجنوب بلاد الرافدين، وسرعان ما ظهرت أيضاً المعارضة للخلفاء الأوائل من أسرة محمد الذين اتهموا بأنه مستغلون، وبدا وكأن الخلافة المبنية على السلطة في أمور الدين والعقيدة قد تراجعت خلال سنوات قليلة إلى منصب دنيوي. وفي عام 661 م خلع الخليفة الأخير وقتل، وانتقل منصبه إلى أسرة أخرى هي أسرة الأمويين التي احتفظت به قرناً واحداً تقريباً، وعندما تنازلوا عنه لأسرى أخرى اغتصبته لنفسها كان الإسلام قد أعاد صنع خريطة العالم.




ديانة الفتوحات


كان الإسلام في سنواته الأولى يبدو ضعيفاً للغاية من الناحية الدنيوية، مثل المسيحية من قبله، وكان فرص نجاح هاتين الديانتين عند موت كل من يسوع ومحمد فرصاً زهيدة، وما كان ليخطر ببال أحد ما عدا أتباعهما أنهما سوف يقدران على الاستمرار، فما بالك أن تصبحا قوتين كبريين في تاريخ العالم، ولكنهما أصبحتا بالفعل، ولو بطرق مختلفة جداً. كان الإسلام منذ البداية ديانة فتوحات، ومنذ أيام محمد كان جهاده العسكري قد ابتدأ، لقد استخدم محمد المدينة كقاعدة عسكرية لكي يخضع الذين عارضوه في مكة والقبائل المجاورة، فالذين استسلموا رحب بهم ضمن الأمة، أي أخوية المؤمنين التي تسمو على التقسيمات القبلية، إلا أن الإسلام احترم القبيلة والبنية الأبوية القديمة بشرط ألا تتدخل في شريعته، كما ثبت مكانة مكة القديمة كمركز للحج، ولم يطرد من المدينة إلا الذين عارضوا الديانة الجديدة، ومنهم العرب اليهود.
ومن هذه البداية تتالت التوسعات العسكرية بعد موت الرسول بوقت قصير، عندما هاجمت الجيوش العربية الإمبراطوريتين الساسانية والبيزنطية، والمذهل أنها هاجمتهما معاً في الوقت نفسه، فخلال خمس سنوات طرد العرب ”الروم” من سوريا وأخذوا القدس، التي مازالت حتى اليوم أحد الأماكن المقدسة للإسلام، وسرعان ما أخذوا بلاد الرافدين من الفرس ومصر من البيزنطيين، كما شكل أسطول عربي فبدأت الغارات على قبرص التي اقتسموها فيما بعد مع البيزنطيين، وفي عام 700 م كانوا قد احتلوا قرطاجة وأسلموا البربر وجعلوهم حلفاء لهم فصار كامل ساحل شمال أفريقيا بيد المسلمين. أما الإمبراطورية الساسانية فكانت قد انهارت منذ زمن طويل، وطرد آخر ملوكها من عاصمته في عام 637 بعد سلسلة من الهزائم على يد الجيوش العربية، ومات قرب مروة في عام 651 م بعد أن ناشد بلا جدوى مساعدة إمبراطور الصين. واستمرت حملات العرب فوصلت شرقاً حتى كابول عاصمة أفغانستان، وعند بداية القرن الثامن عبروا جبال هندوكوش لغزو الهند، واستقروا في السند لبعض الوقت بينما كانوا ينهبون إقليم غجرات، وفي الوقت نفسه تقريباً عبر عرب آخرون مضيق جبل طارق واكتسحوا إسبانيا حيث قضوا على مملكة الفيزيغوط القديمة، وفي عام 717 م حاصروا القسطنطينية للمرة الثانية ولكن من دون أن يحرزوا نجاحاً، وكانوا عندئذٍ قد توغلوا في القوقاز أيضاً.
لقد كانت هذه تقريباً أعلى نقطة بلغتها الفتوحات العربية؛ ويقال إن أحد جيوشهم قد بلغ الصين في بداية القرن الثامن، وسواء كان هذا صحيحاً أم لا فإنهم قد أحرزوا على الصينيين نصراً عظيماً، وأخيراً في آسيا في أعالي جبال البامير في عام 751 م قبل أن يهزمهم شعب الخزر، فاستقروا عندئذٍ وجعلوا حدودهم عبر القوقاز وعلى طول نهر جيحون. قبل ذلك بسنوات قليلة أي في عام 732 م، أي بعد قرن تماماً من موت محمد كان جيش عربي آخر قد صد قرب بواتييه، فكانت هذه أبعد نقطة بلغوها في غرب أوروبا ولو أنهم ظلوا يغيرون غارات عميقة خلال السنوات القليلة التالية، إلا أن المد كان قد انحسر أخيراً.
من أسباب النجاح المذهل أن عدوّي العرب الأولين أي بيزنطة وفارس الساسانية ظلا يتحاربان فيما بينهما لزمن طويل، كما كانت لديهما مشاكل هائلة على جبهات أخرى. فقد كان على البيزنطيين أن يعالجوا أمر الأفار والبربر، وكان على الساسانيين أن يعالجوا أمر الغزاة القادمين من آسيا الوسطى والذين كان أفظعهم الهون. وكان هناك أيضاً ضمن الإمبراطورية البيزنطية أيضاً شعوب مستاءة مثل شعب مصر أغضبها سوء حكم القسطنطينية ومضايقتها الدينية، فكانت مستعدة لاستقبال سادة جدد. وكان انتصارات العرب الأولى حاسمة، لأنه بعد الإطاحة بفارس لم يعد هناك في منتصف القرن السابع أي قوة كبرى تصدهم إلى الغرب من الصين ما عدا بيزنطة، ولم يكن لدى العرب ما يخسرونه، فقواتهم يدفعها الفقر الذي أتت منه والإيمان بأن الموت في ساحة المعركة ضد الكفار سوف يدخلها الجنة، كانوا يؤمنون أنهم يقاتلون في سبيل الله، فكان يحركهم مثال عظيم مثل المسيحيين ومثل الثوار في أزمنة لاحقة، وقد جعلهم هذا الإيمان شجعاناً فدائيين وقساة، وكانت النتيجة سجلاً باهراً من الفتوحات التي بدا معها أن الإسلام قد يحكم العالم كله.




[b]العالم العربي الإسلامي




لم يشكل الإسلام وحدة سياسية قط، وكان أهم مركزين أساسيين أولين له هما الخلافتان الأموية والعباسية. وقد انتهت الخلافة الأموية في عام 750 م عندما أطاح بآخر خليفة أموي رجل اغتصب منصبه واتخذه لنفسه ثم أكمل انتصاره بعملية احترازية قتل فيها جميع ذكور العائلة المهزومة، وبهذا ابتدأت الخلافة العباسية كقوة سياسية حقيقية حتى منتصف القرن العاشر وبقي ثمة خليفة عباسي بالاسم حتى القرن الثالث عشر، وعلى عهدها بلغت الحضارة العربية أمجادها. وعندما زالت سيادة العرب عليها في النهاية كان الذين حلوا محلهم قد أصبحوا هم أيضاً مسلمين، وعلى عهدهم سوف تبلغ الحضارة الإسلامية ذرى جديدة في فارس والهند وغيرها.

في بداية عصر العباسيين كان الإسلام متأثراً جداً بأصوله العربية، وإن أوضح العلامات على ذلك هي استخدام اللغة العربية، ولما كان القرآن مكتوباً بها فقد انتشرت في كافة أرجاء العالم الإسلامي. ورغم أن الخلافة العباسية بقيت تتحدث باللغة الغربية فإنها قد ابتعدت كثيراً عن ثقافة القرن السابع الفجة التي انتشرت من الصحراء عن طريق الفتوحات. كان العرب في تلك الأيام الأولى يحاولون الانفصال عن الشعوب التي غزوها، ولم يتدخلوا في التقاليد المحلية، إذ بقيت اللغتان اليونانية والفارسية مستخدمتين حتى القرن الثامن كلغتين للحكم في دمشق وقطيسفون (طيسفون عاصمة الساسانيين السابقة) وكانوا يعيشون كطبقة عسكرية في مدن منعزلة تعتمد على الضرائب المفروضة على المناطق المجاورة، فلا يتدخلون في التجارة ولا يملكون الأرض. إلا أن هذا الانفصال قد تلاشى رويداً رويداً، فصار اعتناق الإسلام أكثر شيوعاً وصارت مدن الحاميات مثل البصرة والكوفة بالتدريج مدناً حقيقية تعمل بالتجارة، وعرف الشرق الأدنى من جديد إمبراطورية عالمية وجدت فيها تقاليد مختلفة كثيرة مكاناً لها ضمن ثقافة يدعمها نظام إمبراطوري، ويرى بعض العلماء أن الثقافة العباسية كانت آخر ازدهار للهلنستية.


[/b]
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://resalahmasriyah.mam9.com
Eng. Ahmedzoubaa
Admin
Eng. Ahmedzoubaa


عدد المساهمات : 1216
تاريخ التسجيل : 28/08/2010
العمر : 49

الفصل الخامس - نزاعات الحضارات  Empty
مُساهمةموضوع: رد: الفصل الخامس - نزاعات الحضارات    الفصل الخامس - نزاعات الحضارات  Emptyالثلاثاء 14 يونيو 2011 - 8:21

الخلافة العباسية



كان المسلمون من غير العرب يكرهون سادتهم العرب خاصة في المقاطعات الشرقية، أي التي كانت فارسية في الماضي، وكان استياؤهم من أسباب وصول العباسيين إلى السلطة، وقد انتقلت الخلافة من دمشق عاصمة الأمويين إلى بغداد على نهر دجلة. وكانت بغداد في ذلك الحين قرية مسيحية صغيرة ثم صارت مدينة هائلة تضاهي القسطنطينية، وربما بلغ عدد سكانها نصف مليون نسمة، وكانت تعج بالحرفيين وبوسائل الترف البعيدة كل البعد عن الحياة البسيطة التي عاشها الجنود العرب الأوائل في الإسلام، وامتزجت فيها الأفكار الإسلامية والمسيحية والهلنستية واليهودية والزرادشتية، وحتى الهندوسية بين تجار آتين من بلاد كثيرة، وقد بلغ ازدهار بغداد ذروته على عهد الخليفة الشهير هارون الرشيد الذي يقال إنه الحاكم الذي روت له شهرزاد حكاياتها عن ألف وليلة.

ولكن بالرغم من كل هذا، ومن أن الخلافة صارت أشبه بملكية شرقية من النوع المألوف وبعيدة عن المنصب الروحي المحض، فإنها لم تنحرف عن الإسلام قط، بل كانت هذه الديانة الجديدة تتخلل الإمبراطوريات العربية وجميع الدول التي نشأت منها وحلت محلها. لقد شيدت في كافة أنحاء العالم الإسلامي مساجد يجتمع فيها المؤمنون كل يوم للصلاة متجهين نحو مكة، وكانت تتلى فيها كلها الصلوات نفسها والشريعة نفسها، إن شبه العقيدة الإسلامية بالمسيحية قد جعل بعض رجال الدين البيزنطيين يعاملون الإسلام على أنه هرطقة مسيحية، وليس ديانة جديدة، ولكن الحقيقة أنه كان في مبادئه الأساسية وفي شعائره اليومية أيضاً مختلفاً جداً عن المسيحية. لقد حرم الإسلام لحم الخنزير مثل اليهودية وحرم الخمر أيضاً وأمر بالحج إلى مكة، ويوصى جميع المسلمين حتى اليوم بأداء هذا الحج مرة في حياتهم، كما أنه فرض واجب الزكاة للفقراء وسمح بالاحتفاظ بالعبيد، ولكنه أوصى بحسن معاملتهم، وأمر قبل كل شيء بأداء الصلاة بصورة منتظمة، ولكن ربما كان أكثر ما لفت أنظار غير المسلمين هو تساهله في موضوع تعدد الزوجات.




العلوم والفنون الإسلامية



لقد ساهم القرآن في قولبة الثقافة الإسلامية من نواح أخرى كثيرة أيضاً، وربما كانت عناية الإسلام الكبيرة بالكلام، وفنونه وأشكاله المحكية والمكتوبة تعود في جذورها إلى أهمية رواة القصص في المجتمعات القبلية، إلا أن القرآن قد رفع مكانة التلاوة والقراءة إلى مرتبة أعلى أيضاً، بل إنه في الحقيقة قد جعل من اللغة العربية لغة أدبية. وكثيراً ما كان المثقفون المسلمون يكتبون الشعر، وقد بلغت الخلافة العباسية مستوى عالياً من العلم، وكان أساسه الأكبر في علوم الدين، لأنهم كانوا ينظرون إلى كل شيء من تلك النظرة، إلا أنه أعطى على كل حال رجالاً على درجة عالية من الثقافة. ويبدو أن الكتابة على عهد الخلافة العباسية كانت أوسع انتشاراً منها في أي حضارة معاصرة، وقد ترجمت في تلك الحقبة كتب كثيرة إلى العربية، وساهم هذا مساهمة كبيرة في نشر نصوص اليونان الهلنستية والكلاسيكية في أوروبا.

وتفسر حركة الترجمة هذه بزوغ عصر مجيد من إنجازات الإسلام العظيمة في العلوم والرياضيات. لقد بنى العرب معارفهم على أعمال الإغريق واستلهموا أعمال الفرس والهنود وإن الأرقام التي نستعملها اليوم ونسميها عربية هي بالأصل هندية ولكنها من وضع عالم رياضيات عربي، فتفوقت الثقافة العربية في علوم الفلك والطب والرياضيات، وظلت كتب تدريس الطب العربية وأكثرها من وضع الأطباء الفرس تدرس طوال قرون في أوروبا ككتب مدرسية معتمدة. ومازالت اللغات الأوروبية تحمل آثار الحضارة العربية، مثل كلمتي zero, cipher وكلاهما من الصفر وalgebra من الجبر وفي مجال الموسيقى zither, guitar وكلاهما من القيثارة وlute من العود، وهناك مصطلحات كثيرة في التجارة أيضاً مثل tariff من التعرفة وكلمة douane الفرنسية من الديوان التي تعني مخفر الجمارك و magazine بمعنى المخزن.

كان المسافر الأوروبي أو حتى الصيني يجد مدن الخلفاء وثقافتهم مختلفة جداً عما يعرفه في بلده، وليس بسبب اختلاف اللباس وحده، لقد بقي الفن الإسلامي زمناً طويلاً يهتم بالتخطيط والزخرفة الدقيقة بدلاً من رسم الأشياء لأن تعاليم الإسلام منعت تصوير جسم الإنسان ووجهه، أما المنمنمات التي تروق للذوق الغربي اليوم فلم تظهر إلا لاحقاً في الإمبراطوريات الإسلامية في فارس والهند. وفي مجال البناء أخذ المسلمون اختراع القبة عن الرومان ولكنهم سرعان ما توصلوا إلى أسلوبهم المميز والجذاب، وربما كان الدافع إليه رغبة العرب المنتصرين في البناء بأسلوب يميزهم عن شعب الأراضي التي فتحوها. إن أول قبة في الإسلام هي قبة الصخرة التي بنيت في القدس في عام 691، وهي مزار مقدس عند اليهود والمسلمين على السواء، لأن اليهود يؤمنون أن إبراهيم كان على وشك التضحية بابنه إسحق عليها، بينما يؤمن المسلمون أن البني قد عرج منها إلى السماء، وسرعان ما بينت قبب إسلامية أخرى، واليوم صار المسجد ومئذنته التي ينادي منها المؤمنون إلى الصلاة مشهداً مألوفاً في كل أرجاء العالم وليس في بلاد الإسلام وحدها.


الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://resalahmasriyah.mam9.com
Eng. Ahmedzoubaa
Admin
Eng. Ahmedzoubaa


عدد المساهمات : 1216
تاريخ التسجيل : 28/08/2010
العمر : 49

الفصل الخامس - نزاعات الحضارات  Empty
مُساهمةموضوع: رد: الفصل الخامس - نزاعات الحضارات    الفصل الخامس - نزاعات الحضارات  Emptyالثلاثاء 14 يونيو 2011 - 8:22

حدود الإسلام الأبعد



كان قلب الإسلام دوماً هو شبه الجزيرة العربية والشرق الأدنى القديم الذي حكمه الخلفاء، أي البلاد الواقعة بين مصر في الغرب وجبال هندوكوش وما وراء بحر قزوين في الشرق والشمال. ولكن الإسلام انتشر بعيداً خارج هذه المنطقة، لأنه كسب بعد الفتوحات أتباعاً جدد فانتقل بسرعة على طول ساحل أفريقيا إلى إسبانيا، بينما احتل عرب آخرون أجزاء من صقلية وبعض الجزر الأخرى في البحر المتوسط، ولو أن الفتوحات خارج أفريقيا لن تبقى بلاداً إسلامية إلى الأبد.

الفصل الخامس - نزاعات الحضارات  Chp5-3

توسع الدولة الإسلامية

ثمة فرع من العائلة الأموية في إسبانيا لم يقبل قط بالإطاحة بخلافتهم، بل أسس فيها إمارة أي مملكة مستقلة في عام 756 في قرطبة، وسوف يحكم هؤلاء طوال قرون جزءاً كبيراً من جنوب إسبانيا، حيث سيبلغ المجتمع الإسلامي من بعض النواحي ذرى جديدة في الثقافة والحضارة أعلى مما بلغه الشرق من قبله، كما أن إسبانيا العربية أصبحت في القرن العاشر مركزاً لخلافة جديدة منافسة للخلافة القديمة. ولكنها سرعان ما وجدت نفسها في موقع الدفاع عندما راحت الممالك المسيحية تضغط عليها إلى أن سقطت قرطبة بأيديهم في عام 1236م ، ثم استغرقت عملية استعادة المسيحيين لشبه الجزيرة بأكمله قرنين آخرين، وانهارت الحضارة الإسلامية البديعة في الأندلس أخيراً في القرن الخامس عشر.

وتأسست أيضاً خلافة جديدة أخرى في القرن العاشر في مصر، فكانت هذه علامة على التمزق السياسي في بلاد الإسلام المركزية التي لن تتحد بعد ذلك أبداً ولو أنها بقيت مسلمة، وفي هذه الأثناء تغلغل الإسلام إلى آسيا الوسطى والهند والسودان وحوض النيجر بين القرنين الثامن والثاني عشر، وحمله التجار العرب إلى شرق أفريقيا عن طريق الساحل، وإلى غربها بواسطة القوافل عبر الصحراء الكبرى، كما حملته قوارب الدهو التجارية العربية عبر خليج البنغال إلى ماليزيا وإندونيسيا. لقد فرض الفاتحون الإسلام على جزء كبير من الهند، وعندما استطاع مبشروهم أسلمة المغول ضمنوا أن تصل ديانتهم في النهاية إلى الصين، إن قصة انتشار الإسلام هذه هي قصة مذهلة في نجاحها، ولكن نموه السريع قد جعل من المستحيل عليه الحفاظ على وحدة سياسية ولو مثل التي كانت له على عهد الخلفاء. كما أنه تطور من نواح كثيرة خارج تعاليم الرسول، وأصبح باختصار قلب حضارة معقدة ومتنوعة تشكل تحدياً دائماً للتقاليد الأخرى، وقادرة في الوقت نفسه على التفاعل الغني معها.





عصر بيزنطة الكبير: صنع أوروبا السلافية



سوف تكون بيزنطة درعاً تاريخياً للمسيحية الغربية لأنها حمتها من الفرس أولاً ثم حمتها لزمن طويل من خطر أكبر بكثير هو الإسلام، عدا عن الموجات المستمرة من الشعوب البربرية في الشمال، فقط ظلت الإمبراطورية الشرقية متراساً للعالم الإغريقي الروماني القديم في المتوسط، حتى بعد أن طوقها المسلمون بفتحهم شمال أفريقيا وإسبانيا ولم تزل في النهاية إلا بعد أن عاشت ألف سنة. إلا أن الرياح كانت مؤاتية للإسلام منذ القرن السابع عندما فقدت الإمبراطورية الشرقية كل الأراضي التي كانت قد استردتها من الفرس، بل إن الجيوش العربية حاصرت القسطنطينية نفسها طوال خمس سنوات 673-678 م وفي تلك الأثناء اجتاحت القبائل المسماة قبائل السلاف كلاً من تراقيا ومقدونيا، بينما عبرت قبائل البلغار نهر الدانوب.

وفي عام 717 م ارتقى العرش إمبراطور من الأناضول هو ليون الثالث، وكانت هذه علامة على وصول التأثير الشرقي إلى قمة الإمبراطورية. كان ليون على درجة عالية من الكفاءة، إذ تمكن من استعادة جزء كبير من أراضي الإمبراطورية السابقة كما ثبت هو وابنه الحدود بين الإمبراطورية والخلافة، فاستعادت الإمبراطورية إقليم الأناضول وأحكمت قبضتها عليه رغم حصول المناوشات والغارات. وكانت قد عقدت حلفاً هاماً مع شعب بدوي ثبت قدميه في جنوب روسيا هو شعب الخزر. كان شعب الخزر بمثابة حاجز للإمبراطورية أمام تقدم الإسلام من تلك الناحية، أما في الغرب فكان نفوذ الإمبراطورية ضعيفاً لأنها ضيعت رافينا ولم يبق لها إلا مواطئ أقدام صغيرة في إيطاليا وصقلية، ولو أن ليون أعاد نفوذ بيزنطة إلى أطراف البلقان حيث ستتمكن الإمبراطورية من احتواء خطر البلغار فيما بعد، وكانت الفترة الممتدة حتى القرن الحادي عشر بالإجمال فترة نجاح وتعافي، فقد استعادت كلاً من قبرص واليونان وأنطاكية واستمر الصراع لاسترجاع شمال سوريا، ورغم حدوث مشاكل داخلية في السلالة وخلافات دينية استطاعت بيزنطة أن تلعب دورها كقوة كبرى، وقبل أن تحل الأزمة العالمية القادمة كانت قد أنجزت دوراً تاريخياً عالمياً آخر هو صنع السلافية المسيحية. لقد نصرت بيزنطة الشعوب السلافية ومن خلال هذه العملية منحتهم الحضارة أيضاً، وربما كان إنجازها المضاعف هذا هو أطول الأشياء التي خلفتها عمراً، إذ لولا تنصر الشعوب السلافية لتغير العالم كثيراً.




الشعوب السلافية (الصقالبة)

مازال الخلاف قائماً حول المكان الذي نشأ منه السلاف في الأساس، وتشكل كثير من الأراضي السلافية خاصة في روسيا جزءاً من الامتداد الواسع الذي تلتقي فيه أوروبا بآسيا، وكانت الشعوب البدوية تنتقل عبرها طوال ألوف السنين، ومنها اندفعت هجرات الشعوب الكبرى المرة تلو المرة. لقد تمكن السلاف من التمسك بأراضيهم التي تقابل بولندا وروسيا الحاليتين رغم تعرضهم لمضايقة السقيتيين والأفار والقوط والهون، وبين القرنين الخامس والسابع كانوا قد ثبتوا أقدامهم على الطرفين الشرقي والغربي لجبال الكربات، وبدؤوا بالتحرك جنوباً بتأثير ضغوط تشبه الضغوط التي دفعت هجرات الشعوب الأخرى، وفي القرن السابع كانت تحميهم في الطرف الشرقي إلى حد ما شعوب أخرى استقرت هناك.

وانتشرت قبائل السلاف في البلقان رويداً رويداً، إلا أن أول مملكة سلافية نشأت هي مملكة البلغار، وهم ليسوا بسلافيي الأصل، بل كانوا على الأرجح من الهون ثم صاروا سلافاً عن طريق اتصالهم بالسلافيين وتزاوجهم معهم. ولكن يمكننا أن نعتبر أن مملكتهم هذه كانت سلافية عندما اعترفت بيزنطة بوجودها في عام 716 م، وكان شعبها عندئذٍ قد تبنى أساليب سلافية كثيرة. وسوف يصبح البلغار مصدر متاعب كثيرة للإمبراطورية، فقد احتلوا أراضي كانت بالأصل لها، كما أنهم وصلوا بغاراتهم حتى القسطنطينية نفسها جنوباً، وكان المجهود اللازم لصدهم يعيق دوماً جهود بيزنطة في استعادة مكانتها في الغرب. ويعرف أحد الأباطرة بلقب ”قاتل البلغار”، ولكن البلغار تمكنوا في بداية القرن التاسع من قتل إمبراطور آخر في ساحة المعركة، فكان هذا أول إمبراطور يقتل بأسلحة البرابرة منذ خمسمائة عام، وقد صنعوا من جمجمته كأساً لملكهم.

وأرسلت بيزنطة للبلغار مبشرين كانوا يمزجون الدبلوماسية بالتنصير، وأهمهم رجلا كنيسة عظيمان في القرن التاسع هما الراهبان القديسان كيرلس وميثوديوس. ومازال اسم كيرلس حياً في الأبجدية التي ابتكرها من أجل اللغات السلافية، وهي الأبجدية الكيرلسية المشتقة من الأبجدية اليونانية، والتي مازالت نسخ مبسطة منها تستخدم في صربيا وبلغاريا وروسيا. ثم جاء ملك بلغاري أو قيصر كما كان يسميه البيزنطيون، وقبل المعمودية المسيحية، ولم تكن هذه نهاية الصراع بعد ولكنها كانت خطوة هامة، وقد سمى أحد ملوك البلغار في القرن العاشر نفسه إمبراطور الرومان وهاجم القسطنطينية ولكن بلا جدوى، وأخيراً وفي عام 1014 تمكن البيزنطيون من ضرب البلغار ضربة قاضية أركعتهم، وفقأ الإمبراطور الذي هزمهم عيون 15.000 من سجنائه البلغار وأرسلهم إلى وطنهم ليكونوا عبرة لأهل بلدهم، فمات حاكم البلغار آنذاك ربما من هول الصدمة، وسرعان ما أضحت بلغاريا مقاطعة بيزنطية.


الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://resalahmasriyah.mam9.com
Eng. Ahmedzoubaa
Admin
Eng. Ahmedzoubaa


عدد المساهمات : 1216
تاريخ التسجيل : 28/08/2010
العمر : 49

الفصل الخامس - نزاعات الحضارات  Empty
مُساهمةموضوع: رد: الفصل الخامس - نزاعات الحضارات    الفصل الخامس - نزاعات الحضارات  Emptyالثلاثاء 14 يونيو 2011 - 8:23

كييف روس

في تلك الأثناء كانت المسيحية قد ازدادت انتشاراً نحو الشمال والشرق، على الامتدادات العليا لأنهار روسيا كانت تعيش جماعات سلافية تحكمها أرستقراطية تشتغل بالحرب والتجارة، هذه الارستقراطية هي شعوب اسكندنافية شمالية من الأصول التي تسمى في أوروبا الغربية ”الفايكنغ أو النورمان” ولكنها كانت تسمى ”الفاريغ” في روسيا. كان الفاريغ قد هزموا السلاف بعد أن نزلوا عبر الأنهار من الشمال وكانوا أشداء وواسعي الحيلة ومتوحشين. وقد غاروا على القسطنطينية وحاربوا الشعوب المقيمة في السهوب وبلغوا بتجارتهم مدينة بغداد. واستقر أحد أمراءهم واسمه روريك فيما يسمى اليوم مدينة نوفغورود على بحيرة ايلمن في حوالي 860 م حسب التقاليد الروسية، وطالما كانت هناك طبقة نبلاء في روسيا كان جميع أمراءها يدعون أنهم متحدرون من روريك هذا.

وتحول المركز الرئيسي لسلطة الفاريغ وتجارتهم خلال العقود القليلة التالية إلى كييف على نهر الدنيبر، وكانت تسمى كييف روس، وكانت على درجة كبيرة من الأهمية في الدبلوماسية البيزنطية، فأحياناً كان على الإمبراطورية أن تصد أمراءها المحاربين وأحياناً قد تجعل منهم حلفاء مفيدين لها. وفي النهاية قبل أمير روسي في عام 986 م المسيحية ديناً له ولشعبه، فكان هذا قراراً عظيم الأهمية يكاد يساوي أهمية قرار قسطنطين في رسم مصير البشرية لأنه هو الذي شكل تاريخ روسيا منذ ذلك الحين، وقد اعترف مواطنوه الروس بهذا بعد مائتي عام وطوبوه باسم القديس فلاديمير. وكما هي الحال في قصة قسطنطين، لا نعلم بالضبط مدى الدور الذي لعبته كل من القناعة الشخصية والحسابات السياسية في تنصر فلاديمير، ولكننا نعلم أنه عندما تزوج من أميرة بيزنطية كانت قصة أعظم الأمم السلافية قد ابتدأت.

ربما كانت كييف أغنى بكثير من أغلب مدن أوروبا الغربية في القرن العاشر، وقد صارت الآن مركزاً مسيحياً، إذ راح فلاديمير وخلفاؤه يفرضون العقيدة الجديدة بالقوة وبمساعدة الكهنة البلغار وإشراف بطريرك القسطنطينية الذي كان يعين مطران كييف، كما تبنت روسيا الأبجدية الكيرلسية وطقوس الكنيسة الأرثوذوكسية. وفي بداية القرن الحادي عشر كانت كييف في ذروة بهائها ونفوذها، وكان حاكمها العظيم ياروسلاف الحكيم يفاوض الحكام البعيدين في غرب أوروبا فضلاً عن بيزنطة، وقد رأى أحد زوار كييف الغربيين أنها تضاهي القسطنطينية. وقام ياروسلاف برعاية المؤسسات التعليمية ونشر أول مجموعة قوانين روسية، وفي عهده أيضاً وضع كتاب ”التاريخ الأول ” وهو واحد من أول الأعمال الأدبية الروسية ودفاع عن عمل أمراء كييف في توحيد روسيا تحت راية المسيحية.




بزوغ أوروبا الشرقية



بعد زمن قصير من هذا العصر العظيم ازدادت المشاكل الداخلية والخارجية في كييف، كما كانت قد ظهرت بولندا المسيحية، إلا أن بولندا ارتبطت بالمسيحية الغربية وليس الأرثوذوكسية، لأن حاكمها اختار أن يقبل سلطة بابا روما، وكانت تعاني من ضغط الأمراء الألمان في الغرب ومن منافسة أرثوذوكسية في الشرق، وقد كتب لشعبها مصير تاريخي شاق، ومليء بالبطولات والمآسي لأنه أمة من سلافية من ناحية الأصل واللغة ولكنها أوربية غربية ورومانية كاثوليكية من ناحية الثقافة والدين، فكانت دوماً ساحة للصراع بين أعداء رهيبين من الطرفين.

لقد نشأت ممالك سلافية أخرى في بوهيميا ومورافيا، وعند بداية القرن الثاني عشر صارت هناك أوروبا سلافية مسيحية، إلا أنها لم تشكل إلا من ناحية الأصل العرقي، وهي رابطة لم يكن لها وزن كبير في ذلك الزمن، بل كانت مقسمة بين فرعي الكنيسة أي كنيسة روما والكنيسة الأرثوذوكسية، فضلاً عن أن طبيعة أراضي البلقان قد قسمت الناس المقيمين فيها إلى شعوب صغيرة. وكان هناك أيضاً شعب غير سلافي هو الشعب المجري الذي أتى من جنوب جبال الكربات ليستقر في وادي الدانوب بين الشعوب السلافية، والأسوأ من هذا أن السلافيين رغم استقرار علاقتهم ببيزنطة كانوا محاطين بالأعداء من الغرب والشرق معاً، فمن الغرب كانوا تحت ضغط الألمان الذين اندفعوا شرقاً بزعامة تنظيم عسكري ديني يسمى فرسان التوتون، وكان هؤلاء يعتبرون حربهم ضد السلاف بمثابة حرب مقدسة، وفي الشرق كانت الأمور أسوأ حتى من هذا، إذ حل بكييف في عام 1240 حدث رهيب عندما احتلها ونهبها شعب آسيوي متوحش هو شعب المغول.




[b]شعوب آسيا الوسطى




لقد أتى أولئك المغول من آسيا الوسطى، وهي منطقة يمكننا أن نعرفها بأنها المنطقة القابلة للسكن من آسيا وغير الخاضعة بصورة فعلية لأي دولة كبيرة مثل الصين أو فارس، وغير المتأثرة كثيراً بأي من المراكز الكبرى للحضارة. والحقيقة أن امتداد آسيا الوسطى كان دائم التغير، ويمكننا أن نعرفها أيضاً بأنها القسم من آسيا المناسب لحياة البدو. وهي من الناحية الجغرافية بشكل ممر ضخم ومرتفع تحده من الشمال غابات سيبيريا، بينما يتكون جداره الجنوبي من الصحارى وسلاسل الجبال والهضاب الممتدة من بحر قزوين عبر شمال إيران، وأفغانستان حتى جبال هندوكوش والتبت. إن أكثر أراضي هذه المنطقة عبارة عن سهوب قاحلة، وشديدة البرد في الشتاء، ويفسر هذا الأمر انعزال شعوبها الطويل عن التأثيرات الخارجية إلى أن جاءت الحملات التبشيرية المسيحية ونصرتها، ومنذ ذلك الحين تمكن كل من البوذيين والمسلمين والمسيحيين من هداية بعضها إلى دياناتهم. وكانت الثروات التي تتراكم في هذه المنطقة تتجمع عادة في واحات يلتجئ إليها الناس، وكثيراً ما أثارت غيرة البدو وحسدهم، وكانت بعض أشهر تلك الواحات مثل سمرقند ومرو وبخارى محطات على طرق القوافل الممتدة من الصين إلى الغرب والتي تسمى طريق الحرير.

لقد تعلمت الشعوب البدوية المقيمة في تلك السهوب طريقة معينة في الحياة تناسب بيئتها هذه، ومع أنهم ظلوا أميين لزمن طويل فقد كانوا يتمتعون بمهارات كثيرة جعلت منهم أعداء مخيفين كثيراً ما لعبواً دوراً حاسماً في تاريخ العالم. وكان أي اختلال صغير في المناخ أو السياسة في الشرق يعني الحياة أو الموت بالنسبة لتلك الشعوب التي تعيش على المرعى، فيدفعها إلى التنقل والترحال ويجعلها تصطدم بالشعوب الواقعة إلى الجنوب والغرب منها، وعندما تحصل تحركات كهذه على مجال واسع فإنها تصنع التاريخ. من بين تلك الشعوب الشعب السقيتي الذي فتن الإغريق وضايق الفرس، وكان السقيتيون في بداية الحقبة المسيحية الحلقة الأخيرة من سلسلة طويلة من الشعوب، إذ كانت تدفعهم من الخلف شعوب أخرى ووراءها كان شعب الهسيونغ نو هم أجداد الهون، وهؤلاء أيضاً دفعهم إلى الغرب تدخل أباطرة الصين. كانت تحدث إذاً عملية هائلة من هجرات الشعوب، ففي القرن الرابع الميلادي كان الهون قد وصلوا غرباً حتى ما وراء بحر قزوين، وفي القرن التالي بلغوا أقصى بعد عن وطنهم، وبدا أن أوروبا الغربية قد تسقط بأيديهم إلى أن صدتهم معركة في مدينة تروا على نهر السين في فرنسا الحالية عام 451 م. وكانت هناك شعوب أخرى كثيرة لعبت دورها في هذه الهجرات الكبيرة منها الأفار والخزر والبشنيق والكومان، وكان لكل منها تأثيرها في تاريخ العالم في مرحلة ما من مراحله، ولكن الفروق بينها معقدة للغاية وقصتها طويلة ومشوشة لا يمكن تلخيصها هنا. إلا أن بينها شعباً واحداً يستحق اهتماماً خاصاً هو عشيرة كانت تعرف شغل الحديد، وكانوا عبيداً لشعب مغولي يسمى الجوان جوان، أو الأفار في أوروبا وهذه العشيرة هي الأتراك.



[b]الأتراك




نسمع عن الأتراك للمرة الأولى في حوالي عام 500 م، لقد قبلوا في القرن السابع السيادة الإسمية لأباطرة الصين، وكانوا عبارة عن قبائل ترتبط فيما بينها بروابط سلالية فضفاضة، وتنتشر في منغوليا حتى نهر جيحون وكان له زعيم يسمى الخان، وقد سميت هذه الشبكة من النفوذ الممتدة من الصين حتى فارس ”إمبراطورية” تركية، ومن الصعب أن نعرف إلى أي مدى كانت إمبراطورية حقاً، ولكن كان هناك على كل حال نوع من العلاقة السياسية التي تربط بين شعوبها البدوية الممتدة عبر آسيا استمر لمدة قرن تقريباً، وهو في الحقيقة إنجاز كبير بالنسبة لبرابرة. وقد رأى حكام كل من الصين وفارس وبيزنطة والهند في أوقات مختلفة أن عليهم الانتباه لأمر الخانات الأتراك والتعامل معهم، فالبيزنطيون شجعوهم على مضايقة الحدود الشمالية الشرقية لفارس، كما يبدو أن الإمبراطورية الساسانية قد سمحت في سنواتها الأخيرة لبعضهم بالاستقرار ضمن حدودها مقابل مساعدتهم لها ضد بيزنطة والعرب، وقد استفاد الأتراك من هذه الاتصالات وتعلموا فن الكتابة.

وشكلت الإمبراطوريات العربية بعد ذلك حاجزاً قوياً أمام تقدم الأتراك، إلى أن تداعت الخلافة العباسية وتقسمت أراضيها إلى دويلات عديدة مختلفة في القرن العاشر، فاستطاعت الشعوب التركية عندئذٍ أن تتقدم من جديد. في ذلك الحين كانت إحدى عشائرهم، وهي عشيرة السلاجقة قد اعتنقت الإسلام، واندفع هؤلاء أولاً إلى مرتفعات فارس ومنها إلى الأناضول، وكانوا مسلمين، وخدم بعضهم كمرتزقة في الجيوش العربية وبذلك صاروا تحت سيطرة الحضارة العربية. وكان سلوكهم شبيهاً بسلوك الكثير من الشعوب البربرية التي تعيش على أطراف مراكز الحضارة، فهم لم يحاولوا تخريب الحياة المتطورة التي أعجبوا بها بل سعوا للمشاركة في ثمارها، وبدأت الأعمال الكبرى في مجال الآداب والعلوم العربية والفارسية تترجم إلى اللغة التركية.

وعلى عهد السلاجقة بدأت تظهر أخيراً دولة تركية حقيقية في إيران والأناضول، حيث سمى الأتراك مقاطعتهم الجديدة ”سلطنة الروم” لأنهم اعتبروهم جزءاً من تراث روما، وهكذا بدأت شيئاً فشيئاً عملية تحول أهل الأناضول المسيحيين إلى الإسلام، فكان هذا من أسباب سلسلة من الحملات جاءت من غرب أوروبا تسمى الحملات الصليبية كانت تريد صد تقدم الإسلام، إلا أن إمبراطورية السلاجقة الأتراك لم تستمر طويلاً بعد عام 1200 م حتى في الأناضول.

في تلك الأثناء كانت سلالة تركية أخرى قد احتلت مصر، والحقيقة أن الإمبراطوريات العربية الكبيرة كانت تتآكل منذ زمن طويل، بينما كانت المسيحية تستعيد قواها، فقد أسس الصليبيون الغربيون ممالك مسيحية جديدة في بلاد الشام، أما العرب فقد خسروا صقلية كما كان المسيحيون في الغرب قد بدؤوا باستعادة إسبانيا منهم، وإن هذا العالم الإسلامي الممزق والمضعف قد اكتسحته في القرن الثالث عشر عاصفة عاتية جديدة آتية من الشرق.


[/b][/b]
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://resalahmasriyah.mam9.com
Eng. Ahmedzoubaa
Admin
Eng. Ahmedzoubaa


عدد المساهمات : 1216
تاريخ التسجيل : 28/08/2010
العمر : 49

الفصل الخامس - نزاعات الحضارات  Empty
مُساهمةموضوع: رد: الفصل الخامس - نزاعات الحضارات    الفصل الخامس - نزاعات الحضارات  Emptyالثلاثاء 14 يونيو 2011 - 8:23

جنكيز خان



لقد سبب المغول للإسلام أكبر كارثة عرفها في تاريخه، وهم نشأوا بالأصل من الأراضي الواقعة إلى الشمال من الصين والتي تسمى اليوم منغوليا على اسمهم. في تسعينيات القرن الثاني عشر كان أحد شباب المغول قد أصبح خاناً على شعبه، ثم راح يسعى للانتقام من إهانات حلت بهم على يد التتار، وهو شعب بدوي آخر، وخلال سنوات قليلة قبلت به كافة قبائل المغول "خاناً عاماً" عليها أو كما تسميه بلغتها "تشنكيز خان” ثم حرف العرب اسمه هذا فصار جنكيز خان. كان جنكيز أكبر فاتح عرفه التاريخ، وقد أرهب أوروبا وآسيا معاً، وكانت الدولة التي بناها أقرب إلى الإمبراطورية الحقيقية من أية دولة بناها زعيم بدوي آخر، ولو أن عاصمتها الوحيدة كانت خيام اللباد في معسكره.

لقد بدأ جنكيز بالسيطرة على قوة عظمى عندما استولى على شمال الصين في عام 1215، ثم مالبث أن وجه اهتمامه نحو الغرب، وكان المغول وثنيين ولم يكونوا لا مسلمين ولا مسيحيين، لذلك لم يميز جنكيز في اختيار ضحاياه. وكانت أولى الضحايا هي الأراضي الإسلامية الشمالية في إيران ومدن الواحات الغنية فيما وراء نهر جيحون، وكان الناس إذا قاوموهم يقتلون في مذابح جماعية، لذلك صارت الشعوب التي تعرف ما ينتظرها تستسلم دون قتال، وكان المغول عندئذٍ يبقون على حياتهم، وبعد زمن قصير غزا جنكيز جنوب روسيا، وفرض الجزية على الأمراء المسيحيين هناك. وعندما مات خلفه ابنه، الذي سرعان ما تحول اهتمامه إلى الغرب أيضاً، فنهب المغول مدينة كييف في عام 1236 م، وقاموا من هناك بغارات بعيدة في عمق أوروبا، فخربوا بولندا ومورافيا وطاردوا ملك هنغاريا المسكين عبر كرواتيا حتى ألبانيا قبل أن يتوقفوا عن ملاحقته. ولم يعودوا إلى وطنهم إلا عندما مات الخان وصار لابد من اختيار خان جديد، وقد كان في الحاضرين بين انتخابه رسول بابوي وسلطان سلجوقي وأمير روسي ومبعوث من قبل الخليفة العباسي.

وما إن استقرت الشؤون الداخلية للمغول حتى هجمت جيوشهم على الإسلام من جديد، فهزموا أولا سلاجقة الروم، ثم تحولوا إلى ما بقي من الخلافة العباسية فاكتسحوا بغداد ونهبوها، ولما كانوا يؤمنون بخرافة تحرم سفك دم الخليفة فقد لفوا الرجل المسكين وهو آخر الخلفاء العباسيين في سجادة وداسوا عليه بالخيل حتى مات. ثم اندفعوا إلى سوريا، وبدا مصير الإسلام على كف عفريت، إلا أنهم هزموا أخيراً على يد مماليك مصر قرب الناصرة في عام 1260، وبهذا أنقذ الإسلام، ولكن سوف تكون للمغول سيطرة طويلة على جزء كبير من آسيا وروسيا من بعد.

الفصل الخامس - نزاعات الحضارات  Chp5-4

إمبراطورية جينكيزخان في الربع الأول من القرن الثالث عشر

وتفككت إمبراطورية جنكيز خان الموحدة وحلت محلها مجموعة من الخانيات التي ترتبط فيما بينها بروابط فضفاضة والتي يحكم كلا منها أمير مغولي مستقل، ولكنها كانت تشترك أيضاً بأشياء كثيرة فيما بينها، وكان هذا التحالف المغولي يشمل في أوسع امتداد له سدس مساحة العالم القديم تقريبا. كانت وسائل الاتصال فيه حسنة وكذلك شرطته، وقد عرف المغول أن يستفيدوا من رعاياهم المهزومين بطريقة ذكية، فجندوهم في جيوشهم كما استخدم جنكيز الموظفين المدنيين الصينيين لإدارة نظام الضرائب واستعار الكتابة التركية لتدوين اللغة المنغولية، وكان هذا الأمر على أهمية كبرى في تشكيل أفكار المغول. سوف نتحدث عن الصين المغولية في موضع آخر، ولكن نذكر هنا أن الخانات الكبار صاروا يعتبرون أنفسهم مثل أباطرة الصين، فكانوا يتوقعون من الشعوب الأخرى أن تدفع لهم الجزية لا أن تفاوضهم كأنداد لهم، وكانوا يؤمنون أنهم يمارسون سلطة ملكية عالمية بالنيابة عن إلههم إله السماء. إلا أنهم كانوا في الوقت نفسه متسامحين في أمور الدين، وقد أعجب المسيحيين بتنوع المعتقدات في بلاط المغول، وقيل إن أحد الخانات كان على وشك أن يتعمد إلا أن هذا الأمر لم يتم.

عند نهاية القرن الثالث عشر حدث تغير هام عندما أسلم الخان الذي يحكم فارس، فزال عندها الخطر عن الإسلام، وصار جميع الحكام الفرس منذ ذلك الحين مسلمين. وقد عاد السلام وبعض الازدهار إلى أراضي الإسلام القديمة رويداً رويداً، ولم يبعث رعب المغول من جديد إلا مرة واحدة على عهد فاتح لا يقل رعباً عن جنكيز هو تيمورلنك، الذي امتزج فيه الدم التركي بالدم المغولي. لقد اكتسح تيمور فارس في عام 1379 بعد أرقتها سلسلة من النزاعات والصراعات الأهلية، إذ كان قبلاي خان أي الخان الكبير قد مات عند نهاية القرن السابق، ولم يعين عندها سيد على جميع المغول، كما خرب تيمو الهند ونهب دلهي في هجوم خاطف، وقيل إن سبب تلك السرعة العجيبة كانت رغبة جيشه بالهرب من رائحة النتن المنبعثة من أكوام الجثث التي خلفها وراءه، وحارب الخانات الآخرين ودمر بلاد المماليك والأتراك وفتح بلاد الرافدين. إلا أنه لم يبن إمبراطورية ولم تستمر فتوحاته من بعده، وإذا كان له تأثير هام في التاريخ فهو تأثير غير مقصود إذ إن هجماته قد عطلت لعقود من الزمن شعباً تركياً في الأناضول هو الشعب العثماني ومنعته من الانقضاض على الإمبراطورية البيزنطية والإجهاز عليها.




نهاية بيزنطة



كانت نقطة الضعف الأساسية في بيزنطة هي حاجتها الدائمة لمحاربة أعداء أشداء على أكثر من جبهة واحدة في الوقت نفسه، فبعد أن صارعت العرب ونجت منهم حل محلهم غزاة مسلمون جدد أهمهم الأتراك، كما اضطرت من بعدهم لمعالجة أمر الأفار والبلغار والفاريغ في الشمال والشمال الشرقي، صحيح أن الغرب المسيحي كان وراءها، إلا أنه كان في الحقيقة يزداد انفصالاً عن الأرثوذوكسية الشرقية، بل كان يبدو في بعض الأحيان وكأنه عدو آخر لها. وفي عام 800 م توج البابا في الغرب الملك شارلمان إمبراطوراً، ولم يرق هذا التتويج لبيزنطة لأن اتخاذ لقب الإمبراطور تحدياً لها كوريثة حقيقية لروما، ومنذ ذلك الحين صار الإداريون البيزنطيون يسمون الغربيون جميعاً " إفرنجاً" لأن شارلمان كان ملكاً على الإفرنج، بل إن هذا الاسم ظل يطلق على الأوروبيون في الشرق الأدنى وقسم كبير من آسيا حتى القرن العشرين، حيث لم يعد الناس يميزون بين الإيطاليين أو الإسبان أو الألمان، مثلما كان الأوروبيون يخلطون بين الفروع المختلفة من الأتراك. وقد حاول الإفرنج واليونانيون أن يتعاونوا مع بعضهم ضد العرب، ولكن هذه المحاولة إنما زادت الخلافات فيما بينهم، ثم إن البيزنطيين كانت لهم ادعاءات قديمة في إيطاليا، كما وأن وصول النورمان إلى صقلية ومحاولتهم الاستيلاء على أجزاء من اليونان تنتمي للإمبراطورية قد سبب صراعاً صريحاً بين الشرق والغرب. وكانت بيزنطة تزداد ضعفاً ومواردها تتقلص منذ القرن الحادي عشر وكانت النخب الحاكمة البيزنطية تزول لتحل محلها عائلات أرستقراطية من الأناضول وأرمينيا، وقد زاد هذا من عمق الهوة الثقافية بين الحضارتين الشرقية والغربية.

لقد حلت بالإمبراطورية البيزنطية ضربة مدمرة في عام 1072 عندما مزق الأتراك جيشها في معركة مانتزيكرت – ملازكرت فضاعت منها آسيا الصغرى التي كانت أهم مورد لجنودها وأغنى مقاطعاتها؛ ورغم أنها استعادت شيئاً يسيراً من أراضيها بعد هجمات المغول على الأتراك فقد صارت منذ ذلك الحين محصورة بشريط ضيق من الأرض. وفوق هذا كان على الإمبراطورية البيزنطية أن تواجه خطرين جديدين قادمين من الغرب، أحد هذين الخطرين هو جمهورية البندقية الإيطالية –فينيسيا- التي كانت تابعة لها في السابق، فقد كان البنادقة قد ساعدوا البيزنطيين في صد النورمان عن اليونان، فسمح لهم بالمقابل أن يتاجروا بحرية في كافة أنحاء الإمبراطورية كرعايا لها لا كأجانب، ولكن البيزنطيين بهذا العمل قد جلبوا الدب إلى كرمهم، لأن البنادقة احتكروا بمرور الزمن تجارة أوروبا مع بيزنطة، وسرعان ما فاقت قوتهم البحرية قوة بيزنطة نفسها، وخاصة بعد أن هزموا أسطولاً مصرياً فأزاحوا بذلك القوة الوحيدة التي كانت توازن قوتهم، وبعد تلك التنازلات التجارية كسب البنادقة أراضي جديدة بل إنهم خاضوا حرباً ضد بيزنطة ، وفي القرن الثالث عشر صارت البندقية إمبراطورية وسوف تزداد اتساعاً، وتضم إليها عشرات الجزر والموانئ خلال القرون الثلاثة التالية.


الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://resalahmasriyah.mam9.com
Eng. Ahmedzoubaa
Admin
Eng. Ahmedzoubaa


عدد المساهمات : 1216
تاريخ التسجيل : 28/08/2010
العمر : 49

الفصل الخامس - نزاعات الحضارات  Empty
مُساهمةموضوع: رد: الفصل الخامس - نزاعات الحضارات    الفصل الخامس - نزاعات الحضارات  Emptyالثلاثاء 14 يونيو 2011 - 8:24

الحملات الصليبية



والخطر الثاني جاء أيضاً من الغرب في الحركة التي تسمى الحملات الصليبية، التي قام بها الأوروبيون الغربيون باسم الدفاع عن المسيحية، مع أن مصالحهم ومصالح الأرثوذكس كانتا على طرفي نقيض. في القرن الثاني عشر أسس الصليبيون في بلاد الشام أربع دول لاتينية لم تعمر طويلاً ولكنها أقيمت على أرض كانت في السابق لبيزنطة، كما أن تدخل الإفرنج في المنطقة قد كشف عداوته لها بصورة صريحة، عندما نهب جيش صليبي مسيحي مدينة القسطنطينية في عام 1204، وهي ضربة كادت تودي بالإمبراطورية، وقد نجت منها إلا أن رجال الكنيسة الأرثوذكس لم يغفروا للمسيحيين اللاتين هذا العمل قط. ولم يستعد البيزنطيون عاصمتهم حتى عام 1261، ولم تعد إمبراطوريتهم في ذلك الزمان إلا جزءاً صغيراً من كيانها السابق، وباتت مجرد دولة بلقانية لها طرف صغير في آسيا وعاصمة ذات ماض عظيم. ولم يتمكن البيزنطيون من السيطرة على البلغار مرة ثانية بعد ذلك، بينما استولى البنادقة والجنوبيون أيضاً على كافة جزر بحر إيجة.

واضطر أباطرة القرن الرابع عشر لطلب مساعدة المسلمين أي الأتراك العثمانيين من أجل معالجة خطر أمير صربي، وكان العثمانيون قد ساعدوا الأباطرة في استعادة عاصمتهم من ”إمبراطورية لاتينية” أسسها الصليبيون هناك، إلا أن العثمانيين هم الذين قضوا على بيزنطة في النهاية. لقد حاول البيزنطيون إصلاح خلافاتهم مع الغرب، ولكنهم في النهاية اضطروا إلى مواجهة الإسلام وحدهم من جديد، وقد قاوموه بأساليب مختلفة منها الأساليب الدبلوماسية، إذ أن أحد حكام العثمانيين قد تزوج من ابنة أحد الأباطرة، إلا أنهم وجدوا أنفسهم مرغمين على خوض الحرب في النهاية.

في عام 1400 م كان الأتراك قد احتلوا جزءاً كبيراً من البلقان، وفتحوا صربيا وبلغاريا، فرسخوا بذلك جذور الإسلام في عمق أوروبا من جديد، كما كانوا قد هزموا حملة صليبية أخرى، واكتسحوا اليونان من بعدها وحاصروا القسطنطينية نفسها، ولم يمنعهم من القضاء عليها إلا هزيمتهم على يد تيمولنك المغولي. وقد بدا أن موجة ثانية من الفتوحات الإسلامية كانت تمتد في الشرق بينما كانت المسيحية تخرج المسلمين من عالمها في الغرب. وعندما استأنف الأتراك تقدمهم خربوا إمبراطورية البندقية، إلا أن هدفهم الأساسي إنما كان الاستيلاء على القسطنطينية. لقد ابتدؤوا آخر هجماتهم في أوائل شهر نيسان (أبريل) من عام 1453 م، وبعد حوالي شهرين من الحصار، أي في يوم 29 أيار (مايو) توجه الإمبراطور قسطنطين الحادي عشر وهو الإمبراطور الثمانون بعد سميه قسطنطين الكبير، إلى كنيسة القديسة صوفيا حيث تناول القربان وخرج ليموت مدافعاً عن عاصمته في آخر أيامها كمدينة مسيحية. وسرعان ما انتهى كل شيء، فدخل السلطان العثماني محمد الثاني إلى المدينة واتجه من توه إلى الكاتدرائية ونصب فيها عرش انتصاره.

يقول أحد الكتبة اليونانيين بهلع كبير " لم يحدث قط ولن يحدث أبداً شيء أفظع من هذا" والحقيقة أن أحداً لم يكن مهيئاً لهذا الحدث، وقد روع هذا النبأ المسيحية الغربية، ولم يكن ذلك انتصاراً للهلال على الصليب فحسب، بل كان خاتمة لقصة ترجع إلى اليونان القديمة قبل ذلك بألفي سنة، لأن زوال الدولة البيزنطية كان في الوقت نفسه نهاية للتقاليد الرومانية وخاتمة ألف عام من الإمبراطورية المسيحية. وكانت تلك أشد اللحظات درامية في تغير تاريخي كبير، وهو القضاء على الدولة المسيحية في الشرق الأدنى والبلقان وشرق المتوسط، وحلول قوة عالمية جديدة محلها هي الإمبراطورية العثمانية.




جار المسيحية الجديد



لقد صار الأتراك العثمانيون هم قادة العالم الإسلامي، ويجدر بنا أن نتابع قصتهم قليلاً، كان العثمانيون منذ زمن طويل شعباً يعيش على الحدود بين العالم المسيحي والمغول الوثنيين، وربما كان هذا ما ألهب في نفوسهم الحماس الشديد، وكانوا من أعتى محاربي الإسلام، مع أنهم كانوا مستعدين لتجنيد المرتدين والمرتزقة من المسيحيين في جيوشهم، والحقيقة أن الشرق الأدنى الإسلامي بالإجمال قد ازداد عداوة للمسيحية منذ الحملات الصليبية. كان الرسول قد أوصى بالتسامح مع المسيحيين لأنهم يعبدون الله، ولكن بعد سلوك الإفرنج مع المسلمين والترحيب الذي استقبل به الرعايا المسيحيين الغزاة المغول بات الإسلام أكثر ضراوة نحو المسيحية.

وخلال قرون قليلة شكل العثمانيون سداً كبيراً من الإسلام لا سابق له بين المسيحية الغربية وآسيا، وفي وجه روسيا الأرثوذكسية في الشمال أيضاً، كما اندفعوا إلى عمق وادي الدانوب، كانت سفنهم تضايق تجارة المتوسط وقد ابتلعت إمبراطورية البندقية بصورة مطردة، ولم تكن جيوشهم دون جيوش الأوربيين بل ربما كانت أفضل منها، وكان لديهم سلاح مدفعية أيضاً. فقد استخدموا في حصار القسطنطينية الأخير مدفعاً عملاقاً بناه لهم مهندس هنغاري، يحتاج مئة ثور لتحريكه ولا يمكن إطلاق النار منه إلا سبع مرات في اليوم.

لقد سبب العثمانيون تغيرات عميقة في أوروبا التي حكموها، فقد ضربوا جذور الإسلام راسخة في بعض المناطق مثل البوسنة عندما أسلمت جماعات فيها، أما السكان المسيحيون فصاروا يتطلعون الآن إلى رجال دينهم الأرثوذكس لقيادتهم، وباتت المسيحية علامة الوطنية في البلقان إذ حفظت لكثير من شعوب المنطقة قسطاً كبيراً من تراث بيزنطة، كما أن الأرثوذوكسية اليونانية التي بقيت تتطلع إلى زعامة بطريرك القسطنطينية قد انفصلت عن روسيا حيث استقر أكبر أساقفة الكنيسة أخيراً في موسكو. وكانت تركيا العثمانية مجتمعاً متعدد العروق والأديان، ولو أن المسلمين كانوا دوماً في القمة، وكان للرعايا غير المسلمين حكم ذاتي داخلي ضمن جماعتهم بزعامة رؤسائهم الدينيين، والحقيقة أن مسلك العثمانيين نحو اليهود والمسيحيين كان بالإجمال أفضل من مسلك الإسبان نحو اليهود والمسلمين.

لا يمكن لأي إمبراطورية أن تستمر إلى الأبد، ولكن الحقيقة إن تراجع الإمبراطورية العثمانية قد استغرق زمناً طويلاً جداً، ولم تنته حتى عام 1922 م أما في القرنين السادس عشر والسابع عشر فلم يكن يخطر ببال أحد أن قوة العثمانيين قد تتراجع، إذ أنهم كانوا يتابعون اندفاعهم في عمق أوروبا، ففي عام 1526م محوا الجيش المجري عن بكرة أبيه في هزيمة مازالت ذكراها حية كيوم أسود في تاريخ هنغاريا، وبعد ثلاث سنوات حاصروا فيينا، كما أنهم استولوا على قبرص وكريت وبقية جزر شرق المتوسط، وانتزعوا سوريا ومصر من المماليك وكردستان وبلاد الرافدين من فارس، وأرسلوا جيشاً حتى عدن في الجنوب، وفي عام 1673 عادوا لحصار فيينا مرة ثانية. إلا أن المد كان قد بدأ ينحسر وكان التراجع الطويل لقوة الأتراك قد ابتدأ، ولو أنهم ظلوا يستولون على أراض جديدة في المتوسط حتى عام 1715.

كانت تلك مغامرة رائعة ومريعة في الوقت نفسه، وقد تركت في تاريخ أوروبا أثراً عميقاً لا يقتصر على المناطق التي احتلها العثمانيون، فلطالما ارتعدت أوروبا أمام قوة العثمانيين، بل إن افتتانها بهم قد استمر زمناً أطول. وهي لم تنجح قط في تنظيم مقاومة مشتركة ضدهم، فكان ذلك العبء يقع دائماً على كاهل أمير أو اثنين، بل إن بعض الأمراء الأوروبيين قد تطلعوا إلى العثمانيين ليساعدوهم ضد أبناء دينهم من المسيحيين. أما بالنسبة للأوروبيين الشرقيين الواقعين تحت حكم العثمانيين فقد كانت الإمبراطورية واحدة من تلك التجارب التي مروا بها، والتي عمقت الهوة بينهم وبين الأوروبيين في الغرب منذ أن رسمت حدود الإمبراطورية الرومانية. وقد شعرت بعض الشعوب في أوروبا بهجمات العثمانيين بصورة أشد من بعضها الآخر، إلا أن تاريخ القارة بأكمله قد تأثر بها بصورة أو بأخرى، وربما كان أعمق تأثيراتها كلها هو أنها أبعدت تفكير الأوروبيين عن الاتصال بآسيا براً عن طريق الشرق الأدنى وجعلتهم يمعنون التفكير في البحث عن طريق للالتفاف حول الإسلام، وهي فكرة كانت موجودة في أذهان بعضهم منذ نهاية القرن الثاني عشر، والحقيقة أن الوسائل اللازمة لهذا الالتفاف كانت متوفرة عند سقوط القسطنطينية، إذ كانت السفن البرتغالية تنتقل جنوباً على ساحل المغرب بهمة ونشاط قبل ذلك، باحثة عن طريق جديدة نحو الشرق، وربما أيضاً حليف في أفريقيا يطوق خاصرة الأتراك، وبعد أن سقطت القسطنطينية في عام 1453 سوف يزداد بحثهم هذا حماسةً واندفاعاً.


الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://resalahmasriyah.mam9.com
 
الفصل الخامس - نزاعات الحضارات
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
رسالة مصرية ثقافية :: قسم العلوم التربوية والأدبية :: التاريخ العربي :: كتاب تاريخ العالم-
انتقل الى: