رسالة مصرية ثقافية
مرحبا بك أخي الزائر نشكر زيارتك ونتمني انضمامك للمنتدي
زيارتك تسر إدارة المنتدي ومشاركتكك تسعدنا وتساهم معنا بارتفاع الثقافة العامة
بعض المنتديات الفرعية والموضوعات
لا يمكنك الإطلاع عليها إلا بعد التسجيل كعضو في المنتدي
رسالة مصرية ثقافية
مرحبا بك أخي الزائر نشكر زيارتك ونتمني انضمامك للمنتدي
زيارتك تسر إدارة المنتدي ومشاركتكك تسعدنا وتساهم معنا بارتفاع الثقافة العامة
بعض المنتديات الفرعية والموضوعات
لا يمكنك الإطلاع عليها إلا بعد التسجيل كعضو في المنتدي
رسالة مصرية ثقافية
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

رسالة مصرية ثقافية

ثقافية - علمية - دينية - تربوية
 
الرئيسيةرسالة مصريةأحدث الصورالتسجيلدخول

 

 الفصل الأول - قـبل التـاريخ

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
Eng. Ahmedzoubaa
Admin
Eng. Ahmedzoubaa


عدد المساهمات : 1216
تاريخ التسجيل : 28/08/2010
العمر : 49

الفصل الأول - قـبل التـاريخ  Empty
مُساهمةموضوع: الفصل الأول - قـبل التـاريخ    الفصل الأول - قـبل التـاريخ  Emptyالثلاثاء 14 يونيو 2011 - 6:49

البدايات

تستخدم كلمة تاريخ عادةً للدلالة على شيئين مختلفين: فهي تعني ما حدث في الماضي؛ كما أنها تعني الوصف الصحيح لما حدث فيه. وعندما نصف ما حدث في الماضي فإننا دائماً نختار منه أشياء دون غيرها، وعندما نصف تاريخ العالم كله لا نستطيع أن نأخذ بعين الاعتبار كل الزمن الماضي، بل يمكننا أن نتجاهل القسم الأكبر منه فلا حاجة بنا أن نعود إلى زمن "الانفجار الكبير" الذي انبثق منه الكون لكي نفهم وضعنا الحالي.

إن التاريخ هو قصة البشر، لذلك فإن ما يهمّنا هو ماضي البشر، وحتى عندما يبحث المؤرخون في أمور خارج سيطرة البشر مثل الجغرافية والمناخ والأمراض، فإنهم يبغون من ذلك أن يعرفوا لماذا عاش الناس وماتوا بطرق ما دون سواها؛ أي أن التاريخ بمعناه الأول –ما حدث في الماضي – هو ما حدث للبشر وما فعلوه هم أنفسهم.

يختصر هذا الأمر قسطاً كبيراً من الزمن الذي ينبغي علينا دراسته، ولكنه يترك مع ذلك قدراً كبيراً جداً لابد من معالجته. كما أنه لا يبين لنا تماماً أين يجب أن نبدأ. يمكننا نظرياً أن نبدأ بأول كائن بشري، ولكننا لا نعلم متى ظهر ذلك الكائن ولا أين؟! بل يمكننا أن نخمن ذلك بحذر وضمن حدود واسعة، والأصعب من هذا أنه ليس ثمة إجماع على الكائنات التي يمكن أن نعتبرها "بشرية" بين التي عاشت في الأزمنة الباكرة، وأين عبرت الخط الذي يفصل بينها وبين غيرها من الحيوانات.

من العسير أن نرسم خطاً واضحاً بين البشر والكائنات السابقة لها، ولم يعد الناس يتحدثون عن "البشر القردة" أو "الحلقات المفقودة" كما كانوا يفعلون في السابق. صحيح أن الفيزيولوجيا تساعدنا في تصنيف المعلومات، إلا أن صفة "بشري" مازالت موضوع تعريف قد يختلف الناس فيه. إن ما يتفرّد به البشر بشكل أكيد ومميّز ليس امتلاكهم خصائص معينة فحسب، بل ما يفعلونه بتلك الخصائص. لقد أبدى البشر دوماً قدرة تراكمية على صنع التغيير لم يبد مثلها أي نوع آخر، وصنعوا تاريخهم بأنفسهم- ولو كان ذلك ضمن حدود بالطبع – وقد صارت هذه الحدود اليوم واسعة جداً، ولكنها كانت ذات يوم ضيقة للغاية، بحيث لا يمكننا أن نميز الخطوة الأولى التي أخرجت التطور البشري من حتمية الطبيعة. إن تاريخ البشر قد ابتدأ عندما اخترق الاختيار الواعي للمرة الأولى ميراث الجينات والسلوك بعد أن كانت هذه هي الوسيلة الوحيدة للبقاء.

فعندما ظهرت إمكانية التحرر من حتمية الطبيعة ولو بأوهى درجاتها كانت تلك بداية تغير عظيم جداً، فمنذ ذلك الحين صارت ثقافة البشر تطورية، ولم تعد تبنى بالصدفة وضغوط الطبيعة وحدها، بل أيضاً بالاختيار الواعي وبتراكم رأس مال من الخبرة والمعرفة وباستغلالها. ومن عند ذلك التحول ينبغي علينا أن نبدأ قصتنا، لو كان بإمكاننا أن نعرف متى حدث.


عدل سابقا من قبل Admin-ahmed في الثلاثاء 14 يونيو 2011 - 6:54 عدل 1 مرات
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://resalahmasriyah.mam9.com
Eng. Ahmedzoubaa
Admin
Eng. Ahmedzoubaa


عدد المساهمات : 1216
تاريخ التسجيل : 28/08/2010
العمر : 49

الفصل الأول - قـبل التـاريخ  Empty
مُساهمةموضوع: رد: الفصل الأول - قـبل التـاريخ    الفصل الأول - قـبل التـاريخ  Emptyالثلاثاء 14 يونيو 2011 - 6:50

التطور

يقبل أكثر علماء البيولوجيا اليوم شكلاً من أشكال نظرية تفسر التطور "بالاصطفاء الطبيعي"، ويتفق الكثيرون منهم – ولكن ليس كلهم – على أن التطور يعمل من خلال البيئة، بحيث تشجع بيئة معينة بينما تعيق بقاء سلالات أخرى. ثم تنتقل تلك الرسائل الجينية التي بقيت إلى الجيل الثاني، أما الأخرى فلا تنتقل لأن البيئة تستأصلها قبل انتقال الميراث الجيني. فهناك مثلاً آليات معينة لحفظ حرارة الجسم في بعض الأنواع تسمح لها بالاستمرار في العيش ضمن المناخ البارد –كما هي حال البطريق- أما الأنواع الأخرى التي لا تمتلك تلك الآليات فإنها لا تقدر على العيش في ذلك المناخ، لا تجدها إلا خارجها، هذا إذا وجدت أصلاً.

قد يبدو هذا الأمر بعيداً عن قصة البشرية، ولكنه ضروري لفهم جذور قصتنا الكامنة في الماضي السحيق. لقد بقي التطور البيولوجي زمناً طويلاً يسير ببطء عجيب ضمن الإمكانيات التي تتيحها البيئات المختلفة للمتعضّيات ثم للحيوانات المختلفة. وكان العامل الحاسم في توفير تلك البيئات المختلفة هو المناخ. فمنذ حوالي أربعين مليون سنة بدأت نهاية حقبة مناخية طويلة كانت موائمة للزواحف الكبيرة، وأشهرها الديناصورات. كان العالم يبرد عندئذٍ ، وراحت الظروف المناخية الجديدة تقلص بيئة تلك الزواحف الكبيرة التي أدت في النهاية إلى اختفائها – ويعتقد البعض أن هناك عوامل أخرى غير المناخ قد لعبت دورها أيضاً – إلا أن الظروف الجديدة كانت ملائمة لسلالات أخرى من الحيوانات كانت موجودة من قبل، ومنها ثدييات كان أجدادها الصغار جداً قد ظهروا قبل ذلك بحوالي مائتي مليون سنة. لقد ورثت تلك الثدييات الأرض أو جزءاً كبيراً منها، ثم مرت سلالاتها بتطور فيه الكثير من الانقطاع وحوادث الاصطفاء، حتى تطورت إلى عائلات الثدييات التي تعيش اليوم، ومنها عائلتنا.

ولكن هذه لم تكن نهاية قصة المناخ كعامل انتقاء في التطور، بل بقيت تحدث تقلبات عظيمة في درجات الحرارة، ولو أنها كانت تستغرق مئات آلاف بل ملايين السنين لكي تأخذ كامل مجراها. لقد مرت الأرض بدرجات قصوى من التجمد من ناحية والجفاف من ناحية أخرى. قضت على بعض خطوط التطور الممكنة، في حين ظهرت بالمقابل في أزمنة وأمكنة غيرها ظروف موائمة سمحت لبعض الأنواع بالازدهار وشجعت انتشارها في مواطن جديدة. كانت تلك عملية طويلة للغاية، وكان المناخ يهيئ خلالها خشبة المسرح لتاريخ البشرية، حتى قبل ظهور الكائنات التي سوف يتطور منها البشر، وكان يشكل عبر الاصطفاء الميراث الجيني النهائي للبشرية نفسها.

منذ حوالي خمس وخمسين مليون سنة كانت الثدييات البدائية على نوعين أساسيين: أحدهما يشبه القوارض وقد بقي على الأرض، في حين سكن النوع الآخر الأشجار، وبذلك انخفض التنافس بين العائلتين على موارد الطبيعة. ثم استمرت سلالات من كل منهما لتصبح في النهاية الكائنات التي نعرفها اليوم.

تسمى المجموعة الثانية الآن اللّيموريّات prosimians ونحن من بين أحفادها، لأنها كانت أجداد الرئيسات الأولى* . إن السلالات التي بقيت في المرحلة التالية من تطور الليموريات هي السلالات الجينية الأكثر ملائمة لتحديات الغابة ومخاطرها.

الفصل الأول - قـبل التـاريخ  Chp1-1
من فصيلة الليموريات


كانت الغابة بيئة خطرة قد لا تنفذ أشعة الشمس إليها إلا قليلاً، لذلك صار للتعلم أهمية قصوى، وقد زالت السلالات المعرضة للحوادث في تلك الظروف، بينما استمرت تلك التي استطاع ميراثها الجيني أن يستجيب ويتأقلم مع أخطار الظلام الدامس والأشكال الغامضة وصعوبة التثبت بالأيدي.

من تلك الأجناس التي ازدهرت – من الناحية الوراثية- أنواع ذوات أصابع طويلة سوف تتطور إلى الأصابع التي نعرفها، وإلى الإبهام الذي يستطيع مقابلة الأصابع الأخرى فيسهل الإمساك بالأغصان، ثم بالأدوات في مرحلة لاحقة. وتطورت أنواع غيرها نحو الرؤية الثلاثية الأبعاد وتراجع حاسة الشم وشكل الوجه القريب من الشكل البشري. ولا حاجة بنا هنا إلى تتبع تفاصيل هذه القصة أكثر من هذا، فهي في غاية التعقيد ومازالت موضع أخذ ورد بين المختصين، ولكنها الخلفية الضرورية لفهم إحدى نتائج التطور، ألا وهي ظهور الفرع الأساسي من عائلة الرئيسات الذي ينتمي إليه البشر، أي فرع البشريات.

---------------------------

الرئيسات رتبة من الثدييات تشمل البشريات والقرديات والليموريات - المترجم


الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://resalahmasriyah.mam9.com
Eng. Ahmedzoubaa
Admin
Eng. Ahmedzoubaa


عدد المساهمات : 1216
تاريخ التسجيل : 28/08/2010
العمر : 49

الفصل الأول - قـبل التـاريخ  Empty
مُساهمةموضوع: رد: الفصل الأول - قـبل التـاريخ    الفصل الأول - قـبل التـاريخ  Emptyالثلاثاء 14 يونيو 2011 - 6:51

البشريات

ظهرت أولى القردة منذ حوالي 25 مليون سنة، وكانت أرقى الرئيسات تطوراً في زمانها، فقد كانت أجسامها وأدمغتها أكبر بكثير من الرئيسات الأسبق. ثم تطورت منها سلالات جديدة ملائمة لحياة السهوب التي بدأت تمتد على حساب الغابات بسبب تغير المناخ.

كانت هذه السلالات أفضل من فصائل القرديات، أي القردة والقردة الكبيرة ، في مواجهة الظروف الجديدة. وكانت بعضها تمشي منتصبة وتستطيع الجري بصورة لا تقدر عليها القرود. من هذه السلالات نشأ الخط التطوري المسمى البشريات. وتشير بقايا المستحاثّات إلى إمكانية تميز كائنات عاشت بين ثلاثة إلى أربعة ملايين سنة مضت يمكن اعتبارها من بين "أجدادنا". وتوجد أول آثارها في جنوب أفريقيا وشرقها، حيث جرت اكتشافات في تنزانيا الحالية في موقع يدعى ممر أولدفاي في خمسينيات القرن العشرين قلبت الأفكار التي كانت سائدة قبلها حول أصول البشر رأساً على عقب. وطوال الأربعين عاماً التالية راحت اكتشافات العلماء الجديدة توسع المجال الزمني الذي يدور فيه الجدل حول أصول الإنسان.

صحيح أن اكتشافات أخرى هامة قد حدثت في أفريقيا بعدها، وأن الاستنتاجات الأولى صارت الآن موضوع تساؤلات كثيرة، إلا أن البقايا التي وجدت في ممر أولدفاي مازالت أفضل نقطة بداية لسرد ما نعرفه.

لم تبدُ تلك البقايا ذات أهمية كبيرة في البداية، فالبحث الطويل لم يعطِ إلا مجموعة من القطع المتفرقة التي يمكن أن تتسع لها طاولة واحدة كبيرة. لقد وجد أكثر من ألف سن وحوالي اثنتي عشر جمجمة، أما من عظام الحوض فلم يكتشف إلا ثلاثة إضافة إلى لوح كتف واحد وعظام أخرى متفرقة. ولكن أهمية هذا الاكتشاف تكمن في أن هذه العظام كانت بقايا كائنات من نوع غير معروف سابقاً. سمي قرد الجنوب الأفريقي Australopithecus africanus وبدا أن عمر تلك البقايا بين مليونين وثلاثة ملايين سنة.

الفصل الأول - قـبل التـاريخ  Chp1-2
قرد الجنوب الإفريقي


كان طول قرد الجنوب هذا حوالي أربعة أقدام* ، وكان حوضه وساقاه وقدماه أقرب إلى البشر منها إلى القردة، أما جمجمته فكانت أشبه بالشكل القردي وتحمل دماغاً أكبر من حجم دماغ الغوريلا إضافةً إلى فك ضخم. وكانت طرفاه الأماميان ينتهيان بيدين حقيقيتين، ورؤوس أصابعه منبسطة النهايات مثل أصابع البشر. كما يمكننا استنتاج بعض الأمور عن سلوكه أيضاً، إذ تشير الأدلة إلى إقامته في المكان نفسه لفترات طويلة، ويعتقد العلماء أن ممر أولدفاي يقدم أول دليل على قيام البشريات بعمليات البناء، لأنهم وجدوا حاجزاً لاتقاء الريح مبنياً من الحجارة.

من المؤكد أن تلك الكائنات كانت من آكلات اللحم، إذ وجدت أيضاً عظام سحقت لاستخراج النقي منها والدماغ من الجماجم، وبما أنه لم تكن هناك نار لطهيها فلابد أنهم كانوا يأكلونها نيئة. كان هذا اللحم على الأرجح لحم جيف وجدوه أثناء بحثهم عن الطعام، ولكن تناول اللحم أمر ذو أهمية كبيرة، لأنه في الحقيقة طعام مركّز، لذلك لا يحتاج من يتناوله إلى الأكل على نحو دائم أو متكرر. ومن ناحية أخرى يمثل تناول اللحم مشاكل تقنية، لأن سحق العظام وكشط الجلد واللحم لا يمكن أن تكون عملية سهلة بالنسبة لكائنات متحدّرة من كائنات نباتية، فهي ليس لها الأسنان والمخالب الحادة التي تملكها بعض الثدييات الأخرى. لقد كانوا إذا ً بحاجة إلى مساعدة في حل هذه المشاكل، وربما كان في هذا الأمر تفسير لواحدة من أكثر الحقائق إثارةً بين اكتشافات أولدفاي، ألا وهي أن قرد الجنوب كان صانع أدوات.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://resalahmasriyah.mam9.com
Eng. Ahmedzoubaa
Admin
Eng. Ahmedzoubaa


عدد المساهمات : 1216
تاريخ التسجيل : 28/08/2010
العمر : 49

الفصل الأول - قـبل التـاريخ  Empty
مُساهمةموضوع: رد: الفصل الأول - قـبل التـاريخ    الفصل الأول - قـبل التـاريخ  Emptyالثلاثاء 14 يونيو 2011 - 6:52

الصفات البشرية

دلت الحفريات على أن أنواعاً مختلفة من الحجر قد جلبت إلى أولدفاي بعد التقاطها في مكان آخر، أي أنها انتقيت من بين غيرها. وقد عولجت تلك الأحجار بأن نزعت عنها رقائق للحصول على حد مسنن، فتحولت إلى سواطير فجة يمكن إمساكها باليد. وكانت تلك أول أدوات قاطعة صنعت بشكل مقصود، أي أن التقنية قد ابتدأت هنا منذ مليوني سنة.

إن ممر أولدفاي هو أول معلم في عملية صنع الأدوات، وهي عملية طويلة انتشرت ببطء في كافة أنحاء العالم، وسوف تحسّن تلك الأدوات ويكثر عددها جداً، ولكن الأدوات الحجرية بقيت طوال القسم الأكبر مما قبل تاريخ البشر وطوال القسم الأكبر من حياة جنسنا نفسه أيضاً هي الأدوات الأساسية في معالجة البيئة.

مازالت هناك أسئلة كثيرة معلقة فيما يخص مكتشفات أولدفاي، وأهم تلك الأسئلة هي: هل كانت تلك الكائنات حقاً جزءاً من أجداد البشر أصلاً؟ إنها بالتأكيد بشريات ، ولكنها ربما كانت تنتمي إلى سلالة غير التي تحدّرنا منها نحن، أي أنهم، ربما كانوا أولاد أعمام لنا بعيدين وليسوا أجداداً مباشرين. صحيح أنهم يشتركوا ببعض الصفات مع البشر اللاحقين، إلا أنهم في الوقت نفسه، يختلفون عنهم كثيراً في شكل جمجمتهم مثلاً وفي قصر قامتهم.

إن بعض العلماء يعتقدون بوجود "جد" مشترك في سلسلة أخرى أقدم، تحدّر منها كل من البشر وقردة الجنوب، ولكن الموضوع الأهم هو: ما موقع قرد الجنوب على سلم التطور؟ هل هو شكل أولي من الكائنات البشرية؟ أو يمكننا أن نسأل السؤال نفسه بطريقة أخرى: أين ينتهي التاريخ الطبيعي ويبدأ ما قبل التاريخ؟ إن الإجابة عن هذه الأسئلة تعتمد على تعاريفنا أصلاً، لأن الجواب يعتمد على ما نختار أن نعتبره من جوهر الطبيعة البشرية.

قال البعض إن اللغة هي التي تميز البشر، ولكن الحقيقة أن هناك حيوانات أخرى تصدر أصواتاً مختلفة كإشارات، وتقوم بحركات يبدو أن لها معاني، فما هي النقطة التي يمكننا أن نعتبر عندها الأشياء لغة؟ .

أما فيما يتعلق بعملية البناء فلا ننس أن النمل والنحل والطيور وحيوانات القندس قادرة عليها على نحو رائع، لقد اقترح بعضهم معياراً آخر لتمييز البشر هو استخدام الأدوات، ولكن هذا الأمر غير محصور بالبشر وحدهم، فالقردة تستخدم العصي لوكز أعشاش الحشرات، أو لمساعدتها في الوصول إلى أشياء بعيدة عن متناول يدها، إلا أن الرئيسات العليا القليلة غير البشرية التي وجد أنها تستخدم الأدوات إنما تستخدمها بطريقة بسيطة جداً، كما تبين الأمثلة، ويبدو أنها لا تصنع الأدوات بهدف معين من أجل الوصول إلى فائدة ما في المستقبل. فربما كان صنع الأدوات إذن معياراً أفضل من استعمالها يميز البشر عن غيرهم من الكائنات. وأن الإنسان هو الكائن الوحيد الذي تعلم أنه يفكر بشكل واع في التغيرات الممكنة في بيئته وفي أساليب تحقيقها.

ثمة سبب يجعلنا نعتقد أن سكان موقع أولدفاي أولئك كانوا مختلفين عن غيرهم من الرئيسات. فلما كانت الأحجار، وربما اللحم أيضاً، تجلب من مناطق بعيدة نسبياً، ولما كان جسم قرد الجنوب لا يسمح بتعلق صغاره بأمهم أثناء تنقلها مثل الرئيسات الأخرى على ما يبدو، فربما كان أولدفاي أول مثال نعرفه عن كائنات كان لها بيت تأوي إليه. إن البشر وحدهم من بين الرئيسات لديهم أماكن تبقى فيها الإناث والصغار لفترات طويلة، بينما يبحث الذكور عن الطعام ويحضرونه إليهم.

ويوحي هذا بأمر آخر يتعلق بعقل قرد الجنوب: يبدو أن تلك الكائنات كانت قادرة على التفكير بما سيحدث ولو بطريقة فظة ومبهمة، وقادرة على مقاومة الرغبة بتقطيع طعامها وتناوله حيث تجده، وتبدي ما يكفي من السيطرة على النفس لكي تحمله إلى بيتها لاستهلاكه هناك. إن كبح الدوافع الطبيعية لضمان الرضا مستقبلاً يكمن في أصل كل ما أنجزته البشرية، ويسمي علماء النفس هذه الآلية بعملية "النهي" وهي البداية البعيدة للتخطيط الواعي.

إلا أن الاكتشافات التي حصلت بعد ذلك قد زادت الأمور تعقيداً، إذ يبدو الآن أن قرد الجنوب قد وجد بأنواع عديدة، كما وجدت مؤخراً في مكان آخر من شرق أفريقيا أدلة على وجود كائنات أخرى كانت تعيش في الزمن نفسه، وهي تبدو أقرب إلى البشر اللاحقين، أقله من الناحية الجسمانية.

أي أن قردة الجنوب لم تكن البشريات الوحيدة في العالم منذ حوالي مليونين أو ثلاثة ملايين سنة. ولما كانت بعض تلك الكائنات الأخرى أشبه بالبشر من الناحية الجسدية فقد أطلق عليها اسم فصيلة Homo وهي الكلمة اللاتينية التي تعني الإنسان، وقد وجدت بقايا بعضها من سنوات قليلة قرب بحيرة رودولف* في كينيا، ويبدو أن طول أفرادها يبلغ خمسة أقدام* تقريباً، وأن دماغها أكبر بمرتين تقريباً من دماغ الشامبانزي الحالي.

ليس من السهل على غير المختص أن يجد طريقه بين أدلة مازال الجدال محتدماً حولها بين المختصين، ولا ننس أبداً أننا في أكثر الحالات تحت رحمة ما حالفنا الحظ بإيجاده، فليس من الضروري أن يكون ما اكتشف في أولدفاي نموذجاً لبقية أنحاء العالم، أو حتى لشرق أفريقيا في حوالي عام 2.000.000 قبل الميلاد ، أي أن هذه الأشياء ربما لم تبق إلا بمحض الصدفة. وربما تبدلت الصورة إذا ما اكتشفت أدلة أخرى، ولكن مع هذا يبدو من المرجح أن يكون البحث عن أصول البشرية في أفريقيا، حيث كانت تعيش منذ ثلاثة أو أربعة ملايين سنة، كائنات تنتمي لأكثر من نوع واحد وتشبه البشر في بعض النواحي. ويبدو أن بعضها وبالأخص قردة الجنوب قد نجحت نجاحاً كبيراً من الناحية البيولوجية، إذ تشير الأدلة إلى أنها كانت في حوالي عام 1.000.000 ق.م موجودة في كافة أنحاء العالم خارج الأمريكيتين وأستراليا.







* توركانا

* 150 سم تقريباَ
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://resalahmasriyah.mam9.com
Eng. Ahmedzoubaa
Admin
Eng. Ahmedzoubaa


عدد المساهمات : 1216
تاريخ التسجيل : 28/08/2010
العمر : 49

الفصل الأول - قـبل التـاريخ  Empty
مُساهمةموضوع: رد: الفصل الأول - قـبل التـاريخ    الفصل الأول - قـبل التـاريخ  Emptyالثلاثاء 14 يونيو 2011 - 6:52

الإنسان المنتصب

تزداد قصتنا تعقيداً بسرعة بعد حوالي 2.000.000 قبل الميلاد، إلا أن العلماء باتوا اليوم ماهرين في التمييز بين البشريات المختلفة. وما يهمنا بالنسبة لغرضنا هنا هو أن السلالة البيولوجية التي نشأ منها البشر كانت متفوقة في قدراتها، ويدل على هذا استمرارها، فرغم تقلبات المناخ على مدى ملايين السنين أظهرت الأنواع ذات الصفات البشرية قدرة على البقاء والانتشار والتأقلم مع الظروف المتغيرة تفوق قدرة كائنات كثيرة، ولو بدت لنا ضعيفة التطور. صحيح أننا نتحدث عن تغيرات مناخية استغرقت عشرات الألوف من السنين، إلا أنها كانت تغيرات سريعة بالقياس إلى الظروف الأكثر ثباتاً خلال ملايين السنين التي سبقتها. إن هذه التقلبات السريعة نسبياً تشمل ما نسميه "العصور الجليدية" ، التي استمر كل منها من 50 إلى مئة ألف سنة. خلال العصور الجليدية كانت مناطق شاسعة من نصف الكرة الشمالي مغطاة بألواح جليد هائلة بما فيها قسم كبير من أوروبا وأمريكا حتى مدينة نيويورك الحالية جنوباً، تزيد سماكتها أحياناً عن الميل* . وقد ميز العلماء الآن سبعة عشر أو تسعة عشر عصراً جليدياً، ومازال الخلاف دائراً حول عددها الدقيق، ابتدأ أولها منذ أكثر من ثلاثة ملايين عام، أما آخرها فقد انتهى منذ حوالي عشرة آلاف عام.

الفصل الأول - قـبل التـاريخ  Chp1-3

الإنسان المنتصب

كان أثر عصور الجليد على الحياة والتطور هائلاً، لأن امتداد الجليد البطيء كان حاسماً وكارثياً أحياناً على كل ما يقع في طريقه. ومازالت تضاريس طبيعتنا اليوم مشكّلة بفعل حتّ الجليد منذ آلاف القرون، وعندما ذاب الجليد نتجت عنه فيضانات واسعة لابد أن يكون لها فعل الكارثة محلياً، لأنها خربت مواطن الكائنات التي تأقلمت مع تحدي الحياة القطبية. إلا أن ذوبان الجليد كان يحمل أيضاً فرصاً جديدة، لأن المناطق التي يكشفها بزواله تصبح مساكن لأنواع جديدة.

وربما كان الأهم من ذلك في مجمل قصة التطور هو تتالي حدوث البرودة والدفء بصورة متكررة على بعد آلاف الأميال من الجليد نفسه، مما أدى إلى ظهور بيئات جديدة، وتبدّل الجفاف إلى انتشار المناطق العشبية الذي أعطى فرصة لعيش الأنواع الموجودة، والتي يشكل بعضها جزءاً من قصة تطور البشر. والجدير بالذكر أن أفريقيا كانت بعيدة عن أكبر حقول الجليد.

مازال المناخ بالطبع مهماً جداً في أيامنا أحياناً، ولكن محلياً، وعلى مدى أقصر بكثير من الماضي، فهو لم يعد يحدد أماكن بقاء البشر على نحو مطلق. أما في عصور ما قبل التاريخ فقد كان المناخ هو الذي يحدد ذلك، ولم يتمكن البشر من التغلب عليه إلا بصفات جسدية وعقلية اكتسبوها ببطء.

كانت بعض سلالات البشريات أقدر من غيرها على التعامل مع الطبيعة والتحكم بها إلى حد ما. ولنعد إلى موضوع إصبع الإبهام عند البشر، الذي ذكرنا سابقاً أصوله البعيدة، فكثيراً ما يغيب عن بالنا فائدة إصبع الإبهام وأهميته الكبيرتين: إن تقريبه من السبابة يسمح لنا بالتقاط الأشياء الصغيرة، كما يمكننا أن نلفه حول ساعد سلاح أو أداة لكي نحكم قبضتنا عليه، وهو يسهل كثيراُ عملية صنع الأدوات، عدا عن عزف البيانو ورسم اللوحات وممارسة الرياضة بالطبع.

إلا أن الناحية الحاسمة في تفوق البشر على غيرهم من الحيوانات كانت على الأرجح كبر حجم دماغهم، وربما كان هو ما سمح لبعض البشريات بالتفكير في الغد. لقد تضافر هذا العامل مع وجود بيت تأوي إليه البشريات فجعلا بقاءها أسهل. إن صغار البشريات بحاجة إلى زمن طويل لكي تنمو، ولابد أن تكون القدرة على التفكير مع وجود بيت يلجؤون إليه قد سهلت نموهم حتى يصبحوا بالغين ويربوا صغارهم بدورهم. كما أن البيت قد مكن من الراحة والتعافي من الأمراض والحوادث. وكيفما جرت تلك الأمور فإن النتيجة النهائية واضحة: فقد اختيرت الأنواع ذوات الصفات الأكثر بشرية رويداً رويداً عبر آلية الاصطفاء الطبيعي القاسية.

كانت الطبيعة حتى ذلك الحين قد عملت على إزالة السلالات الجينية العاجزة عن التأقلم الجسدي مع تحديات البيئة، ولكن عندما تسلحت بعضها بالحذر وبعد النظر والمهارة صار بإمكانها أن تتجنب الكوارث وصارت هناك قوة جديدة في عملية الاصطفاء، وهي تشبه كثيراً ما نسميه بالذكاء البشري، فعند هذا المنعطف نبدأ البحث عن المحطة التي نزلنا منها إلى البشرية. وتقدم تلك القوة العلامات الأولى على ذلك التأثير الإيجابي والواعي على البيئة، والذي يدل على أبكر إنجازات البشر.

إلا أن هذه الأفكار كلها تبقى ضرباً من التخمين، ولا يجوز أن ننسى أبداً أن معلوماتنا عن قسم كبير مما قبل التاريخ هي معلومات زهيدة للغاية. فأوروبا مثلاً لا تحوي إلا كهفاً واحداً وجدت فيه أدوات تشبه أدوات قرد الجنوب في أفريقيا، ولا يزيد عمرها عن المليون سنة إلا قليلاً.

بعد ذلك الزمان بمرحلة طويلة نجد أدلة على خطوة أخرى هامة في التطور البشري، فقد ظهر كائن ذو نمط جسماني جديد في حوالي 800.000 ق.م، ثم انتشر رويداً رويداً في كافة أنحاء "العالم القديم" ( أي بر أفريقيا وأوروبا وآسيا التي انفصلت الآن عن الأمريكيتين وعن جزر جنوب شرقي آسيا) بحلول عام 250.000 ق.م تقريباً. تدعى الأشكال الأبكر من هذا الكائن "الإنسان الماهر"، وقد سميت تطورات لاحقة إلى نوع آخر بـ"الإنسان المنتصب".

الفصل الأول - قـبل التـاريخ  Chp1-4

الإنسان الماهر

إن الفرق الحاسم بين الإنسان المنتصب والكائنات السابقة الشبيهة بالإنسان، هو في الحجم، وخاصةً حجم الدماغ. فقد طورت إحدى السلالات دماغاً أكبر بمرتين تقريباً من دماغ قرد الجنوب، وأقرب بكثير إلى الإنسان الحديث من دماغ أي من البشريات الأسبق. وكانت هناك كائنات أخرى شبيهة بالإنسان وذوات دماغ كبير، وجدت أجزاء بعضها في أماكن بعيدة مثل الصين وجاوة*.

ولكن يبدو أن الإنسان المنتصب قد نشأ في أفريقيا ثم انتشر إلى أوروبا والقسم الأكبر من آسيا. وقد حاول العلماء أن يقيسوا الفترة التي استغرقها هذا الانتشار، وتقول إحدى النظريات إنها دامت ثلاثة أو أربعة آلاف سنة، كان ينتشر فيها بمعدل ميل واحد* في العام باتجاه الشمال عبر الصحراء الكبرى الحالية والشرق الأدنى إلى فرنسا.

ورغم أنه لم يترك له مستحاثات في أوروبا فإنه استمر فترة أطوال بحوالي عشر مرات من فترة وجود البشر كما نعرفها. ويمكننا تقصي أثره من خلال أدوات خاصة كان يستخدمها، أهمها الأداة الحجرية المسماة بالفأس اليدوية. وقد دلت أماكن اكتشاف هذه الأداة على الأماكن التي سكنها الإنسان المنتصب وازدهر فيها.







* 1.5 كم تقريباً

* جزيرة في أندونيسيا

* 1.5 كم تقريباً
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://resalahmasriyah.mam9.com
Eng. Ahmedzoubaa
Admin
Eng. Ahmedzoubaa


عدد المساهمات : 1216
تاريخ التسجيل : 28/08/2010
العمر : 49

الفصل الأول - قـبل التـاريخ  Empty
مُساهمةموضوع: رد: الفصل الأول - قـبل التـاريخ    الفصل الأول - قـبل التـاريخ  Emptyالثلاثاء 14 يونيو 2011 - 6:53

الصيد

بالرغم من الفجوات الهائلة في معرفتنا بالإنسان المنتصب، فإننا نعلم أنه كان نوعاً ناجحاً جداً. كيف حصل على هذا الدماغ الكبير؟ مازال هذا الأمر غامضاً، وعلى الأرجح أن يكون تبدل الغذاء هو سبب ظهور هذا النمط الجسماني الجديد، إذ يبدو أن تناول كمية أكبر من اللحم قد ساعد الكائنات ذوات القوام الأكبر من المتوسط على البقاء والتكاثر. وربما كان لهذا الأمر علاقة بظهور أول مهارة متخصصة، أي مهارة الصيد.

يبدو أن اللواحم الأولى كانت تعتمد إما على الفرائس الصغيرة مثل الزواحف والقوارض، أو أنها كانت تأكل جيف حيوانات أكبر بعد موتها. فقد وجد في أولدفاي عند بداية سجل المستحاثات فيلاً وربما زرافات وجواميس أُكل لحمها. أما بعد هذا التاريخ فيغلب وجود عظام حيوان أصغر بين الفضلات ولزمن طويل. ولكن العيش على بقايا حيوانات ميتة لا يمكن أن يكون طريقة يعتمد عليها، بل لابد من أن يكون قد تحول إلى صيد حقيقي، وصيد حيوانات كبيرة أيضاً، ولو ببطء شديد، ولقد كان لهذا التحول نتائج عظيمة جداً.

يلاحظ بين بقايا أطعمة تلك الكائنات ازدياد حجم الحيوانات المأكولة، ويقابله نمو في حجم جماجم الكائنات التي تقتات عليها. ففي حوالي عام 300.000 ق.م كانت الأفيال تقتل وتقطع في المكان نفسه، وقد وجدت بقايا أعداد كبيرة منها، بينها موقع وجد فيه حوالي خمسين فيلاً، وخلال هذه الفترة نفسها وحتى أزمنة لاحقة تطورت أشكال أسنان وأفكاك تلك الكائنات الشبيهة بالإنسان رويداً رويداً مبتعدة عن الأشكال المميزة لآكلات النباتات.

ولا يمكن تمييز السبب عن النتيجة في هذا التطور، لأن الصيد المنظم الذي يسمح بتناول اللحم لا يمكن أن تقوم به إلا كائنات أحرزت بالأصل من التطور ما يمكنها من القيام بهذه العملية المعقدة. ويدل هذا الأمر من جديد على تسارع عملية التطور.

لقد ظهر بين عامي 1.000.000 و 100.000 قبل الميلاد مجال هائل من القدرات والمهارات الجديدة، وهي التي مكنت من نشوء المجتمعات البشرية الأولى.

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://resalahmasriyah.mam9.com
Eng. Ahmedzoubaa
Admin
Eng. Ahmedzoubaa


عدد المساهمات : 1216
تاريخ التسجيل : 28/08/2010
العمر : 49

الفصل الأول - قـبل التـاريخ  Empty
مُساهمةموضوع: رد: الفصل الأول - قـبل التـاريخ    الفصل الأول - قـبل التـاريخ  Emptyالثلاثاء 14 يونيو 2011 - 6:53

قبضة جديدة على العالم

قبل أن يصبح صيد الحيوانات الكبيرة ممكناً كان يجب أن يعرف الكثير عن عاداتها، وأن يصبح من الممكن نقل هذه المعرفة إلى الآخرين المشاركين في مغامرة الصيد التعاونية، من جيلٍ إلى جيل، فلابد أن يكون إذاً ثمة نوع من أنواع الكلام. يقول بعضهم إن الاصطفاء الجيني الذي أدى إلى تغيرات بشكل الدماغ قد ساعد أيضاً على تطور اللغة. قد لا يُعرف أبداً كيف كانت قردة الجنوب تتفاهم فيما بينها، ولكننا نعلم أن رئيسات أقل تطوراً منها كانت تملك طرقاً للتفاهم.

ربما كانت الخطوات الأولى في تنظيم اللغة هي تقطيع نداءات تشبه نداءات الحيوانات الأخرى إلى أصوات متميزة يمكن إعادة ترتيبها، بحيث يمكن إيصال رسائل مختلفة. وربما كان هناك تطورات أخرى مساعدة أيضاً، فالبصر كان يتحسن، وكذلك الإحساس بالعالم كمجموعة كبيرة من الأشياء المنفصلة، وصناعة الأشياء الجديدة (الأدوات) كلها كانت تحدث بشكل متزامن مع تطور اللغة على مدى مئات آلاف السنين، فتضافر كل تلك العوامل هو الذي مكّن من ظهور التفكير المجرد أي التفكير بأشياء ليس لها وجود ملموس، ولابد أن يكون الصيد قد عزز هذا التطور، لأنه زاد من أهمية حفظ المعلومات وتذكرها.

يحتاج الصيد أيضاً إلى مجال واسع من التقنيات والمهارات، لأن الإيقاع بحيوانات عملاقة مثل الماموث ووحيد القرن الصوفي وقتلها باستخدام أسلحة من الحجر والخشب فقط هو في الحقيقة أمر في غاية الصعوبة، ولابد من الكثرة والتنظيم لدفع الحيوان إلى مكان مناسب لقتله، كوجود مستنقع يتخبّط فيه، أو نقاط إشراف جيدة وآمنة للصيادين، وحتى بعد موته تبقى مشكلة تقطيعه بتلك الأدوات الخشبية والحجرية، ثم نقل اللحم إلى البيت. كان وجود كميات أكبر من اللحم خطوة صغيرة جداً نحو توفر بعض وقت الفراغ، لأنه يحرر آكليه مؤقتاً من عناء التفتيش الدائم عن كميات زهيدة من الطعام ولو كانت متوفرة دوماً، ويتيح لهم الوقت لفعل أشياء أخرى، فيمكنهم عندئذٍ أن يضيفوا شيئاً ما إلى التقنية الموجودة.

لقد حسّن الإنسان المنتصب الفؤوس اليدوية ذوات الوجهين، كما خلّف أول دليل أكيد على بناء مساكن، وأول خشب مشغول، وأول رمح خشبي، وأول وعاء وهو طاسة خشبية. إن اختراع أشياء على هذا المستوى يدل على سرعة في التطور وقدرة مختلفة تماماً عما كان موجوداً من قبل. كان العقل يشكل أفكاراً عن الأشياء قبل البدء بصنعها، إذ يقول بعضهم إن الأشكال البسيطة من مثلثات وأشكال إهليلجية وبيضوية، والمطبّقة على أعداد هائلة من الأدوات الحجرية يمكن اعتبارها البدايات الأولى للفن، أي إنتاج أشياء تسر بشكلها عدا عن فائدتها.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://resalahmasriyah.mam9.com
Eng. Ahmedzoubaa
Admin
Eng. Ahmedzoubaa


عدد المساهمات : 1216
تاريخ التسجيل : 28/08/2010
العمر : 49

الفصل الأول - قـبل التـاريخ  Empty
مُساهمةموضوع: رد: الفصل الأول - قـبل التـاريخ    الفصل الأول - قـبل التـاريخ  Emptyالثلاثاء 14 يونيو 2011 - 6:55

النار: استخدامها وإنتاجها

إن أعظم التطورات التقنية للإنسان المنتصب كان تعلم تدبير النار، ونجد أول دليل على استخدام النار في الصين حوالي عام 600.000 ق.م، ولكنه لا يدل على وجود القدرة على توليدها، ويرجّح ألا يكون الإنسان المنتصب قد توصّل إلى توليد النار قط. بالرغم من هذا تبقى قدرته على استخدامها مكسباً هائلاً، بل أهم تغير فريد في التقنية قبل قدوم الزراعة. وقد كان ذلك أول استغلال كيميائي للطاقة بطريقة مختلفة عن عملية تحويل الطعام داخل الجسم.

ونجد عند كثير من الشعوب أساطير عن أبطال أو حيوانات سحرية استولت على النار للمرة الأولى من الآلهة عادة، وربما كان هذا إبرازاً لذكرى بعيدة عن أن النار الأولى قد أخذت من مصدر طبيعي، مثل نشاط البراكين أو اندفاعات الغاز الطبيعي أو حرائق الغابات.

الفصل الأول - قـبل التـاريخ  Chp1-5

الحصول على النار من حرائق الغابات

كان استخدام النار على كل حال عملية ثورية، وعلينا ألا ننس أنها استغرقت مئات الألوف من السنين لكي يظهر تأثيرها الكامل. ومن النتائج المباشرة للنار أنها وفرت الدفء والنور والتغلب على البرد والعتمة، فضمنت من ثم تأقلم الإنسان مع البيئة الباردة والمعتمة ولو بصورة ضئيلة في البداية، فقد صارت العائلات قادرة على العيش في مناطق أبرد من ذي قبل، كما سهّلت قليلاً حياتها في المناطق المعتدلة، وسمحت بسكن الكهوف المعتمة ومن ثم بوقاية أفضل من الطقس، كما صار بالإمكان طرد الحيوانات من ملاجئها وإبقاؤها خارجاً، وربما نشأت من هنا فكرة استخدام النار لملاحقة الحيوانات الكبيرة في الصيد.

ومكنت النار أيضاً من تقسية الرماح الخشبية، ومن الطبخ، فصار تناول الطعام أسهل، فامتصاص نقي العظام أصبح أمراً ممكناً بعد طبخها، بعد أن كانت عملية شاقة جداً وهي نيئة. لهذا نرى الحيوان والغوريلا يقضيان جزءاً كبيراً من وقتهما في مضغ الطعام النيئ، في حين يوفر الطبخ الوقت الذي يقضيه الكائن بمضغ الطعام وهو نيئ. والأهم من هذا فإن الطبخ يمكّن من تناول أنواع من الطعام لا يمكن أكلها وهي نيئة، أو نباتات كريهة مرة الطعم، ولابد أن يكون هذا قد زاد من موارد الطعام، وبالتالي سهّل نمو عدد السكان قليلاً، وربما حفز الانتباه أيضاً إلى تنوع الحياة النباتية وتوفرها، فكان بداية علم النبات وفن الطبخ. وأخيراً فإن تناول الطعام المطهو قد ساهم على المدى الطويل في تغير شكل الوجه والأسنان.

وربما ساهم الطبخ أيضاً في كبح الدوافع الآنية، لأن تأجيل الأكل يمنع إشباع الشهية الآني بابتلاع الطعام نيئاً، وإن وجود نار الطبخ كمصدر للضوء والدفء يلم الناس من حوله بعد حلول الظلام، ويزيد من وعي المجموعة بنفسها كجماعة مشتركة، ولابد أن يتكلموا فيما بينهم بطريقة ما، فيتسارع تطور اللغة التي لا نعرف عن أصولها إلا القليل. وأخيراً سببت النار تمايزات جديدة بين أفراد الجماعة، إذ ظهر في وقت من الأوقات حملة النار والمختصون بها، وهم أفراد ذوو أهمية مهيبة وسرية، لأن حياة بقية الجماعة وموتها قد يعتمدان عليهم. كان هؤلاء يحملون الأداة المحررة العظيمة ويحرسونها، ويتحكمون بقدرتها من أجل تحطيم الإيقاع القاسي لليل والنهار بل للفصول أيضاً.

نرى إذن أن ظهور النار خلال عصر الإنسان المنتصب قد خفّف قليلاً من ضغوط الإيقاعات الخارجية الكبرى لعالم الطبيعة على حياة البشريات، فصارت الحياة الآن أقل روتينية وآلية مما كانت عليه عند قرد الجنوب، وباتت بعيدة جداً عن حياة الحيوانات التي لا يحكم سلوكها إلا ما وهبتها الطبيعة من غرائز وجينات. لقد كان بإمكان الإنسان المنتصب أن يختار، وهذه هي خير حجة تسمح لنا أن نقول إن هذا النوع كان أقرب إلى الإنسان مهما كانت الحدود بين القردة والبشر، ومهما بدت حياته مقيدة وتعيسة.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://resalahmasriyah.mam9.com
Eng. Ahmedzoubaa
Admin
Eng. Ahmedzoubaa


عدد المساهمات : 1216
تاريخ التسجيل : 28/08/2010
العمر : 49

الفصل الأول - قـبل التـاريخ  Empty
مُساهمةموضوع: رد: الفصل الأول - قـبل التـاريخ    الفصل الأول - قـبل التـاريخ  Emptyالثلاثاء 14 يونيو 2011 - 6:55

المجتمع الأول

إن تشكيل صورة عن الظروف المادية للحياة قديماً أسهل من تشكيل صورة عما كان يدور داخل الأدمغة الأكبر التي كانت تصارع تلك الظروف، وليس لنا إلا أن نتأمل بقاياها المادية علها تخبرنا بشيء عن ذلك. ومن المفيد هنا أن نعود للتفكير بصيد الطرائد الكبيرة، ما إن صار الإنسان المنتصب معتمداً على اللحم حتى أمسى طفيلياً على قطعان الطرائد، فبات مضطراً للحاق بها حيثما ذهبت، أو استكشاف أرض جديدة بحثاً عنها ، وصار أكثر قابلية للاستقرار والتكاثر في بعض الأماكن منه في بعضها الآخر. هناك كان يؤسس له بيوتاً يأوي إليها، ويبدو أن بعضها قد ظل مسكوناً طوال آلاف وآلاف السنين.

وكانت العائلة المقيمة في البيت تتطور أيضاً، لأن وجود ذلك المأوى قد جعل تطور العائلة البشرية مختلفاً جداً عن عائلات الحيوانات. وازداد التباين بينهما مع ازدياد حجم أسلاف الإنسان العاقل، لأن زيادة حجم الدماغ تعني بالضرورة زيادة حجم الرأس، وبالتالي زيادة حجم الجنين قبل الولادة، وقد انعكس هذا الأمر في تغيرات حوض الأنثى سمحت بولادة صغار ذوي رؤوس أكبر، كما اقتضى استطالة فترة النمو بعد الولادة حتى يبلغ الأطفال سن النضج. ولم يكن بإمكان جسم الأنثى أن يتطور فيزيولوجياُ بحيث يحتضن الطفل حتى نضجه الجسماني قبل ولادته، لذلك يحتاج أطفال البشر إلى عناية طويلة من الأم بعد الولادة، بعكس أطفال أكثر الثدييات التي تنضج صغارها خلال أشهر قليلة.

الفصل الأول - قـبل التـاريخ  Chp1-6
المجتمعات الأولى


إن استطالة فترة الطفولة واعتماد الأطفال على دعم أسرتهم ومجتمعهم قبل نضجهم اقتضيا أن تتطور عائلة البشر بشكل مختلف كل الاختلاف عن عائلات الحيوانات الأخرى، وقد كان للاصطفاء الجيني هنا دور أيضاً، إذ لم تعد كثرة عدد الصغار طريقة لضمان بقاء النوع، بل تعلمت المجتمعات البشرية أن تعطي عناية أكثر وأطول لحماية صغارها وتربيتهم وتدريبهم، وكثيراً ما تمتد هذه العناية في أيامنا حتى العشرينات، وظهرت أيضاً فروق أشد بين أنماط حياة الذكور والإناث، فصارت أمهات البشريات أكثر تقيداً من كثير من أمهات الرئيسات الأخرى، وأصبح الآباء أكثر انشغالاً بتأمين الطعام عن طريق الصيد، الذي يتطلب نشاطاً شاقاً وطويلاً يصعب على الإناث المشاركة فيه.

من النتائج الأخرى لاستطالة فترة الطفولة أن التعلم والذاكرة قد صارا أكثر فأكثر أهمية، ويبدو أن الإنسان المنتصب قد عبر خطاً هاماًُ من هذه الناحية أيضاً، إذ زال السلوك المبرمج بالجينات عند أسلاف البشر، ليحل محله التعلم الواعي حول البيئة والتفكير فيها. وقد حدث تغير كبير حلت فيه التقاليد والثقافة، أي الأشياء التي يتعلمها أفراد جماعة ما بعضهم من بعض، محل الميراث الفيزيولوجي كعامل في الاصطفاء التطوري، ولو أننا قد لا نعلم أبداً متى حدث هذا التغير بالضبط.

إلا أن الميراث الفيزيولوجي مازال هاماً جداً بالطبع. فقد كان هناك مثلاً صفة جنسية فريدة حصلت عليها إحدى السلالات الجينية في زمن بعيد جداً، وكان لها تأثير كبير في شكل المجتمع البشري في المستقبل، فعند جميع الثدييات الأخرى تكون جاذبية الأنثى للذكر وخصوبتها أيضاً محصورتين بفترات معينة من التهيج الجنسي، وتتعرض حياتها خلالها إلى اضطراب شديد، يمنعها من العناية بصغارها والاستمرار بتربيتهم. أما إناث البشر فليس لديهن هذه الدورة، ولهذا الأمر أهمية كبيرة، فلو كنَّ مثل غيرهن من الحيوانات لتعرض صغارهن للإهمال فترات طويلة يمكن أن تؤدي إلى صعوبة الاستمرار في الحياة. تسمى هذه الدورة "الدورة النزوية"، وربما احتاج ظهور سلالة جينية متحررة من "الدورة النزوية" حوالي مليون سنة، ولكنها عندما ظهرت كانت نتائجها على مستقبل تطور البشرية هائلة، وسوف تؤثر في نواح كثيرة من طريقة حياتنا نعتبرها اليوم عادية.

كانت إناث البشر إذن تجتذب الذكور دائماً، ولم يكن ذلك محصوراً بفترات يخضع فيها كلا الجنسين إلى آليات أوتوماتيكية من الانجذاب، ولابد أن يكون هذا الأمر قد جعل الخيار الفردي عاملاُ أهم بكثير في التزاوج. كانت تلك بداية طريق غامضة وطويلة جداً سوف تؤدي إلى مفاهيم الحب الجنسي فيما بعد، تتضافر مع الطفولة الطويلة والاعتماد المتزايد الناتج عن تحسن عملية جمع الطعام، لكي تسير باتجاه الوحدة العائلية البشرية الثابتة والمستمرة، والمؤلفة من الأب والأم وذريتهما الذين يبقون معاً ويؤلفون جماعة مشتركة حقيقية. إن هذه المؤسسة لا توجد إلا عند البشر، ولو أن عائلات البشر ليست كلها على هذه الصورة، كما أن الترتيبات الاجتماعية الحديثة كثيراً ما تنتقص منها.

ومن جديد نجد أنفسنا تحت رحمة التخمين، ويجدر بنا أن نكون حذرين جداً. إن الأشياء الأكيدة التي نستطيع معرفتها عن الحياة الاجتماعية لأسلافنا قليلة جداً، ولكننا نشعر في الوقت نفسه أن ما حدث للبشريات الباكرة مهما كان بطيئاً قد وضع الخطوط الأساسية لقسط كبير من حياة البشر قبل وجود أناس مثلنا بزمن طويل. لقد أخذت الثقافة والتقاليد رويداًً رويداُ دور الطفرات الجينية والاصطفاء الطبيعي كمصدر أساسي للتغير بين البشريات، أو يمكننا القول إن التعليم قد صار يمثل أهمية الميراث البيولوجي من أجل البقاء. فالجماعات التي استطاعت تذكر الطرق الفعالة في أداء الأمور والتفكير فيها بأفضل من غيرها قد حملت تطور البشرية إلى الأمام بشكل أسرع. وقد جرت محاولات لتتبع ذلك في التطور الفيزيولوجي لقشرة المخ، أي كتلة الخلايا التي تكون الدماغ نفسه.

ولكننا عندما نحاول التفكير بالعمليات الذهنية في مرحلة ما قبل التاريخ، فإن الشيء الوحيد المؤكد الذي نعلمه هو أنها كانت بعيدة كل البعد عن عمل أذهاننا. وكل ما يمكننا أن نقوله هو إن حياة الإنسان المنتصب تبدو أقرب إلى حياة البشر منها إلى أسلاف البشر، فمن الناحية الجسدية كان حجم دماغه على مستوى يقارب دماغنا نحن، ولو أن شكل جمجمته مختلف عنا بعض الشيء. كما أنه يصنع الأدوات بأساليب تختلف من مكان لآخر، ويبني الملاجئ ويحتمي في المخابئ الطبيعية باستخدام النار، ثم ينطلق منها ليصطاد ويعود بالطعام، وهو يقوم بهذا كله في جماعات على درجة من التنظيم وقادرة على نقل الأفكار عبر الكلام، ومبنية على أساس وجود بيت وتمييز بين أنشطة الذكور والإناث. بل ربما كان هناك تخصصات أخرى أيضاً، لأن حملة النار والأفراد الأكبر سناً الذين تختزن ذاكرتهم خبرة مجتمعاتهم كانوا يعتمدون في معيشتهم على جهد الآخرين إلى حد ما.

من العبث أن نحاول البحث عن خط فاصل في مرحلة ما قبل التاريخ، إذ ليس ثمة دليل على شيء من هذا القبيل، وكل ما يمكننا أن نقوله بثقة هو إن الأمور قد سارت باتجاه معين. وعندما تطور أخيراً نوع فرعي أو أكثر من الإنسان المنتصب إلى نمط جسماني جديد هو الإنسان العاقل، كان يملك في حوزته إنجازاً وميراثاً كبيرين. إن الأفراد يأتون إلى العالم عراة، أما البشرية فلم تأت عارية بل إنها قد حملت معها من الماضي كل ما يجعلها بشرية.

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://resalahmasriyah.mam9.com
Eng. Ahmedzoubaa
Admin
Eng. Ahmedzoubaa


عدد المساهمات : 1216
تاريخ التسجيل : 28/08/2010
العمر : 49

الفصل الأول - قـبل التـاريخ  Empty
مُساهمةموضوع: رد: الفصل الأول - قـبل التـاريخ    الفصل الأول - قـبل التـاريخ  Emptyالثلاثاء 14 يونيو 2011 - 6:56

الإنسان العاقل

إذا نظرنا إلى العمر الذي عاشه نوعنا، أي الإنسان العاقل حتى الآن بالقياس إلى طول الأزمنة قبل التاريخية وجدناه عمراً قصيراً، فالإنسان المنتصب قد عاش على الأرض واستغلها بنجاح لفترة أطول منا بحوالي عشر مرات.

الفصل الأول - قـبل التـاريخ  Chp1-7

ولكن كما قلنا في السابق لا توجد خطوط فاصلة واضحة، ولابد أن تكون أنواع مختلفة وكثيرة من البشريات قد عاشت على الأرض طوال آلاف السنين وبصورة متداخلة، بحيث عاصرت الأجيال الأخيرة من بعض فصائلها الأجيال الأولى من فصائل أخرى. وهذا واحد من الأسباب التي تجعل من الصعب تحديد زمن ظهور النوع التالي الهام من البشريات، وكل ما يمكننا أن نقوله هو إنه ازدهر بين عامي 250.000 و 50.000 قبل الميلاد، وفي هذا التاريخ الأخير كان المجال مفسوحاً لوجود كائنات بشرية تشبهنا بشكل أوضح.

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://resalahmasriyah.mam9.com
Eng. Ahmedzoubaa
Admin
Eng. Ahmedzoubaa


عدد المساهمات : 1216
تاريخ التسجيل : 28/08/2010
العمر : 49

الفصل الأول - قـبل التـاريخ  Empty
مُساهمةموضوع: رد: الفصل الأول - قـبل التـاريخ    الفصل الأول - قـبل التـاريخ  Emptyالثلاثاء 14 يونيو 2011 - 6:57

النياندرتاليون

تبدأ القصة باكتشاف جمجمتين في أوروبا عمرهما حوالي ربع مليون سنة، كان شكل هاتين الجمجمتين مختلفاً عن جمجمة الإنسان المنتصب، كما كان دماغهما أكبر منه، ولكنهما لا تشبهان جمجمة البشر الحديثين كثيراً، وكل ما دلتنا عليه هو وجود شيء مختلف عن الإنسان المنتصب. بعد ذلك يحل عصر جليدي جديد ويسدل الستار، فتختفي بقاياه وبقايا البشريات إلى أن تعود المستحاثات لتظهر منذ حوالي عام 100.000 قبل الميلاد، أي في منتصف المرحلة الدافئة التالية. تدل هذه الآثار الجديدة على قطع خطوة كبيرة نحو الأمام، لأنها أول أثر ضمن فصيلة الإنسان على النوع المسمى الإنسان العاقل. ويسمى هذا النوع تحديداً الإنسان العاقل النياندرتالي، على اسم المكان الذي اكتشفت فيه أول جمجمة تنبئ بوجوده أي وادي نياندرتال في ألمانيا، غير البعيد عن دوسلدروف.

كان شكل النياندرتاليين مختلفاً بعض الشيء عن شكل أكثر البشر الحديثين، إذ كانت ذقنهم صغيرة جداً وكانوا ذوي بنية غليظة جداً، والحقيقة أن شكل أول جمجمة وجدت كان غريباً إلى حد أن بعض العلماء حسبوها جمجمة إنسان حديث متخلف عقلياً. ولكن ربما كان بعض البشر الحديثين يشبهون النياندرتاليين قليلاً، فلا داعي إذاً للمبالغة بالفروق بيننا وبينهم، كما أننا نعلم أنهم كانوا يستخدمون اليد اليمنى مثل أكثر البشر الحديثين، أي أن نقاط التشابه بيننا عميقة, إن الفرق الحاسم الذي يميز النياندرتاليين عن البشريات الأبكر إنما هو حجم دماغهم الأكبر. ولما كان من الصعب ربط النياندرتاليين بالبشريات الأسبق فقد مال البعض في البداية إلى الظن أنهم انفصلوا عنها لسبب ما، ربما بسبب الجليد، ولكن مع تزايد المعلومات بات من الواضح أنهم كانوا منتشرين انتشاراً واسعاً جداً، من أوروبا الغربية والمغرب وحتى الصين، وكانت لهم مستوطنات غيرها في الشرق الأدنى 200.000 ق.م. من المؤكد على كل حال أنهم كانوا يعيشون في قسم كبير من أوروبا وآسيا في حوالي 80.000 ق.م، أي مباشرة قبل بداية عصر جليدي آخر( كان الأسوأ) .

صحيح أن شكل النياندرتاليين يبدو لنا بدائياً، إلا أنهم كانوا في الحقيقة على درجة كبيرة من النجاح، وأكثر قدرة وتطوراً ذهنياً من أي كائن ظهر على الأرض قبلهم، وعندما عاد الجليد لم يتجهوا إلى الجنوب، بل بذلوا قصارى جهدهم للتعايش مع البرد، فانتقلوا إلى الكهوف بحثاً عن الحماية، واستخدموا النار التي كانوا يبقونها مشتعلة في حفر جعلوها بأرض كهوفهم تلك.

الفصل الأول - قـبل التـاريخ  Chp1-8
إنسان نياندرتال


ولا يمكن لحياة الكهوف أن تكون مريحة، فالنار تملؤها بالدخان، كانوا على الأرجح يحرقون دهن الحيوانات وعظامها لأن الخشب ازداد ندرة في سهول التندرة الجديدة الناتجة عن الجليد. عدا عن الرائحة الكريهة المنبعثة من الفضلات على الأرض، والرطوبة الكامنة من أعماقها حيث لاتصل حرارة النار. إلا أن الكهوف قد سهلت بقاءهم، وكانوا في جميع الحالات تقريباً يختارونها متجهة نحو الجنوب لكي يضمنوا أكبر قدر ممكن من أشعة الشمس، وربما غطوا مداخلها بستائر من الجلد في أشهر الشتاء.

لقد كان هذا استخداماً للتقنية بطريقة جديدة، كان النياندرتاليون يرتدون الجلود أيضاً، وكانت أدواتهم الحجرية أفضل شكلاً من أدوات أسلافهم. ويوحي تزايد سلطتهم على الطبيعة بأنهم كانوا يملكون لغات معقدة، ولو أن بعض العلماء يقولون إن جماجمهم توحي بأن أجزاء الدماغ التي تعالج الكلام كانت أقل تطوراً من الأجزاء الأخرى، ومع هذا فلابد أنهم كانوا يملكون بعض الأفكار المتقدمة جداً وبالتالي الكلمات اللازمة للتعبير عنها، لأنهم أيضاً كانوا يمارسون أمراً جديداً كل الجدة: لقد كانوا يدفنوا موتاهم!!! تدل بعض قبور النياندرتاليين على عناية كبيرة بالدفن، فقد وجد قرب سمرقند مثلاً جسم طفل نياندرتالي دفن ضمن حلقة من قرون الحيوان، بينما نجد في العراق قبراً آخرا يضم جسد رجل محاط بأكداس الأزهار والأعشاب البرية وضعت في القبر قبل دفنه. إن هذه الأمور مهمة، لأنها أولاً أقدم حالة تمكننا من معرفة حقائق عن الماضي من خلال القبور وكثيراً ما تعطينا القبور معلومات غنية، كما أنها من ناحية أخرى تدل على تغير هائل في التفكير، فلماذا كان النياندرتاليون يدفنون موتاهم؟؟!!

إننا لا نملك الجواب الدقيق، ولن نعرفه على الأرجح ، ولكن ربما كان بعض النياندرتاليين قد بدؤوا بتجريب الطقوس، فربما كانوا يحاولون التحكم بالطبيعة عبر القيام بأفعال معينة من أجل إحداث أشياء ما، بل ربما كانت عمليات الدفن هذه والآثار الضئيلة لطقوس متعلقة بالحيوانات في مواقع أخرى لهم علامات على بدايات الدين. وربما بعضهم قد بدأ يؤمن بعالم آخر غير منظور ولكنه قوي، بل كانت الحياة بعد الموت ممكنة فيه. إننا لا نعلم الحقيقة، إلا أن التأمل في هذا الموضوع يبين بصورة واضحة أن النياندرتاليين قد بلغوا مستوى جديداً من العقل. إن العلامات الجديدة ، مثل حجم جمجمتهم ودماغهم الكبير، تدل على أنهم كانوا بشراً يستطيعون بطريقة ما أن يفكروا بشكل مجرد، كما نفعل نحن، كانت مواردهم العقلية على مستوى جيد مكنهم من مواجهة تحديات آخر العصور الجليدية، فتأقلموا معها بنجاح وعاشوا ردحاً طويلاً ضمن الحقبة الباردة. لقد عاشوا على الأرجح إلى جانب سلالات بشرية أخرى، وربما تزاوجوا معها أحياناً، وربما تنازعوا معها، إلا أنهم في النهاية قد هزموا من الناحية الجينية.

وحل محلهم فرع من الفصيلة ننتمي إليه نحن، ألا وهو الإنسان العاقل العاقل. ويبدو أن هذا الفرع الجديد قد نشأ بشكل منفصل عن النياندرتاليين، وأنه يمثل خطاً مختلفاً من تحدر البشريات، خطاً ذا جماجم أخف ووجوه أصغر وأطراف أكثر استقامة. وتجد أقدم أفراد هذا النوع في شرق المتوسط* والشرق الأدنى والبلقان بين عامي 50.000 و 40.000 ق.م، وربما تقدموا نحو الشمال والغرب مع انحسار الجليد.

الفصل الأول - قـبل التـاريخ  Chp1-9
إنسان كرومانيون


في التاريخ الأخير كانوا قد ثبتوا أقدامهم في غرب أوروبا حيث يسمى الإنسان العاقل أحياناً "إنسان كرومانيون" ويبدو أن وصولهم إلى الشرق الأقصى قد حصل في زمن لاحق. وفي حوالي 30.000 ق.م كان بعض البشر قد عبروا مضيق بيرنغ بعد انسحاب الجليد فدخلوا الأمريكيتين، ولم يكن فيها في ذلك الحين سكان من البشريات على ما نعلم، وخلال الخمس عشرة ألف سنة التالية انتقل خلفاؤهم رويداً رويداً نحو الجنوب حتى صار البشر يعيشون في كافة أنحاء الأمريكيتين، وفي تلك الأثناء كان غيرهم قد بلغوا أستراليا، حيث أُرِّخت أول بقايا البشر بحوالي عام 25.000 ق.م.

لقد كان هذا الإنجاز عظيماً، إذ لا يوجد نوع آخر من الرئيسات انتشر مثل هذا الانتشار الواسع، ولن ينتشر أي منها مثله، إلا بواسطة البشر، ولكن رغم أن البشر قد انتشروا في كافة أنحاء العالم، وبسرعة كبيرة مقارنة بالأنواع الأسبق، فقد بقيت أعدادهم قليلة لزمن طويل.

يقدّر أحد العلماء العدد الكلي للبشر أنه لم يتجاوز العشرة ملايين في عام 40.000 ق.م، كما قدر غيره أن عددهم لم يتجاوز العشرين ألفاً في فرنسا كلها في الأزمنة النياندرتالية أي أن ذاك العالم كان مختلفاً كل الاختلاف في عالمنا. إلا أن البشر كانوا قد حققوا فيه أشياء مدهشة، وكانت قدرتهم على تغييره لصالحهم تزداد وضوحاً.







* the Levant
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://resalahmasriyah.mam9.com
Eng. Ahmedzoubaa
Admin
Eng. Ahmedzoubaa


عدد المساهمات : 1216
تاريخ التسجيل : 28/08/2010
العمر : 49

الفصل الأول - قـبل التـاريخ  Empty
مُساهمةموضوع: رد: الفصل الأول - قـبل التـاريخ    الفصل الأول - قـبل التـاريخ  Emptyالثلاثاء 14 يونيو 2011 - 6:57

النمط الجسماني

يعتبر علماء البيولوجيا جميع البشر أفراداً في نوع واحد. صحيح أن التشابه بين أي شخصين قد لا يكون إلا ضئيلاً ماعدا حالة التوأم الحقيقي، وأنه لا يوجد حيوان تختلف أفراده في الشكل إلى هذه الدرجة، ولكننا نبقى جميعاً بالرغم من هذا كائنات بشرية. إن الفروق اللافتة فيما بيننا من ناحية المظهر (في لون الجلد، وشكل العينين والأنف وملاسة الشعر أو تجعده وغيرها لا تمنع البشر من اختيار شركاء ذوي ملامح جسدية مختلفة عن ملامحهم، ومن إنجاب أطفال يحملون صفات جسدية مأخوذة عن الوالدين بدرجات متباينة. ومن الضروري ألا تغيب هذه الحقيقة عن بالنا، لأن بعض الناس ظنوا في مراحل عديدة من الماضي أن الفروق الأساسية في المظهر بين البشر بناء على صفات عرقية تعكس فروقاً أعمق هي أيضاً جزء من ميراثهم الجسدي. ولكن هذا الرأي لم يعد مستحسناً اليوم، ولو بقي له مؤيدوه. إن الفروق في طرق سلوك الجماعات المختلفة من البشر هي فروق حقيقية تماماً، لكن يعتبر الآن أن أصولها تكمن في اختلاف ظروف العيش والتقاليد وأساليب الحياة، أي في الثقافة، وهي مجمل ما يتعلمونه من جماعاتهم، وليس في الميراث الجيني كما هي الحال في لون الجلد أو شكل الملامح.

مازالت هذه الفروق الجسمانية تقسم الجنس البشري إلى مجموعات كبرى معينة متباينة في المظهر، ويقع أكثر الناس ضمن واحد مما اصطلح على تسميته منذ زمن طويل "العروق" البشرية الأساسية، فيما يتعلق بالمظهر. صحيح أن هذه التقسيمات ليست مطلقة من الناحية الجينية، وأنها اليوم غير محبذة لأنها تتخذ أحياناً أساساً للتمييز العنصري الظالم، إلا أنها تبقى الملامح التي رآها البشر واعترفوا بها طوال الحقبة التاريخية. فعلى هذا الأساس، وبعد استبعاد فروق أخرى أكثر تعقيداً هي في أغلب الحالات أكثر أهمية، يقع القسم الأكبر من سكان العالم في ثلاث مجموعات أساسية، هي المجموعات الزنجانية، والقوقاسية، والمغولانية. فالزنجانيون ذوو بشرة سوداء أو داكنة جداً وشعرهم صوفي عادة، ويتباينون كثيراً من ناحية القامة، ويكون أنفهم عادةً واسعاً ومسطحاً وشفاههم ثخينة، ونجد أكثر شعوب هذا النمط الجسماني في المناطق الاستوائية من أفريقيا، إلا أن بينهم شعوباً تعيش على الطرف الآخر من المحيط الهندي حتى غينيا الجديدة وجزر فيجي والفيليبين، بل وحتى تسمانيا*. أما القوقاسيون فكانوا موزعين منذ وقت مبكر على امتداد رقعة واسعة إلى الشمال من الشعوب الزنجانية، في شمال أفريقيا وأوروبا وغرب آسيا، وكثيراً ما يطلق على هذه المجموعة اسم "البيض" مع أن لون بشرتهم يتباين بين الفاتح جداً الذي لا يصطبغ بأشعة الشمس، إلى الأسمر الداكن جداً، بل إنك تجد قوقاسيين في الهند وسيلان ذوي بشرة سوداء، ولكنهم يشبهون الأوروبيين كثيراً إذ تكون أنوفهم وشفاههم رفيعة نسبياً وشعرهم أملس أو متموج، كما أن شعر لحيتهم كثيف عادةً. وبالمثل فإن لون جلد المغولانيين يتباين من الأصفر إلى الأسمر الداكن أما صفاتهم الأخرى فهي الشعر الأملس والأسود عادة، وقلة شعر اللحية، والوجه المسطح، والعينان المائلتان اللوزيتا الشكل، ومواطنهم الأساسية في آسيا الوسطى والصين واليابان، ولكنهم يعيشون أيضاً في ماليزيا وأندونيسيا. ويعتقد بعض العلماء أن هنود أمريكا الأصليين في كل من الشمال والجنوب كانوا أيضاً مغولانيين ، ولكن هذا الأمر لم يحسم بعد، فربما كان المهاجرون إلى أمريكا منذ حوالي 20.000 سنة مضت في مجموعات أقرب إلى القوقاسيين من ناحية الشكل.

لقد توزعت هذه المجموعات الأساسية الثلاث اليوم في أنحاء الأرض، وتزاوحت فيما بينها كثيراً، فأمست البشرية معقدة جداً من ناحية المظهر، عدا عن تعقد ميراثها الجيني، كما أن هناك شعوباً في أماكن أخرى، خاصة في نصف الكرة الجنوبي، لايمكن تصنيفها في أي من هذه المجموعات الثلاث، مثل سكان أستراليا الأصليين وشعب البُشمان* في صحراء كالاهاري. أما كيف ظهرت تقسيمات الجنس البشري الأساسية الثلاثة هذه فلا نعلم عنه الشيء الكثير؛ إن جسم الإنسان لا يحافظ على نفسه بعد الموت باستثناء العظام، فالجلد والدهن وغيرها من الأنسجة تتحلل بسرعة. إن بحوزتنا جماجم تعود لأزمان قديمة جداً، أما الأجسام المحفوظة والتي تسمح لنا باستنتاج بعض الحقائق حول المظهر فلا تتوفر إلا منذ آلاف قليلة من السنين فقط، أي بعد أن كانت الفروق الأساسية في المظهر قد رسخت تماماً. ولكن من المرجح أن تكون المجموعات الأساسية الثلاث قد ظهرت في أماكن مختلفة ثم انتشرت منها حتى التقت بالأخريات وامتزجت بها أحياناً. وكانت الآليات الأساسية في البداية هي على الأرجح آليات الاصطفاء الطبيعي من خلال البيئة لسلالات جينية ملائمة لبعض المناطق والمناخات وأنواع الطعام والارتفاعات وخطوط العرض وغيرها، بعد أن كان البشر الأوائل قد اكتسبوا وسائل البقاء فيها. ففي المناخات الباردة مثلاً يستطيع المغولانيون العيش بكفاءة عالية، لأن لديهم تحت الجلد كمية من الدهن أكبر من القوقاسيين والزنجانيين، أما القوقاسيون فلم يكونوا بحاجة لهذا لأنهم كانوا يعيشون غالباً في مناطق أكثر اعتدالاً، كما أنهم لم يكونوا بحاجة لصباغ الجلد الذي يحمي الشعوب السوداء من أشعة الشمس، فالشمس ليست شديدة في أوروبا وغرب آسيا.ولكننا نعلم أيضاً أن تغيرات الطعام والبيئة قد تعطي تغيرات لافتة في البنية والمظهر خلال أجيال قليلة فحسب. لذا يبدو أن ما نعتبره فروقاً جسمانية دائمة بين البشر لم يظهر إلا بعد حوالي عام 40.000 ق.م، أي أن الحقبة التي انتشر فيها الإنسان العاقل ليثبت أقدامه في كافة أنحاء الأرض ويواجه الظروف الجديدة. وإن هذه الفروق هي التي مكنت البشر من الاستقرار بسهولة في بعض المناطق أصلاً. وبعدما استقروا سرعان ما توزعوا توزعاً عرقياً بقي ثابتاً حتى وقت قريب جداً، فهو لم يتغير كثيراً إلا منذ حوالي عام 1500 للميلاد.







* جزيرة في أستراليا

* شعب من القناصين الرحل- المورد
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://resalahmasriyah.mam9.com
Eng. Ahmedzoubaa
Admin
Eng. Ahmedzoubaa


عدد المساهمات : 1216
تاريخ التسجيل : 28/08/2010
العمر : 49

الفصل الأول - قـبل التـاريخ  Empty
مُساهمةموضوع: رد: الفصل الأول - قـبل التـاريخ    الفصل الأول - قـبل التـاريخ  Emptyالثلاثاء 14 يونيو 2011 - 6:59

التسلسل الزمني والتسميات العلمية

في العصر الحجري (الباليوليتي)




600.000 ق.م بداية المرحلة الباليوليتية السفلى

600.000 – 540.000 ق.م عصر جليدي

540.000 – 480.000 ق.م مرحلة بين عصرين جليديين

480.000 – 430.000 ق.م عصر جليدي

430.000 – 240.000 ق.م مرحلة بين عصرين جليديين

240.000 – 180.000 ق.م عصر جليدي

180.000 – 120.000 ق.م مرحلة بين عصرين جليديين

120.000 – 100.000 ق.م عصر جليدي

100.000 ق.م بداية المرحلة الباليوليتية الوسطى

50.000 ق.م بداية المرحلة الباليوليتية العليا

إنسان كرومانيون يحل محل الإنسان النياندرتالي

10.000 ق.م بدايات الثورة النيوليتية مع انحسار الجليد

وبداية المستوطنات البشرية


---------------------------------------------------------

البشرية في العصر الحجري القديم

يقع القسم الأكبر من حياة الإنسان على الأرض فيما يسمى "العصر الحجري"، وهي تسمية قديمة ومألوفة ولكنها تستخدم استخداماً مطاطاً جداً. وتسمية العصر الحجري واحدة من ثلاث تسميات اخترعت للحديث عما قبل التاريخ: أي عصور الحجر والبرونز والحديد، وكثيراً ما يعود العلماء إلى هذا التقسيم لأن الطرق الأدق والأكبر تعقيداً في وصف ما قبل التاريخ لا تخلو من العيوب. إن هذه التقسيمات مبنية على حقيقة أن البشرية قد تعلمت بالتسلسل كيف تستخدم الحجر أولاً ثم البرونز ثم الحديد، أي أنها تصنيف لتطور البشرية، وهي تريحنا من التقسيمات الزمنية المبنية على أنواع الصخور أو البيولوجيا أو المناخ التي يستخدمها الجيولوجيون وعلماء المستحاثات القديمة، كما أنها تركز على ما فعله البشر وعلى الأدوات التي يستخدمونها. إلا أن هذه الطريقة في النظر لماضي البشر لها هي الأخرى بعض المتاعب رغم فائدتها، لأن هذه التقسيمات ليست لها نهايات وبدايات واضحة، فقد استمر العصر الحجري في بعض أنحاء العالم حتى وقت قريب جداً، بل مازال هناك حتى اليوم عدد قليل ممن يستخدمون أدوات ليست أفضل بكثير من أدوات إنسان ما قبل التاريخ، ولو أن أعدادهم تتقلص بسرعة.

ثم إن هناك مشكلة أخرى في تسمية " العصر الحجري" هي أنها تغطي امتداداً هائلاً من الزمن، صنعت فيها الأدوات الحجرية واستخدمت من قبل كائنات عديدة، ولكننا غير واثقين من أنها كلها بشر بالمعنى الكامل للكلمة كالإنسان المنتصب مثلاً، فلهذه الأسباب قسم علماء ما قبل التاريخ العصر الحجري تقسيمات أدق، ولا حاجة بنا في هذا الكتاب لأكثر تلك التسميات، إلا أن بينها واحدة هي تسمية "العصر الباليوليتي" وهي كلمة مشتقة من اليونانية تعني العصر الحجري القديم، وهي تشمل القسم الأعظم مما قبل تاريخ الإنسان وتستمر حتى حوالي 10.000 ق.م، ويضم هذا العصر آخر الحقب الباردة والمرحلة التي ثبّت فيها الإنسان العاقل قدميه بشكل واسع، وهي مرحلة فرعية تسمى أحياناً " العصر الباليوليتي الأعلى" لأن آثارها توجد عادة في الطبقات الأعلى من الحفريات، وهذه المرحلة طويلة جداً ربما بلغت 30.000 سنة، لذلك يجب أن نكون حذرين في وصف الحياة خلالها.

كانت المناخات تختلف كثيراً من منطقة إلى أخرى في العالم، وكانت الحيوانات والنباتات تقدم فرصاً مختلفة وتحديات مختلفة، بينما كان البشر يزدادون تنوعاً في أساليب أداءهم للأشياء، التي يمكن أن نسميها ثقافاتهم التقليدية.
أدوات حجرية
الفصل الأول - قـبل التـاريخ  Chp1-10
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://resalahmasriyah.mam9.com
Eng. Ahmedzoubaa
Admin
Eng. Ahmedzoubaa


عدد المساهمات : 1216
تاريخ التسجيل : 28/08/2010
العمر : 49

الفصل الأول - قـبل التـاريخ  Empty
مُساهمةموضوع: رد: الفصل الأول - قـبل التـاريخ    الفصل الأول - قـبل التـاريخ  Emptyالثلاثاء 14 يونيو 2011 - 6:59

صنع الأدوات

من المؤكد أن سرعة التغير في العصر الباليوليتي الأعلى كانت بطيئة جداً. وكانت حياة الناس أثناءه قليلة التنوع إلا ما يفرضه توفر الغذاء، ولابد أن العيش على الصيد وجمع الطعام كان هو القاعدة. ويبدو أن إنسان كرومانيون في أوروبا كان خبيراً في صيد الأسماك والحيوانات، وأنه طور تقنيات جديدة باستخدام الشباك والرماح المشوكة. وكانت أدوات الإنسان العاقل خيراً من أدوات أسلافه كما أنها استمرت بالتحسن. وقبل ذلك بوقت طويل، في الأزمنة قبل البشرية، كانت أولى الأدوات القاطعة تصنع من أية مادة مناسبة تقع بمتناول اليد، فقد وجدت أدوات مصنوعة من الحصى والكوارتزيت وحتى من مستحاثات الخشب. ولكن بمرور الزمن صار استخدام الصوان يزداد بشكل مستمر. وربما صارت كمياته نادرة في بعض الأماكن بعد مئات الألوف من السنين، لأن الطرق الباكرة في تشكيله كانت تهدر كميات كبيرة منه، فأحياناً كانت تسعة أعشار الكتلة تقشر عنها لإعطائها حداً قاطعاً.

وفي العصر الباليوليتي الأعلى بدأ الحرفيون البدائيون بابتكار طرق جديدة في صنع أدوات الصوان، فكانوا يصنعون منه لباً بشكل أنبوب مخروط بحيث يمكن أن ينزعوا عنه " شفرات" ذوات وجهين متوازيين وسماكة متجانسة، فكانت هذه طريقة اقتصادية، كما صار بالإمكان تحسين الشفرات من أجل صنع أدوات رقيقة وجميلة، ويبدو أن أفضلها كانت تصنع في أوروبا وشرق المتوسط. ومن بين هذه الأدوات الجديدة والمتخصصة التي أمكن صنعها إزميل لحفر الخشب والعظم يسمى "المنقاش". كان للمنقاش حواف ضيقة للقطع والتقعير والحفر، تدعمها حواف عريضة تكسبها القوة، ولابد أن يكون قد ساهم في تقدم البشر ضمن مناطق جديدة، خصوصاً نحو الشمال، لأنه مكّن من استخدام قرون الوعل وأنياب الماموث لصنع رؤوس الرماح والحرابين*. إن العاج وقرن الوعل أقوى من الخشب وأكثر مرونة من الصوان، فكانت هذه الأدوات أطول عمراً من الأدوات السابقة.

الفصل الأول - قـبل التـاريخ  Chp1-11

أدوات من العصر الباليوليتي

لقد وجدت آثار تقنية صنع المنقاش على امتداد نصف الكرة الشمالي من أوروبا حتى مضيق بيرنغ وألاسكا، وقيل إنها ربما هي التي مكّنت البشر من غزو الأمريكيتين. أما في نصف الكرة الجنوبي فلا تجد أثراً للمنقاش، فربما كان هذا دليلاً من النوع السلبي على أهميته الخاصة في شغل المواد من أجل تأمين الطعام واللباس في المناخ الباردة.

ثم إن هناك مهارة أخرى جديدة في شغل الصوان، هي صنع "شفرات" دقيقة منه تثبت في الأسلحة وغيرها من الأدوات المصنوعة من الخشب أو العظم. من تلك الأدوات المنجل، كان مستخدماً في قطع النباتات في أماكن عديدة عند نهاية العصر الحجري القديم. ولا يدل استخدام المنجل على أن الناس كانوا يزرعون المحاصيل، بل على أنهم كانوا قد تعلموا تمييز بعض نباتات الحبوب البرية التي تصلح للطعام وجمعها.

وقد صار صيد الحيوانات أسهل أيضاً، لأن الصيادين باتوا مزودين بالأقواس وبالسهام والرماح ذوات الرأس الصواني وبقاذفات الرماح. وكانت هذه الأسلحة على درجة كبيرة من الأهمية، لأن القوس وقاذف الرمح قد ازدادت سرعتهما بدرجة كبيرة، فاتسع بالتالي المجال الذي تبلغه الأسلحة القاذفة كما ازدادت دقتها وقدرتها على القتل، وكان الكثير من هذه الأدوات الجديدة يصنع من مواد جيدة، مثل العظم وقرن الوعل والخشب.

وكان بالإمكان استخدام بعضها للحصول على مصادر جديدة من الغذاء بصنع خطافات وحرابين لصيد الأسماك. وقد مكن العظم أيضاً من صنع الإبر، ومازالت هناك نماذج دقيقة جداً منها تعود لثقافات الصيد الأخيرة في العصر الباليوليتي.







* الحربون رمح يستخدم لصيد السماك
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://resalahmasriyah.mam9.com
Eng. Ahmedzoubaa
Admin
Eng. Ahmedzoubaa


عدد المساهمات : 1216
تاريخ التسجيل : 28/08/2010
العمر : 49

الفصل الأول - قـبل التـاريخ  Empty
مُساهمةموضوع: رد: الفصل الأول - قـبل التـاريخ    الفصل الأول - قـبل التـاريخ  Emptyالثلاثاء 14 يونيو 2011 - 7:00

أساليب الحياة

تشير هذه المعلومات إلى توافر كمية أكبر من الطعام، ولكن بالرغم من هذا، وبالرغم من شبههم بنا جوهرياً من الناحية الجسمانية، كان البشر في العصر الحجري أقصر ممن أتوا بعدهم وأخف وزناً. ولا يمكن أن يكون غذاؤهم متوازناً، يبدو أن النياندرتاليين كانوا يعانون من عوز الفيتامينات، ولابد أن اللحم الذي يأكلونه كان في أكثر الأحيان قد بدأ بالتعفن، ولكن الحقيقة أنه حتى أيامنا هذه مازال الناس يحبون تناول لحم حيوانات الصيد عندما يكون زنخا. والأرجح ألا يكون قد بلغ سن الأربعين من بشر العصر الحجري إلا قلائل، وحتى الذين بلغوه كانت حياتهم تعيسة جداً بمعاييرنا، بسبب آلام التهاب المفاصل والروماتيزم وداء الحفر*، وأخطار الموت كلما كسر لهم عظم أو نخرت سن، ولو أنهم لم يعرفوا السكر الذي يساهم في تلف أسناننا اليوم، وسوف تبقى هذه حال الكثيرين من الناس في العالم لزمن طويل بالطبع.

كان استخدام النار قد وسع خيارات مكان العيش إلى حد كبير، وتعود أولى الأدلة على توليد النار إلى حوالي عام 300.000 ق.م، ولابد أن تكون قد جعلت الحياة أسهل، إلا أن الملابس والمساكن المصنوعة تشير إلى التحكم بالبيئة بأساليب أخرى في العصر الباليوليتي الأعلى، ولولاها لكان من المستحيل على البشرية أن تستقر على كافة سطح الأرض كما فعلت.

لم تكن هناك في ذلك الزمان أقمشة منسوجة، ولكنهم كانوا يقطعون الجلود بشكل شرائط متباينة العرض ثم ينعمونها ويطرونها باستخدام حجر الصوان من أجل الحصول على الملابس، إن أقدم جثة ترتدي الملابس وجدت حتى الآن يعود تاريخها لحوالي 35.000 ق.م، وقد اكتشفت في روسيا وكانت ترتدي بنطالاً من الفرو وقميصاً مزركشاً.

في العصر الباليوليتي الأعلى تبدأ بالظهور أيضاً العلامات الضعيفة الأولى على البناء المقصود للمساكن. صحيح أن هناك حيوانات أخرى تستطيع البناء، إلا أنها تفعل ذلك بطرق محدودة وموروثة ومبرمجة بالغريزة؛ أما البشر فيستطيعون البناء في أي مكان، وتعديل الأسلوب والتقنية بحيث تتلاءم مع المناخ المحلي وطبيعة الأرض والمواد، وبالحجم الذي يناسب أغراضهم. فعدا عن وضع الصخور بعضها فوق بعض، كانت المواد الأساسية المستخدمة في صنع الملاجئ في البداية هي الطين والقش، وهي مواد سريعة الهلاك.

لقد ظل البشر مضطرين للتنقل مع قطعان الطرائد التي يصطادونها على مدار السنة حتى نهاية العصر الحجري القديم، ورغم أن هذا الأمر كان يعيدهم المرة تلو الأخرى إلى كهوف معينة تحمل آثار إقامة طويلة، فإنه لم يترك آثار أبنية دائمة. ولكن وجدت في الشرق الأدنى بعض بقايا أكواخ تعود لحوالي 9000 ق.م ، كما يبدو أنه كان هناك مساكن كبيرة في سهول شرق أوروبا، حيث كانت الكهوف قليلة، ذوات هياكل مصنوعة من عظام الماموث أو أنيابه ومغطاة بالجلود. كانت أرضها على عمق قدمين أو ثلاثة تحت الأرض، وكانت أحياناً مجمعة في مستوطنات يسكنها بضع مئات من الناس، ويوحي هذا الأمر ببدايات مستوى جديد من التنظيم الاجتماعي.







* الإسقربوط – داء ينجم عن عوز فيتاميني
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://resalahmasriyah.mam9.com
Eng. Ahmedzoubaa
Admin
Eng. Ahmedzoubaa


عدد المساهمات : 1216
تاريخ التسجيل : 28/08/2010
العمر : 49

الفصل الأول - قـبل التـاريخ  Empty
مُساهمةموضوع: رد: الفصل الأول - قـبل التـاريخ    الفصل الأول - قـبل التـاريخ  Emptyالثلاثاء 14 يونيو 2011 - 7:00

أول الفنون

من الواضح أن البشرية كانت قد قطعت درباً طويلاً في أواخر العصر الحجري، ومن أبرز العلامات على ذلك ما نراه في جزء صغير نسبياً من غرب أوروبا، حيث يوجد أبهى دليل نملكه حتى الآن على بدايات الفن. تبدأ تلك الأدلة بمجموعات صغيرة مخزنة من صباغ المَغْرة الأحمر، جمعها نياندرتاليون منذ حوالي خمسين ألف سنة خلت. لقد درست هذه الأصبغة كثيراً ولكننا لا نعلم فيما كانت تستخدم. إن سبب صعوبة الحديث عن أصول الفن هو ندرة الأدلة الباقية على بداياته الأولى، يحق لنا أن نخمن أن البشر الباكرين كانوا يخربشون أشكالاً في الطين، ويلطخون أجسامهم بالألوان، ويشكّون الأزهار أو الريش في شعورهم، أو يرقصون بأنماط معقّدة مثل غيرهم من الشعوب اللاحقة، ولكن هذه الأشياء كلها إن وجدت لم يبق منها أي أثر. والصعوبة الثانية هي أننا لا ندري لماذا تكلف البشر عناء صنع الفن الأول الباقي، وماذا كانوا يعتقدون أنهم يفعلون.

في الأزمنة التاريخية اللاحقة كان الكثير من الناس يلونون وجوههم وأجسادهم لأسباب مختلفة، ربما قام بعضهم بأشياء مثل هذه في الأزمنة القديمة، إما لأسباب دينية أو عملية (التمويه) أو كجزء من ثقافتهم الجنسية، أو لمجرد التسلية والمتعة. ولكننا على الأرجح لن نعلم أبداً ماذا كان الغرض من تلك المغرة الحمراء، فلو تخيلنا أن علماء الآثار بعد آلاف السنين من أيامنا لم يكن لديهم كدليل على بعض مجتمعات القرن العشرين إلا بعض علب من كحل العينين وحمرة الشفاه، لشق عليهم معرفة الغرض منها. إلا أننا منذ حوالي 35.000 ق.م فما بعد نجد في أوروبا زاداً مستمراً من المعلومات، وهي أدلة أنتجت على مدى فترة زمنية طويلة استمرت حتى عام 10.000 ق.م تقريباً، كما أن هناك كهوفاً وصخوراً في أماكن أخرى مثل أفريقيا نجد فيها الكثير من التصوير والحفر من فترة ما قبل التاريخ. ولكننا لم نجد حتى الآن فناً قديماً قدم الفن الباليوليتي في أوروبا، وأغلب ما بقي منه يوجد في منطقة محدودة جداً، هي عدد من المواقع في جنوب غرب فرنسا وشمال إسبانيا. إن أقدم الأشياء التي وجدت هناك هي أغراض صغيرة مزينة وملونة ومصنوعة في أغلب الحالات من العظم والعاج، كقاذفات الرماح المحفورة مثلاً، وكثيراً ما نجد عليها صوراً محفورة لحيوانات. بعد ذلك، في حوالي عام 20.000 ق.م تبدأ مرحلة استغرقت خمسة آلاف سنة، تركت سلسلة باهرة من اللوحات والرسوم المحفورة على جدران الكهوف وأراضيها، وأكثرها تمثل الحيوانات أيضاً. ثم تأتي بعدها المرحلة الأخيرة من الفن الباليوليتي، حيث تسود صور الأيل، وتنتهي بمجموعة وفيرة من الأدوات والأسلحة المزخرفة، والغريب أن هذا التقليد انقرض بعد ذلك على ما يبدو، ولم يظهر فن جميل طوال ستة آلاف عام.

إن بقاء هذا الفن أمر مذهل، ولكنه غامض في الوقت نفسه، لقد جرت محاولات تخمين كثيرة لتفسيره، وأكثر ما اجتذب اهتمام العلماء هو السلاسل العظيمة من رسوم الكهوف، فهي متوضعة في زوايا قاصية من الكهوف يصعب الوصول إليها، ولا يمكن أن تظهر إلا باستخدام ضوء اصطناعي، ومن الواضح أن الكثرة الغالبة للحيوانات هي أمر هام أيضاً، ففنان العصر الباليوليتي لم يكن يمضي وقته في رسم المناظر الطبيعية ولا حتى البشر، واللافت أن البشر يظهرون دوماً بشكل مجرد وغير واقعي، بينما ترسم الحيوانات بعناية دقيقة بالتفاصيل، فربما كان رسم الأشياء بصورة واقعية يعني السيطرة عليها. لقد حاول بعض العلماء البحث عن أنماط ما في تكرار بعض الحيوانات، ولكن من دون جدوى. يحق لنا أن نخمن أن تلك الرسومات كانت تحمل رسائل إلى الذين ينظرون إليها في تلك المجتمعات التي لم تعرف الكتابة، فإذا تذكرنا أيضاً الدلائل القليلة على عادة الدفن في الأزمنة النياندرتالية فإننا نميل للاعتقاد بأن طقوساً دينية أو سحرية كانت تمارس في تلك الكهوف المعتمة، وإذا كان هذا صحيحاً فربما كان مرتبطاً بمحاولة للتأثير في حركات وسلوك الطرائد التي كان البشر الأُول يعتمدون عليها في معيشتهم. ويتوافق هذا التفسير مع تزايد صور الأيل بمرور الزمن، لأن الرنة والماموث الموجودين في الصور الأقدم كانا ينقرضان مع تراجع الجليد البطيء.

الفصل الأول - قـبل التـاريخ  Chp1-12

رسوم على جدارن المغاور في العصر الباليوليتي

إن ما نعرفه عن أول فن عظيم في الحقيقة ضئيل جداً، ولكن ما يوجد منه شيء كافٍ للدلالة على أن البشر في أواخر العصر الباليوليتي كانوا قادرين على القيام بإنجازات عقلية مدهشة، وعلى مراقبة العالم من حولهم بدقة. ربما كانوا يفقدون ثقتهم بقدرتهم على التأثير في سلوك الحيوانات، لأنهم لم يكونوا يعلمون أن سلوكها هذا محكوم بالمناخ، ففقدوا معها الحافز لإنتاج الفن أيضاً. ولا يمكن أن يكونوا قد مارسوا الفن للفن أو بغرض بيعه كما هو الحال في عصور لاحقة، ولكن لاريب في أن ما أنتجوه هو فن بالمعنى الكامل للكلمة، لأنه إبداع خلاق تم بعناية ودقة، يصور أشياء جميلة ومؤثرة وقادرة على اجتذابنا ليس بما يمكن فعله بها فقط، بل بحد ذاتها أيضاً.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://resalahmasriyah.mam9.com
Eng. Ahmedzoubaa
Admin
Eng. Ahmedzoubaa


عدد المساهمات : 1216
تاريخ التسجيل : 28/08/2010
العمر : 49

الفصل الأول - قـبل التـاريخ  Empty
مُساهمةموضوع: رد: الفصل الأول - قـبل التـاريخ    الفصل الأول - قـبل التـاريخ  Emptyالثلاثاء 14 يونيو 2011 - 7:01

بداية الزراعة

إن للفن ثمناً لابد من دفعه حتى عندما لا يُشترى، فالأشخاص الذين نفذوا رسوم الكهوف العظيمة، لم يكن بإمكانهم الخروج للبحث عن الطعام عندما كانوا منشغلين بالرسم مهما كانت حاجاتهم بسيطة، فقد كان هناك إذن بعض الغذاء الفائض عن الحاجة المباشرة حتى في مجتمعات الصيد وجمع الطعام الباكر. إلا أن الخطوة الحاسمة في زيادة ذلك الفائض إنما حصلت عندما تعلم الناس زراعة المحاصيل للغذاء وحصادها، وتدجين الحيوانات واستغلالها. فكان اكتشاف (أو اختراع) الزراعة.

الفصل الأول - قـبل التـاريخ  Chp1-13

الصيد والجني والزراعة

لقد بات من الواضح الآن أن قصة البشر كلها هي قصة تغير مستمر، جزء كبير منه من صنع الإنسان، ولكن بعض الخطوات في تلك القصة تبرز بسبب أهميتها الخاصة، والزراعة واحدة منها، مثل السيطرة على النار وتعلم الكلام. كانت الزراعة تقريباً آخر الخطوات الكبرى التي خطتها البشرية في حقبة ما قبل التاريخ، والحقيقة أنها قد غيرت الحياة بصورة كبيرة وعميقة للغاية، ولولاها لما حصل أي من التغيرات اللاحقة. لقد أنجزت بقاع مختلفة من العالم الزراعة في أزمنة مختلفة، ولابد أن يكون المناخ والبيئة الطبيعية هما السببان الأساسيان لهذا الاختلاف، كما أنهما يفسران لماذا توصلت بعض الشعوب إلى الزراعة لوحدها؟ بعد زمن طويل من عالم أوراسيا* القديم – في الأمريكيتين مثلاً- ولماذا عجزت غيرها عن التوصل إلى الزراعة إلا بتأثير من الخارج كما هي الحال في أوروبا الغربية في عصور ما قبل التاريخ. يقال إن أقدم آثار النباتات المزروعة تعود لحوالي عام 10.000 ق.م، وقد وجدت في جنوب شرق آسيا، وهي أشكال باكرة من الدخن (الجاورس) والأرز، ومازال كلاهما نباتين هامين في تلك المنطقة حتى اليوم. وبعد حوالي 8.000 عام تعلم الناس في أمريكا الوسطى زراعة نوع من البطاطا الحلوة وشكل بدائي من الذرة. إلا أن منطقة الشرق الأدنى هي التي وجدت فيها معلومات وافرة عن المراحل الباكرة من الزراعة، فقد انتشرت في هذه المنطقة بين عامي 9000 و 6000 ق.م تقريباً أنواع كثيرة من الحبوب التي مازلنا نستخدمها حتى يومنا هذا.







* أوروبا وآسيا معاً
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://resalahmasriyah.mam9.com
Eng. Ahmedzoubaa
Admin
Eng. Ahmedzoubaa


عدد المساهمات : 1216
تاريخ التسجيل : 28/08/2010
العمر : 49

الفصل الأول - قـبل التـاريخ  Empty
مُساهمةموضوع: رد: الفصل الأول - قـبل التـاريخ    الفصل الأول - قـبل التـاريخ  Emptyالثلاثاء 14 يونيو 2011 - 7:02

الهلال الخصيب

يطلق الناس أحياناً تسمية الهلال الخصيب على منطقة هامة للغاية، هي بشكل قوس تمتد شمالاً من دلتا النيل عبر فلسطين وشرق المتوسط، ثم تنعطف شرقاً على طول هضاب الأناضول إلى أن تنتهي على المرتفعات الواقعة بين إيران وبحر قزوين على الطرف الآخر من وديان أنهار بلاد الرافدين. لقد فقد قسم كبير من الهلال الخصيب هذا جاذبيته اليوم، ولكنه منذ عشرة آلاف سنة خلت كان يتمتع بأمطار سخية وتربة خصبة جعلته غنياً بالغابات، وكان غاباته تعج بحيوانات الصيد. ومع انسحاب العصر الجليدي الأخير صار نمو الغابات أقل كثافة منه في الشمال وكان اقتلاعها أسهل.على الهضاب كانت تنمو أجداد نباتات الحبوب اللاحقة، مثل الشعير البري والعلس (القمح البري) وأنواع كثيرة من الأعشاب، ويبدو أن التقنيات الجديدة في الزرع والحصاد قد انتشرت من هذه المنطقة إلى جنوب شرق أوروبا وإلى وادي النيل أيضاً.

الفصل الأول - قـبل التـاريخ  Chp1-14

الهلال الخصيب

ويمكننا أن نرتب تسلسل انتشار الزراعة كما يلي: في حوالي عام 9500 ق.م كان الناس يحصدون الأعشاب والحبوب البرية في آسيا الصغرى، وفي عام 7000 ق.م كانت أولى عمليات الزراعة وتربية النباتات قد بدأت في شرق المتوسط وبلاد الرافدين، ثم انتقلت خلال الآلاف الثلاثة التالية غرباً حتى نهر الراين (تقريباً)، إلى أن بلغت أوروبا الغربية والجزر البريطانية بحلول عام 3000 ق.م، وربما توصلت مناطق أخرى إلى طرق جديدة في زراعة النباتات للغذاء بصورة مستقلة، أما إلى الشرق والشمال من المتوسط فيبدو أن الناس قد تعلموها من جيرانهم.

كان لتعلم تدجين الحيوانات تأثير ثوري يساوي تأثير الزراعة تقريباً، وكانت شعوب الصيادين في أوروبا قد دجنت الكلاب، فكانت تلك خطوة كبيرة أخرى في تسخير طاقة الطبيعة لاستخدام البشر. ثم جاءت الخطوة التالية في جمع الحيوانات البرية والاحتفاظ بها ضمن قطعان، وقتل بعضها من أجل لحمها وجلدها وصوفها أو قرونها وعظامها. كانت الحيوانات تسرح بكثرة في الهلال الخصيب وكانت طيعة لسيطرة الإنسان، وكثر الغنم والماعز خصوصاً أو أجدادها بينما كانت أنواع مختلفة من الخنازير تعيش طليقة في كافة أنحاء العالم تقريباً. وعندما تعلم الناس تربية الحيوانات حية بدلاً من اصطيادها، ترتب على ذلك نتائج كثيرة مثل استخراج الحليب وأخذ البيض من الطيور الداجنة، وفي مرحلة تالية سوف يأتي استخدام الحيوان للركوب والحمل والجر. هناك أربعة حيوانات كان تدجينها أساس استغلال الحيوانات الأليفة ومازال، وهي الماعز والغنم والخنازير والبقر، تنتمي هذه الحيوانات كلها لفصائل ثدييات نصف الكرة الشمالي، وتكمل بعضها بعضاً بصورة مفيدة للإنسان.

فالماعز حيوان شديدة التحمل، يستطيع العيش على القليل من العشب، ويمد الإنسان باللحم والحليب والجلد والصوف، ويعيش الغنم حيثما وجد العشب، وكان العشب وفيراُ على هضاب المنطقة المعتدلة، ويمكن استخدامه بطرق استخدام الماعز نفسها، وتجد أقدم الآثار على تربيته في حوالي عام 9000 ق.م في شمال العراق. أما الخنازير فهي تمد الإنسان باللحم، وتستطيع البحث عن طعامها في الأحراش والغابات، كما أنها تنمو بسرعة وتلد عدداً كبيراً من الصغار وبتكرار عال. وينتج عن البقر اللحم والحليب والجلد، كما يمكن استخدامها لجر الأشياء وحملها، ومن أفضل الأدلة على تدجين الحيوان اكتشاف عظام حيوانات كانت تؤكل في المستوطنات الزراعية الباكرة، وهي في جميع الأحوال بقايا صغارها التي قد تقتل قبل أن تبلغ سن النضج، بينما كانت الحيوانات التي تقتلها شعوب الصيادين كاملة النمو في جميع الحالات تقريباً.

لقد كانت زراعة الحبوب وتربية الحيوانات هي النواة التي تشكلت من حولها النظم الزراعية، ولكن بعض مناطق العالم لم تعرف إلا جزءً من هذا التطور، فعندما صار سكان أمريكا الوسطى يزرعون النباتات لم ينتقلوا إلى مرحلة تدجين الحيوانات، والسبب الأرجح هو أنهم لم تكن لديهم حيوانات كثيرة مناسبة لذلك، إلى أن أدخلها بعد زمن طويل من أتوا بعد كولومبوس. لذلك لم يبرع الإنسان في مهارات رعي الحيوانات إلا في جبال الآندس، حيث كان حيوان اللَّامة يُنتج له كل ما يحتاجه من لحم وحليب وصوف، عدا عن حمل الأثقال. ويدلك هذا على أن الانعزال سرعان ما بدأ يميز الحياة في الأمريكيتين عنها في أصقاع العالم القديم. وحتى ضمن العالم القديم كانت هناك صعوبات في الاتصال، وربما كان هذا هو سبب الاختلافات الكبيرة في طرق تطور الزراعة. فصحيح أن المعرفة والمحاصيل قد انتشرت بسهولة من الشرق الأدنى عبر شمال أفريقيا إلى غرب أوروبا وحتى إلى وادي نهر الدانوب، ولكن يبدو أن انتشارها شرقاً إلى آسيا كان أصعب بكثير، كما أن الفروق المناخية الكبيرة لم تسمح بتطور الأمور على الصورة نفسها. فعندما صارت الصين بلداً زراعياً كانت محاصيلها المناسبة لظروفها المحلية مشتقة من نباتات محلية، ولم تأتها من الخارج مثلما أتت الحبوب إلى أوروبا من الشرق الأدنى. والمثال البارز على ذلك هو نبات الأرز، الذي يتميز بأنه لا يحتاج إلى حيوانات لزراعته بل يحتاج إلى مجهود بشري مكثف، وربما لهذا السبب لم يرب الصينيون إلا حيواناً واحداً من أجل لحمه وهو الخنزير، ولو أنهم استخدموا أنواعاً مختلفة من البقر لاحقاً في أشغالهم، ولكن علماء الآثار مازالوا منقسمين وغير متأكدين من أصول الزراعة في الصين، لذلك يفضل ألا نجزم بالأمر.


الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://resalahmasriyah.mam9.com
Eng. Ahmedzoubaa
Admin
Eng. Ahmedzoubaa


عدد المساهمات : 1216
تاريخ التسجيل : 28/08/2010
العمر : 49

الفصل الأول - قـبل التـاريخ  Empty
مُساهمةموضوع: رد: الفصل الأول - قـبل التـاريخ    الفصل الأول - قـبل التـاريخ  Emptyالثلاثاء 14 يونيو 2011 - 7:02

عالم يتغير

لقد استغرقت هذه الثورة الناجمة عن تعرّف الزراعة في ظروف حياة الإنسان آلاف السنين. كانت المستوطنات الزراعية الباكرة ذوات عمر قصير، وقد ظل المزارعون الأوائل على الأرجح متنقلين يمارسون زراعة القطع والحرق، وهي طريقة مازالت مستخدمة بين الشعوب البدائية حتى اليوم. يختار الناس في هذا النوع من الزراعة بقعة من الغابة تكون تربتها خصبة بسبب تراكم الأوراق والفضلات المتعفنة، فيقتلون الأشجار بنزع لحائها، ثم يحرقونها ويقتلعون ما بقي من جذوعها إذا أمكن، ويزرعون المحاصيل بين الجذور. وبعد بضع سنوات تكون نباتات الغابة البرية قد صارت كثيفة جداً أو تستنفذ التربة خصبها، فيتحتم عليهم البحث عن موقع آخر.

وقد بقيت هذه حال الزراعة لزمن طويل، لأن الناس لم يكونوا يعرفون طرقاً أفضل لحرث التربة، وكان من الصعب عليهم أن يزيلوا ما بقي من جذوع الأشجار بأدواتهم الحجرية ومعاولهم المصنوعة من قرون الوعول. ولكن مع مرور القرون ظهرت في بعض الأماكن حقول نتيجة عودة الناس المستمرة إليها لسكنها وزراعتها، وعندها بدأ المزارعون الأوائل يصبحون أكثر ارتباطاً بمكان واحد أي أنهم باتوا مستقرين. وقد اكتشف علماء الآثار الكثير من تلك الأماكن المبكرة، وإن هذا الميل للاستقرار هو واحد من أول التأثيرات المعروفة للزراعة في سلوك البشر.

لقد أثرت الزراعة في البيئة غير البشرية أيضاً، لأن الخضار والمحاصيل القديمة كانت مختلفة الشكل كثيراً عما نعرفه اليوم. فنباتاتنا اليوم أكبر بكثير، كما أنها تختلف أحياناً عن الأنواع البرية من ناحية الشكل واللون والحجم، لأن البشر تدخلوا في عملية التطور، فهم باختيارهم سلالات معينة للزراعة ونبذهم سلالات أخرى بدؤوا منذ زمن بعيد بتبديل توازن الطبيعة، ولولا تدخلهم لأنتجت الطبيعة أنواعاً مختلفة جداً. كانت الحبوب والبذور من أهم تلك المحاصيل الجديدة، صحيح أن محاصيل الأوراق والجذور والبصلات كان بالإمكان زرعها وسرعان ما زرع بعضها فعلاً، إلا أن القمح والشعير والبازلاء والعدس تدوم فترة أطول بكثير، لأنها عندما تجفف يمكن تخزينها فتؤمن الغذاء في الشتاء وفي السنوات التي لا تكفي فيها الغلال. فكانت هذه خطوة جديدة في التحرر من جمود إيقاعات الطبيعة، ولو أنها لم تكن كاملة، لأن عمليات البذار والحصاد تحتاج بدورها إلى متطلبات جديدة، إلا أنها كانت على كل حال خطوة جديدة نحو حرية فعل أشياء أخرى غير الصيد من أجل البقاء، الذي ابتدأته البشريات اللاحمة منذ زمن بعيد جداً.

وقد ظهرت آثار أفعال البشر في الحيوانات أيضاً، فلاشك أن أولى الخراف والخنازير المدجنة كانت صغيرة وهزيلة جداً بالقياس إلى الأغنام السمينة الغزيرة الصوف التي ترعى في هضاب انكلترا اليوم، أو الخنازير الضخمة الراقدة في زرائبها. ولم تقتصر التغيرات على الحجم وحده، ففي أغلب الحيوانات والطيور المدجنة نلاحظ قصر الخطم*، لأن البشر ضمنوا لها طعامها، فتمكنت من البقاء كسلالات أقل تطور من ناحية أسنانها وأفكاكها حسب ما تحتاجه الحياة في البرية. بل ربما كانت الحيوانات الحالية أقل ذكاء من أجدادها البرية، لأن الإنسان حماها من أعداء وأخطار الطبيعة الكثيرة، فتمكنت من البقاء كسلالات ضعيفة التطور من الناحية الدماغية في الأجزاء التي تعالج الرسائل الآتية من العالم الخارجي. ثم أن هناك فرقاً لافتاً آخر، هو أن ألوان الحيوانات تصبح أكثر تنوعاً عند تدجينها، لأن انتزاعها من موطنها الطبيعي يسمح ببقاء أشكال ذوات ألوان مختلفة ربما كانت هلكت في البرية بسبب سهولة تمييزها. ولكن لا يمكننا أن نعلم متى بدأ الناس بمحاولة إحداث تغيرات كهذه وإلى أي مدى، فقد صار بديهياً اليوم أن مزاوجة الخراف ذوات الصوف الكثيف أو الأبقار ذوات الحليب الغزير تعطي سلالات أفضل، ولكن لابد من أن تكون الصدفة قد لعبت دوراً كبيراً في المراحل الأولى. وربما كانت الدوافع الأولى لتدخل الإنسان في عملية الاصطفاء الطبيعي مختلفة عن دوافعه اليوم، فربما اختار بعض الرعاة الأوائل مثلاً أن يزاوجوا حيوانات معينة ويربوها بسبب علامات مميزة أعجبتهم، أو لأنها تسهل التعرف عليها؛ ونحن في الحقيقة لا نعلم شيئاً عن هذا الأمر.

إن النتيجة الأهم لتلك الأساليب الجديدة أو لأي شكل من أشكال الزراعة هي نتيجة واضحة، ألا وهي توفر كميات من الغذاء أكبر بكثير من السابق، صحيح أن الفرق بين الصيد والزراعة يتعلق بنوع حيوانات الصيد من جهة، وبنوع النباتات والتربة من جهة أخرى، إلا أن أهمية الزراعة تبقى واضحة إذا عرفنا أن عائلة من البشر تعتمد على جمع الطعام والصيد تحتاج إلى مئات الأكرات* لكي تحصّل كمية كافية، في حين تكفيها خمسة وعشرون أكراً في حال الزراعة البدائية. كانت هذه إذن نتيجة أول قفزة كبيرة في إنتاج الغذاء، وقد تبدو ضئيلة بالقياس إلى التطورات الهائلة التي حدثت منذ ذلك الحين، إلا أن الزراعة قد جلبت معها في الحقيقة أول زيادة جادة في تأمين الغذاء بعد عملية الصيد، وكانت تحمل في ثناياها بذوراً أغنى. لقد أدّت وفرة الغذاء إلى زيادة أعداد البشر، لأنها مكنت من إطعام أعداد أكبر, ولا يمكننا أن نقيّم هذا التطور بشكل جيد، إلا أن نتائجه واضحة لعلماء الآثار في بقايا المستوطنات التي صارت أكبر من السابق، وهي القرى الأولى.

يدل ظهور القرى على حدوث تغيرات أخرى في الحياة الاجتماعية أيضاً، فقد ازدادت الإقامة المستمرة في المستوطنات نفسها، وضعفت الحاجة للتنقل سعياً وراء حيوانات الصيد والنباتات الفصلية. وفي الوقت نفسه ظهرت أبنية أكثر صلابة. ومن الأمثلة المعروفة على هذا التطور أريحا، التي كان فيها قبل عام 9000 ق.م قرية على موقع ينبوع ماء لا يشح، بعد ألف عام كان حجمها قد ازداد إلى أن غطت بيوتها المصنوعة من الصلصال مساحة بين 8-9 أكرات*، وكانت محاطة بأسوار كبيرة من الواضح أن سكانها كانوا يشعرون أن لديهم أشياء تحتاج للحماية، وربما كان لهم أعداء يخشون منهم عليها، لقد كانت لديهم ثروات، ومنذ ذلك الزمان كان البشر قد اكتشفوا طريقة سريعة للحصول على الثروة، هي أخذها ممن يملكونها.

لقد بزغت في أماكن مثل أريحا رويداً رويداً أنماط جديدة من الحياة، بينما كانت المجتمعات تعالج المتطلبات والفرص الخاصة ببيئاتها بمزيد ومزيد من النجاح. وكان هذا مختلفاً عما حدث بعد عصور الجليد الأبكر، عندما لم يكن هناك كائن واسع الحيلة مثل الإنسان العاقل قادر على استغلال ما خلفته العصور الجليدية. ولكن بما أن عدد الناس في العالم قد ظل قليلاً لزمن طويل، فقد بقيت جماعاتهم معزولة إحداها عن الأخرى في العادة، بعد ذلك طورت تلك الجماعات مهارات جديدة، وتغلبت على المزيد من التحديات في بيئاتها، وازداد تباعد بعضها عن بعض في أساليب حياتها، أي في ما يمكننا أن نسميه ثقافاتها، التي مابرحت تزداد تعقيداً. ولابد أن يكون الناس الذين نشؤوا في تلك الثقافات قد قبلوها دون تفكير، كما هي حال أكثر الناس في العالم اليوم، وأن يكون الروتين هو السائد فيها إذا أرادت الجماعة البقاء. لذلك ظلت الثقافات المختلفة تتباعد لزمن طويل، ولاريب أن اللغة قد اتخذت أشكالاً مختلفة من أجل تلبية الحاجات المختلفة، فحتى يومنا هذا مازلنا نجد لغات كثيرة تعيش جنباً إلى جنب في مناطق مازالت بدائية. إن لكل قبيلة تقريباً لغتها الخاصة التي تلبي حاجاتها الدقيقة الخاصة بها، أما اللغات العالمية الكبرى مثل الإنكليزية والإسبانية الحديثتين فلم تظهر إلا بعد ذلك بزمن طويل وهي نتيجة للحضارة.

بالرغم من هذه الفروق كانت تلك الجماعات تعيش بأساليب تبدو لنا متشابهة جداً، فقد كانت كلها ترتكز على تقنية بسيطة جداً، ولو أنها أكثر تعقيداً بكثير مما كانت عليه الحال قبلها بآلاف قليلة من السنين، وكانت تحمل قدرة هائلة على توليد المزيد من التغير المتسارع، كما ستبين المرحلة المتميزة التالية من تطور البشرية.







* أنف الحيوان وفكه الناتئان

* الأكر يساوي نحو أربعة آلاف متر مربع
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://resalahmasriyah.mam9.com
Eng. Ahmedzoubaa
Admin
Eng. Ahmedzoubaa


عدد المساهمات : 1216
تاريخ التسجيل : 28/08/2010
العمر : 49

الفصل الأول - قـبل التـاريخ  Empty
مُساهمةموضوع: رد: الفصل الأول - قـبل التـاريخ    الفصل الأول - قـبل التـاريخ  Emptyالثلاثاء 14 يونيو 2011 - 7:03

الثورة النيوليتية

تدل تسمية "نيوليتي" على علاقة بالحجر، مثل تسمية "باليوليتي"*. وقد حاول الناس أحياناً تمييز مراحل ضمن العصر الحجري، فصاروا يتحدثون عن حقبة "ميزوليتية". وكما هي الحال في جميع التقسيمات الأخرى في ما قبل التاريخ، تبدأ هاتان الحقبتان وتنتهيان في أزمان تختلف باختلاف المناطق، ولم تحدث فيهما تغيرات مفاجئة، فالناس لم يستيقظوا في يوم من الأيام ليجدوا أنفسهم في حقبة جديدة، بل إن أساليب قيامهم بالأشياء كانت تتغير رويداً رويداً خصوصاً أساليب صنع أدوات معينة من الحجر، وهي أسهل الأمور تتبعاً على علماء الآثار، ولكن رغم أن هذا التغير كان متدرجاً فإن نتيجته النهائية واضحة، ومازالت المجتمعات وهي أشياء معقدة تتغير بالطريقة نفسها، ولو أن ذلك يجري اليوم بسرعة أكبر. ولاتهمنا الحقبة الميزوليتية لأغراضنا هنا رغم أهميتها للمختصين، أما الحقبة النيوليتية فهي تدل على مرحلة هامة جداً في تطور البشرية.

ولكن ما سبب هذه الأهمية الكبيرة؟ إن علماء الآثار لا يستخدمون تسمية "نيوليتي" بمعناها الدقيق إلا للدلالة على ثقافة حلت فيها الأدوات الحجرية المشحوذة والمصقولة على الأدوات المصنوعة بقشر الرقائق. وقد لا يبدو هذا التطور بحد ذاته أمراً مثيراً، ولكن الحقيقة أن الموضوع ينطوي على أشياء أكثر بكثير، فقد أتت المرحلة النيوليتية من وجود الإنسان بعدد من التغيرات ذات الأهمية العظيمة والتي تفوق بكثير أهمية التطور في صنع الأدوات الحجرية، ولو كانت الأخيرة طريقة مناسبة لتحديد مراحله. صحيح أن تلك التغيرات قد تعود جذورها إلى الماضي السحيق، إلا أنها ما كانت لتبلغ مستواها الكبير ومداها الجغرافي الواسع إلا بفضل اكتشاف الزراعة قبلها. فالزراعة هي التي مكنت من ظهور مجموعة من التطورات سميت "الثورة النيوليتية"، وإذا كنا نفصلها إلى عناصر متميزة فما ذلك إلا لتسهيل وصفها. إن المجتمعات البشرية كلها مترابطة بأساليب معقدة، ويتعلق عمل كل قسم وتطوره بوجود الأقسام الأخرى، وعندما ندرك الأهمية العظيمة لتوافر كميات أكبر من الغذاء بفضل الزراعة، لا تعود بك حاجة ملحة لاعتبار هذه الناحية أو تلك حاسمة. لنبدأ إذن عند نقطة واضحة، ولو أن اختيارها اعتباطي، هي تقنية شغل الحجارة، وهي التي أعطت هذه الحقبة اسمها.







* لأن كلمة Ithos اليونانية تعني الحجر، وباليو تعني القديم، وميزو تعني الوسيط، ونيو تعني الجديد
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://resalahmasriyah.mam9.com
Eng. Ahmedzoubaa
Admin
Eng. Ahmedzoubaa


عدد المساهمات : 1216
تاريخ التسجيل : 28/08/2010
العمر : 49

الفصل الأول - قـبل التـاريخ  Empty
مُساهمةموضوع: رد: الفصل الأول - قـبل التـاريخ    الفصل الأول - قـبل التـاريخ  Emptyالثلاثاء 14 يونيو 2011 - 7:03

التغير التقني

كان تقطيع الأشياء القاسية يتم بالفؤوس اليدوية طوال عشرات الألوف من السنين، وهي سواطير حجرية تمسك بقبضة اليد وتشحذ أطرافها بنزع شرائح عنها. ولقد ظلت الأدوات النيوليتية حجرية، ولكنها كانت أنعم وكانت شفراتها تشحذ وتصقل على حجارة أخرى أقسى. كما أن الشفرات صارت تثبت بمقبض وقد زاد هذا من قوة القطع التي كانت قد تحسنت قبل ذلك بتحسن شكل الحجارة وصقلها. وقد ثبت ببعض الفؤوس الحجرية النيوليتية مقابض حديثة وجربت في الغابات وتبين أنها أدوات قوية للغاية وذوات عمر طويل أيضاً، لأنها عندما تثلم يمكن شحذها من جديد بنفس العملية التي صنعت بها. وكانت هذه أداة عظيمة الأهمية للزراعة، لأنها سهلت إزالة أشجار الغابات ونباتاتها من أجل زراعة المحاصيل. ومن بعدها جاءت الجواريف الحجرية من أجل حراثة الأرض، كان تغير تقنية الحجر إذاً مرتبطاً ارتباطاً وثيقاً بثورة إنتاج الغذاء، ومع أننا لا نعلم بالضبط تسلسل الأسباب والنتائج فإن العلاقة بين الاثنين أمر واضح.

إن هذه التطورات الكثيرة والمترابطة في حياة الإنسان خلال الحقبة النيوليتية تبرر اعتبارها مرحلة حاسمة في قصة البشرية، لقد استغرقت تلك التغيرات خمسة أو ستة آلاف سنة، وكانت نتيجتها الإجمالية أكبر تسارع في التطور الاقتصادي والاجتماعي قبل مجيء طاقة البخار في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر للميلاد. فإضافة إلى إطعام عدد أكبر من الناس، صار بالإمكان إطعامهم من دون أن يشاركوا في عملية تنمية الغذاء وإحضاره. ربما كان هناك بعض المختصين في أزمنة أبكر، ولكن التخصص الاقتصادي والتقني صار أكثر احتمالاً وأسهل بكثير من اختراع الزراعة. وضمن تلك الجماعات الأكبر والأكثر استقراراً صار هناك عدد أكبر من الحرفيين، الذين يقومون بأعمال مثل صنع الأدوات والأغراض المزينة، ويأخذون مقابلها ما يلزم لمعيشتهم من غيرهم، وكان بعض أنشطتهم ذات أهمية كبيرة في إحداث فروق جديدة في حياة الأفراد بعضهم عن بعض، وفي تحقيق اكتشافات تقنية جديدة أيضاً.

من تلك الاكتشافات اكتشاف الفخار، ربما صنع الفخار للمرة الأولى في اليابان عام 10.000 ق.م، ولكنه كان واسع الانتشار في الهلال الخصيب بعد بضعة آلاف من السنين. كانت الأوعية المصنوعة من الخشب وربما من الحجر أيضاً مستخدمة في أزمنة أبكر، ولكنها صارت أكثر ضرورة بقدوم الزراعة وإمكانية تخزين الطعام. لقد لاحظ بعضهم، ربما صدفة، أن معاملة الطين بالنار تبدل من طبيعته، فصار بالإمكان صنع الأوعية بأسرع وأسهل بكثير، ومن ثم صار من الممكن الطبخ بطريقة مختلفة، وزيادة تنويع الأطعمة، عدا عن تخزين الطعام، والتخفيف من عناء تأمينه. كما أن الخزف يمكن تزيينه بسهولة إما بتلطيخه بالألوان أو بتغير شكله، فقدم بذلك وسيلة جديدة للفن، ولو أنه بقي فظاً لزمن طويل. وقد نتجت عن هذا كله سلسلة واسعة من النتائج. كان النسيج المحبوك اختراعاً نيوليتياً آخر، كان الناس يرتدون التنانير منذ آلاف السنين، وربما بدت ملابسهم في أفضل الأحوال مثل الملابس التي كان يرتديها هنود أمريكا الشمالية في القرن الماضي*، أو الأسكيمو في القرن الحالي* ويمكن اعتبار هذين الشعبين من شعوب العصر الحجري حتى وقت قريب، أما في الأزمنة النيوليتية فقد ظهرت أولى المواد المحبوكة أي الأنسجة في الشرق الأدنى. تدل الزراعة والفخار والأنسجة وحدها على تغيرات واسعة خلال بضعة آلاف من السنين، لقد كانت تلك المرحلة بحق تمهيداً لحضانة المرحلة التالية من تطور البشرية، وهي المرحلة التي مازلنا نعيش فيها، أي حقبة الحضارة. ولكن العصر النيوليتي لا يقتصر على هذه التغيرات، بل حدث فيه تغير آخر يمتد إلى عصر الحضارة، لهذا لا يعتبره بعض العلماء جزءً من العصر النيوليتي، ألا وهو استخدام المعادن.







* التاسع عشر لأن الكتاب صدر عام 1993

* القرن العشرين
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://resalahmasriyah.mam9.com
Eng. Ahmedzoubaa
Admin
Eng. Ahmedzoubaa


عدد المساهمات : 1216
تاريخ التسجيل : 28/08/2010
العمر : 49

الفصل الأول - قـبل التـاريخ  Empty
مُساهمةموضوع: رد: الفصل الأول - قـبل التـاريخ    الفصل الأول - قـبل التـاريخ  Emptyالثلاثاء 14 يونيو 2011 - 7:04

ظهور التعدين

لقد غير استخدام المعادن عالم البشر على المدى الطويل، بقدر ما غيرته الزراعة تقريباً. إلا أن هذا التغيير حدث ببطء وهو أصعب على التحديد، إذ كان لابد من حدوث أشياء كثيرة قبل الشعور بتأثيراته الكاملة. وقد بقيت الخامات قليلة لزمن طويل، عندما اكتشف الناس كيف يعالجونها، وكان استخدام المعادن في مراحله الباكرة قليلاً ومتفرقاً ولم يكن ذا تأثير كبير. بالرغم من هذا تقع آثاره الأبكر ضمن الحقبة النيوليتية.

كان النحاس أول معدن استغله الإنسان، وقد حدث هذا بين عامي 7000 و 6000 ق.م في موقع الأناضول، حيث كان من السهل إيجاد خاماته، كما أنه ظهر في قبرص وبعض جزر إيجة، وتبين الدلائل انتشار استخدام النحاس رويداً رويداً نحو الغرب إلى حوض المتوسط، ثم إلى إيطاليا وهنغاريا على البر الرئيسي، بالإضافة إلى الجزر البريطانية. في المراحل الباكرة كان النحاس يشغل بعملية التطريق، ولم يكن هذا ممكناً إلا بالخامات النقية جداً، وكانت الخطوة التالية هي سبكه، أي تسخينه إلى أن يصبح سائلاً ثم صبه في قوالب. وأخيراً اكتشف الناس أن الخامات المشوية يمكن تحسينها بالحرارة أيضاً، من أجل الحصول على معدن أنقى، وعندما صارت هذه العمليات معروفة وضع للتعدين نمطه الأساسي الذي سوف يستمر لآلاف السنين. وقد تابع التطور طريقه باكتشاف مصادر جديدة للخامات، وإجراء التجارب عليها، واكتشاف معادن مختلفة وتخصيص استعمالها لأغراض معينة، والحصول على درجات حرارة أعلى لشغلها وتنقيتها، وبمزج المعادن أيضاً للحصول على معادن صنعية أي ما نسميه اليوم سبائك. ويبدو أن أول سبيكة كانت البرونز، وهو مزيج من القصدير والنحاس، ويكفي مزج مثل واحد من القصدير مع عشرة أمثال من النحاس للحصول على نوع جيد منه. كان البرونز على درجة عظيمة من الأهمية، ومن هنا أتت تسمية عصر البرونز. لقد بقي الناس يعتقدون لزمن طويل أنه صنع واستخدم للمرة الأولى في بلاد الرافدين قبل عام 3000 ق.م بقليل، وكان من المعروف أنه كان يصنع في الصين بعد ذلك بحوالي ألف سنة. ولكن أشياء مصنوعة من البرونز في شمال شرق تايلاند قد أُرّخت مؤخراً بعام 3600 ق.م، أي أنها أبكر ما اكتشف في العالم. وما زلنا بحاجة إلى أدلة أكثر قبل أن يتفق العلماء على تحديد أول مجتمع قديم استخدم البرونز، ولكن النقطة الأساسية هي أن عصر البرونز كان مرحلة في تطور المجتمع البشري تمكن فيها الإنسان من تلبية حاجاته الأساسية للمعادن عن طريق هذا المعدن المزيج. إن البرونز معدن أفضل بكثير من النحاس، إذ يمكن أن تصنع منه شفرات أكثر حدة بكثير وأطول عمراً، أما النحاس فهو أضعف حتى من الصوان من هذه الناحية، ويمكن سبكه في قوالب بسهولة أكبر، وبالتالي صنع أشكال أكثر تنوعاً. وقد أضفى اكتشافه بالطبع أهمية على أماكن وجود القصدير أيضاً، والتي كانت أحياناً في مناطق توضع النحاس نفسها.

الفصل الأول - قـبل التـاريخ  Chp1-15

أدوات برونزية وحديدية

إننا لا نعلم كيف حدث هذا التطور، ولكن ربما لاحظ بعضهم أن النحاس عندما يترك في فرن الخزف يذوب، ويمكن بالتالي صبه في قوالب. تتطور التقنية دوماً بفضل نتائج جانبية، أي أن نتائج ثانوية لتطور ما تصبح خطوات أساسية في تطور آخر، فمقالي الطبخ الحديث الذي لا يلتصق الطعام بها مثلاً قد صنعت بالاستفادة من المعرفة بالمواد المقاومة للحرارة والناتجة عن بناء صواريخ الفضاء.وعندما تلاحظ نتائج ثانوية ما يبدأ الخبراء بإجراء التجارب عليها، فتعطي هذه التجارب نتائج جانبية أخرى. لقد قال بعض العلماء مؤخراً إن عملية تنقية الخامات المعدنية لم تكتشف بطريق المصادفة، بل كانت نتيجة ما نسميه اليوم أبحاثاً وتجارب مقصودة، فإذا كان الأمر صحيحاً فهو دليل واضح على أن البشر كانوا صانعي تغيير بصورة مقصودة منذ العصر النيوليتي.

لقد اكتشف الذهب أيضاً واستخدم منذ زمن باكر، والأرجح أنه كان يوجد في العالم القديم بشكل توضّعات قريبة من سطح الأرض، فكان الحصول عليه أسهل منه في أزمنة لاحقة، لكن استخدامه ظل محصوراً بأمور الزينة تقريباً، بعكس النحاس الذي استفيد منه لصنع الأسلحة والأدوات عدا عن صنع أغراض الزينة، ولم يكن هذا الأمر ممكناً باستخدام الذهب. وحتى البرونز نفسه كان أقل أهمية للأسلحة والأدوات من معدن الحديد. في الحقيقة أن استغلال الحديد يدخل في حقبة التاريخ وليس ما قبل التاريخ، لأنه لم يظهر إلا بعد أن كانت الحضارات الأولى قد ثبتت أقدامها، كما أن استعماله لم ينتشر بشكل واسع إلا بعد عام 1000 ق.م، أي في زمن متأخر جداً. لقد عاش جميع مستخدمي الحديد بعد بداية الحضارة ولو لم يكونوا متحضرين، أي أنهم عاشوا في الحقبة التي نعتبرها عادة حقبة التاريخ وليس ما قبل التاريخ. ولكن من المنطقي أن نتناول موضوع الحديد هنا، لأن قدومه هو فعلاً تتمة قصة التعدين في الأزمنة الباكرة، كما أن علماء ما قبل التاريخ مازالوا يتحدثون عن "عصر الحديد" و ثقافات عصر الحديد وهي تعابير لا تدل على حقبة معينة من الزمن، بل على مرحلة من الثقافة المادية. ويمكننا اعتبار عصر الحديد ذروة الحقبة النيوليتية ونهايتها معاً، ولو أن الشعوب التي تستخدمه قد عاشت لزمن طويل إلى جانب شعوب أخرى لا تستخدم إلا الأدوات الحجرية.

يتفق أكثر العلماء على أن شغل الحديد قد ابتدأ في آسيا الصغرى، مثل شغل النحاس، ولكن هناك اختلافات كثيرة حول تحديد ذلك المكان. لا ريب أن بداية شغل الحديد في هذا الجزء من العالم تفسر بتوفر خاماته المعدنية، فضلاً عن تنامي خبرة شغل المعادن الأخرى. إن تنقية الحديد تحتاج إلى حرارة أعلى بكثير من النحاس، وكان الناس في الأناضول يعرفون أفراناً حرارتها عالية تكفي لصنع الفخار عن طريق إشعالها بالفحم النباتي ونفخ الهواء فيها. ولكنهم مع هذا لم يستطيعوا الوصول إلى حرارة كافية لصب الحديد في قوالب، مثلما كانوا يفعلون بالنحاس والبرونز، لهذا بقي شغل هذا المعدن لزمن طويل مقتصراً على عملية التطريق دون السبك. لقد انتشر صنع الحديد انتشاراً سريعاً، هناك شعب أوروبي سمي لاحقاً الشعب السلتي كان من أفضل شاغلي الحديد، وكان السلتيون ماهرين في شغل البرونز أيضاً، ولو أن الصينيين احتفظوا باللقب لزمن طويل، ولكن استخدام الحديد كان معروفاً قبل ذلك في مناطق كثيرة، وأول شعب استخدمه بشكل كبير هو شعب الأناضول اسمه الشعب الحثي. كان الحثيون يحكمون إمبراطورية كبيرة في الشرق الأدنى في حوالي عام 1500 ق.م، أظهروا أن النصر العسكري أيسر بكثير لمن يمتلك الأسلحة الحديدية، لأن السيف الحديدي أقوى بكثير من السيف البرونزي، فما بالك الخنجر النحاسي أو الفأس الحجرية.

إلا أن تأثير الحديد في تغيير التاريخ كان أكبر من خلال استخدامه في الزراعة، فالأدوات الحديدية أفضل من أية أدوات أخرى لحراثة الأرض، لأنها مكنت من الحفر بصورة أسهل وأعمق، فأمنت بالتالي كميات أكبر من الطعام، ونتجت عن ذلك محاصيل أفضل. كما أمكن زراعة نباتات أعمق جذوراً، وصار قطع الأشجار أسهل أيضاً. ولكن تأثير الحديد بقي لزمن طويل بطيئاً جداً كما كان غالياً جداً، وقد ظلت المحاريث الخشبية هي السائدة في روسيا لمئة سنة خلت، ومازالت الملايين منها تعمل في كافة أنحاء العالم اليوم.

وتغير شغل الخشب أيضاً بفعل المعادن، كانت الأدوات النحاسية والبرونزية قد مكنت من شغل الخشب على مستوى يجوز لنا أن نسميه "نجارة"، بينما سار به الحديد خطوة أخرى إلى الأمام. لقد أمن الحديد للناس أغراضاً أكثر للاستعمال والمتعة، وزاد من إمكانية التخصص في المهارات المختلفة. كانت أهمية المناطق الحاوية على خامات المعادن تزداد بشكل مستمر، وعندما نصل إلى عصر الحضارة يصبح بر أوروبا أكثر أهمية للعالم الخارجي من أي وقت مضى بسبب ذلك، ويزداد اهتمام الغرباء بها. لقد بقيت الشعوب الأوروبية لزمن طويل شعوباً متخلفة بالقياس إلى الشعوب الأخرى، ولكن قارتهم كانت غنية بخامات يسهل استخراجها وغابات كثيفة خلّفها تراجع الجليد يمكنها أن تؤمن الوقود. وكان المنقبون من الشرق الأدنى قد بدؤوا يبحثون عن المعادن في أوروبا قبل عام 3000 ق.م بزمن طويل، وبعد ألف سنة سوف تكون فيها مناطق عديدة مختصة بالتعدين، خاصة في إسبانيا واليونان ووسط إيطاليا، وسرعان ما ستصبح أوروبا منطقة تصنيع كبرى عدا عن كونها منتجة للخامات. وقد كان للتعدين بعض التأثيرات البيئية الضارة أيضاً، إذ يبدو أن استنفاذ الخشب لم يبدأ بإزالة الأشجار من أجل الزراعة، بل بقطعها من أجل الحصول على الفحم اللازم لصهر المعادن. ولكن هذه القصة تصل بنا إلى مرحلة متقدمة جداً بالنسبة لعصر ما قبل التاريخ، وهي بداية موضوع هائل، هي قصة صعود أوروبا رويداً رويداً حتى صارت في النهاية مسيطرة على العالم بفضل استغلال مواردها المعدنية والتقنية.

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://resalahmasriyah.mam9.com
Eng. Ahmedzoubaa
Admin
Eng. Ahmedzoubaa


عدد المساهمات : 1216
تاريخ التسجيل : 28/08/2010
العمر : 49

الفصل الأول - قـبل التـاريخ  Empty
مُساهمةموضوع: رد: الفصل الأول - قـبل التـاريخ    الفصل الأول - قـبل التـاريخ  Emptyالثلاثاء 14 يونيو 2011 - 7:04

على عتبة التاريخ

تبدو الحيوانات التي تعيش في جماعات، مثل النمل والنحل وقطعان الأيل، على درجة عالية من التنظيم، كما تبدو أفضل من البشر في الحفاظ على القواعد في مجتمعاتها. ولكن السبب هو أنها في الحقيقة مختلفة كل الاختلاف عن البشر، فهي لا تلتزم أبداً بالقواعد، كما نفهمها نحن، بل تسلك سلوكاً آلياً تقريباً، أي أنها تفعل ما تفعله لأنها مبرمجة من خلال جيناتها أو من خلال أنماط سلوك محفورة فيها بصورة عميقة أو مغروزة، لذلك نسميها "غرائز" ولا يمكنها أن تسلك غير هذا السلوك إذا أرادت، بل إنها في الحقيقة لا تملك أن تريد أو أن لا تريد. أما المجتمعات البشرية فأمرها مختلف، صحيح أنها مضطرة لأن تأخذ بالاعتبار طبيعة البشر الأساسية بحاجاتها ودوافعها، ولكنها تقدم طرقاً مختلفة كثيرة للقيام بهذا الأمر، وكثيراً ما يختار أفرادها هذه الطرق بإرادتهم. ففي كل أنحاء العالم مثلاً ينجذب الرجل والمرأة أحدهما إلى الآخر ويعيشان معاً وينجبان الأطفال، ولكن هناك الكثير من المجموعات المختلفة من القواعد التي يمكنهما أن يقوما بهذا الأمر ضمنها، وهذه القواعد وضعها البشر ولم تضعها الطبيعة. ففي إنكلترا مثلاً لا يسمح لك القانون باتخاذ أكثر من زوجة واحدة أو زوج واحد في الوقت نفسه، بينما يجيز لك ذلك في بلدان أخرى، أو لنأخذ مثالا مختلفاً تماماً: منذ بضع مئات من السنين لم يكن ممكناً في أوروبا أن يتخذ المرء مهناً معينة، كصنع الأحذية مثلاً إلا بعد أن ينتمي إلى نقابة خاصة بمن يمارسون تلك المهنة ويخضع لقواعدها في طريقة أداء عمله. ثم انهار هذا النظام لأسباب مختلفة، وانخفضت في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر القيود القانونية المفروضة على الإنسان في اتخاذ المهنة التي يريدها والعمل بها كما يشاء، ولكن بقي من الصعب في بعض البلاد أن يختار الإنسان مهناً معينة دون الانتماء إلى النقابة المهنية المناسبة. قد لا يبدو للوهلة الأولى أن لهذا الأمر علاقة بما قبل التاريخ، ولكنه يجب أن يلفت انتباهنا إلى حقيقة أن ما نسميه "مؤسسات اجتماعية" أي طرقاً في تنظيم الناس لفعل الأشياء، هي إلى حد ما من اختيار المجتمعات المختلفة، وأنها قد تتباين كثيراً من مجتمع لآخر، وقد كان هذا الأمر صحيحاً حتى في الأزمنة الباكرة.

تدل الفروق في الأساليب التقليدية لفعل الأشياء على أن بعض المجتمعات البشرية كانت قد أصبحت متميزة جداً منذ نهاية الأزمنة قبل التاريخية. وكان نهجها لتقاليدها الخاصة قد بدأ منذ زمن بعيد في العصر الباليوليتي. إلا أن تلك الفروق قد صارت أكثر حدة بكثير مع الاستقرار، وكان هذا بالطبع نتيجة أخرى من نتائج قدوم الزراعة. ففي أعالي وادي أحد روافد نهر دجلة، على هضاب يقطنها الأكراد، كانت هناك بحلول عام 6500 ق.م قرية صغيرة في مكان يدعى جرمو، لم يكن أهلها يعرفون تسخين الفخار بعد، ولكن كانت لديهم منازل من الصلصال، وكانت أساساتها من الحجر أحياناً وفيها أكثر من غرفة واحدة، وكان في بعض مساكنهم قطع أثاث ثابتة، مثل الأفران والأحواض المتوضعة في الأرض. وكان بإمكان سكانها أن يصنعوا أواني من الحجر الأملس عن طريق قطعه وشحذه، كما كانوا يصنعون منه أغراضاً للزينة مثل حبات الخرز والأساور. وكانوا يمارسون الزراعة وكانت لديهم حيوانات مدجنة من نعاج وماعز وثيران وخنازير وكلاب أيضاً. منذ ذلك الحين كان بعض الناس في جرمو يتميزون عن غيرهم بامتلاك ثروات صغيرة من أغراض زينة وأسلحة يعتزون بها. كان هناك دور للأفراد المختصين في هذا المكان، إذ لم يكن هناك بد من تنظيم شؤونها الإشراف على عمليات الحصاد وتخزين المحاصيل، ولكن عدد الأشخاص في جرمو لم يتجاوز بعض مئات على الأرجح. فإذا ابتعدنا غرباً إلى فلسطين، وجدنا أن أريحا كان يسكنها حوالي ثلاثة آلاف شخص في ذلك الوقت، وكانت هذه مجموعة كبيرة من الناس. كان في أريحا واحة هامة تحتاج إدارتها وصيانتها إلى تنظيم كبير، لذلك كانت الحاجة فيها للمهارات المختصة والحكومة المنظمة أكبر بكثير منها في جرمو. كانت تنشأ خلال العصر النيوليتي إذن، على الأقل بالشرق الأدنى، جماعات أكبر يؤدي لها الناس الولاء والطاعة، وكانت حياة البشر قد ابتعدت كثيراً عن حياة القبائل الرحل، وسارت باتجاه تنظيم الحياة الاجتماعية في وحدات أرضية مستقرة وخاضعة للقوانين نفسها، ومازالت هذه هي طريقة حكم الناس التي نألفها اليوم.

مازلنا نجهل كيف كان كل من الرجل والمرأة يرى دور الآخر في تلك المجتمعات الباكرة، ولكن لابد أن تكون جذور هذا الأمر كامنة في الحقائق البيولوجية والاقتصادية المذكورة آنفاً. لما كان أطفال البشر وهم مستقبل القبيلة محتاجين إلى الكثير من العناية المديدة، فقد ترسخ تقسيم العمل بين الجنسين على الأرجح قبل أن تصبح الجماعات أكثر استقراراً، فصار الرجال يذهبون إلى الصيد وجمع الطعام، وبينما تبقى النساء في البيت. وعلى هذا التقسيم سوف تنمو تقاليد مختلفة من التربية، فيذهب الصبية مع الرجال عندما يكبرون ويصبحون قادرين على مجاراتهم في الصيد، أو لا يعودون مصدر إزعاج لهم على الأقل، أما النساء فربما كن يتعلمن مراقبة الحياة النباتية بعناية قرب البيت، فيجمعن المحاصيل المفيدة والمغذية، وربما كن يشكلن في أماكن كثيرة قوة العمل الأساسية في الزراعة، كما هي الحال اليوم. إننا نعلم بالتأكيد أنه قبل أن نصل إلى عصر التاريخ كانت قد ظهرت أشياء كثيرة سوف تصبح عادية طوال آلاف السنين، وسوف تستمر حتى اليوم.

لنأخذ عام 5000 ق.م كنقطة إشراف وهمية، وليس لهذا التاريخ أية ميزة خاصة عدا عن أنه سهل التذكر. في ذلك الزمان كان شكل الأرض قريباً جداً من شكلها الحالي، ولم تتغير أشكال القارات وحواجز الاتصال ومسالكه الطبيعية كثيراً منذ ذلك الحين. كما يمكننا أن نعتبر أن المناخ قد استقر خلال هذه الفترة لأن سبعة آلاف سنة هي فترة زمنية لا تذكر بالقياس إلى تقلبات المناخ العنيفة على مدى مئات الألوف من السنين قبل آخر عصر جليدي، ولا يحتاج المؤرخ بعدها إلا للنظر في تقلباته القصيرة المدى. في المستقبل كان يقبع العصر الذي مازلنا نعيش فيه والذي كان أكثر التغيير فيه من صنع الإنسان. كانت بعض أجزاء العالم في عام 5000 ق.م قد قطعت شوطاً بعيداً ضمن الحقبة النيوليتية، فصارت حياة البشر كثيرة التنوع والتعقيد، ومختلفة جداً عن حياة الإنسان المنتصب، الذي كان قد بقي على حاله في كل مكان تقريباً رغم تطوراته الكبيرة. ولكن حياة الإنسان المنتصب كانت بدورها مختلفة جداً عن حياة الأشكال الضعيفة البائسة من قرد الجنوب، التي كانت تنتقل حول البحيرة التي كانت تملأ ممر أولدفاي الحالي منذ مليوني عام خلت، والتي لم تكن وسائلها في البقاء بأفضل من وسائل البهائم التي تزحف قربها وتشاركها موارد غذائها.

بحلول الأزمنة النيوليتية أصبحنا في عالم ملأه البشر بتنوعهم وطاقاتهم الكامنة، وسوف يزداد هذا التنوع. سوف تتطور بعض الجماعات البشرية بسرعة، بينما تتطور بعضها ببطء، وسوف تلعب قوى جديدة دورها في تطور البشر مع اتصال الشعوب المختلفة بعضها ببعض وتعلمها الواحد من الآخر، أو مع تفكيرها في خبراتها واندفاعها نحو تجارب جديدة. أي أن تنوع البشرية سوف ينشأ أكثر فأكثر من قدرتها على تغيير الأمور بطريقة واعية فضلاً عن حقائق البيئة العمياء. وسوف تكون النتيجة المزيد من التعقيد، فلم توجد يوماً إمكانيات لاختلاف البشر كما هي الحال في عالمنا اليوم. ولكن العالم كان متنوعاً جداً حتى في عام 5000 ق.م، وليس ثمة خط واضح يفصل نهاية حقبة بشرية عن الأخرى، بل مرحلة زمنية ضبابية غير واضحة الحدود، فيندفع بعض الناس إلى الأمام على طريقهم نحو التحضر، بينما يبقى غيرهم عالقين في العصر الحجري الذي سوف يظل بعضهم فيه بعد آلاف السنين.

لقد صار تسارع التغيير في هذا العالم هائلاً، وكان قد ابتدأ في زمن بعيد من مرحلة ما قبل التاريخ. ومن المهم هنا أن نرى الأمور بأبعادها الصحيحة. إن من يذكر اليوم أن الطائرة لم تكن موجودة عام 1900م، وأن الطاقة الذرية لا يزيد عمرها عن نحو خمسين سنة، وأن الكثير من أمم أفريقيا لم تكن قد اكتشفت قبل أربعين عاماً، وأن مرض الإيدز لم يعرف إلا في الثمانينيات؛ يُعْذَر إذا شعر أن شيئاً لم يتغير لقرون طويلة في العصور الوسطى مثلاً، فقد بقي الناس في قسم كبير من أوروبا يزرعون في القرن الخامس عشر بالطريقة نفسها التي كانوا يزرعون بها في القرن التاسع. ولكنك إذا نظرت إلى الفن الأوروبي في الأبنية مثلاً، في عام 800 م ثم بعد ذلك بخمسمائة عام، وجدت أن تغيراً كبيراً جداً قد حصل.

أما فيما يتعلق بأول الفنون التي ظهرت، أي فن العصر الباليوليتي الأعلى، فيقول لنا الخبراء إن رسوم الكهوف العظيمة تكاد تظهر تغيراً لا يذكر في الأسلوب طوال خمسة أو ستة آلاف سنة. وإذا عدت إلى الماضي الأبعد، وجدت أن الاستمرار الطويل لطرق صنع الأدوات من الحجر دليل على بطء أكبر في التطور، وإذا رجعت إلى أزمنة أبكر منها أيضاً وجدت أن التطور الفيزيولوجي للكائنات البشرية يمكن ملاحظته، ولكنه كان ببطء أنهار الجليد حتى بالقياس إلى التغيرات الهزيلة في الفن الباليوليتي.

إن السبب الحاسم لهذا التسارع الكبير في حدوث التغيير بحلول عام 5000 ق.م هو أن المصدر الأساسي للتجديد كان قد انتقل في ذلك الحين من القوى الطبيعية إلى البشر أنفسهم، وعند نهاية ما قبل التاريخ باتت قصة البشرية قصة اختيارات متزايدة. إن البشر يتخذون قرارات أكثر فأكثر للتصرف والتأقلم بأساليب معينة من أجل مواجهة مشاكلهم وتطوير طرق معينة في أداء الأشياء واستخدام مواد أو مهارات معينة. لهذا فإن ما يمكننا اعتباره أهم تغير على الإطلاق قد حدث في البداية، ولو أننا لا نستطيع أن نعلم زمانه أو مكانه بالتحديد. لقد حصل هذا عندما بدأ كائن ما ربما يكاد يكون بشرياً في أعيننا، يفكر في العالم كمجموعة من الأشياء المنفصلة والمتميزة عنه، ولو أمكننا أن نعلم متى حدث هذا التطور لربما كانت تلك خير بداية لما قبل تاريخ الإنسان، لأنها هي التي فتحت الطريق لاستخدام العالم. وتلك هي قصة كل الانتقال من الحياة التي تشكلها الطبيعة بصورة عمياء إلى الحياة التي تشكلها ثقافة البشر وتقاليدهم. ومن بعد ذلك يظهر ما يشبه الفائدة المركبة، لأنه مع ازدياد أعداد البشر اتسعت ساحات مواهبهم وتراكمت إنجازاتهم وخبراتهم التي يمكنهم التعويل عليها واستثمارها، وحتى الجماعات الصغيرة لم تعد بها حاجة لتجشم عناء تعلم كل شيء من البداية.

إلا أننا نعلم جيداً أن البشر بالرغم من كل هذا قد خلقوا مشاكل جديدة بمثل سرعة حلهم للمشاكل القديمة، وأن قصة البشرية مليئة بالنكسات والفشل المأساوي أحياناً. ولكن هذا الأمر يعود فيؤكد من جديد حقيقة أساسية تتعلق بالبشر عند اقترابهم من حقبة خلق الحضارات الأولى، هي أنهم فريدون من ناحية قيامهم باستخدام العالم وتغييره بطريقة واعية. إن إحدى الطرق القليلة الجيدة لوصف الإنسان العاقل هي أنه قبل كل شيء حيوان صانع للتغيير، والدليل على هذا إنما يكمن فيما فعله، أي في تاريخه. وراء هذا التاريخ يقبع كل ما نظرنا إليه في هذا الكتاب نظرة سريعة، ملايين من السنين كانت خلالها الكائنات تتشكل بطرق جعلت البشر وحدهم من بين الرئيسات قادرين على قولبة مصائرهم، ومع أنهم لم يكونوا قادرين على فعل ذلك إلا ضمن حدود ضيقة، فإن أبكر الأدلة على تأثيره تعود إلى أزمان قديمة جداً.

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://resalahmasriyah.mam9.com
 
الفصل الأول - قـبل التـاريخ
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
رسالة مصرية ثقافية :: قسم العلوم التربوية والأدبية :: التاريخ العربي :: كتاب تاريخ العالم-
انتقل الى: